لم تكن مسألة التجديد الديني في تاريخ الفكر الإسلامي طرق فكرية أو تفاعل نخبوي مع أسئلة الحداثة، بل كانت على الدوام استجابة وجودية عميقة لنداء التاريخ حين تشتدّ أزماته، ويتعقّد واقعه، ويبلغ الانفصام بين النص والواقع مداه، والتجديد في هذا السياق لم يكن تمرداً على الأصول، بقدر ما كان محاولة لاستنطاق النصوص، واستعادة روحها الأولى، والارتقاء بفهمها إلى مستوى المتغيرات الحضارية التي فرضها الزمن.
وفي قلب هذا الإشكال، برز مفكران استثنائيان، ينتميان إلى سياقين مختلفين ولكن يجمعهما هاجس واحد: كيف يمكن للإسلام، كنص وكروح وشريعة، أن يستعيد فاعليته في واقع يضجّ بالتحديات، من الاستعمار والانحطاط إلى الاستبداد والتغريب؟ كيف يمكن تجاوز الجمود الفقهي والتقليد الأعمى، دون الوقوع في تفكيك الدين أو تحريفه؟ وكيف يُمكن للمسلم أن يكون معاصراً دون أن يُفرّط في دينه، ومتديناً دون أن يتنكر للعقل وزمنه؟
في هذا الإطار يلتقي محمد عبده، المصلح الثائر القادم من قلب الأزهر في زمن الانكسار العثماني، بمحمد الطاهر بن عاشور، الفقيه العميق القادم من الزيتونة في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر، كان عبده يرى أن إعادة بعث العقل المسلم شرط لازم للنهوض، وكان يرى في الفقه التقليدي حصناً قديماً لا يكفي لحماية الدين من ضربات العصر الحديث، بينما جاء بن عاشور ليُعيد تشكيل أدوات الفهم من الداخل، فأسّس علماً متكاملاً للمقاصد، وفتح أفقاً جديداً للفهم المقاصدي للنصوص، رافعاً من شأن الغايات على حساب الجمود على الألفاظ، دون أن ينقض أصول الفقه، بل عبر إعادة ترتيب سلطته على الواقع.
هذان المفكران لم يشتغلا على النصوص فقط، بل على العقل المسلم ذاته، أعادا بناء التصورات لا في مواجهة التراث، ولكن من داخل أزمته، متجاوزين الفهم السكوني للدين إلى رؤى تجعل من الاجتهاد فعلاً متجددًا، لا يتوقف، ولا ينفصل عن حياة الناس، لقد حملا هَمّ الدين في زمن كان فيه الدين إما وسيلة تبرير للقهر، أو قيداً على النهضة، فأرادا تحرير الإسلام من “السدنة” دون إسقاطه في براثن العلمنة المنفلتة، ومن خلال هذا اللقاء بين النص والواقع، تشكلت جدلية لا تزال حيّة إلى اليوم، جدلية تُعيد كل جيل إلى مواجهة الأسئلة الكبرى: كيف نفهم الوحي؟ وكيف نعيش الدين؟ وأي دور للإسلام في بناء المجتمعات الحديثة؟ وهل بالإمكان أن يتعايش الثابت والمتحوّل دون أن يُقصي أحدهما الآخر؟
إن التأمل في تجربتي عبده وبن عاشور ليس استدعاءً نوستالجياً لماضٍ فكري مجيد، بل هو تفكيك نقدي لطريقتين مختلفتين في فهم التجديد، وطرح لسؤال مركزي لم ينتهِ بعد: هل يكفي أن نحرر العقل كما أراد عبده؟ أم نحتاج إلى هندسة فكرية تُعيد بناء مناهج الفهم كما فعل بن عاشور؟ وفي كلا الحالتين، يبقى النص والواقع في جدلية لا تنتهي، فالنص لا يتكلم إلا حين يستدعيه الواقع، والواقع لا يُفهم إلا حين يُقرأ في ضوء النص، وبينهما تكمن مهمة التجديد التي لا تنقطع.
