القرآن الكريم ليس مجرد نصوص تُقرأ، بل هو معجزةٌ خالدة تحمل في طياتها جمالية فريدة وبلاغة عجيبة، إن تدبر آياته هو دعوة للتأمل والتفكر، حيث نجد فيه أحكاماً تنظم الحياة، ومبادئ تربي النفوس، وقيماً سامية تعزز من الروابط الإنسانية، كما أن القرآن يُظهر جمالية اللغة العربية بأبهى صورها، حيث تتناغم الكلمات وتتداخل المعاني بسلاسة رائعة، مما يجعل تلاوته تجربة روحانية فريدة، ومن خلال تدبره، يُكتشف عمق معانيه وثراء أحكامه، التي جاءت لتكون أسباباً لليسر في الحياة، وليست لتعقيدها، فالإسلام دين يسر لا دين عسر، كما أكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إن هذا الكتاب العظيم هو دعوة للتأمل والتفكر، وهو زادٌ لكل مسلم في رحلته نحو الإيمان والتقوى، فلنجعل من تدبر القرآن سبيلاً لنفتح قلوبنا ونغذي أرواحنا، ولنستشعر الجمال الرباني الذي يعكسه كل حرف، وكل آية، وكل سورة، فبهذا نتقرب إلى الله ونُحسن فهم الرسالة العظيمة التي أُنزِلَت للبشرية جمعاء.
واستكمالاً لتفسير سورة النمل لا بد من التوقف قليلاً وسرد البعض من خصائصها الفريدة، إذ تُعتبر سورة النمل واحدة من السور المكية التي تحمل في طياتها الكثير من الجمال البلاغي والمعاني العميقة، يُظهر أسلوبها الفريد تنسيقاً رائعاً بين القصص القرآني، حيث تتناول حياة نبي الله سليمان عليه السلام، وتبرز قدراته العجيبة في التواصل مع جميع المخلوقات، بما في ذلك النمل، كما تتجلى جمالية السورة في تصوير دقة العلاقات بين الكائنات، وكيف أن الله سبحانه تبارك وتعالى يُدبر شؤونها بقدرته وحكمته، كما تبرز السورة أهمية التوازن بين المادة والروح، حيث يُظهر سليمان كيف يمكن للإنسان أن يستخدم سلطته في خدمة الخير والعدل.
واستكمال تفسير سورة النمل يُعد ضرورة لتعمق الفهم في دلالاتها، إذ تحمل السورة دروساً في الوعي والإيمان، وتشجعنا على التفكير في آيات الله عزّ وجلّ من حولنا، العبرة من ذلك هي أن نكون واعين للرسائل التي يحملها القرآن، وأن نطبق ما نتعلمه في حياتنا اليومية، فالتأمل في معاني سورة النمل يُعيننا على تطوير علاقاتنا مع الله ومع المحيطين بنا، ويعزز قيم التعاون والرحمة، كما تذكّرنا سورة النمل بأن لكل مخلوق رسالة، وأن التواصل والتفاهم هما أساس لمجتمع متماسك، حيث نعمل جميعاً تحت راية الإيمان والحق.
بسم الله الرحمن الرحيم
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ ۚ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا ۖ بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَٰذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَٰذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.
تتناول هذه الآيات موقف الكافرين من الإيمان بالآخرة، حيث يعبرون عن شكوكهم واستنكارهم لفكرة البعث بعد الموت، في هذه الآيات، يُظهر الله سبحانه تبارك وتعالى كيف أن هؤلاء الكافرين ينكرون إمكانية الحياة بعد الموت، ويعبرون عن استحالة العودة إلى الحياة بعد موتهم، ومن الممكن القول:
- الكافرون يعتقدون أنه لا إمكانية للعودة بعد الموت. هذا الإنكار يعكس جهلهم بعظمة الله وقدرته، كما يطرح الكافرون أسئلة تعبر عن استبعادهم لفكرة الآخرة، مثل “مَن يُحيي العظام وهي رميم، لتأتي إجابة الله بأن الذي خلق الإنسان أول مرة قادر على إحيائه مرة أخرى. وهذا يبين عظمة قدرة الله التي لا تحد، كما أن هذه الآيات تدعو الناس للتفكر في خلق الله وآياته في الكون، مما يدعو إلى الإيمان بالآخرة وبقدرة الله عزّ وجل، وفي النهاية، تُعطي الآيات تحذيراً للكافرين بأنهم سيُجزَون على إنكارهم وعلى أعمالهم، بالتالي، إن هذه الآيات تركز على أهمية الإيمان بالآخرة وعظمة الله، وتُذكّر الناس بضرورة الاعتراف بقدرته الفائقة على الخلق والإحياء.
