تطرح مرتكزات رؤية «عُمان 2040» واللُّغة الحواريَّة التَّواصليَّة، ونهج الشَّراكة الَّتي اعتمدتها في تحقيق مستهدفاتها، الحاجة إلى تَبنِّي مأسسة مسار وطني للحوار المستدام، وفق آليَّات عمل واضحة وأدوات مقنَّنة وآليَّات مؤطَّرة وإجراءات ثابتة وبرامج وطنيَّة منتجة، بحيث تُشكِّل إدارة الحوار وحوكمة مؤسَّساته منطلقًا نَحْوَ بناء ثقافة وطنيَّة للحوار الاجتماعي، سواء على مستوى القِطاعات المؤسَّساتيَّة، التنمويَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والقضايا الشَّبابيَّة وتعظيم المنصَّات الحواريَّة والتَّواصليَّة الَّتي تستهدف تعزيز التَّكامليَّة في مختلف مفاصل العمل الوطني، وتَضْمن تحقق المستهدفات الوطني، ورفع درجة التَّنسيق والتَّكامليَّة في الجهد المؤسَّسي ومعالجة الفجوات وحالة التَّنازع في الاختصاصات والتَّداخل في المهام، الأمْرُ الَّذي ينقل الحوار الوطني إلى مرحلة متقدِّمة من المهنيَّة، ومنهجيات أصيلة في التَّطبيق.
لقد كانتْ مفردة الحوار حاضرةً في كُلِّ مفاصل العمل الوطني وتوجُّهات الدَّولة، خيوط اتِّصال قويَّة ارتبطت بالتَّطبيق واتَّجهت للتَّأطير في أشكال تنمويَّة مختلفة عبَّرت جميعها عن موقع الحوار ومكانته في أولويَّة القيادة الحكيمة ومسارات بناء أركان الدَّولة وهياكلها وقواعد العمل الوطني. فقدْ عبَّر النِّظام الأساسي للدَّولة عن الحوار في مفردات عدَّة من بَيْنَها مفردة «الشُّورى» و»المشاركة» في المادَّة (١٢) يَقُوم الحُكم في الدَّولة على أساس العدل والشُّورى والمساواة، وللمواطنين ـ وفقًا لهذا النِّظام والشُّروط والأوضاع الَّتي يُبَيِّنها القانون ـ حقّ المشاركة في الشُّؤون العامِّة. وقد جاء في خِطاب جلالة السُّلطان المُعظَّم تأكيد الشَّراكة القائمة على أبجديَّات الحوار، حيث جاء في النُّطق السَّامي «إنَّ شراكة المواطنين في صناعة حاضر البلاد ومستقبلها دعامة أساسيَّة من دعامات العمل الوطني». كما تناولَ مرتكزات الحوار الرَّشيد وأركانه القائمة على الاستماع للآخر والإنصات إِلَيْه وتلمُّس احتياجاته واهتماماته وتطلُّعاته، في حديث جلالة السُّلطان المُعظَّم عن الشَّباب بقوله: «إنَّ الشَّباب هُمْ ثروة الأُمم وموردها الَّذي لا ينضب، وسواعدها الَّتي تَبني، هُمْ حاضر الأُمَّة ومستقبلها، وسوف نحرص على الاستماع لَهُم وتلمُّس احتياجاتهم واهتماماتهم وتطلُّعاتهم، ولا شكَّ أنَّها ستجد العناية الَّتي تستحقُّها». وفي خِطاب جلالته في افتتاح دَوْر الانعقاد الأوَّل لمجلس عُمان أشارَ إلى مفردة الشَّراكة الَّتي هي نتاج لأيِّ حوارٍ رشيد بقوله: «إنَّ مجلس عُمان لشريكٌ أساسي في منظومة الدَّولة، وهذه الشَّراكة تُلقي عَلَيْكم مسؤوليَّة كبيرةً، فكونوا على قدر المسؤوليَّة، واضعين مصلحة البلاد نصبَ أعْيُنِكم، مسترشدين في ذلك بمبادئ النِّظام الأساسي للدَّولة وبالقوانين المُنظّمة لعملكم، وما أتاحه لكُمْ قانون مجلس عُمان من صلاحيَّاتٍ».
