في زمن تتسارع فيه الأيام، وتتصارع فيه الأمم على التميز والإنتاجية، تخرج من بين طيات حياتنا اليومية ظاهرة أراها مؤلمة، بل وخطيرة، وهي الفراغ، ما يثير فيّ الحيرة والدهشة هو أنني أسمع هذه الكلمة تتردد من فم شاب يافع لا يزال على مقعد الدراسة، أو من موظف يبدو أنه عالق في روتين يومه، أو حتى من شخص مخضرم في الحياة قد تقاعد من عمله، الفراغ هنا ليس إلا حالة ذهنية استوردناها كما نستورد سلعًا من الخارج، وجعلنا منها “عذرًا” للتقاعس عن استثمار أوقاتنا بشكل صحيح.
إن كان الوقت هو الحياة، فما هو الفراغ إذن؟ أليس هو الغياب الكامل لأي نشاط مثمر؟ هو موت بطيء للإبداع، وقتل مباشر لكل فرصة للنمو والتطور، حينما يسألني أحدهم كيف يمكنني قتل وقتي، أشعر بالأسى، إذ لم يكن الوقت يومًا شيئًا نرغب في قتله، بل هو أثمن ما نملكه.
في عالمنا اليوم، التكنولوجيا توفر لنا كل ما نحتاجه لملء هذا “الفراغ” بالعلم والمعرفة، لكن السؤال هنا: لماذا لا نتحرك؟ لماذا يقبع الشاب، أو الموظف، أو المتقاعد في خمول، معتقدًا أن الحياة تعطيه الحق في الراحة الطويلة دون أي سعي لتطوير الذات؟ الحقيقة التي علينا مواجهتها هي أن الفراغ ليس سوى عدو خفي، يتسلل إلى عقولنا ويقنعنا بأننا نستحق الاستراحة، ولكن تلك الاستراحة الطويلة ليست إلا تذكرة مجانية للكسل والتراجع.
يجب أن نعيد التفكير في أهمية الوقت، وندرك أنه حتى اللحظات الفارغة يمكن استثمارها. بالنسبة للطالب، الوقت هو الفرصة الذهبية لتعلم شيء جديد خارج إطار الكتب الدراسية، بالنسبة للموظف، هو الفرصة للتفكير في طرق تحسين الأداء أو حتى تعلم مهارات جديدة، أما المتقاعد، فالوقت هو فرصة للاستمتاع بالحياة وتقديم العطاء من خلال تجاربه وخبراته، أو حتى بدء مشروع جديد يبقيه متصلاً بالحياة.
إن محاربة الفراغ تبدأ من داخلنا، من اعترافنا بأهميته وخطورته على حد سواء، إن لم نبدأ الآن في استثمار أوقاتنا بأفضل الطرق، سنظل عالقين في دوامة اللا شيء، حيث تقتل لحظاتنا الواحدة تلو الأخرى، وتذبل معها آمالنا وأحلامنا؛ علينا أن نتبنى مفهومًا جديدًا للوقت، لا كمجرد وحدة لقياس اليوم، بل كفرصة دائمة للنمو، للإبداع، ولإحداث تغيير حقيقي. الفراغ ليس عدوًا لا يُهزم، بل هو وهم اخترعناه لأنفسنا.
لمعالجة وباء “الفراغ” من وجهة نظري المتواضعة لمحاربة هذه الظاهرة، ومن منطلق تجربة شخصية يجب عمل التالي: –
1. تحديد أهداف شخصية واضحة:
على كل فرد، سواء كان طالبًا، موظفًا، أو متقاعدًا، أن يحدد أهدافًا يومية، أسبوعية، وشهرية، الأهداف تساعد في تحديد المسار وتشغل العقل والجسد في السعي لتحقيق شيء ملموس، هذه الأهداف يمكن أن تكون متعلقة بالتعليم، تطوير المهارات، أو حتى مشاريع شخصية.
