يؤسفني جدًّا بأنَّ الكثير من الأشخاص من مختلف الشَّرائح والوظائف، يعتقدون بأنَّ الدبلوماسيَّة هي العلوم السِّياسيَّة، ومحصورة علومها ونظريَّاتها بالسِّياسيَّة الخارجيَّة، وكذلك يفهمون بأنَّ مفاهيم (البروتوكول) و(الإتيكيت) هي تخصُّ فقط (الأكل، الشَّوكة والسِّكين والمِلعقة). لكنَّ المتابعَ لأغلبِ مقالاتي حَوْلَ (فنّ الدبلوماسيَّة) يجد أنَّني تطرَّقت إلى عدَّة محاور ذات أهميَّة كبيرة وجوهريَّة بالحياة اليوميَّة. فمِن هذه المقالات تناولت: الدبلوماسيَّة الاقتصاديَّة، الدبلوماسيَّة السِّياحيَّة، استراتيجيَّات العلاقات العامَّة والإعلام، مهارات فنِّ المفاوضات ولُغة الجسد، مفاهيم (البروتوكول) و(الإتيكيت) بفنِّ القيادة النموذجيَّة والإدارة الحديثة والقيادة الرَّشيقة، (إتيكيت) التَّعامل مع الآخرين و(كاريزما) المرأة، سِمات (الإتيكيت) الحكومي والاجتماعي، كما نفَّذتْ الأكاديميَّة أكثر من (28) برنامجًا خلال عام 2024م لِنثبتَ أنَّ الدبلوماسيَّة هي ليسَتْ مفاهيم سياسيَّة حصريًّا، وكذلك أنَّ مفاهيم (البروتوكول) و(الإتيكيت) هي ليسَتْ أكْلًا وشَوكةً ومِلعقةً، وإنَّما لِنعكسَ أهميَّة هذه الفنون والعلوم بالحياة اليوميَّة على مستوى الحكومة ودوائرها، وكذلك أهميَّته بالحياة الرَّسميَّة والاجتماعيَّة ولِمَا لهَا أهميَّة في زيادة الإنتاجيَّة ورضا الموظفين وكفاءة بالعمل اليومي والانتقال من الإنتاجيَّة الروتينيَّة إلى الكفاءة وتطوير مفردات الأهداف المرسومة.
تميَّزتِ المدارس الإنجليزيَّة بتطوير (كايرزما) الشَّخص أو الاهتمام كثيرًا بالموارد البَشَريَّة الَّتي هي أساس النَّجاح والتَّميُّز والكفاءة، حيث تُعرف المدارس الإنجليزيَّة الكفاءة بأنَّها هي أخلاق الموظَّف من ناحية الإنجاز والإبداع والصِّدق والالتزام العالي بأجندة الجهة الَّتي يعمل فيها، والمدرسة الإنجليزيَّة المُتخصِّصة بالمهارات الدبلوماسيَّة لا تُدقِّق كثيرًا على الشَّهادة أو التَّخصُّص بقدر ما تُدقِّق وتطلب الكفاءة بفنِّ الدبلوماسيَّة ومفاهيم (البروتوكول) و(الإتيكيت).
كثيرًا ما نسمعُ بأنَّ هذا الشَّخص (رجُل، امرأة) عِندَه/ها (كاريزما) حلوة وجميلة ومؤثِّرة أو بالعكس، وقَبل أن نتطرَّقَ إلى محاور وسِمات (الكاريزما) النموذجيَّة أو القياديَّة عَلَيْنا التَّعرُّف على هذا المصطلح (الكاريزماCharisma)، فهو مصطلح أصله يوناني يعني الجاذبيَّة الكبيرة والحضور المميَّز الَّذي يتمتَّع به بعض الأشخاص والقدرة على التَّأثير على الآخرين إيجابيًّا بالارتباط بهم فكريًّا واجتماعيًّا، ولَهُ سِحر شخصي يثير الحماس والولاء للتَّعرُّف إِلَيْه والتَّقرُّب مِنْه.
(الكاريزما) هي هِبَة ونعمة إلهيَّة تجعلُ المرء مفضَّلًا لجاذبيَّته، ومن خلال هذه المعلومات فإنَّ (الكاريزما) لا تُولَد مع الإنسان، بل هي الَّتي يصنعها بنَفْسِه، كما أنَّها ليسَتْ حكرًا على شخصيَّة بِعَيْنها أو ظُروفٍ بذاتها، بل تعتمد اعتمادًا كُليًّا على رغبة الفرد في اكتسابها صفاتها.