وعَلَيْه، فإنَّ طرحَ مسألةِ الحوار اليوم باعتباره خيارًا استراتيجيًّا وطنيًّا، يتناغم مع متطلَّبات المرحلة وطبيعة التَّحدِّيات، وحجم التَّراكمات والمؤثِّرات الَّتي باتَتْ تستهدف الشَّباب وتتَّجِه إلى التَّأثير على خياراته الفكريَّة وقناعاه الشَّخصيَّة، يؤكِّد اليوم في إطار مسار الحوكمة إلى أهميَّة مأسسة الحوار الوطني وتعظيم أثَره لِيصبحَ سِيرةً قائمة وسنَّةً محمودة للمزيد من المراجعة لآليَّات العمل والتَّصحيح للمسارات، وإعادة تقييم البرامج والأساليب والممارسات القائمة في تحقيق المستهدفات الوطنيَّة والوقوف على التَّحدِّيات والعقبات والمُهدِّدات الدَّاخليَّة والخارجيَّة، وعَبْرَ بناء إطار عمل وطني مؤسَّساتي للحوار مؤطَّر عمليًّا وفق مناهج واضحة وبرامج مختارة وتشريعات مؤطّرة ومسارات عمليَّة مقنَّنة؛ باعتباره خيارات استراتيجيًّا وطنيًّا وليس حالة وقتيَّة مزاجيَّة قائمة على الاجتهادات، واستهلاكًا للجهد والوقت والموارد، والَّذي يُمكِن من خلاله حلحلة التَّحدِّيات والوقوف على الحالة الوطنيَّة بكافَّة تفاصيلها الدَّقيقة، وملفَّاتها، خصوصًا في الملفات المرتبطة بالتَّوظيف والتَّشغيل والتَّسريح والعمالة الوافدة ومؤسَّسات المُجتمع المَدَني وقضايا التَّنمية والأمن الاجتماعي والظَّواهر الفكريَّة والمواطنة والهُوِيَّة ومشاريع الشَّباب وريادة الأعمال والابتكار والمواهب وانتخابات مجلس الشُّورى والمجالس البلديَّة والمجالس الأخرى، وغيرها من الملفات الَّتي باتَتْ بحاجةٍ اليوم إلى وضعها في أجندة الحوار الاجتماعي القادر على تقديم هذه الملفات للحوارِ والنِّقاش والرَّأي الآخر وإنتاج الحلول، وبالتَّالي قراءة الاختلاف الفكري وتَعدُّد وجهات النَّظر ووجود الرَّأي المختلف أو المعاكس، فرصة أرحب للتَّكامليَّة والشَّفافيَّة وتصحيح النيَّات وطرحها في ظلِّ رؤية مشتركة وعمل يسعَى الجميع لتحقيقِه، وعِندَها سوف تتناغم القناعات وتذوبُ الاختلافات وتبرزُ في السَّطح قِيمة التَّكامل ووحدة الهدف، فيتقاسم الجميع مسؤوليَّته نَحْوَ اكتمال العمل، وفتح نوافذ الأمل، وهي مرحلة مطلوب فيها المزيد من الجهد في رسمِ مسلك الحوار الرَّشيد الَّذي يأخذ منحى الاستدامة والتَّأثير والاحتواء وتوظيف كُلِّ الفرص، في ظلِّ اعترافٍ بالجهود وتقدير للإنجاز ودعم للمبادرة ودفع لها للتميُّز، وتوظيف الفرص التَّشريعيَّة والتَّنظيميَّة التَّنافسيَّة الَّتي عزَّزتها الدَّولة وأصَّلها النِّظام الأساسي للدَّولة وأكَّدها جلالة السُّلطان المُعظَّم، لِتَبنِّي سياسات حواريَّة ناضجة، أكثر استجابة لطموحات الشَّباب وتطلُّعاتهم وتوجُّهاتهم وتعميق مستوى الشَّراكة معهم وتحسين الحياة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والمعيشيَّة ورفع درجة الوعي لدَيْهم.
