في مؤتمره السنوي وبعنوان «الشعور بعدالة الإجراء» في الرابع من فبراير من عام 2025 والَّذي تناول خلاله بشكلٍ مفصَّل المؤشِّرات والإحصائيَّات المتعلقة بالقضايا الجرميَّة وأبرز الملفات المطروحة خلال 2024م؛ كشف الادِّعاء العام مشكورًا عن ارتفاع عدد الجرائم الواقعة على الأطفال في عام 2024، ووصل عدد القضايا المرتبطة بالأطفال إلى (1325) قضيَّة، وأنَّ من أكثر الجرائم الواقعة على الطِّفل لعام 2024 كانتْ جرائم: التَّحرُّش وهتك العِرض بالطِّفل والَّتي بلغت (399) حالة؛ بالإضافة إلى قضايا أخرى تتعلق بــ: ممارسة أيِّ شكلٍ من أشكال العنف على الطِّفل: (366) حالة، وتعريض الحدَث للخطر: (174) حالة، والسَّب غير العلني الموجَّه للطِّفل بما يمسُّ شرفه أو كرامته: (44) حالة، وغيرها
ولعلَّ طرح جرائم التَّحرُّش وهتك العِرض بالطِّفل بهذه الدرجة من الشفافيَّة والوضوح والتفصيل، ثمَّ طريقة طرح القضيَّة للرَّأي العام، والصورة الَّتي قدَّم بها المدعي العام هذا الأمْر وهو يتحدث عن هذه الأرقام والدلالات الَّتي تعبِّر عنها بما فيها من حزن عميق وقلق كبير وألَمٍ يعتصر النَّفْس وخوف من اتساع الظاهرة مستقبلًا، وما جاء في ثنايا خِطابه من لُغة فيها من الشدَّة وعدم التساهل في الأمْر ودعوة الوالدين والأُسر وأولياء الأمور في احتواء أبنائهم والرقابة عَلَيْهم، ما هو إلا استشعار لحجم الضَّرر النَّاتج، والقلق المرتبط بمُجتمع سلطنة عُمان الفتي الَّذي يشكِّل الأطفال فيه رقمًا صعبًا، حيثُ تشير إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لعام 2020 إلى أنَّ عدد الأطفال العُمانيِّين (0-17) سنة في سلطنة عُمان بلغ أكثر من خمسي العُمانيِّين حسب تعداد 2020، وشكَّل الأطفال في هذه السِّن ما نسبته (43%) من إجمالي العُمانيِّين عام 2020 م، وأنَّ الأطفال الرضَّع والأقل من (5) سنوات شكَّلوا الفئة العمريَّة الأعلى بَيْنَ الأطفال، حيثُ بلغتْ (34%) من إجمالي الأطفال، كما بلغ نسبة الأطفال في هذه الفئة ـ أقل من (5) سنوات ـ حسب النَّوع، (44%) نسبة الأطفال الذكور من إجمالي الذكور العُمانيِّين، و(43%) نسبة الإناث الأطفال من العُمانيَّات، وهي مؤشِّرات تستدعي المزيد من الجهود من مختلف السُّلطات التشريعيَّة والقضائيَّة والتنفيذيَّة، وتَبنِّي سياسات وتشريعات واستراتيجيَّات عمل أكثر نضجًا ومعياريَّة ترعى الطُّفولة وتحافظ على كيانها، وتُعلي من سقف الممارسة المُجتمعيَّة الواعية نَحْوَ الأطفال، وتحافظ عَلَيْهم من كُلِّ المؤثِّرات غير السارَّة وأشكالها الجسديَّة والنَّفْسيَّة والعاطفيَّة والفكريَّة.