لقد شكّلت إشكالية التجديد الديني أحد أبرز المباحث الفكرية التي شغلت عقول المجددين في العصر الحديث، لا سيما مع تصاعد التصادم بين تراث فقهي هائل ورثته الأمة الإسلامية عبر قرون طويلة، وبين واقع متغير لا يعرف الثبات، تتحكم فيه عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية على مستوى العالم الإسلامي والعالمي، في هذا السياق، تبرز شخصيتان مركزيتان تمثلان نماذج مختلفة ومتكاملة في آن واحد: الإمام محمد عبده، والمجتهد المقاصدي محمد الطاهر بن عاشور، كلاهما لم يكن مجرد فقيه أو مصلح تقليدي، بل كان يحمل مشروعاً لتأصيل علاقة جديدة بين النص والواقع، علاقة لا تلغي النص ولا تجعله أسير التاريخ، ولا ترفع الواقع إلى درجة المرجعية المطلقة، بل توازن بدقة بين مقاصد الشريعة وتحولات العصر.
ولم يكن محمد عبده مجرد أزهري أُتيح له أن يصعد إلى منصب مفتي الديار المصرية، بل كان مفكراً إصلاحياً يستند إلى روح نقدية حادة، وعقلية تحليلية وواقعية دفعت به إلى طرح تساؤلات كبرى حول سلطة الفقهاء، وطبيعة التراث، ومدى صلاحية الفتاوى القديمة للتطبيق في واقع القرن التاسع عشر، المتخم بالتحديات الاستعمارية والحداثية، لقد رأى عبده أن الجمود الفقهي الذي تعيشه الأمة إنما هو ثمرة لتعطيل العقل، وانغلاق باب الاجتهاد، واختزال الدين في قوالب جاهزة لم تعد تستجيب لحاجات المسلمين المتجددة، لكن عبده لم يكن علمانياً بالمعنى المفهوم عند من أرادوا عزل الدين تماماً عن الحياة، بل آمن إيماناً عميقاً بأن الدين هو أساس النهضة، بشرط أن يُفهم فهماً عقلانياً، متحرراً من شوائب الجمود، ومن التصورات الشعبوية التي كرّست الخرافة باسم الإيمان.
لقد تعامل عبده مع النصوص الدينية من القرآن والسنة بمنهج تأويلي يقوم على ترجيح المقصد على الظاهر، والفهم السياقي على الحرفية، مما جعله يفتح آفاقاً جديدة أمام مسألة التجديد، لقد رأى في القرآن الكريم رسالة مفتوحة للزمن، قابلة للتفسير المستمر وفقاً للمتغيرات، وليس نصاً مغلقاً لا يحتمل التأويل خارج ما قاله السابقون، هذه المقاربة جعلته يتخذ مواقف شجاعة من قضايا مثل موقع المرأة، والنظام السياسي، وعلاقة المسلمين بغيرهم، ومفهوم العقاب، وهي كلها مواقف أثارت الجدل، لكنها كانت امتداداً طبيعياً لمشروعه في تحرير النص من سجن التقليد، وإعادة وصله بالحياة.
أما محمد الطاهر بن عاشور، فقد جاء في زمن مختلف، لكن القضايا نفسها كانت لا تزال مطروحة، بل ازدادت تعقيداً، وإذا كان عبده قد انشغل بتقويض جدران التقليد الفقهي وتحرير العقل المسلم من قبضة الفتوى الموروثة، فإن بن عاشور انشغل أكثر بتأسيس منهج متكامل للتجديد من داخل الأصول ذاتها، دون القطيعة مع التراث، بل عبر نقده البنّاء وإعادة تنظيمه وفق منطق المقاصد، لقد كان بن عاشور يرى أن الإصلاح لا يكون بردود الأفعال، بل بتأسيس قواعد معرفية بديلة، ولذلك كان مشروعه في “مقاصد الشريعة” محاولة جريئة لصياغة قراءة جديدة للنص الشرعي، تتجاوز الفقه الجزئي والمذهب الضيق، نحو أفق أوسع يتعامل مع الغايات الكلية للشريعة.
ففي فلسفة بن عاشور، لم يكن المقصد مجرد تبرير خارجي للحكم، بل كان هو الحامل الحقيقي للشرعية، فالعبادات والمعاملات، الأحكام والعقوبات، كلها يجب أن تخضع لاختبار المقصد: هل تحقق العدل؟ هل تحفظ النفس والعقل والدين والنسل والمال؟ هل تسهم في رفع الحرج ودفع الضرر وجلب المصلحة؟ على هذا الأساس، دعا بن عاشور إلى إعادة بناء الفقه على نظرية المقاصد، لا كنظرية تكميلية بل كمنهج كلي يعلو على التفاصيل، وقد جعله ذلك يدخل في صدام فكري ناعم مع المدارس التقليدية، لكنه كسب الكثير من التقدير من المجددين والمفكرين حول العالم الإسلامي.