من هُنَا فإنَّ الانتقال بالحوار الوطني إلى مسار الفعل المُنظَّم والأداء المُتقن وتحويل الممارسة الحواريَّة إلى سُلوكٍ وطني أصيل وثقافة عمل فرديَّة ومؤسَّسيَّة، تَقُوم على تكامل الأدوار وكفاءة أُطر العمل ووضوح منهجيات الأداء وتعظيم مسار الشفافيَّة والصَّراحة والثِّقة، يضعني شخصيًّا أمام تَبنِّي مقترح تأسيس مركز وطني للحوار باِسْمِ «مركز السُّلطان هيثم للحوار وبناء قدرات الشَّباب» والَّذي سيكُونُ بالرِّعاية الفخريَّة لجلالة السُّلطان المُعظَّم ويُشرف عَلَيْه مجلس الوزراء، بما يستهدفه من تأطير وطني لإدارة الحوار على مختلف المستويات، وإيجاد بنى تنظيميَّة فاعلة مستدامة تُعزِّز من انسيابيَّة الحوار وعلى مختلف المجالات وبَيْنَ مؤسَّسات الدَّولة المختلفة وفق أدوات المتابعة والتَّقييم وإجراءات التَّنفيذ، كما يتعامل المركز في إحدى أدوات عمله مع برنامج «معًا نتقدم» بأُسلوب أكثر تفاعليَّة وإنتاجيَّة في تحقيق أهدافه في حوار الشَّباب مع متَّخذي القرار، بالإضافة إلى بناء مهارات الحوار وممكناته في المسؤول الحكومي وقيادات الدَّولة، والعاملين في المؤسَّسات وفق برامج وطنيَّة لتعزيزِ الحوار ومفرداته، ويضع بَيْنَ أجندته معالجة العديد من القضايا المُجتمعيَّة ذات العلاقة بالعمل والتَّشغيل والتَّوظيف والتَّسريح والتَّعليم والقانون وبرامج التَّنمية والمشروعات التَّنمويَّة واللامركزيَّة، وتمكين المحافظات والاقتصاد والاستثمار والسُّلوك العامّ، ويهدف إلى توفير البيئة الصحيَّة التَّشريعيَّة والتَّنظيميَّة الدَّاعمة للحوار الوطني بما يُحقِّق الصَّالح العامَّ وذلك من خلال ترسيخ مفهوم الحوار وسلوكيَّاته في المُجتمع لِيصبحَ منهج عمل لمؤسَّسات الدَّولة وسُلوكًا ممارسًا لأفراد المُجتمع في الأُسرة ومواقع العِلم والعمل والإنتاج، وبَلْوَرة رُؤى استراتيجيَّة موَحَّدة للحوار الوطني وتفعيل مخرجاته وتوظيف نواتجه في القرار الوطني، وتعزيز دَوْر الشَّباب في التَّنمية والتَّطوير وتقريب وجهات نظرهم في القضايا الَّتي تهمُّهم وذات العلاقة بمستقبلهم على المدَى المنظور باستخدام أساليب حواريَّة مبتكرة وذات قِيمة مضافة وتأثير مستدام من خلال تناول القضايا الوطنيَّة الَّتي تهمُّ الشَّباب والمُجتمع والمؤسَّسات بأُسلوب حواري تفاعلي تشاركي وطني تضمُّ فيه أصوات الجميع، كما يتبنَّى برامج استراتيجيَّة في إدارة الحوار ومركز لقياس الرَّأي الاجتماعي، ومختبرات التَّحليل للسِّياسات التَّنمويَّة، وصناعة المؤثِّرين الاجتماعيِّين الوطنيِّين ودَوْره في بناء قدرات الشَّباب التَّسويقيَّة في المنصَّات الاجتماعيَّة والعالَم الافتراضي. أخيرًا، فإنَّ التَّوقُّعات أن تُشكِّلَ مخرجات البرامج الاستراتيجي الحواريَّة لمركز السُّلطان هيثم للحوار، إطار عمل وطني لكُلِّ القِطاعات الوطنيَّة بالعمل في إطاره، في ظلِّ ما يستهدفه من تعزيز إدارة الحوار وتعظيم مسار الشَّراكة المُعبِّرة عن الخصوصيَّة الوطنيَّة والسَّمْت العُماني وتجليَّات ما اكتسبته السَّبلة العُمانيَّة ورسلتها التَّنمويَّة في تَبنِّي أبجديَّات الحوار ونقل مفرداته (الشُّورى والشَّراكة والرَّأي الآخر وتقاسم المسؤوليَّات وتفاعل الأطراف والتَّعايش الفكري وغيرها) لِتصبحَ محطَّات وطنيَّة مؤطّرة عَبْرَ نقلِها إلى العالَم الافتراضي في سُلوك الشَّباب وطريقة تعاطيهم مع الحقوق وتفاعلهم مع ما تثيره المنصَّات الاجتماعيَّة من قضايا وأحداث، من خلال إيجاد منصَّة تفاعَلَيْه وتواصليَّة «ملتقى الشَّباب من أجْلِ الحوار والتَّنمية»؛ باعتباره نافذةً تواصليَّة تفاعليَّة الكرتونيَّة للمركز، وإحدى الأدوات الَّتي يستخدمها للتَّواصُل مع الشَّباب، تُضاف إلى أدواته في الاحتضان المباشر لَهُم عَبْرَ اللِّقاءات وحلقات النِّقاش أو قياس الرَّأي ومختبرات القِيمة المرتجعة في كُلِّ القضايا الوطنيَّة التَّنمويَّة ومناقشتها في جوٍّ تَسودُه الشَّفافيَّة والتَّكامليَّة وروح المسؤوليَّة واستحضار عُمان في آليَّة وشموليَّة وعُمق التَّنفيذ.
د.رجب بن علي العويسي