تشكل مرتفعات الجولان السوري المحتل، بجغرافيتها المميزة وتاريخها المعقد، أحد أبرز الملفات الساخنة في الصراع العربي – “الإسرائيلي”، هذه المنطقة، التي تجمع بين أهمية عسكرية، وموارد طبيعية، وقيمة استراتيجية، كانت ولا تزال محوراً لتجاذبات سياسية وقانونية دولية. ورغم مرور أكثر من نصف قرن على احتلالها، تبقى قضية الجولان عالقة بين محاولات فرض الأمر الواقع الإسرائيلي والرفض الدولي والسوري المستمر للاعتراف بضمها.
تاريخ الاحتلال الصهيوني للجولان السوري
بدأت قصة احتلال مرتفعات الجولان خلال حرب يونيو 1967، التي تمكنت فيها القوات الصهيونية من السيطرة على المنطقة بعد هزيمة الجيوش العربية، حيث أدى هذا الاحتلال إلى تهجير نحو 130,000 من السكان السوريين الذين فروا من منازلهم تاركين وراءهم قراهم ومزارعهم، وبمجرد انتهاء الحرب، بادر الكيان الصهيوني بإنشاء مستوطنات في المنطقة، حيث تمركز المستوطنون الأوائل في أراضي السكان السوريين الذين شُردوا.
وفي عام 1973، حاولت سوريا استعادة الجولان من خلال هجوم عسكري خلال حرب أكتوبر، ولكن رغم المكاسب الأولية التي حققتها، تمكن الكيان الصهيوني من استعادة زمام المبادرة واحتفظ بالسيطرة على معظم المرتفعات في الجولان السوري، باستثناء شريط صغير في مدينة القنيطرة الذي أعيد لسوريا في إطار اتفاقية فك الاشتباك عام 1974 تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة.
لكن التحول الكبير جاء في عام 1981، عندما أعلن الكيان الصهيوني ضم الجولان السوري المحتل رسمياً، وهو إجراء رفضه المجتمع الدولي باعتباره شكل خرقاً للقانون الدولي، وتمثل في القرار رقم 497 الصادر عن مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة، الذي أكد أن الجولان أرض سورية محتلة.
الأهمية الاستراتيجية والعسكرية
لا يمكن فهم الصراع حول الجولان السوري المحتل دون التطرق إلى أهميته الاستراتيجية، فـ بفضل موقعه الجغرافي المرتفع، تمنح المرتفعات ميزة عسكرية هائلة للجانب المسيطر، حيث تطل على شمال فلسطين المحتلة وجنوب سوريا، مما يجعلها نقطة مراقبة متقدمة لرصد التحركات العسكرية في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، عندما كانت الجولان تحت السيطرة السورية بين عامي 1948 و1967، استخدمتها القوات السورية كنقطة لإطلاق النيران والقصف على المستوطنات الصهيونية في شمال فلسطين المحتلة، أما اليوم، تُعد السيطرة الصهيونية على مرتفعات الجولان السوري أداة ردع استراتيجية، حيث توفر حماية لبحيرة طبريا، المصدر الرئيسي للمياه العذبة في داخل الكيان الصهيوني.
الموارد الطبيعية في الجولان السوري المحتل
يتمتع الجولان السوري المحتل بموارد طبيعية غنية تجعله محور أطماع إقليمية ودولية، إلى جانب أراضيه الخصبة، يعد الجولان السوري مصدراً مهماً للمياه في منطقة تعاني من ندرة الموارد المائية، كما تتدفق عدة أنهار من الجولان، مثل نهر الأردن، الذي يشكل شرياناً حيوياً للكيان الصهيوني.
بالإضافة إلى ذلك، بدأ الكيان الصهيوني خلال السنوات الأخيرة التنقيب عن النفط والغاز في الجولان، مما يضيف بعداً اقتصادياً جديداً للصراع، كما أن اكتشاف كميات كبيرة من النفط في المنطقة يعزز الطموحات الصهيونية للبقاء في المرتفعات، نظراً للإيرادات المتوقعة من استغلال هذه الموارد.
