في زمن تتسارع فيه الأحداث، وتتبدل فيه المفاهيم، ويُعاد فيه تعريف الحق والعدالة على أسس لا تنبع دائماً من جوهر الحقيقة، تغدو الحاجة إلى إبراز القامات العلمية الإسلامية التي جمعت بين الفقه والعقل، بين القانون والإيمان، ضرورة معرفية وأخلاقية، ذلك لأن القانون ليس مجرد نصوص باردة تُسنّ لتنظيم العلاقات، بل هو روحٌ تسري في كيان الأمة، تعكس مبادئها، وتجسّد ضميرها، وتترجم قيمها في سلوك الدولة والمجتمع.
وإذا كان القانون في التجربة الغربية الحديثة قد وُضع بمعزل عن الدين، واكتفى بالاجتهاد البشري المجرد من الوحي، فإن في الإسلام تجربة مغايرة عميقة، تجربة يتداخل فيها الفقهي بالحقوقي، ويتشابك فيها النص بالمقصد، ويُؤسس فيها العدل على ميزان رباني لا تزيغ فيه الأهواء.
ومن هنا، فإن الحديث عن علمائنا الذين خاضوا هذه التجربة العظيمة ليس استدعاءً لماضٍ قديم بقدر ما هو تمسك بجذور العدل، ووفاء لمن ساروا على طريق الجمع بين الأصالة والمعاصرة، الذين لم يكتفوا بأن يكونوا فقهاء في محراب المسجد، بل تقدموا إلى ميدان الفكر والقضاء والتقنين، ليقولوا كلمة الله في محافل الدنيا، ويثبتوا أن الإسلام لم يكن يوماً عدواً للقانون، بل هو أرقى تجلياته حين يكون القانون أداة للحق لا سلاحاً للهيمنة.
ولا بد أن نستلهم من هؤلاء طريقتهم في التفكير، عمقهم في الربط بين النصوص والواقع، شجاعتهم في مجابهة الجمود، وإبداعهم في بناء خطاب قانوني إسلامي لا يُقصي العصر ولا يُفرّط في الثوابت، فهم أدركوا أن أعظم ما يُقدّم للإسلام في زمن تغوّل الأنظمة وتعقّد التشريعات هو أن نُثبت أن شريعة الله تبارك وتعالى هي الأعدل، وأنها قابلة للتطبيق الواقعي لا بالرجوع إلى القرون الأولى فقط، بل بإعمال العقل الفقهي المستنير المقاصدي، الذي يعرف كيف يُحرّر النص من إسقاطات التاريخ ويُنزله في حياة الناس بلغة واضحة، دون أن يمس بجلاله.
هؤلاء العلماء هم الجسور بين تراث الشريعة وواقع الأمة، بينهم من دافع عن الحرية باسم الشريعة، ومن ناصر المرأة باسم الفقه، ومن واجه السلطان الجائر باسم مقاصد الإسلام، ومن خاض معركة التقنين باسم العقل الإسلامي المجتهد. فإحياء ذكرهم اليوم هو جزء من معركة الكرامة الفكرية، وردّ على التشويه الممنهج الذي تتعرض له الشريعة حين تُقدّم للعالم على أنها نظام عقوبات بلا روح، أو كأنها مجموعة أحكام منفصلة عن مقاصدها وغاياتها العليا، وكم هو مهم أن نُعيد تقديم الإسلام للناس من خلال أعلامه الكبار، الذين لم يتعاملوا مع النصوص كحروف صامتة، بل كحقائق حية تنبض في قلب المجتمع، وأن نُظهر كيف أن الفكر الإسلامي، حين يكون في أيدٍ مخلصة عالمة، يستطيع أن يواكب أرقى النظريات القانونية ويُثريها لا أن يتبعها.
إن الاحتفاء بعلم من أعلام الفكر الفقهي القانوني الإسلامي، ممن حملوا في قلوبهم هدى الشريعة وفي عقولهم أدوات الاجتهاد، ممن ربطوا بين مقاصد الدين ومتطلبات العصر، هو احتفاء بمفهوم العدالة نفسه، هو تذكير بأن القانون الحق لا يُصاغ في معزل عن الإيمان، وأن الأمة التي أنجبت علماء بهذا العمق لا تزال قادرة على التجديد والعطاء متى التزمت بمنهجهم وأخلصت في الاقتداء بهم.