بالتالي، إن القاسم المشترك بين عبده وبن عاشور هو هذا الإيمان العميق بأن النص لا يمكن أن يُفهم إلا في ضوء الواقع، وبأن الجمود الفقهي هو الخطر الحقيقي على روح الإسلام، غير أن عبده كان يركز أكثر على تحرير النص من القراءات التاريخية التي فرضت سلطتها على العقل، بينما بن عاشور كان يميل إلى استثمار النص وتأصيل قراءاته وفق منطق المقاصد، دون تجاوزه أو تعليقه، كلاهما رفض التقليد، لكن عبده قاده ذلك إلى آفاق اجتهادية متحررة أقرب إلى النقد الداخلي للنصوص الموروثة، بينما بن عاشور سعى إلى بناء بديل علمي من داخل علم الأصول ذاته، كان عبده ثائراً على العقل الجمعي الفقهي، بينما كان بن عاشور مؤسساً لعقل مقاصدي بديل.
وتكمن القيمة الحقيقية لهذا التجاذب بين محمد عبده ومحمد الطاهر بن عاشور في كونه تجاذباً بين مدرستين متكاملتين في مشروع النهضة الإسلامية، لا متعارضتين، الأولى عقلانية نقدية تستحضر الفلسفة، والثانية تأصيلية مقاصدية تستحضر فقه الواقع، وكلتاهما تشترك في الإيمان بأن الإسلام لم يُنزل ليكون مرتهنًا للنصوص المجردة ولا للوقائع المتغيرة وحدها، بل ليكون نظاماً حياً يتفاعل مع الإنسان في سياقه وتحدياته ومطالبه، وهذا ما يجعل الحديث عن التجديد الديني بين هاتين الشخصيتين، حديثاً عن مستقبل العلاقة بين الدين والسياسة، بين الفقه والدولة، بين الوحي والعقل، وبين الشريعة والحياة.
لقد فتح كل من عبده وبن عاشور أفقاً لتجاوز الثنائية التقليدية التي طالما عانى منها الفكر الإسلامي: ثنائية النقل والعقل، أو النص والواقع، فبينما أُهملت عصور طويلة العقل بحجة التسليم، أو أُخضع النص للتأويل السياسي أو المذهبي، جاء هذان المجددان ليؤسسا لنموذج جديد في فهم الوحي: نموذج يتعامل مع النص كمرجعية ثابتة، دون أن يحوّله إلى سجن للزمن، ويتعامل مع الواقع كمعطى متحول، دون أن يرفعه إلى منزلة الوحي، فالتجديد عند عبده ليس انقلاباً على الإسلام، بل عودة إلى جوهره الذي شوّهه التقليد، والتجديد عند بن عاشور ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة شرعية لاستمرارية الفقه وتماهيه مع المصلحة العامة.
لقد كان محمد عبده مدفوعاً في عمق مشروعه بإدراكه لأثر الاحتلال على العقل المسلم، وقدرته على تشويه الهوية لا بالسلاح فقط، بل بالفكر والتصورات، ولهذا، فإن التجديد عنده كان أداة لتحرير الوعي، لا مجرد مراجعة فقهية، كان يريد أن يحرر المسلم من التبعية الذهنية للماضي، تمامًا كما أراد أن يحرره من التبعية السياسية للغرب. وقد دفعه هذا إلى تقعيد العقل كأداة للتلقي، لا التلقين، فكان يكرر أن الإسلام لا يناقض العلم، وأن العقل أساس التكليف، وأن الجمود على الموروث إنما هو تشويه للموروث ذاته، هذه النظرة جعلته في صدام مباشر مع المؤسسات التقليدية التي رأت في تجديده تهديداً لسلطتها، ومع بعض التيارات العلمانية التي ظنت خطأً أن مشروعه أقرب لها مما هو للدين.
