لمَّا كانتِ المواطنة جملة الحقوق والواجبات والمسؤوليَّات الَّتي تصنع من شخصيَّة الفرد قوَّة في بناء مُجتمعه وتنمية وطنِه، فإنَّ استشعارَ وتعظيمَ مسارِ المنافسة في الانتقال بقِيَم المُجتمع ومبادئه وأخلاقه لِتصبحَ استراتيجيَّة حياة، والَّذي يُعبّر عَنْه بـ»الهُوِيَّة» إنَّما يعكس حجم التَّرابط والانسجام والتَّناغم بَيْنَها في بناء شخصيَّة المواطن وتشكيل سُلوكه الواعي في عالَم متغيِّر بحيث يمتلك القدرة على العيش في ظروف صعبة، والتَّعايش مع أنماط حياتيَّة فكريَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة متغايرة، وما قد يترتب على تكامل هذه المرتكزات من نتائج تنعكس على شخصيَّته، مواطنًا منتجًا وفردًا مسؤولًا في المُجتمع، وهو المعنى الَّذي يُمكِن استجلاؤه من مرتكز رؤية «عُمان 2040» والَّتي جاء فيها «مُجتمع إنسانه مبدع معتز بهُوِيَّته، مبتكر ومنافس عالَميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام»، كما أنَّ الجمعَ بَيْنَ محدِّدات المواطنة والهُوِيَّة والثَّقافة الوطنيَّة، لِتشكِّلَ جميعها قوَّة روحيَّة ونَفْسيَّة وعاطفيَّة تصنع القدوات والنّموذج وتؤسِّس التفرُّد والمنافسة الَّتي تتجاوز الشكليَّات، وترقى فوق المصالح الشخصيَّة والأنانيَّات وتتجاوز هاجس الأثَرة والمكاسب والمنافع، وتصبح العلاقة المتماسكة في أولويَّة «المواطنة والهُوِيَّة والتُّراث والثَّقافة الوطنيَّة»، جسورًا ممتدَّة وخيوطًا مترابطة ومسارات حياة مُتجدِّدة تتشكَّل فيها شخصيَّة الفرد بحسب ظروف المُجتمع فيتنازل فيها عن حقوقه المكتسبة لصالح تماسك وطنه وترابطه وتُحقّق الوحدة وانتصار السِّيادة والإرادة الوطنيَّة في مواجهة التَّحدِّيات والخروج من الأزمات، لذلك كانت الأزمات اختبارًا أصيلًا للمواطنة والهُوِيَّة، وأنَّ تجسيدَ المواطنِ لأخلاق الأزمات ليس استلطافًا مِنْه أو مِنة، بل دليل وصوله إلى أعلى درجات الوعي والمهنيَّة الَّتي تصنع التَّوازنات وتؤسِّس لمعادلة البناء في شخصيَّة المواطن.
إنَّ العوامل الاقتصاديَّة محكَّات لضبط بوصلة التوَجُّه وانعكاساتها على شخصيَّة الفرد ثمَّ حياته المعيشيَّة ويتحدَّد من خلالها سلوكه العامُّ وانضباطه والتزامه بالقانون واستشعارُه لمفهومِ المواطنة والهُوِيَّة لذلك لا يَجِبُ تجاهل الأبعاد الاقتصاديَّة عِندَ أيِّ قراءة لمستوى الاقتراب أو الابتعاد عن الثَّوابت الوطنيَّة في ظلِّ ما باتَتْ تؤدِّيه العوامل الاقتصاديَّة في دَوْر مؤثِّر في صناعة المواطنة والهُوِيَّة، ففي الوقت الَّذي يصبحُ فيه ارتفاع مستوى المعيشة فرصة لتعزيز الوعي بالمواطنة والهُوِيَّة في مواجهة التَّشوُّهات والممارسات والظَّواهر السلبيَّة، فإنَّ الظُّروفَ والعوامل الاقتصاديَّة باتَتْ تُمثِّل تحدِّيًا على المواطنة والهُوِيَّة، وإنَّ قراءةً لواقعِنا الاجتماعي في ظلِّ ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين من أعمالهم واستئثار الوافدين بالحصَّة الأكبر من الوظائف في القِطاع الخاصِّ والتَّداعيات النَّاتجة عَنْها باتَ يعكسُ مستوى العلاقة بَيْنَ الأبعاد الاقتصاديَّة وتأثيراتها على المواطنة والهُوِيَّة، والَّتي يُمكِن إرجاعها إلى طبيعة العوامل الزمانيَّة والمكانيَّة والبَشَريَّة، فالإعلاء من قِيَم المادَّة والاهتمام بالمظاهر والتَّنافس الشَّكلي، وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، وتلاشي القِيَم الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وتصدُّعاتها الَّتي يُمكِن أن تحفظَ مسارَ التَّوازنِ بَيْنَها لضمانِ تحقيقِ التَّكافل الاجتماعي والتَّضامن والتَّعاضد باتَ يطرح العوامل الاقتصاديَّة كمُهدِّدات للمواطنة والهُوِيَّة في ظلِّ ما ارتبط بها من مشوِّهات الأنانيَّة والفردانيَّة وحُب الشُّهرة وتراكميَّة ظُروف الحياة وغياب التَّنظيم والإدارة الذَّكيَّة لمتطلباتها، كُلُّ ذلك وغيره يُعبِّر عن التَّرابط بَيْنَ العوامل الاقتصاديَّة والمواطنة والهُوِيَّة، بل يضعها على المحكِّ في ظلِّ مفهوم المواطنة الاقتصاديَّة ومستجدَّات التَّجنيس والمواطنة الاقتصاديَّة والَّتي باتَتْ لهَا تداعياتها على المواطنة والهُوِيَّة، ناهيك عن متطلبات الزواج من الخارج وعلاقتها ببناء الأُسرة؛ مقلقات اقتصاديَّة ذات تأثير اجتماعي وأمني وثقافي وفكري، وما يفرضه من التزامات ماليَّة واقتصاديَّة يَجِبُ أن يضعَ لهَا صندوق الحماية الاجتماعيَّة مسارات لعملها.
إنَّ تصدُّرَ ملفات الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين المشهد الاجتماعي كنتاجٍ لتداعيات العوامل الاقتصاديَّة يرجع إلى كونها تُمثِّل الفئة العمريَّة (18 إلى 45) وهي فئة الشَّباب النَّاضج المُنتِج والطَّموح والشَّغوف بالإرادة وحُب العطاء والإنجاز وفرص التَّعلُّم ورغبة التَّطوير، فإنَّ تعطيل هذه القدرات بمنع فرص العمل عَنْهم عَبْرَ مُبرِّر قلَّة الفرص الوظيفيَّة المتوافرة رغم سيطرة العمالة الوافدة على سُوق العمل الوطني وبشكلٍ خاصٍّ الوظائف الفنيَّة والهندسيَّة والإنتاجيَّة والعليا حيث تُشكِّل ما نسبته (65%)، له تداعياته السلبيَّة في النَّظرة السلبيَّة المتولِّدة لدَى هذه المخرجات ومستوى ثقتها في نظام التَّعليم ونظام التَّوظيف والتَّشغيل والقرار الحكومي والقِطاع الخاصِّ، الَّذي لم يستطع أن يوفِّرَ الوظائف المناسبة، أو أن يتخلَّى عن العمالة الوافدة من أجْلِ أبناء الوطن، فيضعف هذا الشُّعور من الحسِّ الوطني، بل قد يؤدِّي إلى التَّأثير على كفاءة منظومة الأمن الاجتماعي؛ لِمَا يترتَّب عَلَيْه من ارتفاع مؤشِّرات الجناة والجرائم وبشكلٍ خاصٍّ الجرائم الواقعة على الأموال والَّتي حصلتْ في السَّنوات الماضية على أعلى المؤشِّرات في تصنيف الجرائم، ما يؤكِّد على علاقة المسألة الجرميَّة والظَّواهر السلبيَّة الوثيقة بالبُعد الاقتصادي والظُّروف المعيشيَّة والماليَّة للمواطن رغم وجود عوامل أخرى، ولعلَّ ما يزيد من خطورة التَّسريح هو أنَّ هذه الفئة تمَّ تسريحها قسرًا بِدُونِ سببٍ مباشر أو مُقنعٍ يرجع إلى الكفاءة أو القدرة والاستعداد، بل لأسباب أخرى تتعلق بالمنشآت، ناهيك عمَّا يرتبط بالتَّسريح من مخاطر نَفْسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة في ارتفاع الهواجس الفكريَّة والأمراض النَّفْسيَّة والمشاركة الاجتماعيَّة للفرد ونظرته للحياة، فيصبحُ منعزلًا عن المُجتمع، يعيش في دوَّامة من التَّأثيرات السّلبيَّة الَّتي أضرَّتْ بصحَّته النَّفْسيَّة والجسديَّة والفكريَّة، كما أنَّ ضرَره الاجتماعي ناتج في طبيعة الالتزامات الاجتماعيَّة الَّتي قطعَها المُسرَّح عن عمله على نَفْسه نَحْوَ تعليم أبنائه وتدريبهم وفقَدَ المُسرَّح كُلَّ الفرص الَّتي كانتْ داعمًا له في حياته المعيشيَّة ومستوى الرَّفاه الاجتماعي الَّذي يعيشه، ناهيك عن هواجس باتتْ تفتحُ أذهان الشَّباب نَحْوَ الخروج إلى العالَم الافتراضي والتَّغريد خارج سرب الوطن؛ نظرًا لِمَا يعيشه من وضعٍ اجتماعي واقتصادي ونَفْسي غير مستقرٍّ، تنتابُه هواجس القلق والمَلل والألَم والضِّيق والخوف من المستقبل.
