في صفحات التاريخ العتيقة، تبرز شخصيات استثنائية لا تتكرر، تتوهج سيرتها كنجوم هادية في ليل الأمم، بين أروقة الحقب المظلمة، حيث تداخلت الأطماع بالفضائل، وتصارعت القوى على الأرض والكرامة، يتجلى صلاح الدين الأيوبي كرمز نقي للعظمة الإنسانية المتشابكة بالروحانية، كان أكثر من قائد عسكري أو حاكم مقتدر؛ كان تجسيداً لفلسفة الأخلاق في الحرب، وإرادة التصالح بين القوة والعدالة.
صلاح الدين، الذي قاد مسيرة تحول تاريخي لم يقتصر على استعادة القدس فحسب، بل امتد ليعيد تشكيل فهم الإنسان للقيم الإسلامية في الحكم، الرحمة في النصر، والثبات في مواجهة التحديات، إنه ليس مجرد اسم محفور في كتب التاريخ، بل رسالة متجددة تعكس المعاني العميقة للقيادة الواعية والمسؤولية الأخلاقية في أزمنة الصراعات.
لقد ولد في زمانٍ ومكانٍ يضج بالتعقيد، بين تناقضات السياسة ومشقة البناء، لكنه استطاع أن ينقش أثره في ذاكرة الحضارات، ووسط انكسارات الأمة الإسلامية آنذاك، أعاد صلاح الدين الأمل بوحدة تُلهم العالم حتى يومنا هذا.
صلاح الدين كان قائداً مسلماً في القرن الثاني عشر وقائداً عسكرياً وسلطاناً لسوريا ومصر، هو الملك، وقد ناصر صلاح الدنيا ود الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب، ولد عام 1138 في تكريت وتوفي في 4 مارس 1193 في دمشق، ويقال إنه من أصول كردية، لكن بحسب المصادر التاريخية الأخرى، قيل إن أصله عربي عاش بين الأكراد، وأسس بعد ذلك الدولة الأيوبية الحاكمة، والتي بلغت في عهدها مصر وسوريا والعراق واليمن والحجاز ذروتها.
وتُعرف حياة صلاح الدين وأعماله من مصادر عديدة، معظمها كتبها أشخاص عاشوا معه في نفس الوقت، ومن بين هذه المصادر، احتلت مكانة خاصة تلك التي كتبها المؤرخون وكتاب سيرة صلاح الدين الأيوبي، وكان من بين هؤلاء الكتاب مستشار صلاح الدين الأيوبي ومعلمه بهاء الدين بن رافع، وكذلك المؤرخ ابن الأثير وهو من الموصل.
ومقابل قلعة تكريت عام 1132، صد مجتهد الدين بهروز جيش الأتابك عماد الدين زنكي، الذي حكم الموصل، أثناء انسحابه، وكان يؤدي مهام رئيس القلعة في تلك اللحظة والد صلاح الدين نجم الدين أيوب بن شادي، لقد وفر لجيش زنكي المأوى في قلعته وساعدهم على عبور نهر دجلة، لكن سرعان ما عينوا في شمال بلاد ما بين النهرين عام 1137 مشتاق الدين بهروز حاكماً لخدماته المتميزة للسلاجقة، وذكر مشتاق الدين بهروز لوالد صلاح الدين أنه قدم المساعدة لزنكي، وتم طرد أيوب بن شادي من القلعة، حدث ذلك بعد أن قتل أخوه أحد نبلاء السلاجقة لأسباب الشرف، وكان هذا السلجوقي صديقًا لبهروز.
وكما شهد بهاء الدين بن شدات، بمجرد مغادرة عائلة أيوب تكريت، ولد صلاح الدين. في عام 1139، انتقلت عائلة صلاح الدين إلى الموصل، وهناك دعم زنكي أيوب لسداد الدين الذي قدمه له أيوب، عين الزنكي أيوب قائداً على قلعة بعلبك، وسرعان ما قُتل زنكي على يد خادمه، وقد حدث هذا عام 1146، بعد هذه الحادثة، انتقل أيوب للعيش في دمشق، حيث أصبح أحد رجال البلاط في بلاط نور الدين، وريث زنكي. عندما توفي والي دمشق معين الدين أنار، انتقلت السلطة في المدينة إلى نور الدين، ليس بدون مساعدة أيوب وشيركوه، أخيه، لكن في الحقيقة بدأ أيوب يحكم المدينة.
