أصدَر حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ مرسومًا سُلطانيًّا ساميًا رقم (61/2024) في شأن قِطاع التَّدريب المهني، قضى في مادَّته الأولى بأن تسندَ إلى وزارة العمل الاختصاصات المتعلقة بالتَّدريب المهني نقلًا من وزارة التَّعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، وذلك على النَّحْوِ الآتي: 1- العمل على توفير التَّدريب التِّقني والمهني، وربطه باحتياجات سُوق العمل 2- العمل على تطوير المناهج التَّدريبيَّة، وفقًا للمعايير والمستويات المهنيَّة المعتمدة، ومنح المؤهّلات، وتشجيع التَّدريب على رأس العمل، الأمْرُ الَّذي نتجَ عَنْه إلحاق الكُليَّات المهنيَّة ضِمن تقسيم إداري «مديريَّة عامَّة» باِسْمِ المديريَّة العامَّة للكُليَّات المهنيَّة والَّذي يتبع وكيل الوزارة لتنمية الموارد البَشَريَّة.
عَلَيْه، يُمثِّل عودة الكُليَّات المهنيَّة إلى محضنها الحقيقي وزارة العمل بعد رحلة من وزارة القوى العاملة سابقًا وإدخالها ضِمن هيكل وزارة التَّعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، واستقرارها في وزارة العمل، نقطة تحوُّل نَوعيَّة في مَسيرة التَّعليم المهني وتعظيم إنتاجيَّته وتعميق ارتباطه بسُوق العمل، ويقدِّم صورة نَوعيَّة لمسار المراجعة والتَّصحيح تتناغم مع الاهتمام السَّامي لجلالة السُّلطان بالتَّعليم المهني وما يحظى به من عظيم رعاية ومتابعة، ويجسِّد ما وجَّه إِلَيْه جلالته في عام 2021 بـ»ضرورة الإسراع في اتِّخاذ الإجراءات اللازمة لتحليل الاحتياجات والمتطلبات الضروريَّة لتطبيق التَّعليم التِّقني والمهني في التَّعليم ما بعد الأساسي بما يتوافق مع متطلَّبات سُوق العمل واحتياجاته المستقبليَّة، وأهميَّة تَبنِّي منهجيَّة متكاملة لآليَّة تطبيق ذلك وتحديد الخبرات والموارد البَشَريَّة اللازمة في هذا الشَّأن»؛ كما يعكس فاعليَّة نهج الحكومة والتزامها مسار التَّقييم والمراجعة والتَّصحيح لضمانِ تحقيقِ النَّوعيَّة والجودة وصناعة الفارق في مسار التَّعليم المهني، في ظلِّ ما أفصح عَنْه واقع الكُليَّات المهنيَّة من تحدِّيات إداريَّة وتنظيميَّة ناتجة عن ابتعادها عن جوهر الواقع الفعلي والبيئة الَّتي تعمل فيها هذه الكُليَّات، وأحد نواتج ما خلصتْ إِلَيْه جهود البرنامج الوطني للتَّشغيل بالشَّكل الَّذي يضْمَن إدارة فاعلة لهذا الملف وتقييمه وتطويره ومعالجة الإشكاليَّات الحاصلة فيه، في سبيل تعزيز مواءمة مخرجات هذه الكُليَّات مع سُوق العمل، وضمان وجود مسار وطني في التَّعليم المهني يتطوَّر مع المعطيات ويتكامل مع طبيعة الظُّروف والمتغيِّرات، ويتفاعل مع منظور حوكمة منظومة التَّعليم المهني بمزيدٍ من الكفاءة والجودة والموثوقيَّة.
