في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة، أصبحت سوريا ساحة حيوية لصراعات القوى الكبرى، حيث تتداخل مصالح العديد من الأطراف الدولية والإقليمية، من بين هذه الأطراف، تبرز تركيا التي اتخذت موقفاً استباقياً لتحسين وضعها الاستراتيجي في سوريا، مستفيدة من التوترات بين روسيا وإيران والتغيرات المحتملة في السياسة الأمريكية، مع انسحاب القوات الأمريكية المحتمل وتركز القوى الأخرى على ملفات مختلفة، تمكنت تركيا من تغيير ميزان القوى لصالحها، ما جعلها تسعى إلى تعزيز نفوذها في سوريا وفتح الباب لمفاوضات جديدة قد تساهم في إعادة رسم المشهد الإقليمي.
إن التصعيد في سوريا، بكل ما يحمله من أبعاد وتداعيات، يعتبر أمراً طبيعياً تماماً، بل هو تطور كان متوقعاً بالنظر إلى معطيات الواقع السوري المعقد، هذا التصعيد لم يكن ليحدث بين ليلة وضحاها، بل كان نتيجة لتراكمات طويلة من التوترات السياسية والعسكرية في المنطقة، ومن هذا المنطلق، قد تكون المفاجأة الوحيدة هي أن هذا التصعيد جاء متأخراً جداً عن الوقت الذي كان فيه الكثير من المحللين والمتابعين يتوقعون حدوثه.
وإذا ما نظرنا إلى الوضع في سوريا منذ بداية الأزمة، نجد أن النزاع قد مر بمراحل متعددة من التصعيد والانحسار، ولكنه كان في جوهره صراعاً غير قابل للاستمرار على المدى الطويل بشكلٍ ثابت، الأطراف الفاعلة في سوريا — من الحكومة السورية إلى الجماعات المعارضة، مروراً بالقوى الإقليمية والدولية المتورطة — كانوا يعلمون جميعاً أن هذا الصراع سيؤدي في نهاية المطاف إلى نقطة تصعيد كبيرة، كان من الصعب تجنبها، ففي الوقت الذي كانت فيه القوى الدولية تحاول التأثير على مسار الأزمة، كان الواقع المحلي والإقليمي يشير إلى أن الحلول السياسية لم تكن قادرة على إيقاف دوامة العنف.
فالتأخير في التصعيد يعكس ربما افتقار بعض الأطراف إلى الرغبة أو القدرة على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، من جهة أخرى، قد يكون هذا التأخير ناتجاً عن الحسابات السياسية المعقدة للأطراف المعنية، فكل طرف كان يراهن على أن خصمه سينهك من الداخل أو سيتوصل إلى تسوية دبلوماسية أو سيواجه مشكلة أعمق من أن يمكنه مواجهتها، وهو ما لم يحدث في النهاية.
وعلى الرغم من أن التأخير قد يبدو وكأنه فراغ زمني لم يتم استغلاله بالشكل الأمثل، إلا أنه من الممكن تفسيره في سياق توازن القوى في المنطقة، فكل طرف كان يسعى لتحقيق مكاسب استراتيجية على الأرض، سواء عبر تعزيز النفوذ العسكري أو من خلال المفاوضات التي قد تؤدي إلى مكاسب سياسية، لكن في النهاية، لم تدم القدرة على التفاوض أو التهدئة طويلاً، إذ انتهى الأمر بتصعيد شامل جاء كرد فعل على فشل التسويات.
وفي ظل هذا الواقع، يصبح من الواضح أن التصعيد في سوريا لم يكن فقط أمراً محتماً من الناحية العسكرية والسياسية، بل هو أيضاً نتيجة حتمية للطبيعة الديناميكية التي تميز هذا النوع من النزاعات المعقدة، قد تكون الفترة التي تلت هذا التصعيد هي مرحلة فاصلة تحدد ملامح ما سيحدث في المستقبل، حيث تتسارع الأحداث في ظل تداخل المصالح الإقليمية والدولية.