التفضيلات الشبابية ومهنة صلاح الدين الأيوبي
كتب أحد كتّاب سيرة الوهرامي أن صلاح الدين كان قادراً على الإجابة على أسئلة المجسطي وإقليدس، وكان ضليعاً في الشريعة الإسلامية والرياضيات، ووفقاً لبعض المصادر، فقد أظهر اهتماماً بالقضايا الدينية أكبر بكثير من اهتمامه بالشؤون العسكرية والعمل العسكري، ويعتقد أن اهتمامه بالدين يمكن أن يتأثر بحقيقة أن المسيحيين استولوا على القدس في الحملة الصليبية الأولى.
كان صلاح الدين ضليعاً في مسائل الأنساب، وكان يعرف تاريخ العرب وسيرهم جيداً حتى أنه كان يفهم سيرة الخيول العربية. كان يحفظ عن ظهر قلب عشرة مجلدات من شعر حماس العربي لأبي تمام، بالإضافة إلى ذلك، كان صلاح الدين حافظاً، أي أنه كان يحفظ القرآن عن ظهر قلب.
دولة الخلافة العربية
خلال تلك الفترة التاريخية التي حدثت فيها طفولة صلاح الدين، ساد انقسام كبير في الإمبراطورية العباسية، حيث انقسمت إلى عدة دويلات. وكانت مصر بقيادة الفاطميين، ولم يعترفوا بسلطة الخليفة في بغداد. استولى الصليبيون على الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط من شبه جزيرة سيناء إلى آسيا الصغرى نفسها، كانت بلاد ما بين النهرين وسوريا تحت سيطرة نور الدين زنكي.
وقد أصرت عائلة صلاح الدين على أن يبدأ حياته العسكرية، وأشرف على تدريبه عمه أسد الدين شيركوه، الذي كان قائداً عسكرياً مهماً في عهد نور الدين في تلك السنوات، وكان شيركوه أيضاً أمير حلب ودمشق في ذلك الوقت، وكان أيضاً جزءاً من الأسرة الزنكية، ومن بين جميع معلمي صلاح الدين، كان هو الأكثر تأثيراً.
المشاركة الأولى في المعارك
في عام 1163، تم نفي وزير مصري شيوار بن مجير من البلاد على يد الخليفة الفاطمي العاضد، لجأ الوزير إلى نور الدين طلباً للمساعدة والدعم، واستخدم ذلك كذريعة للغزو: تقدم الجيش بقيادة شيركوه إلى مصر عام 1164، ورافقهم أيضاً صلاح الدين، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك ستة وعشرين عاماً، وكان حينها برتبة ضابط صغير، وبحلول ذلك الوقت كان شيوار قد أعيد إلى منصب الوزير، وطالب شيركزخ بسحب قواته من مصر مقابل ثلاثين ألف دينار، لكن شيرخوك رفض سحب القوات لأنه، كما قال، كان لديه أمر من نور الإعلان الدين للقيام بذلك، أدرك شيوار بن مجير أن شيركوه كان يخطط لغزو مصر ولجأ إلى أمالريك الأول ملك القدس طلباً للمساعدة، كما شارك صلاح الدين الأيوبي في الاستعدادات للدفاع عن بلبيس التي حاصرتها القوات المشتركة للملك أمالريك الأول ملك القدس وشيفار، لكن دوره في تلك الحملة لم يكن ذا أهمية.
