لقد أفصح تقرير جهاز الرَّقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة للمُجتمع في ظلِّ ما رصدَه من تنوُّع الوقائع الجرميَّة واتِّساع أشكال مدركات الفساد الإداري والمالي بالجهاز الإداري للدَّولة في إشارةٍ واضحة من الجهاز بأنَّ الفسادَ الإداري والمالي باتَ ينفثُ بسمومه في مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة، بما يستدعي ضرورة مواجهته والتَّصدِّي له والعمل على إقصائه بأفضل السُّبل وأنجعها، وعَبْرَ الوقوف على منابع هذا الفساد وأسبابه ومسبِّباته، والعوامل والمؤثِّرات الَّتي تقف خَلْفَه، والَّتي شخَّصها التَّقرير في الاختلاس للمال العام، وسُوء استعمال السُّلطة، والتَّزوير، واستغلال الصلاحيَّات الممنوحة، والسّرقة، والرّشوة، واستغلال النّفوذ الوظيفي أو الوجاهي والقلبي، وتضارب المصالح، وشخصنة المهام الوظيفيَّة والتَّلاعب بالتَّوقيعات وغيرها كثير، الأمْرُ الَّذي باتَ يُلقي بتداعياته ومخاطره الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة والوظيفيَّة في فقدان الثِّقة في أجهزة الدَّولة وتراجع الموثوقيَّة والشفافيَّة الإداريَّة والوظيفيَّة، وإضعاف الهياكل الإداريَّة وبنية المؤسَّسات، ما يؤكِّد في الوقت نَفْسِه أنَّ تحقيقَ الرَّقابة والنَّزاهة ومكافحة الفساد مسؤوليَّة الجميع، والعمل على وقاية المُجتمع الوظيفي مِنْها باتَتِ اليوم ضرورةً لا تَقبل التَّأخير، وأنَّ تعظيم النَّزاهة واحترام المسؤوليَّات والمحافظة على المال العامِّ استحقاق وجوبي وفرضُ عَيْن يَجِبُ على كُلِّ مواطن أن يلتزمَ به ويعملَ على تحقيقه في كُلِّ مواقع العمل والمسؤوليَّة.
لذلك كان التَّعامل مع نتائج التَّقرير والإجابة عن التَّساؤل المطروح ماذا بعد التَّقرير؟ بحاجة إلى قراءات استراتيجيَّة وموجّهات عمل توَجِّه عمل المؤسَّسات، فمع جهود الجهاز وإجراءاته في آليَّة المعالجة القادمة، وجوانب المتابعة والرَّقابة على المؤسَّسات في استكمالها للموَجِّهات والآليَّات والاستراتيجيَّات والأدوات الَّتي أقرَّها جهاز الرَّقابة في تخطِّي هذه التَّجاوزات ومعالجتها، وما يتبعها من يقينٍ بمصداقيَّة التَّنفيذ وأمانته، وأنَّ ما تمَّ اتِّخاذه من إجراءات وقرارات بالتَّنفيذ يحظى بالمصداقيَّة والمهنيَّة، والاحترام لها من قِبل المؤسَّسات؛ باعتبارها واجبات على المؤسَّسات أن تعملَ على استكمالها وتصحيحها وتنفيذها بكُلِّ مصداقيَّة وجديَّة، وبِدُونِ أيِّ مماطلة أو تحايل أو تأخُّر، بحيث تكُونُ مخرجات هذا التَّقرير موَجِّهات عمل وإجراءات ضابطة لتجاوزاتِ الجهاز الإداري للدَّولة، في قادم الوقت، إلَّا أنَّ ذلك بحاجةٍ إلى جهدٍ مُجتمعي ومؤسَّسي، ووعيٍ متجذِّر؛ وتحقيق ذلك يرتبط بإحداث تحوُّل نَوْعي في التَّشريعات والقوانين والتَّوعية والتَّثقيف وبرامج التَّعليم وتعظيم الدَّوْر الرَّقابي للإعلام كأحَد أهداف رؤية «عُمان 2040»، وتجسيد مفاهيم الرَّقابة والنَّزاهة ومكافحة الفساد وتأطيرها في الأداء الحكومي وأداء جهاز الإداري للدَّولة والمسؤول الحكومي. كما يفرضُ في الوقت نَفْسِه أدوات وآليَّات عمل على شكلِ إجراءات ثابتة وأولويَّات محكمة وأدوات مقنَّنة ومراجعات جادَّة تطولُ مفاصل منظومة الجهاز الإداري للدَّولة، ونُشير إلى بعضها على النَّحْوِ الآتي:
تفعيل المادَّة (65) من النِّظام الأساسي للدَّولة بشأن المتابعة والرَّقابة على الأداء الحكومي والَّتي تنصُّ على: «تُنشأ لجنة تتبع السُّلطان، تختصُّ بمتابعة وتقييم أداء الوزراء ومَن في حُكمهم، ووكلاء الوزارات ومَن في حُكمهم، ورؤساء وأعضاء مجالس إدارات الهيئات والمؤسَّسات العامَّة وغيرها من وحدات الجهاز الإداري للدَّولة، ورؤسائها أو رؤسائها التَّنفيذيِّين، ويصدر بتشكيلها ونظام عملها وتحديد اختصاصاتها الأخرى أمْر سُلطاني.