2. تطوير مهارات جديدة:
يجب استثمار الوقت في تعلم مهارات جديدةحتى لا نشعر بأن لدينا فراغ، في عصر الإنترنت، أصبحت الموارد التعليمية متاحة للجميع مجانًا أو بتكلفة قليلة، تعلم اللغات، البرمجة، الحرف اليدوية، أو حتى ممارسة الرياضة كلها خيارات متاحة لملء الوقت بطريقة مفيدة.
3. تنظيم الوقت:
التخطيط اليومي أو الأسبوعي لتنظيم المهام والأنشطة يساعد على الاستفادة القصوى من الوقت، استخدام تقنيات مثل “طريقة بومودورو”لتنظيم فترات العمل والراحة يمكن أن يزيد من الإنتاجية ويقلل من الوقت الضائع.
4. ممارسة الرياضة والنشاط البدني:
الفراغ الجسدي قد يؤدي إلى الكسل والركود،ممارسة الرياضة بانتظام، حتى لو كانت مجرد مشي يومي، تساهم في تحسين المزاج وتعزز الشعور بالإنجاز والنشاط.
5. التطوع والمساهمة في المجتمع:
المساهمة في الأعمال التطوعية تعد من أفضل الطرق لاستثمار الوقت، التطوع يعزز الشعور بالقيمة والانتماء، ويمكّن الفرد من التعرف على أشخاص جدد وتعلم تجارب حياتية مهمة.
6. القراءة المستمرة:
القراءة تفتح آفاق العقل وتملأ الفراغ بما هو مفيد، الكتب تتيح الفرصة للابتعاد عن الروتين اليومي والانخراط في عوالم أخرى تساعد على تطوير الفكر والخيال.
7. ممارسة الهوايات:
الهوايات تساعد على تفريغ الطاقة الإبداعية والشعور بالإنجاز، قد يكون الرسم، الكتابة، التصوير الفوتوغرافي، أو حتى البستنة وسائل رائعة لقضاء وقت الفراغ بشكل مثمر.
8. التواصل الاجتماعي الفعّال:
بدلاً من تمضية الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل غير مفيد، يمكن للفرد استخدام هذه الوسائل للتواصل مع أفراد المجتمع، الانضمام إلى مجموعات تشارك نفس الاهتمامات، أو حتى حضور ندوات وورش عمل عبر الإنترنت.
9. التأمل والتفكير:
يمكن للفرد استغلال الوقت في التأمل والتفكير حول الأمور الشخصية، الأهداف المستقبلية، أو حتى مراجعة مسارات الحياة. هذه اللحظات من التأمل تساعد في تنظيم الأفكار وتجنب مشاعر القلق الناتجة عن الفراغ.
10. المشاركة في دورات تدريبية أو ورش عمل:
الانضمام إلى دورات تدريبية أو ورش عمل، سواء كانت مرتبطة بالعمل أو مجال جديد يرغب الشخص في تعلمه، يعد استثمارًا ممتازًا للوقت ويساعد في تحسين الذات وتعزيز الفرص المهنية أو الشخصية.
11. البحث عن عمل إضافي أو مشروعات جانبية:
بالنسبة للموظفين والمتقاعدين، قد يكون العمل في مشروع جانبي أو بدء عمل تجاري صغير وسيلة ممتازة لملء الوقت وزيادة الدخل، بالإضافة إلى الشعور بالإنجاز والإبداع.
12. تعزيز الوعي بأهمية الوقت:
على الجميع أن يدركوا أن الوقت مورد ثمين لا يمكن استرجاعه، تعزيز هذه الفكرة داخل المدارس والمؤسسات قد يساعد على بناء ثقافة استثمار الوقت منذ الصغر وحتى الكبر، كما ان الفراغ ليس قدَرًا لا يمكن تغييره، بل هو نتيجة لعدم التخطيط الجيد للوقت وعدم الوعي بأهمية استثماره، باتباع هذه النصائح، يمكن للفرد استعادة سيطرته على وقته وتوظيفه في بناء حياة أفضل، مليئة بالإبداع والنشاط.
الكاتب/ حمدان بن هاشل بن علي العدوي
عضو الجمعية العمانية للكتاب والأدباء