معركة الجيزة
وقعت المعركة بعد ثلاثة أشهر من حصار بلبيس على حدود النيل والصحراء في الأراضي الواقعة غرب الجيزة، في هذه المعركة، تولى صلاح الدين قيادة الجناح الأيمن للجيش الزنكي، ولعب دوراً أكثر أهمية، كانت شيركوه في قلب المعركة، وبعد انسحاب صلاح الدين الأيوبي، تم استدراج الصليبيين إلى تضاريس رملية شديدة الانحدار بالنسبة لخيولهم، ونتيجة لذلك انتهت المعركة بانتصار الزنكيين، وساعد صلاح الدين في تحقيق هذا النصر، بحسب ابن الأثير، وكان من أبرز الانتصارات في التاريخ. لكن في المعركة خسر شيركوه معظم جيشه، لذلك لم يكن النصر كاملاً.
وبعد المعركة بقي الصليبيون في القاهرة، وتوجه شيركوه وصلاح الدين إلى الإسكندرية التي اتخذوا منها قاعدة لهم، وبعد مفاوضات اتفق الجانبان على مغادرة مصر.
انتخابه أميراً
عندما حاول أسد الدين شيركوه فتح مصر عام 1167، انتهت محاولته للغزو بخسارة معظم قواته وتكبده خسائر فادحة من القوات المشتركة للملك أمالريك الأول ملك القدس والسلالة الفاطمية، لكن بعد مرور عام، وجه الصليبيون في القدس أنظارهم الجشعة إلى حليفهم، ولجأت الخلافة بقيادة العاضد إلى نور الدين طلباً للمساعدة: كتب له رسالة يطلب فيها حماية المسلمين المصريين من الصليبيين، تم الاستيلاء على مصر عام 1169 على يد أسد الدين شيركوه، الذي أعدم شيوار وتولى بنفسه لقب الصدر الأعظم.
وفي عام الاستيلاء على مصر مات شيركوه وعين نور الدين خليفة جديداً، لكن العاضد أعلن أن صلاح الدين سيكون الوزير الجديد، وقال صلاح الدين نفسه إنه بدأ بمرافقة عمه، لكنه توفي بعد فتح مصر، ولم يتوقع على الإطلاق أن ينال القوة التي منحه إياها الله.
ولم يعرف حتى الآن سبب تعيين العاضد لصلاح الدين، وهو سني، وزيراً جديداً، وبحسب ابن الأثير، فقد اتخذ الخليفة هذا الاختيار بعد أن أخبره مستشاروه أن صلاح الدين هو الأصغر والأضعف، ولم يطيعه أحد من الأمراء أو يخدمه، لكن معظم الأمراء قبلوا ترشيحه، كما تقول هذه الرواية، وكان المستشارون، الذين اقترحوا ترشيح صلاح الدين، يأملون في إضعاف وكسر صفوف الزنكيين، ولكن هناك أيضاً رأي الوهراني الذي كتب أن صلاح الدين تم اختياره لشرف عائلته العسكري ولكرمه.
وهناك أيضاً رأي أنه بعد إقامة الحداد على شيركوه، انقسم الرأي بين مستشاري الخليفة، واختار الزنكيون صلاح الدين، واضطر الخليفة إلى اختيار ترشيحه، وكانت المنافسة شديدة بين القادة الإسلاميين في ذلك الوقت، لكن مع ذلك فقد حظي ترشيح صلاح الدين بدعم معظم حكام سوريا، لأنهم تذكروا إنجازاته خلال الحملة على مصر، حيث اكتسب خبرة عسكرية واسعة.
المؤامرة والتمرد
تولى صلاح الدين منصب الأمير عام 1169 في 26 مارس، مما منحه قدراً أكبر من الاستقلال والقوة أكثر من أي وقت مضى، ولكن إلى جانب هذا كان لديه العديد من المشاكل، وبدأت الأسئلة تطرح بخصوص الولاء بين نور الدين والعديد، وبما أن نور الدين لم يكن سعيداً بتعيين صلاح الدين، بل أعرب عن سخطه، كما ترددت شائعات، من أن صلاح الدين كان يفعل شيئاً دون أمره، حتى أنه أرسل عدة رسائل إلى صلاح الدين، لكنه لم يتخل عن ولائه لنور الدين.