إعادة تقييم مسار المراجعة للجهاز الإداري للدَّولة وفق إجراءات ثابتة، للحدِّ من كثرة التَّغييرات والاجتهادات والمشاريع والبرامج الوقتيَّة الَّتي باتَتْ تُشكِّل هدرًا للوقت والجهد والأداء بالمؤسَّسات، وتضع المُجتمع الوظيفي في ظلِّ حالة من عدم الاستقرار والثَّبات، الأمْرُ الَّذي يؤدِّي إلى ضعف الإنتاجيَّة وغياب الأمن الوظيفي، وبالتَّالي ضمان وجود محكّات واضحة يَجِبُ على وحدات الجهاز الإداري للدَّولة اتِّباعها والالتزام بها في المسار الإداري والتَّنظيمي والمالي والمورد البَشَري، وأن يكُونَ المسار الوظيفي والمهني للموظف واضحًا ومفهومًا من ناحية التَّرقيات والعلاوات والتَّقاعدات لا يخضع للاجتهاد ولا للمزاجيَّة.
ضبط مفهوم الاستثناءات الممنوحة في القوانين لرؤساء الوحدات الحكوميَّة وبشكلٍ خاصٍّ ما يتعلق مِنْها بالتَّصرُّفات الماليَّة وبالقرارات الوظيفيَّة (التَّعيينات والتَّرقيات الماليَّة والمكافآت والتَّرقيات في المناصب الإداريَّة)، بحيث لا يمنح المسؤول الحكومي هذا الحقَّ إلَّا بناء على إطار عمل واضح يسلكه مع موافقة الجهات الرَّقابيَّة والأمنيَّة، وفقَ لَجنةِ عملٍ يتمّ تشكيلها من خارج المؤسَّسة بحسب مقتضيات الحالة وطبيعتها. وهنا يَجِبُ التَّأكيد على أهميَّة الخروج من الألقاب الوجاهيَّة والمحسوبيَّة، والتَّأثيرات المُجتمعيَّة النَّاتجة عَنْها.
معالجة حالة السَّحق الوظيفي وتأثيراته الأمنيَّة والاجتماعيَّة على منظومة الجهاز الإداري للدَّولة، والَّذي باتَ يُمثِّل أحَد الجوانب الرَّئيسة المُهدِّدة للأمن الوطني والاجتماعي وأحَد مُدركات الفساد الإداري والمالي والتَّجاوزات الَّتي تفصح عن نُموِّ هذه الظَّاهرة وما تبثُّه في الآخر من سلوك الانتقام والعدائيَّة أو ما تُقدِّمه من حضور المُدلَّلِين وظيفيًّا في واجهة الصُّفوف. مع أهميَّة تقديم المُخلِصِين والقدوات والنَّماذج الإيجابيَّة في مؤسَّسات الجهاز الإداري للدَّولة لِتمارسَ دَوْرها الوظيفي بكُلِّ أريحيَّة ومهنيَّة ومنحها الفرصة في الوظائف العُليا.
ترسيخ نظام فعَّال للمحاسبة والحوافز أكثر شمولًا واتِّساعًا واستدامةً وفاعليَّة يراعي طبيعة المهام الوظيفيَّة، ويعكس مستوى الأمان الوظيفي، ويحافظ على إنتاجيَّة الموظَّف، ويتناغم مع طبيعة التَّحوّلات الاقتصاديَّة والظُّروف المعيشيَّة، إذ إنَّ وضوح هذه المُحفِّزات وطريق استخدام الصلاحيَّات والتَّفويضات الإداريَّة والماليَّة المضبوطة بالإجراءات والعقوبات النَّافذة، أن يُعزِّزَ من الإنتاجيَّة في الأداء الحكومي ويرفعَ من درجة النَّزاهة والمحافظة على المال العامِّ من أيِّ عبَثٍ أو سُوء استغلال.