ومن بَيْنِ أهمِّ ميزات الكاريزما القياديَّة هي: الابتسامة والبشاشة لا تفارق حياته، رحابة الصَّدر في تقبُّل الطَّرف الثَّاني، تذليل الصُّعوبات بسهولة، إتيكيت فنِّ الاستماع، إتيكيت مستوى نبرة الصوت، إتيكيت الهندام الخارجي والتَّميُّز باختيار ألوان الملابس بالمناسبات الرَّسميَّة والاجتماعيَّة، إتيكيت طبيعة التَّعامل اللَّطيف والرَّاقي مع الجميع، السُّلوك المُهذَّب مع جميع الأعمار وشرائح المُجتمع بكُلِّ تواضُعٍ ومَحبَّة، النَّخوة والشَّهامة والصِّدق بالتَّعامل مع الجميع، إتيكيت وبروتوكول إدارة الوقت، مهارات تنفيذ الواجبات والمسؤوليَّات بأعلى درجات الكفاءة، الابتعاد عن الأنا وحُبِّ الذَّات، إتيكيت التَّعامل مع الآخرين بتواضعٍ ورُقي، إتيكيت وبروتوكول حضور الدَّعوات والفعاليَّات الرَّسميَّة والاجتماعيَّة.
وتُعَدُّ المدرسة المحمديَّة الشَّريفة ورسولُنا الكريم أوَّل مَن استخدمَ عمليًّا مصطلح (الكاريزما) وتطبيقه بأفضل ما يكُونُ، حيث كان الرسول محمَّد (صلَّى الله عَلَيْه وسَلَّم) يختار كاريزما الشَّخص المُناسِب والمثالي إلى ملكِ الحبشة، وبمواصفاتٍ أخرى إلى الدَّولة البيزنطيَّة، وبمواصفاتٍ جديدة إلى ملكِ كسرى ولكُلِّ حالة وجهة مواصفات للشَّخص تعتمد على توافق هذا الشَّخص مع (كاريزما) الطَّرف الثَّاني لَهُ وهو ما يُسمَّى لدَيْنا الآن السُّفراء.
(الكاريزما) هي مُهمَّة للغايةِ من شأنها رفع مكانة الشَّخص اجتماعيًّا ورسميًّا، وبالَّتي تجعله محطَّ جذبٍ وإعجاب الآخرين بشكلٍ طبيعي، فالشَّخص الَّذي يمتلك (الكاريزما) عادةً ما يكُونُ لدَيْه قدرة فطريَّة على التَّأثير في النَّاس، سواء من خلال حديثه، حضوره، أُسلوبه في الحديث وإتيكيت فنِّ المجاملة والصِّدق بكُلِّ كلمة والعمل بعيدًا عن المراوغة واستغلال المنصب والوظيفة.
وفي الختام، تتميَّز (الكاريزما) بقدرة الشَّخص على إلهامِ الآخرين وتحفيزِهم وبثِّ الثِّقة في نفوسهم، وهي تتعلَّق بتركيبةٍ من الصِّفات مِثل: الثِّقة بالنَّفْس، لُغة الجسد، التَّعبير الواضح والمقنع، القدرة على التَّأثير و(إتيكيت) فنِّ الإنصات وفَهْم مشاعر الآخرين، وكذلك التَّفاعل بشكلٍ إيجابي مع المحيط بعيدًا كُلَّ البُعد عن الماديَّات والمصالح الشَّخصيَّة، وعَلَيْه فإنَّ (الكاريزما) ليسَتْ صفةً ثابتة، بل يُمكِن تطويرها من خلال تحسين المهارات الاجتماعيَّة والمهنيَّة، وأنَّ (كاريزما) الشَّخص المسؤول أهمُّ بكثير من الشَّخص العادي؛ لأنَّه يُمثِّل جهةً حكوميَّة ودَولة، وأيُّ خلَلٍ يكُونُ له عواقب وَخَيمَة عَلَيْه وعلى بلدِه والأمثلة كثيرة لا مجال لسردِها.
د. سعدون بن حسين الحمداني
دبلوماسي سابق والرئيس التنفيذي للأكاديمية الدولية للدبلوماسية والإتيكيت