وفي نفس العام جرت محاولة لقتل صلاح الدين الأيوبي على يد مجموعة من أمراء وجنود مصر، لكنها باءت بالفشل، فقد أرسل صلاح الدين مجموعة من الجنود قاموا بقتل المتآمر الرئيسي، والذي تبين أنه مؤمن الخلافة، الذي كان يعمل مديراً في القصر الفاطمي وهو خصي سوداني الأصل، ولم يمر يوم واحد قبل أن يثور خمسون ألف سوداني على صلاح الدين، حيث كان مؤمن يمثل مصالحهم في المحكمة، فقد تم قمع هذه الانتفاضة بحلول الثالث والعشرين من أغسطس فقط، ولم يبرز التهديد بالتمرد ضد صلاح الدين الأيوبي في القاهرة مرة أخرى.
الحرب مع الصليبيين
تمكن صلاح الدين من هزيمة قوات الصليبيين بفضل دعم نور الدين، وحتى ذلك الحين فقط في نهاية عام 1169 – حدث هذا بالقرب من دمياط، حيث هزم الصليبيين والبيزنطيين، وفي العام التالي، طلب صلاح الدين من نور الدين أن يرسله إلى القاهرة بتشجيع من الخليفة العباسي في بغداد، الذي كان يحاول الضغط على صلاح الدين للإطاحة بالعديد، منافسه.
ونتيجة لذلك، تعزز نفوذ صلاح الدين وسلطته السنية، وقام بتوزيع المناصب العليا على أفراد عائلته، وفي القاهرة، وبمبادرة منه، تم افتتاح فرع للمذهب المالكي، وتقلص تأثير الشافعية في المنطقة بشكل كبير.
الاستيلاء على غزة
عندما أسس صلاح الدين سلطانه في مصر، بدأ في قتال الصليبيين، وفي عام 1170 قرر محاصرة داروم التي كانت تقع حيث يقع قطاع غزة الآن، من أجل حماية داروم، قام أموري الأول بإزالة حامية كاملة من فرسان الهيكل من غزة، لكن صلاح الدين انسحب من داروم وقرر بشكل غير متوقع فرض الحصار والاستيلاء على غزة، وفي نفس العام هاجم قلعة إيلات، التي استولى عليها أيضاً في النهاية، وكانت هذه القلعة في ذلك الوقت تشكل تهديداً لسفن المسلمين المارة.
وفي صيف عام 1171، كتب نور الدين العديد من الرسائل إلى صلاح الدين، بدليل عماد الدين الأصفهاني، وطالب في هذه الرسائل بتنصيب الخليفة العباسي حاكماً على مصر، لم يرد صلاح الدين على الرسائل محاولًا التزام الصمت لأنه فهم أن هذا من شأنه أن ينفر منه السكان الشيعة وممثلي النبلاء، لكن بعد شهرين، جند صلاح الدين دعم فقيه المذهب الشافعي، نجم الدين الحبوشاني، الذي كان يعارض الحكم الشيعي للدولة.
وفي خريف العام نفسه، أصيب العاضد بمرض غريب مشبوه، حتى أن هناك شبهات بأنه قد يكون مسموماً، ودعا صلاح الدين إلى مكانه في أحد الأيام الأخيرة، لأنه كان سيسأل له لرعاية أطفاله، لكن صلاح الدين رفض زيارة الحاكم، لأن ذلك قد يكلفه مصلحة العباسيين.
وسرعان ما توفي العاضد، وأمر صلاح الدين العلماء بإعلان اسم الخليفة قبل بدء صلاة الجمعة، وهو ما يعني شيئاً واحداً فقط: أن الخلافة الشافعية فقدت قوتها، وبدأ صلاح الدين في حكم مصر بمفرده، لكن كان يُعتقد رسمياً أن صلاح الدين يمثل في هذه المنطقة الخليفة بغداد نور الدين.