واخترنا شيخنا الجليل محمد أبو زهرة كعلم من أعلام الأمة الإسلامية، وُلد الإمام أبو زهرة في عام 1898 بمدينة المحلة الكبرى في مصر، في بيئة متدينة أصيلة، ونشأ في كنف أسرة عُرفت بالصلاح والالتزام، وتلقى تعليمه الأولي في مدارس دينية تقليدية قبل أن ينتقل إلى القاهرة حيث التحق بالأزهر الشريف، فتفتحت أمامه آفاق الفكر والعلم والتدبر، وقد كان منذ بداياته يتمتع بذكاء لامع، وشغف فريد بالعلم، ونزوع دائم نحو التوسع والتحقيق، وكان ملمّاً بالنصوص، شديد التعلق بالدقة، بارعًا في فهم المقاصد، فجمعت شخصيته بين الروح الفقهية العميقة والنزعة الإصلاحية المبدعة، بعد تخرجه من كلية الشريعة، اشتغل بالتدريس، ثم التحق بالسلك القضائي، وشارك في لجان قانونية عليا، وألقى محاضرات في عدد من المحافل الكبرى داخل مصر وخارجها، وسرعان ما تميز بشخصيته العلمية البارزة، التي لم تكن تكتفي بالعرض، بل كانت تسعى دوماً للفهم وإعادة البناء.
لقد كان منهج الإمام أبو زهرة منهجاً متكاملاً في الفقه والفكر والاجتهاد، يقوم على ثلاث ركائز مركزية: أولاها احترام النصوص الشرعية وإعلاء مكانتها، وثانيتها الاعتناء العميق بأصول الفقه ومقاصد الشريعة، وثالثتها الانفتاح الواعي على الواقع الاجتماعي والقانوني الحديث، كما كان يعتبر أن النصوص لا تُقرأ في فراغ، بل تُفهم في سياقاتها الزمانية والمكانية، وأن الفقيه لا يليق به أن يُعيد تكرار فتاوى السلف كما هي دون أن يستوعب ما وراءها من علل وأسباب، ولهذا، كان يُفرّق دائماً بين الفتوى والحكم، ويُصر على أن الحكم الشرعي يُستخلص من النص وفق قواعد الاجتهاد والأصول، بينما الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وقد توسع في دراسة المدارس الفقهية جميعها، فلم يكن حنفياً خالصاً ولا مالكياً صارماً ولا شافعياً مقلداً، بل أخذ من كل مدرسة روحها ومتانتها وأصولها، وكان يحاور الآراء الكبرى دون مهاجمة أو تحامل، إنما بعقل ناقد عادل، ينظر في الدليل، ويتفحص السياق، ويراعي تغير الأحوال، وهذا ما جعله من كبار دعاة الاجتهاد المعاصر، الذين سعوا لتجديد الفقه لا بطمس هويته، بل بإعادة اكتشاف روحه.
ومن أهم ما قدّمه الإمام محمد أبو زهرة للأمة الإسلامية إسهامه العميق في مشروع تقنين الشريعة الإسلامية، حيث كان يرى أن من الواجب الشرعي والقانوني على الدول الإسلامية أن تُدوّن أحكام الشريعة في صيغة قوانين واضحة قابلة للتطبيق في محاكم الدولة، وبذلك تخرج الشريعة من كونها مجرد تراث فقهي محفوظ في الكتب، إلى نظام تشريعي معاصر يحكم حياة الناس، ويضبط معاملاتهم، ويعكس روح العدل والرحمة والواقعية، وقد دافع عن هذه الفكرة في العديد من المؤتمرات والكتابات، وبيّن أن التقنين لا يعني إلغاء الاجتهاد، بل هو تنظيم له، كما أن صياغة الشريعة في شكل مواد قانونية لا تنتقص من قدسيتها، بل تجعلها أكثر قدرة على النفاذ في المجتمع.
وأكد أن الفقه الإسلامي يتميز عن القوانين الوضعية في كونه لا يقوم على المصلحة المجردة أو السلطة التنفيذية، بل على مبادئ دينية إنسانية توازن بين الحق والواجب، وتراعي الفرد والجماعة، وتُقيم العدل لا على أساس الهوى، بل على ضوء مقاصد الشريعة الكبرى، ومن هنا جاءت مساهمته في صياغة مشروع قانون الأحوال الشخصية، وقانون العقوبات الإسلامي، وغير ذلك من المحاولات الجادة التي أراد بها إدخال الفقه في صلب الحياة القانونية للدولة.