أما الطاهر بن عاشور، فكان يتعامل مع الواقع من موقع أكثر مؤسساتية، وأقرب إلى معادلات الدولة الحديثة، إذ لم يكن ثائراً على التراث بل ناقداً له، ولم يكن مجدداً في شكل النص بل في هيكله ومضمونه، كان يدرك أن الفقه الذي لا يتحرك بمقاصده يتحول إلى أداة للجمود، وأن الشريعة التي لا تنظر إلى مآلات أفعالها، قد تفضي إلى مفاسد وإن ظنّ أصحابها أنهم يحسنون صنعاً، ومن هنا جاءت محاولته لإعادة إحياء علم المقاصد، ليس كتاريخ أو سرد، بل كأداة اجتهادية قادرة على احتواء المتغيرات، كما لم يكن التجديد عنده مجرد رغبة أخلاقية، بل كان ضرورة منهجية لحماية جوهر الدين من تحولات العصر، دون أن يكون أسيراً لها.
وتكمن المفارقة في أن عبده، رغم نقده للتراث، ظل يبحث عن حلول داخل بنية الشريعة، فيما بن عاشور، رغم ولائه للتراث، فتح أفقاً لفقه جديد يختلف عن كل ما قبله. هذا التداخل بين النقد والولاء، بين الإصلاح والتأصيل، هو الذي أعطى للتجديد طابعه التكاملي، كلاهما رفض الفصل التعسفي بين النص والواقع، ورفضا أيضاً تذويب النص في الواقع، وكانا يتعاملان مع الدين لا كذاكرة مغلقة، بل كرسالة تتجدّد بإرادة المجتهد وفهمه للزمن.
إن المعركة التي خاضها هذان المفكران لا تزال قائمة، فالمجتمعات الإسلامية المعاصرة لا تزال عالقة بين دعاة التجديد الذين لم يمتلكوا عمق عبده، وبين حراس التراث الذين لم يدركوا حكمة بن عاشور، ولذلك، فإن العودة إلى منهجهما ليست مجرد ترف معرفي، بل هي خطوة استراتيجية في طريق استعادة الفقه إلى فضائه الحضاري، ليس المقصود أن نكرر أقوالهم، بل أن نتبنى مناهجهم، وأن نعيد فتح الأسئلة الكبرى حول الدين والدولة، الفتوى والسياسة، النص والمصلحة، الشريعة والحياة.
لقد أظهر مشروع عبده أن الإصلاح الديني لا يمكن أن يتم دون تحرير العقل، وأظهر مشروع بن عاشور أن تحرير العقل لا يكفي، بل لا بد من تأسيسه على قواعد علمية دقيقة تُراعي المقاصد وتوازن بين الثابت والمتغير، ولذلك فإن ما نحتاجه اليوم هو جيل ثالث من المجددين، لا يقف عند حدود عبده في الجرأة، ولا عند حدود بن عاشور في التأصيل، بل يدمج بين جرأته في طرح الأسئلة، ودقة بن عاشور في صياغة الأجوبة.
إن المستقبل لن يُكتب بيد من يحفظون النصوص، بل بيد من يفهمون جدليتها مع الواقع، وهذا هو الجوهر العميق للتجديد الديني كما أراده عبده وبن عاشور: مشروع إنقاذ للروح الإسلامية من التحجر والتسييس، ورد اعتبار للوحي بوصفه خطاباً للحياة، لا للقبور.
بالتالي، إن تتبّع مسار التجديد الديني بين محمد عبده ومحمد الطاهر بن عاشور لا يكشف فقط عن اختلاف منهجي بين اثنين من أبرز رواد الفكر الإسلامي الحديث، بل يكشف عن معركة عميقة خاضها العقل المسلم في مواجهة الانغلاق، والهيمنة الغربية، وتحلل الواقع من جذوره القيمية، كان عبده يسعى إلى إعادة إنتاج الإسلام ليكون صالحاً لحياة الحرية والعقلانية، لا كقيد جديد باسم الدين، بل كتحرير جديد باسم الوحي، في حين كان بن عاشور يؤسس لاجتهاد تتعايش فيه الأصالة مع الحداثة دون أن تتنافر، ويصبح النص فيه أداة لبناء الحضارة، لا وسيلة لشرعنة السكون، كلاهما أدرك أن الجمود ليس من الدين، وأن النقل لا ينبغي أن يُقدّم على العقل حين يتعلق الأمر بمصلحة الأمة، وأن الشريعة، في جوهرها، جاءت لتحقيق الخير للناس في المعاش والمعاد.