صراع داخلي
غادر صلاح الدين القاهرة بعد فترة وجيزة من هذه الأحداث وشارك في حصار الكرك الذي كان يقع في أراضي الأردن الحديث وكان قلعة لمملكة القدس، وكانت القلعة جاهزة بالفعل للاستسلام، لكن وصلت أنباء إلى صلاح الدين مفادها أن نور الدين قد انطلق بالفعل من سوريا للمشاركة في العملية، لم يتمكن صلاح الدين من مقابلة نور الدين شخصياً، لأنه في هذه الحالة كان سيتم عزله من حكم مصر، لذلك، مشيراً إلى حقيقة أن الاضطرابات قد بدأت في مصر، عاد على عجل إلى القاهرة، حتى أن نور الدين قرر الزحف إلى القاهرة بجيش.
وعندما تعرضت أسوان لحصار الجيش النوبي عام 1172، هرع توران شاه، شقيق صلاح الدين الأيوبي، لمساعدة حاكم أسوان وعاد النوبيون عام 1173 رغم هزيمتهم، لكن الجيش المصري خرج من أسوان وتمكن من الاستيلاء على إبريم، وهي مدينة نوبية.
ولم يتخذ نور الدين أية خطوات ضد مصر، بل طالب بسداد دين قدره مائتي ألف دينار خصصت لجيش شيركوه، وسدد له هذا الدين مبلغ ستين ألف دينار، وكذلك البضائع والمجوهرات.
سقط والد صلاح الدين عن جواده عام 1173 ومات، بعد وفاة أيوب، لم يعد لصلاح الدين أي نفوذ في القاهرة، وقد فهم نور الدين ذلك جيداً، الذي خطط لحملة للاستيلاء على مصر، في عام 1174، أرسل صلاح الدين الأيوبي توران شاه إلى اليمن وعدن للقبض عليهما وجعلهما قاعدته الاحتياطية في حالة غزو مصر. في صيف عام 1174، كانت الاستعدادات لجيش للاستيلاء على مصر على قدم وساق، وتم جمع القوات لهذا الغرض في الجزيرة وديار بكر والموصل، كما تم إرسال سفير إلى صلاح الدين لإبلاغه بذلك، وبدأ صلاح الدين بجمع قواته بالقرب من القاهرة، لكن نور الدين مات بشكل غير متوقع، وموته المفاجئ يوحي بتسمم منظم. وترك نور الدين وريثاً هو الصالح، وكان عمره في ذلك الوقت أحد عشر عاماً فقط، أدى موت نور الدين إلى جعل صلاح الدين مستقلاً سياسياً، وأصبحت سوريا موضوعاً للصراع بين أتباع الحاكم المتوفى.
أما بالنسبة لصلاح الدين، بعد وفاة نور الدين، بدا الوضع صعباً للغاية: فقد أتيحت له الفرصة لتحريك قواته ضد الصليبيين، أو كان يتوقع دعوة من الصالح للانضمام إلى جيشه وتقديم المساعدة ببدء حملة عسكرية من سوريا، وقد أتيحت لصلاح الدين الفرصة لضم سوريا قبل أن تقع في يد شخص آخر، خاصة إذا كان ذلك الشخص عدواً له، لكن صلاح الدين لم يجرؤ على مهاجمة أرض سيده لأن ذلك يتعارض مع مبادئه الإسلامية، وكان يخشى أن يبدو غير مستحق في الحرب مع الصليبيين، مما يشوه سلطة القائد، فضل صلاح الدين دور حامي الصالح، مما سمح له بقيادة العمليات العسكرية ضد الصليبيين وعدم النظر إليه على أنه غازي لسوريا، وبعث برسالة إلى الصالح، وعد فيها بأنه سيكون حمايته كالسيف، ووصف وفاة والده بـ “الزلزال”.
استولى شمس الدين علي بن الداية وشقيقه على حلب في نفس الوقت، وانتقل الصالح إلى أسوارها في صيف عام 1174 مع جيشه لقمع التمرد، ثم استولى على المدينة، وأرسل الإخوة الذين يقودون التمرد إلى السجن، واختار البقاء في حلب نيابة عن صلاح الدين، تم إرسال رسائل إلى الأمراء المؤيدين للصالح، مما زاد من حدة الصراع الداخلي في سوريا.