من هُنَا فإنَّ نقْلَ الاختصاصَيْنِ السَّابقَيْنِ إلى وزارة العمل لِتضافَ إلى اختصاصات الوزارة في هذا المجال ومِنْها: تقديم الدَّعم للجهة المختصَّة بالتَّعليم التِّقني والمهني بهدف تطويره والتوسُّع في برامجه وتخصُّصاته وربطها باحتياجات سُوق العمل، والإسهام في تطوير البرامج التَّدريبيَّة وفقًا للمعايير والمستويات المهنيَّة المعتمدة، ومتابعة الخرِّيجِين للاستفادة من فرص العمل المتاحة، والتَّنسيق مع الجهات المعنيَّة لتحديدِ أولويَّات التَّعليم والتَّدريب واحتياجات سُوق العمل بما يكفل دعم القِطاعات الاستراتيجيَّة والمشروعات التَّنمويَّة من الكفاءات والمهارات الوطنيَّة، ودراسة وتحليل الاحتياجات الوظيفيَّة للقِطاعات الاقتصاديَّة والتَّنمويَّة والخدميَّة واقتراح البرامج وخطط العمل لتمكينِ الكوادر الوطنيَّة من شغل الوظائف والمِهن المختلفة؛ والسَّعي لتمويل البرامج التَّدريبيَّة الَّتي تتلاءم مع الرُّؤية الوطنيَّة والقِطاعات ذات الأولويَّة وتُلبِّي احتياجات القِطاع الخاصِّ من الكفاءات، وغيرها من الاختصاصات ذات الصِّلة؛ يؤسِّس لمرحلةٍ متقدِّمة تقرأ فيها وزارة العمل هذه الاختصاصات في إطار عالٍ من التَّنسيق والتَّكامل والانسجام لكونِها تتعامل مع منظومة التَّعليم المهني كوحدة واحدة في مدخلاتها وعمليَّاتها للوصول إلى مخرجات نَوعيَّة، ومن خلال ذلك تستطيع أن توفرَ لمخرجات هذه الكُليَّات الفرص الوظيفيَّة الَّتي تحتاجها منشآت القِطاع الخاصِّ وسُوق العمل في ظلِّ مستوى التَّعليم والتَّدريب النَّوعي الَّذي تحقَّق لهذه المخرجات وهي على مقاعد الدِّراسة، في ظلِّ تعزيز مستوى المواءمة وتأسيس البرامج التَّدريبيَّة على رأس العمل الموَجّهة لصقل خبرات المخرجات وتحديث مهاراتها وصقل تجاربها لتتواكبَ مع متطلبات شغل الوظائف أو تتيحَ لهم المزيد من المعرفة والفَهْم لِقِيَم وأخلاقيَّات العمل والمعرفة بالقوانين والتَّشريعات وأنظمة العمل الَّتي تَضْمن امتلاكها مهارات المنافسة. فإنَّ من شأن هذا التَّكامل أن يقللَ من التكراريَّة في الجهود والتَّبعثر في الأدوات والهدر في الموارد وتنازع الاختصاصات، وزيادة فاقد العمليَّات المتكررة وتعقُّد الإجراءات، بما يُمكِن أن يؤسِّسَه هذا التَّحوُّل الاستراتيجي في وحدة مرجعيَّة العمل وكفاءة الاختصاصات من قوَّة في إدارة هذا الملف والتَّعاطي الواعي معه، وتقديم حلول مُقنعة ومجرَّبة على الأرض، في ظلِّ وضوح في مرجعيَّة منظومة التَّعليم المهني، الأمْرُ الَّذي سيقلِّل من التَّحدِّيات الماثلة النَّاتجة عن هذا الفصل الحاصل، كما يُقلِّل من التَّكهُّنات والمُبرِّرات في التَّملُّص من المسؤوليَّة، أو الحلول الجزئيَّة والمسكِّنات الوقتيَّة، أو القرارات الفرديَّة أو المعالجات الشَّكليَّة، فالأمْرُ محسوم، والرُّؤية واضحة، والاختصاصات بَيِّنة، والمسؤوليَّة مشتركة.