مراجعة الصلاحيَّات غير المضبوطة الَّتي يتمُّ منحها للمسؤول الحكومي أو القيادات في الصُّفوف الأخرى من الجهاز الإداري للدَّولة بحيث يكُونُ لكُلِّ صلاحيَّة إطار تقييمي وضبطي واضح يُطبق على أيِّ انحراف في التَّطبيق بحيث تمنعُه من العبَث بالموارد أو اتِّخاذ قرارات عشوائيَّة وبالتَّالي يحتكم في عمله على موَجِّهات وأُطُر ومعطيات ومرتكزات مُحدَّدة.
أهميَّة دعم السِّياسة الرَّقابيَّة الَّتي يَقُومُ بها جهاز الرَّقابة من خلال تقديمهم للعدالة والتَّشهير بأسماء الَّذين صدرتْ بحقِّهم أحكام إدانة وعقوبات جرميَّة، سواء في الاختلاس أو الرّشوة أو الإساءة أو استغلال النُّفوذ ويشمل ذلك مختلف المستويات الوظيفيَّة بِدُونِ استثناء بحيث يجد المواطن في التَّشهير بمرتكبي الفساد والتَّعريف بأسمائهم الخطوة الأنجح الَّتي تضْمَن لهذا التَّقرير النَّفاذ والتَّأثير والاحتواء والموثوقيَّة والإنتاجيَّة.
معالجة حالة التَّصدُّعات الحاصلة في البَيْتِ الدَّاخلي بالمؤسَّسات في ظلِّ غياب الحوار البنَّاء والشفافيَّة والتَّعايش الوظيفي والتَّباين الحاصل بَيْنَ مركزَي القيادة في المؤسَّسات، وابتعاد المسؤول الحكومي عن المشهد الوظيفي وتغييبه من متابعة ما يدَوْر في المؤسَّسة، واقتصار الأمْرِ على الظُّهور الإعلامي، الأمْرُ الَّذي أدَّى إلى تزايد هذه التَّجاوزات الجرميَّة وضمان إيجاد بيئة عمل صحيَّة جاذبة وداعمة لسعادة الموظَّف ومراعية لمشاعره وصحَّته النَّفْسيَّة.
إعادة هيكلة البنية الأدائيَّة والتَّواصليَّة والفنيَّة والمهنيَّة لمكتب المسؤول الحكومي، بحيث تبدأ موجة الإصلاح الإداري بالجهاز الإداري للدَّولة من تقييم مكاتب الوزراء والوكلاء ومَن في حُكمهم، في ظلِّ استحضار مبادئ الشفافيَّة والكفاءة والنَّزاهة والإنتاجيَّة والمصداقيَّة، وأن يتَّخذَ جهاز الرَّقابة الإجراءات الضبطيَّة والرَّقابيَّة في مراجعة مسار تحقيق المهام، وإنجاز وتخليص المعاملات والمحافظة على الحقوق الوظيفيَّة.
إعادة رسم ملامح السُّلوك المؤسَّسي وسُلوك المسؤول الحكومي في كُلِّ المستويات الإداريَّة، عَبْرَ تفعيل مُدوَّنة السُّلوك الوظيفي وضبطها بضابط الرَّوادع والعقوبات وتوفير المعطيات والموَجِّهات الضبطيَّة والتَّشريعيَّة والإجراءات والأُطُر الإداريَّة الَّتي يحتكم إِلَيْها والآليَّات الَّتي يستخدمها والأدوات الَّتي يتعامل معها والفرص الَّتي يؤسِّسها في سبيل تحقيق هذا السُّلوك.
إعادة تصحيح مسار تقييم الأداء الوظيفي للموظَّف الحكومي (مشروع إجادة) بشكلٍ أكثر مهنيَّة ودقَّة ومعياريَّة، وتوظيف التقنيَّة في بناء برنامج وطني لمراقبة أداء المسؤول الحكومي وفق مؤشِّرات واضحة ومعايير دقيقة واستراتيجيَّات في الأداء المتوازن ونظريَّات الإدارة الدَّاعمة لقياس السُّلوك، بحيث تضْمن توفير أدوات قياس هذا السُّلوك ومستوى تحقُّقه في واقع العمل ومدَى وجوده في قاموس الأداء اليومي، ومستوى حضوره في أجندة تنفيذ المهام، والإسراع في تطبيق مسار الرَّبط الإلكتروني وتفعيل نواتجه بحيث يُسهم في تتبُّع وتعقُّب مسار المعاملات وتأخُّر التَّنفيذ وأي إجراءات أخرى تمَّ إدخالها في هذا المسار.
د.رجب بن علي العويسي