بالتالي لا يمكن النظر إلى التصعيد في سوريا على أنه حدث غير متوقع أو مفاجئ. هو ببساطة تجسيد للواقع الذي لم يكن بالإمكان تجاهله طويلاً، ومن هنا، يمكن القول إن التأخير في حدوثه هو فقط نتيجة لحسابات لم تكن تتوقع انفجار الوضع في ذلك الوقت المحدد، ولكن، وبالنظر إلى تطور الأحداث، يصبح من الواضح أن ما وقع ليس إلا مرحلة جديدة من التصعيد في نزاع طال أمده، وكان لزاماً أن يحدث في لحظة ما.
بالتالي، إن التفاقم الأخير في سوريا يعكس بوضوح تطوراً غير مفاجئ للأزمة، وكان ناتجاً عن عدة عوامل سياسية وعسكرية معقدةـ، ومن بين هذه العوامل، يبرز كل من الدور الإيراني والروسي كعناصر محورية في تصعيد الأوضاع، حيث كان كل طرف يسعى للحفاظ على مصالحه الاستراتيجية في سوريا، مع تدخلات أخرى تؤثر على مجريات الأمور.
العامل الإيراني في التفاقم السوري كان بارزاً للغاية، خاصة وأن الضربات “الإسرائيلية” على مواقع إيرانية في سوريا كانت من العوامل التي كشفت عن توترات استراتيجية في المنطقة، لكن الأهم من هذه الضربات هو رد فعل إيران الذي أظهر نوعاً من الضعف، كما لو أنها كانت تبتعد عن التصعيد المباشر، لعل ما جعل إيران تبدو كما لو أنها “قيدت يداً واحدة خلف ظهرها” هو استراتيجيتها في الحفاظ على موقف دفاعي، في وقت كانت تسعى فيه لتجنب التورط بشكل كامل في مواجهة مفتوحة، فالضربات “الإسرائيلية” على المواقع الإيرانية في سوريا أظهرت بوضوح أن إيران لم تكن مستعدة لتوسيع نطاق الصراع، وهذا التوجه يعكس تراجعاً أو تحولاً في أولويات إيران، التي كانت ترغب في تجنب مواجهة مباشرة قد تؤدي إلى تداعيات غير مرغوب فيها في وقت كانت فيه متورطة بالفعل في نزاع في المنطقة.
أما العامل الروسي، فقد تأثر أيضاً بشكل كبير بتحولات في السياسة الخارجية الروسية، خصوصاً بعد تصاعد النزاع في أوكرانيا، على الرغم من أن روسيا كانت تدير لعبة دقيقة في سوريا، مما يضمن لها دوراً فاعلاً في المنطقة، إلا أن الأزمة في أوكرانيا أجبرت روسيا على إعادة ترتيب أولوياتها العسكرية والسياسية. لقد كان الانتقال الروسي إلى الجبهة الأوكرانية نوعاً من “التأجيل” أو “التحويل” للموارد العسكرية التي كانت موجهة نحو سوريا، هذا التحول بين جبهات القتال، بالإضافة إلى الاستراتيجيات الروسية التي اعتمدت على شعارات مثل “نتصرف بمسؤولية”، يعكس صورة دولة كانت تسعى لتجنب التصعيد المباشر مع قوى أخرى في المنطقة، بل وابتعدت عن المواجهات التي قد تؤدي إلى تصعيد غير متحكم فيه.
في هذا السياق، يبرز التوتر بين هذه القوى الكبرى، التي كانت تتجنب التورط المباشر في صراع عسكري شامل في سوريا، رغم أن مصالحها الاستراتيجية كانت تقتضي منهم السيطرة على الوضع. وعلى الرغم من أن إيران وروسيا كانتا حاضرتين في سوريا، إلا أن التصعيد جاء نتيجة للتحولات في السياسات الخارجية والضغوط التي فرضتها أزمات أخرى، مثل الحرب الأوكرانية، والتوقف الذي اتخذته كل من إيران وروسيا يُظهر أنهما كانتا تعملان في إطار استراتيجية أكثر حرصاَ على تجنب المواجهة الشاملة، وهو ما يفسر جزئياً التباطؤ في حسم الأمور في سوريا.
بالتالي، يعكس هذا التفاقم في سوريا مزيجاً من عوامل متشابكة ومتناقضة. بينما كانت إيران وروسيا تسعيان للحد من التدخل المباشر في الصراع السوري بسبب التزامات خارجية، كان الوضع العسكري في سوريا يتفاقم نتيجة لذلك، التدخلات العسكرية المحدودة لكلا البلدين كانت محكومة بتقديرات دقيقة للوقت والموارد، مما جعل التصعيد يبدو أكثر تعقيدًا، رغم كونه تطوراً طبيعياً في سياق الصراع الذي طال أمده.