وقد تجلّى التوازن النادر بين الفقه والقانون في شخصية الإمام محمد أبو زهرة، الذي لم يكن فقيهاً تقليدياً يكتفي بالمحفوظ، بل مفكراً موسوعياً جمع بين الأصالة والتجديد، وبين التبحّر في أصول الشريعة والإلمام بالقانون الحديث، فقد عمل أستاذاً في كلية الشريعة والقانون، وتُدرّس كتبه اليوم في عدد من كليات الحقوق، في مصر والكويت وغيرها، ولا تزال تحظى بإقبال واسع خاصة كتابه حول الأحوال الشخصية، لما تحمله من وضوح ودقة وشمول. لقد غاص الإمام في أعماق الفكر الإسلامي، وتناول بالنقد والتحليل فكر أعلام كبار كابن تيمية والإمام جعفر الصادق، وكان من القلائل الذين فهموا مقاصد الشريعة بحق، وامتاز بأسلوب “السهل الممتنع” الذي يجعل من قراءته متعة فكرية لا تخلو من عمق وتحليل. ولم يُعرف عن مكتبة علمية في الكويت، خاصة لدى علمائها المخضرمين، إلا وتزينت مؤلفات الشيخ أبو زهرة برفوفها، شاهدة على امتداده العلمي وأثره المتجدد، فهو بحق من أولئك الذين لم يكتفوا بالتنظير، بل سعوا لتقريب المقاصد من القانون، وربطوا النص بالواقع، وأسّسوا مدرسة يُعدّ النهل منها شرطاً لكل طالب علم يسعى إلى فهم الفقه بروحه لا فقط بحروفه.
أما مدرسته الفكرية، فقد كانت ذات طابع موسوعي معتدل، جمعت بين الفقه وأصوله، والتفسير، وعلم الكلام، والقانون الوضعي، والمقارنة بين الأديان، وكانت روحه العلمية قائمة على التحقيق لا التبعية، وعلى العقل المنضبط لا الهوى المُفلت، ولذلك ترك خلفه تلاميذ كثيرين ساروا على نهجه، تأثروا بفكره، وأكملوا مشروعه، ومن أبرزهم الإمام يوسف القرضاوي، الذي لطالما أشار إلى أن أبو زهرة كان له أثر كبير في صياغة الوعي الفقهي المقاصدي الحديث، كما تأثر به د. محمد سليم العوا في منهجه في القانون الإسلامي، والدكتور محمد عمارة في رؤيته الإصلاحية الشاملة، ولا يزال أثره حاضراً في مناهج الجامعات الإسلامية، خاصة في كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، وفي كليات الحقوق ذات التوجه الإسلامي، حيث تُدرّس كتبه بوصفها مراجع أساسية للفهم المقاصدي للقانون.
وقد ترك الإمام أبو زهرة تراثاً علمياً زاخراً، تنوع بين الفقه المقارن، والعقيدة، والتفسير، وأصول الفقه، والتاريخ الإسلامي، وكان من أبرز مؤلفاته “الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي” الذي يُعد من أقوى ما كُتب في التأصيل الجنائي الإسلامي، حيث ربط فيه بين مقاصد الحدود وروح العدالة، وأكد أن العقوبة في الإسلام ليست مجرد رد فعل بل منظومة تربوية وقانونية متكاملة تحفظ المجتمع وتُهذب النفس، كما كتب في أصول الفقه مؤلفاً بديعاً يجمع بين التحليل العقلي والربط النصي، ويُعيد بناء علم الأصول على أسس منهجية عقلانية تربط بين المقاصد والنصوص، وتحرر هذا العلم من التعقيد اللفظي والانغلاق المدرسي، وله كذلك كتب في تاريخ المذاهب الإسلامية تناول فيها بإعجاب وتحليل مسيرة كل من الأئمة الأربعة، ولم يكن يكتفي بالرواية بل كان يعرض نقداً علمياً رفيعاً، يوازن بين المعطيات الفقهية والظروف التاريخية، ويُبرز خصائص كل مدرسة على حدة.