وبالتَّالي ما يؤسِّسه هذا التَّوجُّه الوطني بإعادة الكُليَّات المهنيَّة إلى محضنها الأُم من قوَّة في طبيعة الدَّوْر المتوقَّع من وزارة العمل في إدارة هذا الملف، وما يتبعه من تأسيس مراكز للرَّصد الاستراتيجي في تشخيص وتحليل ورصد ودراسة كُلِّ المتغيِّرات الداخليَّة والخارجيَّة المؤثِّرة في سُوق العمل وطبيعة عمل منشآت القِطاع الخاصِّ الَّتي ترفدها هذه الكُليَّات، بما يُعزِّز من كفاءة المخرجات المهنيَّة الَّتي يحتاجها سُوق العمل الوطني في مختلف المواقع، ودَوْرها في توجيه المسار التَّخصُّصي والتَّعليمي لهذه الكُليَّات بما يضْمَن تحقيق المواءمة وتوجيهها لصناعة الوظائف وإنتاج الفرص، بالوقوف على طبيعة التَّخصُّصات المطلوبة في هذه الكُليَّات، والتَّعاطي معها في ظلِّ تشريعات مَرِنة وأنظمة حوافز مناسبة وثقافة مؤسَّسيَّة مسؤولة، تَضْمن تحقيق معايير عُليا من الابتكاريَّة والتَّجديد، وتطوير برامجها الدِّراسيَّة والتَّدريبيَّة وتطويعها لِتنسجمَ مخرجاتها مع احتياجات سُوق العمل المُتجدِّدة، بالإضافة إلى تَبنِّيها للتَّخصُّصات ذات الاحتياج الفعلي والمهارات النَّاعمة والتِّقنية وتعزيز نُظم الجودة ومعايير الأداء، وكفاءة بيئات العمل التَّنظيميَّة والإداريَّة والفنيَّة والبَشَريَّة وضبط جودة المحتوى، واعتماد برامج استراتيجيَّة تضع هذه الكُليَّات في خريطة طريق واضحة ترفد سُوق العمل بمخرجات وطنيَّة عالية الكفاءة، وأن تعكسَ البرامج والأنشطة التَّدريبيَّة المُقدَّمة فيها، القاسم المشترك في المهارات الأساسيَّة وقِيَم العمل، مع توافر المرونة في طبيعة البرامج التَّأهيليَّة والتَّدريبيَّة والتَّخصُّصات بالشَّكل الَّذي يتوافق مع طبيعة المنشآت الَّتي تتَّجه إِلَيْها المخرجات، بحيث تمتلك ديناميكيَّة التَّطوير المستمرِّ لبرامجها وكفاءة القائمين عَلَيْها وإدارة شؤونها بمهنيَّة، وفق خطَّة تطوير متقدِّمة ومعايير عمل محكمة، وتعظيم المسار التَّطبيقي والورش التَّدريبيَّة، والمختبرات العلميَّة المهنيَّة الَّتي تربط تدريب الطَّلبة بمنشآت القِطاع الخاصِّ، سواء داخل معامل ومختبرات الكُليَّات أو في المنشآت المُتخصِّصة الَّتي يتوقع أن تتَّجهَ إِلَيْها هذه المخرجات، بالإضافة إلى تعزيز دَوْر خبراء الشَّركات والمهندسين في تنفيذ وتقييم ومتابعة والإشراف على تنفيذ البرامج التَّدريبيَّة بهذه الكُليَّات وفق برنامج عمل وطني تتبنَّاه الوزارة.
أخيرًا، فإنَّ ما حمَله المرسوم السُّلطاني من دلالات نَوعيَّة على مستوى التَّعليم المهني ومنظومته كأحَد أهمِّ الخيارات الاستراتيجيَّة لتنفيذِ مستهدفات رؤية «عُمان 2040» وتجسير مسار المواءمة بَيْنَ المنتج التَّعليمي وسُوق العمل، فإنَّه في الوقت نَفْسه يؤسِّس لأمرَيْنِ، أوَّلهما: سياسات وطنيَّة في مراجعة التَّخصُّصات الأكاديميَّة في مؤسَّسات التَّعليم العالي من حيث المرونة والتَّكامليَّة والتَّنوُّع والجودة والابتكاريَّة والاعتماد والاستثنائيَّة؛ ومعالجة حالة التكراريَّة والتَّنظير في هذه التَّخصُّصات والبرامج، أمَّا الأمْرُ الآخر فيرتبط بالنَّظر في عودة كُليَّات التَّربية إلى وزارة التَّربية والتَّعليم والَّتي بِدَوْرها ترفد المدارس بالمُعلِّمين المؤهّلين، فإنَّ الكثير من التَّحدِّيات المرتبطة بالمُعلِّمين، سواء في ارتفاع أعداد المُعلِّمين الوافدين أو كما يُشار من عزوف المخرجات الوطنيَّة من الالتحاق بكُليَّات التَّربية أو عزوفهم عن العمل بالمدارس أو غياب برامج التَّربية العمليَّة بالمدارس، والَّتي تُهيئ هذه المخرجات في التَّعامل مع متطلبات البيئة المدرسيَّة والممارسة الصَّفيَّة؛ محطَّات نَوعيَّة يفتحُ لها هذا المرسوم مساحة أمان بالتَّفكير خارج الصُّندوق، وتغيُّرات قادمة في بنية إعداد المُعلِّم وتأهيله وتدريبه تُعزِّز من جودة التَّعليم وبرامجه وتتَّجه بها إلى التَّطبيقات العمليَّة في مواجهة جراثيم التَّعليم «التَّلقين والاجترار».
د.رجب بن علي العويسي