وفي ظل الوضع المعقد الذي تشهده سوريا، ظهرت “صيغة أستانا” كإحدى المحاولات الرئيسية للتوصل إلى تسوية سياسية، لكن هذه الصيغة تعرضت لتحديات كبيرة بسبب التغيرات الجيوسياسية التي طالت اللاعبين الرئيسيين في النزاع. من الواضح أن اثنين من هذه الأطراف، وهما روسيا وإيران، كانا مشتتين بسبب الصراعات الأخرى التي تسببت في إبطاء تأثيرهما في الملف السوري. وقد كانت هذه القوى في حالة “جمود مغناطيسي”، نتيجة لعدة عوامل أهمها التغيرات التي أحدثتها وصول إدارة ترامب. وبسبب هذه التحولات، تم تجميد مشاركة القوى الكبرى في مسار أستانا، مما أتاح الفرصة لتركيا لتحريك المياه الراكدة في هذا السياق، بل وتحقيق مكاسب سياسية.
ومن خلال هذا التغير في ميزان القوى، أصبحت تركيا في موقع يسمح لها بتغيير الوضع الراهن الذي استمر منذ تأسيس صيغة أستانا لصالحها. فقد بدأ التحرك التركي في سوريا يأخذ طابعاً استباقياً، وهو ما يتماشى مع الأسلوب التركي المعروف في التعامل مع الصراعات والمفاوضات، والذي يركز على تحقيق المكاسب بسرعة قبل أن يتغير الوضع. وكان التصعيد الذي بدأته تركيا خطوة مدروسة تهدف إلى إثبات قوتها في الأراضي السورية. تركيا لم تنتظر وصول ترامب ليأخذ المبادرة، بل سارعت إلى اتخاذ موقف نشط يتيح لها استخدام هذه المفاوضات لصالحها.
بالتالي لقد كان التصعيد منطقياً تماماً في سياق التحولات الجيوسياسية، خاصة مع احتمال انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، وهو أمر من شأنه أن يغير الوضع بشكل جذري في المنطقة. وكان لهذا الانسحاب المحتمل تأثيرات كبيرة على القوى الإقليمية مثل روسيا وإيران، حيث ستؤثر على مصالحهما بشكل مباشر. إذا نظرنا إلى هذا التطور، يمكن القول إن تركيا كانت تتهيأ لتوسيع نفوذها في سوريا بشكل متزامن مع خروج الولايات المتحدة من المنطقة. تركيا كانت تدرك تماماً أن أي تغييرات في الوضع على الأرض ستجعلها أكثر قدرة على التفاوض مع القوى الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة.
ومن ناحية أخرى، كان الموقف التركي في مفاوضات مع الأسد غير واضح تماماً وعلى الرغم من إعلان عدة مرات عن رغبة تركيا في التفاوض مع دمشق، لم يتم التوصل إلى اتفاق ملموس. ربما يكون السبب في ذلك هو رغبة تركيا في تحسين موقفها التفاوضي، حيث كانت تراهن على عدم تقديم تنازلات قبل أن تضمن مكاسب استراتيجية في المرحلة المقبلة. ورغم عدم وجود اتفاقات واضحة مع الأسد، كان هذا جزءاً من الاستراتيجية التركية التي تستهدف خلق نقطة انطلاق قوية للمفاوضات القادمة، وهو ما سيستخدم كجزء من المقترحات التي ستعرضها على الإدارة الأمريكية الجديدة.
من هنا، ومع استمرار التغيرات الجيوسياسية في سوريا والمنطقة، من المتوقع أن تواصل تركيا تعزيز نفوذها في الصراع السوري. قد تساهم التحركات الاستباقية التي اتخذتها في تغيير المعادلات القائمة، مما يفتح فرصاً جديدة للتفاوض وتحقيق مكاسب استراتيجية، ومع تزايد التحديات والفرص على الساحة الدولية، سيكون للمواقف التركية دور محوري في تحديد مستقبل سوريا وتوازن القوى الإقليمي.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.