عَلَيْه فإنَّ من بَيْنِ الرسائل الَّتي يُمكِن قراءتها في هذا الشأن ما يأتي:
حوادث الأطفال الَّتي باتتْ تأخذ اليوم أشكالًا أكثر خطورة في تركيبتها وتعقدها وحساسيَّتها، فحوادث الطُّرق والغَرق والدَّهس والسُّقوط من المرتفعات وحوادث المدارس، رغم حجم المعاناة الَّتي ترافق أُسر الاطفال الَّذين ينجون من الوفاة ويصابون بإعاقات مزمنة وتشوّهات دائمة تؤثِّر سلبًا على نمط حياتهم وطموحاتهم المستقبليَّة، إلَّا أنَّ جرائم التَّحرُّش وهتك العِرض؛ باتتْ أشدَّ خطرًا وأصعب تفسيرًا من تلك الحوادث المحسوسة، فإنَّ الصورة الذهنيَّة الَّتي سترافق شخصيَّة الطِّفل وتداعياتها النَّفْسيَّة والاجتماعيَّة والفسيولوجيَّة والفكريَّة على الطُّفولة باتَتْ أكثر وقعًا من حوادث السَّير والسُّقوط، وهي أكثر من وصفها في كلمات أو التعبير عنْها بصرخات، وجبرها قد لا يتحقق في فترة معيَّنة، بل قد يلازم حياة الطِّفل لعشرات السنين وتظلُّ حاضرة في مخيّلته؛ جراح وآلام ترافق شخصيَّته فيتَّجه بسببها إلى السُّقوط الأخلاقي والعياذ بالله، أو إلى الثَّأر والانتقام عندما يكبر، أو أن يعيشَ حالة التنمُّر والسّخط من الوسط الاجتماعي الَّذي يعيشه فيزداد كرهه للحياة والأُسرة والمُجتمع.
رسالة للوالدين والأُسرة، في أن تكُونَ أدوارهما في إطار الحياة الأُسريَّة والزوجيَّة نموذجًا لاحتواء الأبناء والمحافظة عَلَيْهم، وصون عقيدتهم وثقافتهم وفكرهم وقناعاتهم وشخصيَّتهم من أن تمسَّها أيادي العبث أو تؤثِّر عَلَيْها ضحكات المُجرمين المهيِّجة للإثارة والغريزة والسفور والانحلال الأخلاقي أو صيحات المروِّجين للفكر السَّقيم والدعاية والإعلانات الجنسيَّة الهابطة؛ وتضع كُلَّ شركاء التَّربية الوالديَّة والأُسرة ومحاضن التَّربية ومؤسَّسات الإعلام، والتَّواصُل الرقمي والتَّوعية والصحَّة وغيرها أمام التزام صادق نَحْوَ حماية الأطفال ورعايتهم وتَبنِّي السياسات الوطنيَّة الفاعلة والتشريعات والإجراءات نَحْوَ تعزيز مساحة الأمان في حياة الطُّفولة، عَبْرَ تقوية جسور التَّواصُل الَّتي تربطها بدِينها وقِيَمها وأخلاقها ومبادئها وسَمْتها وثوابتها الوطنيَّة، فتعصمها من الانحراف، وتحافظ عَلَيْها من الانسلاخ، وتمسكها من الانزلاق في هاوية الجرائم والمخدِّرات والظَّواهر السلبيَّة الَّتي باتتْ تشكِّل تحدِّيًا يدقُّ ناقوس الخطر، هذا الأمْر يحتِّم الوقوف على نواتج الممارسات المتعلقة بالطَّلاق وأشكال الزواج غير المحمودة، وواقع الطُّفولة في الأُسر المعسرة والأُسر محدودة الدَّخل، والممارسة التَّعليميَّة في المدارس ومراجعة المحتوى الإعلامي والخِطاب الدِّيني.
مراجعة التشريعات المتعلقة بسلامة الأطفال وأمانهم النَّفْسي والفكري، سواء ما يتعلق مِنْها باتفاقيَّة الطِّفل أو التشريعات والسياسات الوطنيَّة الموجّهة نَحْوَ الطُّفولة، والَّتي حان الوقت لتصحيحِ بعضها والتعمُّق في موادها؛ وما أسفرتْ عنْه من نتائج انعكستْ سلبًا على حياة الطُّفولة وبشكل خاص تلك الَّتي تضع الوالدين والأُسرة في قفص الاتِّهام عندما يتَّجه السُّلوك الوالدي إلى مراقبة الأبناء واختيار الصُّحبة الصَّالحة لهم أو منعهم من الخروج من البيت في أوقات متأخرة حتَّى أصبحتِ البيوت فنادق يدخل ويخرج مِنْها الشَّاب في سن الحدث متى شاء؛ أو تلك المعلبات الفكريَّة السَّامة الَّتي باتتْ تنتشر في مؤسَّسات التَّعليم أو يروج لها بعض تجار التَّدريب ونظريات التَّعليم، والقائمين على الاستشارات النَّفْسيَّة والتربويَّة وتستهدف تشويه التَّربية الوالديَّة والأُسريَّة وتغريبها عن حياة النَّاشئة، وأنَّ الأوامر والنَّواهي والزواجر والتَّأنيب يلحق الضَّرر بالطِّفل ويتسبب في تراكمات نفسيَّة، بالإضافة إلى سياسات وتشريعات تستهدف المحافظة على العلاقة الزواجيَّة والحوار الأُسري والحماية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة للأُسرة.