لقد بنى محمد عبده رؤيته من صميم تجربة الاضطهاد والاستعمار والخذلان الحضاري، فكانت دعوته إلى تحرير الفكر الإسلامي من “مستنقعات التقليد” أشبه بمحاولة استنهاض أمة فقدت ثقتها بذاتها، وكان يدرك أن تحرير الدين لا يعني تفكيكه، بل تخليصه من الشوائب التي لحقت به باسم القداسة، وتحريره من الخرافات التي أُلصقت به باسم الورع، ومن الانغلاق الذي فرضته عليه أنظمة الاستبداد السياسي والديني على حدّ سواء، ولعلّ أعظم ما تركه عبده من ميراث فكري هو أنه أعاد للعقل المسلم حقه في التأويل، وأعاد لوظيفة الفقيه بعداً أخلاقياً لا ينفصل عن الحياة الاجتماعية.
أما الطاهر بن عاشور، فكان صاحب مشروع أكثر تركيباً واستيعاباً لرهانات العصر، فتمكن من بناء نظريته في المقاصد باعتبارها جهازاً مفاهيمياً متكاملاً يعيد توجيه الشريعة نحو غاياتها الكبرى، إذ لم يرفض بن عاشور النصوص، ولم يتخطّ التراث، ولكنه أعاد تأويل النصوص ضمن هندسة عقلية دقيقة تأخذ بعين الاعتبار مقاصد الشارع، ومرونة الوسائل، وثبات المبادئ، وقد كان واعياً تماماً أن أي فقه لا يُحسن فهم الواقع، هو فقه مهزوم، لا قيمة له في ساحات الفعل، وأن المقاصد ليست مجرّد دعوى، بل هي علم قائم بذاته يحتاج إلى أدوات ومعايير وضبط علمي دقيق، وهنا، فإن عبقرية بن عاشور لم تكن في مجرد تنظير المقاصد، بل في ربطها بالاجتهاد، والقضاء، والدولة، والتشريع الحديث، وفي تحويلها إلى أرضية عقلية وأخلاقية لإعادة صياغة العلاقة بين المسلم وعالمه.
هذا التكامل بين عقل عبده وروح بن عاشور هو ما يحتاجه الفكر الإسلامي اليوم في سياق عالمي يعيد ترتيب مفاهيم الدين والأخلاق والهوية من جديد، إذ لم تعد المشكلة في النصوص، بل في آليات تفعيلها ضمن واقع متغير، ولم تعد الأزمة في ثنائية الحداثة والتراث، بل في غياب مشاريع فكرية عميقة تشتبك مع الواقع دون أن تفقد ولاءها للأصول، من هنا، فإن عبده وبن عاشور لا يمثلان فقط نموذجين تاريخيين، بل يمثلان إمكانية مستمرة لفعل التجديد إذا ما توفر له فكر شجاع، ومجتمع يقظ، ومؤسسات دينية تتحرر من دور الحارس إلى دور المجدد.
وليس من المبالغة القول إن الأمة لن تستعيد نهضتها إلا إذا استكملت ما بدأه هذان العلمان، عبر أجيال جديدة من المفكرين الذين يحملون همَّ النص كما يحملون همَّ الواقع، والذين يدركون أن الدفاع عن الإسلام لا يكون بالانغلاق ولا بالشعارات، بل باجتهاد صادق يُنقذ الوحي من الجمود، ويُنقذ المجتمعات من التيه، ومثلما احتاج عبده إلى التحرر من سلطة المقلدين، واحتاج بن عاشور إلى الشجاعة في إعادة بناء علم المقاصد، فإن الفكر الإسلامي اليوم بحاجة إلى روح ثالثة، تجمع بين عبقرية العقل، ونزاهة الفهم، وشجاعة المواجهة.
وبين عبده وبن عاشور، تظل جدلية النص والواقع مفتوحة، لا تُغلق إلا إذا انطفأت حركة الحياة، وبين النص الذي ينادي بالعقل، والواقع الذي يصرخ بالتجديد، يقف الفكر الإسلامي على عتبة التاريخ، مطالباً باستئناف الاجتهاد، لا كترف ثقافي، بل كفعل حضاري ضروري لاستمرار المعنى ذاته للدين في عالم يتحرك بسرعة، ويتغير بتعقيد، ولا يرحم المتأخرين.
عبد العزيز يدر عبد الله القطان / كاتب ومفكر – الكويت.