بالتالي، تُظهر الآيات متسلسلة من الشك والتجهيل حول الآخرة، إلى استنكار الكافرين لفكرة البعث، ثم الدعوة للتفكر في مصير الأمم الماضية، مما يُعزز فكرة أن الكفر لا يؤدي إلا إلى الضياع، وفي الوقت ذاته، تُشير الآيات إلى ضرورة عدم الانشغال بمكر الكافرين، بل التركيز على الحق كما جاء في الوحي، والعبرة من ذلك، أن هذه الآيات تؤكد على أهمية الإيمان بالآخرة، وتحث على التفكير في مصير الأمم السابقة كدليل على صدق الوعود الإلهية، كما تُشجع المؤمنين على الثبات في وجه الشكوك والأذى من الكافرين، وتدعوهم للاعتماد على الحقائق الإيمانية بدلاً من الشكوك.
أما من الناحيتين اللغوية والبلاغية: تتميز الآيات ببلاغة بديعة وجماليات لغوية تتجلى في أسلوبها وتراكيبها، كما أن استخدام الاستفهام في تعبير الكافرين عن شكوكهم يضفي عمقاً على حيرتهم وانكارهم، حيث يحمل في طياته أسلوباً حجاجياً يفتح المجال للتفكر في قدرة الله، بالإضافة إلى ذلك، يتجلى الأسلوب الإنشائي في رد الله تبارك وتعالى، حيث يُبرز تأكيده على قدرته الإلهية، مما يعكس هيبة وعظمة الخالق، كما أن استخدام التعابير المجازية مثل لعظام وهي رميم يثير الصورة الذهنية القوية، مما يعكس انحطاط الحالة البشرية بعد الموت، ويؤكد على عظمة البعث.
كما أن تكرار الأسلوب القصصي في بعض المواضع يعزز من الرسالة الدينية، ويشغل ذهن القارئ بالتأمل في معاني الآيات الكريمة، كما أن التوازن في الجمل، والانسجام بين الأفكار يعكس التناغم اللغوي، مما يُعزز من قوة الرسالة ويجعلها أكثر تأثيراً، بالإضافة إلى استخدام التوكيد في بعض العبارات يعكس اليقين والثبات على العقيدة، مما يجعل القارئ يعيش تجربة قوية من الإيمان والتأمل في عظمة الخالق وقدرته الفائقة.
بالتالي، إن الجماليات اللغوية والبلاغية في هذه الآيات تجعلها أكثر من مجرد نصوص دينية؛ فهي تجارب فكرية وروحية تدفع القارئ للتفكر في معاني الحياة والموت، وتُعزز من إيمانه بقدرة الله وعظمته.
كما يمكننا استخلاص عدة دروس ومبادئ من الآيات التي تتحدث عن قدرة الله تبارك وتعالى وعظمة خلقه، من بينها: أن هناك دعوة للتأمل في الكون وما فيه من آيات، مما يساعد الأفراد على تطوير رؤية أعمق لوجودهم ودورهم في الحياة، من خلال التفكير في عظمة الخلق، أما بالنسبة للإيمان بالبعث والحياة بعد الموت، يعزز هذا الفهم من الثقة في العدالة الإلهية، مما يدفع المجتمعات نحو التمسك بالقيم الأخلاقية والالتزام بالمسؤوليات الاجتماعية، وعن قوة الإيمان، يُظهر التوكيد على الإيمان بالله قدرة الإنسان على تجاوز الصعوبات والتحديات، مما يعزز من روح الصمود والتكاتف في المجتمع.
بالإضافة إلى ذلك، جول أهمية التعلم من التجارب السابقة، هذه القصص التي توضح مواقف الأنبياء وتحدياتهم تُحفز الأفراد على التعلم من تجاربهم وتطبيق الدروس المستفادة في حياتهم، كما أنها تشجع على الحوار والتساؤل، من خلال استخدام الاستفهام في الآيات والذي بدروه يُشجع على التفكير النقدي والحوار البناء حول القضايا الإيمانية والحياتية، مما يسهم في توعية المجتمع، والأهم نشر قيم الرحمة والتسامح، فالتأكيد على قدرة الله تبارك وتعالى ورحمته يُعزز من أهمية هذه القيم في التعامل مع الآخرين، مما يُفضي إلى مجتمع أكثر تماسكاً وتفاهماً.
من هنا، نجد أن الحكمة الإلهية تتجلى في كل آية وكل قصة، إن هذه السور ليست مجرد سرد للأحداث، بل تُعتبر دعوة للتفكر والتأمل في عظمة الخالق وقدرته، وعلينا أن نسعى في حياتنا اليومية لتطبيق القيم التي تعلمناها، لنكون قدوة حسنة لأجيالنا القادمة، ولنغرس في قلوبهم حب المعرفة والتعاون، ولنشجعهم على التواضع والإيمان بالرسالة التي كلفهم الله تبارك وتعالى بها، فلنستمد القوة من تلك القصص المباركة، ولنتذكر دائماً أن الله عزّ وجل يُعلي من شأن من يسعى في سبيل الحق والخير، وفي خضم تحديات الحياة، لنجعل من الإيمان والنية الصادقة مشعلين يُضيئان دروبنا، ولنكن كتلك النملة التي، رغم صغر حجمها، استطاعت أن تُعلمنا دروساً عظيمة عن الصبر والإرادة.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.