إعادة الهيبة للأُسرة وتعظيم نهج التَّوازن في السُّلوك الوالدي باعتباره أحَد المحكات الرَّئيسة في نظريَّات التَّأثير والاحتواء وقدرة الوالديَّة على امتلاك ناصيتها والتَّفاعل مع غاياتها وإدراك متطلباتها لصناعة شخصيَّة الأبناء، فهي من جهة تحافظ على بقاء خطوط التَّواصُل ممتدَّة ومساحات الالتقاء والتَّواصُل مستمرَّة في ظلِّ حوار وثقة ومسؤوليَّة ومشاركة وإبداء للرأي والتَّمكين واحترام الخصوصيَّات، ومن جهة أخرى تؤسِّس في حياة الأبناء مسارات الاستقلال المسؤول في الشخصيَّة والاعتماد على النَّفْس، والنضوج الفكري، وإعادة هندسة وتصحيح الممارسة، وانصهارها في القِيَم الأصيلة والتَّقاليد المُجتمعيَّة الرَّاقية والسَّمْت العُماني. فإنَّ من شأن رفع سقف توقُّعات دَوْر الوالدين، المحافظة على بقاء السُّلطة الأبويَّة كمسار فكري راقٍ ومنهج أبوي واعٍ، يقرأ في سلوك الأبناء مسارات الثِّقة والإنتاجيَّة والقوَّة والتَّمكين فيتعمق في فَهْم طموحاتهم ويدرك حقوقهم وواجباتهم، وبالتَّالي فهي سُلطة تشاركيَّة تتكامل فيها وجهات النَّظر للوصول إلى بدائل حياتيَّة منتجة، نابعة من القناعة بما تؤدِّيه من تأثير إيجابي في حياة الأبناء، والتَّحوُّل الَّذي تؤسِّسه في ثقافتهم وأفكارهم وصناعة القدوات والنماذج المُضيئة فيهم، فيتجاوز ذلك الشُّعور السَّلبي المشوّه لدى الأبناء حَوْلَ حرص الوالديَّة في العيش في جلبابها وحالة الشدَّة الَّتي تتعامل بها، فتنتفي في رابطة التَّعامل بَيْنَهما مفاهيم السلطويَّة والفوقيَّة والفردانيَّة الَّتي تستهدف إثبات القوَّة وانتزاع حقِّ التَّعبير عن الرأي والاختيار من الآخر أو الاعتراض مِنْه أو اتِّباع سياسة الأمْر الواقع عبر خضوعه المطلق للتَّعليمات الأبويَّة، أو أن يمارسَ الأبناء ثقافة الاستقلاليَّة الفكريَّة المضادَّة لقناعات وأفكار الوالديَّة في ظلِّ ميل الأبناء إلى رأي آخر قد يتعارض مع القرار الوالدي.
أخيرًا، يبقَى وجود سياسات وطنيَّة واقعيَّة لحماية الطُّفولة والوقوف على أدقِّ التَّفاصيل في انتشار ظواهر وجرائم التَّحرُّش الجنسي، والأسباب الخفيَّة وراء ارتفاع حالات الشذوذ الجنسي واللواط بَيْنَ الأطفال الذكور، ولا يكفي انتظار اتصال الحدث بالخطوط السَّاخنة للمؤسَّسات المعدَّة لهذا الغرض، بل يَجِبُ الوقوف على هذا الأمْر بكُلِّ الطُّرق والوسائل بدءًا من المدارس وإزالة حاجز الخوف والرَّهبة من الطِّفل في الإبلاغ من خلال تناول هذه القضايا وكيفيَّة الوقاية مِنْها في مناهج التَّعليم، وصناعة وعي مستدام ومتحقق لدى الطِّفل حَوْلَ هذه المسائل، ثمَّ الرقابة على المنصَّات والمواقع ومروِّجي الدعاية والإعلانات الهابطة الموجّهة للطُّفولة والشَّباب الَّتي تزيِّن هذه السُّلوكيَّات؛ والألعاب اإالكترونيَّة الَّتي باتتْ تستغلُّ الأطفال جنسيًّا.
د.رجب بن علي العويسي