الاستيلاء على دمشق
في عام 1174، أرسل صلاح الدين الأيوبي مفرزة من سبعمائة فارس إلى دمشق، وسمح لهذه المفرزة بدخول المدينة بمساعدة الأشخاص الموالين لعائلة صلاح الدين.
غادر صلاح الدين دمشق في رعاية أخيه، وبدأ هو نفسه في الاستيلاء على تلك المدن التي كانت مملوكة سابقًا لنور الدين: استولى جيشه على مدينة حماة، لكن حمص، التي كانت محصنة جيداً، لم يستطع جيشه أخذها، وقد حاصر حلب في نهاية عام 1174، لكن حاكم الموصل سيف الدين أرسل أخاه عز الدين ضد صلاح الدين، الذي كان من المفترض أن يطرده من سوريا، لكن صلاح الدين تمكن من هزيمته في معركة قرب حماة، وتحالف سيف الدين مع الصالح لكنه هزمه في العام التالي.
وبعد ذلك لجأ مستشارو الصالح إلى رشيد الدين سنان طلباً للمساعدة، ووافق زعيم الإسماعيلية على تقديم هذه المساعدة لهم، إذ كان الرجل الذي أزاح الفاطميين من السلطة في مصر نفسه يحلم بالانتقام.
في مايو 1175، تم تنظيم حصار قلعة اعزاز، خلال هذا الحصار، تسلل ثلاثة عشر قاتلاً إلى معسكر صلاح الدين، لكن الحراس لاحظوهم في الوقت المناسب، وتم منع محاولة اغتياله، وفي يونيو من نفس العام وصل صلاح الدين مرة أخرى إلى أسوار حلب وأقام عند هذه الأسوار بعض الوقت، ثم عاد إلى موطنه في مصر حيث بدأ في إعداد حملة عسكرية ضد الصليبيين.
كان لصلاح الدين هدنة مؤقتة مع الزنكيين، وهو ما فسرته بالحرب التي شنها ضد الصليبيين، لكن التهديد من الزعيم الإسماعيلي رشيد الدين سنان وطائفته بأكملها كان محسوساً باستمرار، وكان رشيد الدين سنان يسيطر على تسع حصون في جبال النصارى.
في أغسطس 1176، شن صلاح الدين حملة ضد الحشاشين بينما تم إرسال معظم قواته إلى القاهرة، لكنه اضطر إلى التخلي عن النصارية بعد أن انتهت عدة محاولات للاستيلاء على الحصون بالفشل، وهناك معلومات تفيد بأن صلاح الدين، بمساعدة عمه محافظ حماة، أبرم اتفاق سلام مع سنان.
العودة إلى القاهرة
وفي نهاية الحملة ضد الحشاشين في سبتمبر، عاد صلاح الدين إلى دمشق، وحل جيشه، وترك توران شاه حاكماً له على سوريا، وتوجه بنفسه إلى مصر، محاطاً بأقرب أتباعه، وصل صلاح الدين إلى القاهرة في 22 سبتمبر 1175، حيث غاب عنها لمدة عامين، وكان لديه الكثير من الأمور لتنظيمها، فقد أراد الانخراط في تحصين القاهرة وترميمها، وبدأ صلاح الدين في بناء قلعة القاهرة، وبدأ في ترميم أسوار المدينة، وأراد تزويد القلعة بالمياه، فبنى بئراً بعمق سبعة وثمانين متراً، والذي سمي فيما بعد “بئر يوسف”، وبأمره تم بناء جسر ضخم بالجيزة لحماية المدينة من غزو الموريتانيين، كما خصص صلاح الدين الكثير من الوقت لتنظيم الإدارة الداخلية في القاهرة وتنظيم بناء المدارس.
تحرير فلسطين
عام 1177، ذهب صلاح الدين الأيوبي إلى فلسطين في غارة بعد أن استولى الصليبيون على أراضي دمشق، منهياً الهدنة، وبما أن دفاعات جنوب فلسطين قد ضعفت بسبب قيام المسيحيين بإرسال معظم قواتهم العسكرية للاستيلاء على قلعة حارم شمال حلب، استغل صلاح الدين هذا الوضع وتوجه إلى عسقلان، أو “عروس سوريا”. كما أسماها صلاح الدين.
