اغتيال الشخصية (Character Assassination ) مصطلح معروف ويتم ممارسته علي نطاق واسع في حياة المجتمعات ، وهو أحد الأسلحة المستخدمة في لعبة السياسة الداخلية والدولية ، إلا أن الشائع هو استخدامه ضد الأفراد من خلال حملة منظمة بشكل علمي لتشويه سمعة شخص ما بأساليب متعددة ، بغرض تحطيمه مادياً أو معنوياً ، أو مجرد إرهابه والضغط عليه لإتباع سلوك أو الإمتناع عنه .
نظرة عامة
ومن مظاهر ذلك مثلاً علي مستوي علاقات الأفراد ، أن تقوم جماعة باستهداف أحد أفرادها سواء لدواع الحسد أو الخوف أو لمجرد أن هذا الفرد أضعف من أن يدافع عنه نفسه ، حيث يتم نشر الشائعات الكاذبة عنه ، وتفسير بعض تصرفاته علي نحو يؤكد هذه الشائعات، واستخدام بعض الحقائق بشكل مشوه ، وأحياناً تتم هذه العملية بشكل غير عمدي أو غير واع ، ومن ذلك مثلاً ما نلاحظه في مدارس الأطفال ، حيث يتم استهداف طفل معين بواسطة مجموعة من زملائه ، وقد يكون ذلك نتيجة لتفوقه ، حيث يسخرون منه ، يسرقون أدواته المدرسية ، يشوهون كراساته ، يدعون – كذباً وتلفيقاً – أنه سرق منهم ، أو فعل عين السلوكيات التي يتبعونها حياله ، ويكون الغرض – غير الواع – أحياناً مجرد إرغامه علي سلوك معين ، مثل أن يكون مهملاً في واجباته الدراسية مثلهم ، أو أن يتماشي بشكل عام مع رغباتهم وأهوائهم .
ويمكن أيضاً إعطاء امثلة عديدة لعملية الإغتيال هذه بشكل واع بين الأفراد ، مثل إشاعة أن شخصاً له سوابق طلاق عديدة ، رغم أن الحقيقة هي أن نفس الشخص لم يسبق له الزواج علي الإطلاق ، أو الإدعاء بأنه يعتدي علي والدته ، بينما تكون هذه السيدة متوفية منذ سنوات عديدة ، وفي دوائر العمل توجد أيضاً مظاهر عديدة ومستويات مختلفة لعملية إغتيال الشخصية ، وهي لا تخرج عن الإطار السابق سوي في وجود درجة أعلي من العمدية والوعي في ممارستها ، كالموظف الذي يشيع أن زميله في المكتب يتلقي رشوة ، أو أن زميلته – التي لم تستجب لإغراءاته – تسلك سلوكاً غير أخلاقي .. إلخ ..
شروط النجاح
ولكي تنجح عملية إغتيال الشخصية يجب أن يتوافر فيها مجموعة من الشروط ، منها شروط في ” الجاني ” نفسه ، أي الفرد أو الجهة التي تقوم بها ، وشروط في ” الضحية ” ، وكذلك شروط في ” الوسائل المستخدمة ” ، وأخيراً شروط في ” المجتمع ” الذي يشارك في عملية القتل المعنوي ..
الجاني يمكن أن يكون فرداً أو مجموعة أفراد أو هيئة ، لديها مصلحة مادية أو معنوية في استهداف الشخص المعني ، بغض النظر عن أية معايير أخلاقية أو قانونية ، كما أن الجاني يجب أن يتمتع بقدر من المصداقية بغض النظر عن حقيقتها ، وكلما كان الجاني مجهولاً كلما كان ذلك أفضل .
والضحية يجب أن تتوافر فيها عدة شروط منها مثلاً أن تكون ذات قيمة مادية ومعنوية ما ، فلا يعد مثلاً استهداف شخصية بلا قيمة إغتيالاً لهذه الشخصية ، لأنها من المنظور الإجتماعي ميتة ، ويجب أن تكون تلك الضحية ” قابلة للإغتيال ” ، إما بعجزها عن الدفاع عن نفسها ، وإما بوجود مواطن ضعف تتيح إختراقها والضغط عليها .
أما الوسائل المختلفة فهي تتنوع طبقاً لكل حالة ، فقد تكون أكاذيب غير معلومة المصدر ، أو نقل محرف أو خارج السياق ، أو عن طريق الإسكات أو ما يمكن أن نطلق عليه إزالة الذاكرة مثل عدم الحديث عن شخص معين ( مثال علي ذلك الرئيس السابق محمد نجيب ، أو إزالة صور الملك السابق من شرائط الأفلام ) ، كما يمكن استخدام الهدم ( مثل إلصاق تهمة أخلاقية لشخص ما ) ، ومن أسهل الوسائل اللجوء إلي الشتائم والإهانات المباشرة ، كأسلوب لزعزعة الثقة في شخصية ما بغية اغتيالها إجتماعياً بشكل نهائي ، وقد تستخدم كل هذه الوسائل أو بعضها وفقاً لكل حالة علي حدة .
وأخيراً يجب أن تتوفر في المجتمع المشارك في عملية القتل بعض العوامل ، مثل الجهل أو الخوف أو الحسد أو الشك والغيرة ، أو الحقد والإحباط ، أو الطمع والعدوانية ، أو التنافس الإقتصادي ، أو عدم الإستقرار العاطفي ، أو عقدة النقص .. إلخ ..