السياسات الصهيونية لفرض الأمر الواقع
منذ ضمه للجولان، اتبع الكيان الصهيوني سياسات ممنهجة لتعزيز سيطرته على المنطقة، تشمل هذه السياسات التوسع الاستيطاني المستمر، حيث يوجد اليوم نحو 30 مستوطنة صهيونية تضم ما يزيد عن 25,000 مستوطن، بالإضافة إلى ذلك، يعمل كيان الاحتلال الصهيوني على تهويد المنطقة من خلال تغيير التركيبة السكانية واستغلال الموارد الاقتصادية.
ورغم ذلك، يواجه السكان السوريون المتبقون في الجولان، وهم نحو 20,000 شخص، تحديات كبيرة، حيث يرفض معظمهم الجنسية الصهيونية ويصرون على هويتهم السورية، رغم الضغوط السياسية والاجتماعية.
الاعتراف الدولي والنزاعات القانونية
يشكل الوضع القانوني للجولان السوري المحتل أحد أبرز أوجه النزاع، فالمجتمع الدولي، باستثناء الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، يعتبر الجولان جزءاً لا يتجزأ من الأراضي السورية، القرارات الأممية، بدءاً من القرار 242 لعام 1967، مروراً بالقرار 338 لعام 1973، وصولاً إلى القرار 497 لعام 1981، جميعها تؤكد عدم شرعية الاحتلال الصهيوني.
لكن في عام 2019، أحدثت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحولاً كبيراً باعترافها بالسيادة “الإسرائيلية” على الجولان السوري المحتل، وهذه الخطوة لقيت استحساناً داخل الكيان الصهيوني، لكنها واجهت إدانات واسعة، حيث اعتبرتها العديد من الدول تجاوزاً للقانون الدولي وتكريساً لسياسة القوة.
تداعيات الاحتلال الصهيوني ومستقبل المنطقة
يشكل الاحتلال الصهيوني للجولان السوري المحتل عاملاً مؤججاً للتوتر في الشرق الأوسط، كما أن استمرار سيطرة الكيان الصهيوني على المنطقة يُعقد فرص التوصل إلى اتفاق سلام شامل بين سوريا وكيان الاحتلال.
وعلى الجانب السوري، لا تزال استعادة الجولان أحد الأهداف الرئيسية للدولة في العهد السابق وإن كان ذلك من الناحية النظرية، رغم تراجع الأولوية بفعل الحرب الأهلية التي بدأت منذ 2011 وانتهت العام 2024 بسقوط نظام الأسد، ما أنهى أي احتمالية لاستعادة هذه المنطقة، بالمقابل، يسعى الكيان الصهيوني لتعزيز سيطرته على الجولان من خلال تشجيع الاستيطان واستغلال الموارد الاقتصادي، وقد احتل مرتفعات جبل الشيخ وتقدم في مناطق كثيرة من الجنوب السوري، كلها عوامل تؤكد أن الكيان باقٍ وسيتوسع إذا لم يتم التنبه قبل فوات الأوان وهذا برسم الأنظمة العربية ككل وبالأخص الدول المجاورة لسوريا وأيضاً مصر التي يجب أن تعمل على منع ذلك، أما إن حدث العكس فالمخطط سيستمر ولن يكون أي نظام عربي في مأمن.
لذلك تبقى مرتفعات الجولان السوري شاهداً حياً على تعقيدات الصراع العربي – “الإسرائيلي”، ورغم محاولات الكيان الصهيوني فرض واقع جديد، فإن القانون الدولي والمجتمع الدولي لا يزالان يعتبران الجولان أرضاً سورية محتلة، لكن في ظل الأوضاع الراهنة، يظل مستقبل الجولان مرهوناً بتحولات سياسية قد تغير موازين القوى في المنطقة، لكنها ستبقى جزءاً من ذاكرة الصراع وسعي الشعوب لتحقيق العدالة، وهذا برسم جميع الشعوب العربية والإسلامية.
عبد العزيز بدر عبدالله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.