ومن سيرة صلاح الدين الأيوبي بأكملها، أصبح قتال الصليبيين أشهر حقيقة من سيرته، والتي انعكست في العديد من الأعمال الأدبية والشواهد التاريخية..
تحرير القدس
هزم صلاح الدين الأيوبي القوات الصليبية بالقرب من حطين في 4 يوليو 1187، وأسر مسؤولين رفيعي المستوى مثل ملك مملكة القدس نفسه، غي دي لوزينيان، وجيرارد دي ريدفورت، الزعيم الأكبر لجماعة فرسان الهيكل، أيضاً، إلى جانب الكثير من وقادة الصليبيين، خلال هذا العام، استولى صلاح الدين على معظم أراضي فلسطين، واستسلمت له عكا والقدس بعد حصار قصير.
وفي القدس تحولت كل الكنائس إلى مساجد إلا كنيسة القيامة، وأنقذ صلاح الدين حياة السكان ومنحهم فرصة استعادة حريتهم، ووعد بعدم إيذاء الحجاج المسيحيين الذين يزورون القدس لتكريم الآثار المقدسة، وضمن لهم الامتيازات المقابلة.
ريتشارد قلب الأسد
احترمت أوروبا المسيحية السلطان صلاح الدين، رغم أنه كان الخصم الرئيسي للصليبيين، لأنهم أدركوا شجاعته، وكرمه تجاه خصمه، وشجاعته، كاد الزعيم الرئيسي للصليبيين، كريستيان ريتشارد الأول قلب الأسد، الملك الإنكليزي، أن يصبح صديقاً لصلاح الدين الأيوبي، وتحدث ريتشارد بإعجاب عن صلاح الدين الأيوبي، وتم تزويد رعاياه بجميع أنواع الفوائد، هاتان الشخصيتان التاريخيتان، صلاح الدين الأيوبي المسلم وريتشارد قلب الأسد المسيحي، التقيا مرة واحدة فقط في حياتهما – عندما تخلى عنه حلفاء ريتشارد أثناء الحملة الصليبية، وتم عقد هدنة بين ريتشارد وصلاح الدين.
وفاة صلاح الدين
عندما كانت الاستعدادات للزحف إلى بغداد واستعادة الخلافة العربية إلى شكلها السابق، أصيب القائد بالحمى الصفراء، على إثرها توفي صلاح الدين الأيوبي في دمشق في 4 مارس 1193، ودفن في دمشق وحزن عليه الشرق كله كمدافع عن العقيدة الإسلامية، وكتبوا على قبره: “اللهم تقبل هذه الروح وافتح لها أبواب الجنة”.
ومع تراجع دور العصر الصليبي في التاريخ الإسلامي، جاء الدور التاريخي لصلاح الدين الأيوبي كبطل مسلم وقائد عسكري، وتقلصت الأهمية التاريخية للحروب الصليبية لأنها وقعت بين فترتين من التوسع الإسلامي الاستثنائي، بما في ذلك الفتح العربي في القرنين السابع والثامن واستمرار التوسع الإسلامي المطرد خلال القرنين التاسع والحادي عشر، وصعود الأتراك وتوسعهم غرباً في أوروبا في أواخر العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث.
ويذكر التاريخ صلاح الدين الأيوبي باعتباره الفاتح الذي أوقف غزو الغرب للشرق ودافع عن الإسلام، ووجه قواته نحو المسيحيين والغرب، لقد دخل التاريخ كبطل جمع في شخصيته فضائل الإسلام ومثله. وبعد أن رحل صلاح الدين عن الدنيا، قسم ورثته إمبراطوريته فيما بينهم: فذهبت مصر إلى العزيز، ودمشق إلى ابنه الأفضل، وحلب إلى الظاهر.