لقد مثّل الإمام محمد أبو زهرة ضميراً علمياً حياً في زمن اشتدت فيه الحاجة إلى العلماء المجددين، الذين يُعيدون توجيه العقل الإسلامي نحو الأصالة دون انغلاق، ونحو التجديد دون تفلّت، كما كان يُدرك أن معركة الأمة الكبرى ليست فقط في الدفاع عن الإسلام ضد الهجوم الخارجي، بل في إعادة فهم الإسلام نفسه فهماً عميقاً يربط بين النص والمقصد، بين الحكم والرحمة، بين التشريع والإنسان، ولذلك كان من أوائل من نادى بأن الكرامة مقصد شرعي، وأن الحرية ليست ضد الشريعة الإسلامية بل من صميمها، وأن العقل شريك في الفهم لا خصمٌ للنص، وأن الدين ليس ضد التقدم بل هو طليعته إذا فُهم فهماً صحيحاً، وما تزال آثار الإمام حاضرة في كل مشروع إصلاحي اليوم يتناول الفقه من زاوية المقاصد، ويعيد التفكير في العلاقة بين الشريعة والقانون، ويبحث في إمكانية بعث التراث الفقهي في حياة الناس بصيغة قادرة على العمل والبناء.
فرحمه الله رحمة واسعة، فقد كان منارات الوعي في القرن العشرين، وعلَما من أعلام المدرسة المقاصدية المعاصرة، وركناً في حركة التجديد الفقهي الإسلامي، وحين نقرأ تراثه اليوم، لا نقرأ كلمات جامدة، بل نُصغي إلى صوت رجل حمل همّ الأمة في فكره، وحرّر الفقه من الجمود، وأطلق العنان للعقل المؤمِن كي يعيد قراءة الوحي من جديد.
وهكذا، فإن الحديث عن هذه القامة العلمية الفذّة لا يكون مجرد استذكار لسيرة عالم مضى، بل هو وقوفٌ أمام نموذج يُجسّد توازناً نادراً بين الفقه والقانون، بين التراث والواقع، بين النص والمقصد، بين الشريعة كرسالة إلهية والقانون كأداة لتنظيم حياة الناس، لقد جسّد هذا العالم بإخلاصه وعمقه وبصيرته وشجاعته ملامح المدرسة الفقهية التي يُراد لها أن تعود لتأخذ مكانها الصحيح في العالم، لا بصفتها رديفاً للتاريخ، بل بكونها مشروعاً حياً للنهضة، وأداة لتحرير العقل المسلم من الجمود والتبعية، ودليلاً على أن الشريعة ليست قيداً على العصر، بل مفتاحاً لفهمه وضبطه وهدايته.
وفي عالم يُعاد فيه تشكيل المفاهيم، وتُفرض فيه أنماط قانونية لا تراعي خصوصيات الشعوب وهويتها الدينية، نحتاج إلى منارات كهذا العالم، تذكّرنا أن في تراثنا من الطاقات والعقول ما يكفي لبناء نظم عادلة، راقية، تُخاطب الإنسان بكرامته، وتُعلي من شأن الحقوق لا باسم الدولة أو السوق، بل باسم الله الذي حرّم الظلم على نفسه وجعله محرّماً بين عباده، فليس القانون في نظره سلطةً تُطاع فحسب، بل هو تجلٍ للعدالة التي تنبع من ضمير الشريعة، وقدرةٌ على التوفيق بين ما هو واجب وما هو ممكن.
إن الوفاء لهذا العالم لا يكون بتمجيد ماضيه فقط، بل بإحياء فكره في واقعنا، وإعادة بناء علاقة المسلم المعاصر بالشريعة بوصفها مرجعية رحيمة، عقلانية، عادلة، متجذّرة في المقاصد، منفتحة على الزمن، إنه من واجبنا الأخلاقي تجاه هذه الأمة، التي تتعرّض لهجمات شرسة تُشوّه دينها ومفاهيمها، أن نُعيد إلى الواجهة أولئك الذين صاغوا الفقه بوعي، ودافعوا عن القانون برؤية إيمانية، ورسموا طريقاً لا يزال في كل منعطف من منعطفات الأمة هو الطريق الأصلح، طريق العقل الذي يسجد، والشرع الذي يُفكَّر فيه، والمقصد الذي يُضيء لنا سُبل العدل حين تظلم الدنيا.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.