أخيرًا، ولمَّا كان ملفات الباحثين عن عمل والمُسرَّحِين من أعمالهم بما تُمثِّله في أبعادها الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والأخلاقيَّة والنَّفْسيَّة والصحيَّة والأُسريَّة والأمنيَّة على المواطن الباحث عن عمل والمُسرَّح من عمله، فهي أيضًا تُمثِّل انتهاكًا لحقِّه في الحياة الوظيفيَّة الآمِنة، الَّتي كفَلَها له القانون في الاستمتاع بما وهَبَه الله له من قدرات واستعدادات وشغف ورغبةٍ في العطاء، وما يختلجه في نَفْسه من حُب المبادرة والتَّجديد في ظلِّ ما يُمكِن أن تُمثِّلَه الوظيفة من أبعاد نوعيَّة تُشكِّل رقمًا مُهمًّا في حياته، فيجسِّد من خلالها حقيقة مواطنته وولائه وانتمائه لوطنه، وانقياده لأحكامه وقراراته، وهو بذلك يجسِّد روح المواطنة في التزامه، وخدمته للنَّاس، وإنتاجيَّته في العمل، وحسّه الوطني الَّذي يتجلَّى في ممارساته الوظيفيَّة، غير أنَّ كونه باحثًا عن عمل ومسرَّحًا من عمله سلبَه هذا الحقَّ، وأبعدَه عن الاستمتاع بهذه الخدمة الَّتي يُقدِّمها لوطنِه عَبْرَ المهامِّ الوظيفيَّة والمسؤوليَّة المهنيَّة الَّتي يمارسها، فيشعر بأنَّه تائهٌ متخبِّط في عالَم مظلم ظالم، صنعت مِنْه القروض البنكيَّة والالتزامات الماليَّة والظُّروف الصَّعبة شخصًا آخر سلبيًّا يائسًا من الحياة، يندبُ حظَّه، ويسبُّ عيشتَه، بما نالَه من ظلمٍ، فيتمرَّد على ذاته ومبادئه وأخلاقه وقِيَمه وإنسانيَّته، لم يجدْ فيه مَن يحتويه ويحتضن مواهبه ويحافظ على كيانه ويحفظ نسيجه الأخلاقي والقِيَمي.
أخيرًا، تضعنا المعطيات الاقتصاديَّة أمام صورةٍ أخرى عكسيَّة في قراءة المواطنة والهُوِيَّة والتَّراكمات الَّتي باتَتْ تُسقطها هذه الظُّروف كمُهدِّدات للمواطنة والهُوِيَّة تنعكس سلبًا على ولاء المواطن وانتمائه والتزامه بالثَّوابت والمبادئ الوطنيَّة وقناعاته بحجمِ الثِّقة الَّتي يمنحها للقِطاعات والمؤسَّسات الَّتي وُجدت لخدمتِه وتأسَّستْ من أجْلِ الحفاظ على التَّوازنات في شخصيَّته والَّتي بسببها يعيش تصالحًا نَفْسيًّا واجتماعيًّا وعاطفيًّا وروحيًّا ويعيش سلامًا داخليًّا مع نَفْسه ومُجتمعه ومُكوِّنات الواقع الَّذي يعيشه، والَّتي هي مرتكزات أساسيَّة لِتحقّق المواطنة المسؤولة، وارتفاع مستوى الوعي بالهُوِيَّة الَّتي تحفظ مستوى المنافسة وإذكاء حسِّ التَّغيير لدَيْه، وإبقائه في مستوى الثَّبات الَّذي لا يتأثَّر بالعوارض والظُّروف.
د.رجب بن علي العويسي