لقد كان صلاح الدين يحظى بالتبجيل باعتباره الشخصية المسلمة الأكثر أهمية في الحروب الصليبية، ولقد ألهم قراره بإنقاذ المسيحيين في القدس، وقد كان لأفعاله سبب عملي: فهو لم يكن يريد أن يخلق شهداء للقضية المسيحية للانتقام، ومع ذلك، فقد تم مدحه بلا انقطاع ليس فقط من قبل المسلمين ولكن أيضاً من قبل المسيحيين الأوروبيين، والقصص حول مآثره وشخصيته مشهورة حتى يومنا هذا، وعلى الرغم من أن هذه الحكايات هي أعمال خيالية، إلا أنها تؤكد مكانة صلاح الدين كواحد من أكثر الرجال نفوذاً في تاريخ العالم.
ورغم أنه شخصية تاريخية لكنه وفق اعتقادي تعرض للظلم، بما في ذلك خصومه (من بعض فرق الباطنية) هؤلاء تراهم يلتقون مع الأعداء الصليبيين أو خصوم صلاح الدين عموماً، خاصة في دسهم على الروايات المكذوبة وكله لغاية واحدة وهي التقليل من قدره وإنجازاته، فهو محرر القدس رجل لن يتكرر، شأنه شأن الخليفة عمر بن الخطاب فاح القدس، من الفاتحين والعظماء، الذين يتعرضون إلى تشويه متعمد من قبل بعض الناس المحسوبين على المؤرخين، أو من قبل بعض من يرتدون العمائم الإسلامية ويخفون تحتها “نجمة داوود” في خدمة الصهاينة والصليبيين، فينالون من هذه الشخصيات العظيمة ولا ندّعي فيهم العصمة ولا الكمال، الكمال لله تبارك وتعالى، ولكن ما قدموه إنجاز عظيم، خصوصاً ما يتعلق في القدس، ومسجد ومسرى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، الأقصى الشريف والمبارك.
وكل ما حطت رحالي في دمشق لا بد لي من زيارة قبر هذا القائد الكبير وذلك كنوع من الوفاء، لأن هذه الشخصية قدمت للإسلام وأثّرت فينا أيّما تأثير، وهذا ما يعود بي إلى قصيدة للشاعر الكبير “أحمد مطر” بعنوان “قم يا صلاح الدين”: وغاية الخشونة أن تنديوا.. قُم يا صلاحَ الدين قُم.. حتى اشتكى مرقَدُهُ من حجولِه العفونَه.. كم مرّةٍ في العام توقظونه؟ كم مرّةٍ على جدارِ الجُبنِ تجلدونَه؟ أيطلبُ الأحياءُ من أمواتهم معونَه؟! دَعوا صلاحَ الدينِ في تُرابِهِ.. واحترموا سكونَه.. لأنّهُ لو قامَ بينَكمْ.. فسوف تقتلونَه!
فالأمة التي تشتم رموزها، هذه أمة مهزومة تاريخياً ومتأزمة نفسياً، لذلك لن تنتج الأمة التي تشتم صلاح الدين أو الفاروق ورموز الإسلام، لن تقدم أي شيء للقدس أو لأهلنا في غزة أو للعالم الإسلامي بشكل عام.
وفي الختام، يبقى صلاح الدين الأيوبي رمزاً من رموز البطولة والإيمان التي حفرت في الذاكرة الإنسانية، ليس فقط بإنجازاته العسكرية، بل أيضاً بحكمته وإدارته الحكيمة لدولته، كما استطاع أن يوحد الأمة الإسلامية في مواجهة الاحتلال الصليبي، وكان من القادة الذين مزجوا بين القوة والحكمة، الشجاعة والتسامح، لقد قدم نموذجاً حياً للقائد الذي يعظم الدين ويخدم الأمة، وترك إرثاً خالداً في تاريخ الشرق والغرب على حد سواء، إن ذكرى صلاح الدين الأيوبي ستظل خالدة في قلوب المسلمين وغير المسلمين، لأنها تروي قصة الأمل والمثابرة في مواجهة التحديات، وتؤكد أن العزيمة الصادقة والإيمان الراسخ قادران على تغيير مجرى التاريخ.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.