أنواع إغتيال الشخصية
مما سبق يمكن استخلاص أن أغتيال الشخصية يمكن تقسيمه علي عدة مستويات ، فمن حيث نطاقه ، يمكن أن يكون فردياً أو جماعياً ، والإغتيال الجماعي يمكن أن يستهدف طائفة من المجتمع ، مثل وصف كبار ملاك الأراضي بالإقطاع ، وأسباغ بعض الصفات مثل إتهامهم بأنهم أشرار ومتوحشون لا إنسانيون ، جشعون ، مصاصي دماء الفلاحين .. إلخ ، مع استخدام الأدب والسينما والأغاني لنشر هذه المعاني ، بحيث تلتصق بالطبقة كلها دون استثناء ، ومن ناحية أخري يمكن إشاعة صفات قبيحة بجماعة بشرية مثل وصف الفلاحين مثلاً باللؤم ، والتجار بالفساد ، ورجال الدين بالنفاق .. إلخ .
ولكن يوجد تقسيم آخر زمني ، فكما يمكن إغتيال الشخصية الحاضرة ، أي الموجودة علي قيد الحياة ، يمكن إعادة اغتيال الشخصية التي ماتت بالفعل ، ويكون الهدف من الإغتيال الأخير ليس الشخص في ذاته وإنما القيمة التي كان يمثلها ، ومن ذلك مثلاً إغتيال فكرة القومية العربية من خلال المحاولة المستمرة لإغتيال شخصية عبد الناصر بعد موته ، بإشاعة أكاذيب حول علاقاته بالمخابرات الأمريكية ، أو اتهامه بالفساد .. إلخ ..
إلا أنه يمكن النظر في تقسيم آخر لعملية إغتيال الشخصية ، فهناك إغتيال علي المدي القصير ، وهناك آخر علي المدي الطويل ، والأول هو المألوف والدارج ، أما الثاني فهو عملية بناء منهجية وعلمية ، وهو يشبه السم طويل المفعول لإخفاء يد الجاني ، وتأكيد طبيعية الموت .
اغتيال الأمة العربية والإسلامية
حيث أن السياسة هي لغة الرموز والصور ، يمكننا الآن أن نفهم أن عملية إغتيال شخصية الأمة العربية والإسلامية تجمع بين كل التقسيمات السابقة ، فهي فردية حين تستهدف شخصية قيادية سياسية أو فكرية ، ويكفي هنا مثلاً اتهام قائد سياسي ما بأنه كذب مرة ، بغض النظر عن قيمة ومناسبة هذه الكذبة ، فالشيخ الحسيني نازي لأنه لجأ إلي ألمانيا النازية ، وذلك يكفي للتقليل من قيمة ما يمثله ، وأحمد عرابي خائن خرج علي الوالي ، وسعد زغلول كان يعاقر القمار ، والشيخ الفلاني تزوج من راقصة .. إلخ .
ثم أن عملية الإغتيال تمت بشكل جماعي للمجتمع العربي والإسلامي ، مثل إلصاق الإرهاب به ، فيوصف الإرهاب بأنه ” إرهاب إسلامي أو عربي ” ، وليس مجرد سلوك لجماعة محدودة أو أفراد ، كما يشاع عن المجتمع العربي والإسلامي بأنه ” ثقافة البازار ” لترسيخ فكرة أنه مجتمع لا يمكن الوثوق بتعهداته ، أو أنه مجتمع ذكوري تستذل فيه المرأة ، أو أنه مجتمع فاسد بوجه عام
وعملية الإغتيال في إطارها الزمني تشمل أيضاً إغتيال الحاضر والماضي ، حيث يتم اصطياد وقائع تاريخية مشكوك في صحتها ومحاولة إثبات وقوعها ، باستخدام وثائق وشهادات مزورة أو مصنوعة ، مثل تهمة أضطهاد الأقليات الدينية ، والتلويث المتعمد لشخصيات تاريخية سياسية ودينية ، لإعدام القيمة التي تمثلها هذه الشخصيات .. إلخ ..
كما أن هذا الإغتيال يتم علي المدي القصير والبعيد ، فهو عملية مستمرة لإضعاف ثقة الأمة في نفسها في الحاضر ، فهي أمة متخلفة ، جنودها يفرون في ميادين القتال ، تخاف من حكامها ، ولا تحكم إلا بالقوة والإرغام لميلها إلي الفوضي وعدم الإنضباط ، وهذه الأفكار وغيرها تم نشرها بشكل منهجي عبر فترة طويلة من الزمن ، وتم تأصيلها ثقافياً من خلال حركة الإستشراق وفي كتابات المستشرقين ، بل وساهم فيها – بوعي أو بغير وعي – بعض أبناء الأمة ممن يوصفوا بالمثقفين أو الواقعيين ( الوقوعيون ) .
عزاء
ولا يمكن إختتام هذه القراءة المتعجلة بالإكتفاء بنصب سرادق الحداد والبكاء علي جثمان الشخصية العربية والإسلامية ، فلقد أردت فقط تسليط الضوء علي واحد من أخطر الفيروسات التي تهاجم نظام المناعة العربي والإسلامي ، والهدف ليس مجرد تشخيص المرض ، وإنما دعوة كل عقل وضمير عربي وإسلامي حي كي ينهض لمواجهة هذا الفيروس ، إعتزازاً بتاريخنا وثقة في إمكانيات الحاضر ، وإيماناً بقدرتنا علي التغيير وبناء المستقبل ، هي دعوة لفهم الغزو الثقافي المتسلل كي يتحصن المثقف العربي والإسلامي دفاعاً عن خندقنا الأخير ، عقلنا وهويتنا وتاريخنا .. ولا عزاء للخونة والمتنطعين …
معصوم مرزوق