شكَّل حجم التناول والتداول المُجتمعي والإعلامي والمؤسَّسي والشَّخصي الواسع، والمنتج المعرفي الَّذي تمَّ تقديمه بأشكال وأنماط مختلفة ودلالات متنوعة لمفردة «السَّمْت العُماني» الَّتي جاءت في ثنايا الخِطاب السَّامي لحضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ في افتتاح دَوْر الانعقاد الأوَّل للدَّوْرة الثامنة لمجلس عُمان، فرصة سانحة لمجلس عُمان في تعزيز مفردة السَّمْت العُماني فإنَّ الثِّقة الَّتي أولاها جلالة السُّلطان المُعظَّم لأعضاء مجلس عُمان بغرفتَيْه (الدَّولة والشُّورى) حيثُ جاء في عاطر خِطاب جلالته السَّامي، قوله: «إنَّ مجلس عُمان لشريك أساسي في منظومة الدَّولة، وهذه الشَّراكة تُلقي عليكم مسؤوليَّة كبيرةً، فكونوا على قدر المسؤوليَّة، واضعين مصلحة البلاد نصب أعْيُنكم، مسترشدين في ذلك بمبادئ النِّظام الأساسي للدَّولة وبالقوانين المنظِّمة لعملكم، وما أتاحه لكم قانون مجلس عُمان من صلاحيَّاتٍ، «وإنَّنا إذ أوليناكم ثقتنا؛ لنأمل أن يكُونَ لأعمالكم إسهام بارز في إثراء التَّطوُّر والنَّماء لمَسيرة النَّهضة المُتجدِّدة»؛ تضع المجلس أمام مسؤوليَّة تَبنِّي السِّياسات والتَّشريعات الدَّاعمة لتأطير مفردة السَّمْت العُماني وضبطها وتقنينها وإعادة إنتاجها من خلال اختصاصاته الأصيلة الَّتي نصَّت عَلَيْها المادَّة(72) من النِّظام الأساسي للدَّولة الصَّادر بالمرسوم السُّلطاني (6/2021) «يختص مجلس عُمان بإقرار أو تعديل مشروعات القوانين، ومناقشة خطط التَّنمية والميزانيَّة العامَّة للدَّولة، وله اقتراح مشروعات القوانين، وذلك على النَّحْوِ الَّذي يبَيِّنَه القانون».
كما فصَّل قانون مجلس عُمان الصَّادر بالمرسوم السُّلطاني (7/2021)، الاختصاصات التَّشريعيَّة المشتركة بَيْنَ مجلسي الدَّولة والشُّورى في إطار الثنائيَّة البرلمانيَّة، ذات الصِّلة بإقرار أو تعديل، واقتراح مشروعات القوانين، في المواد (47) و(48) و(49) و(50)؛ وكذلك المادَّة (52) فيما يتعلق بإحالة مشروعات خطط التَّنمية والميزانيَّة العامَّة للدَّولة؛ واختص القانون مجلس الشُّورى بمهام ومسؤوليَّات تشريعيَّة أخرى لا تتوفر لمجلس الدَّولة في المادَّة (54) بشأن مشروعات الاتفاقيَّات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الَّتي تعتزم الحكومة إبرامها أو الانضمام إِلَيْها، والمادَّة(55) والَّتي توجب على وزراء الخدمات موافاة مجلس الشُّورى بتقرير سنوي عن مراحل تنفيذ المشاريع الخاصَّة بالوزارات الَّتي يرأسونها وللمجلس دعوة أيٍّ مِنْهم لتقديم بيان عن بعض الأمور الدَّاخلة في اختصاصات الوزارة الَّتي يرأسها ومناقشته فيها. على أنَّ قانون مجلس عُمان في المادَّة(56) أجاز لمجلس الشُّورى ممارسة اختصاصاته في المتابعة باستعمال سبع أدوات رئيسة هي: البيان العاجل؛ وطلب الإحاطة، وإبداء الرَّغبة، والسُّؤال، وطلبات المناقشة، ومناقشة البيانات، والاستجواب، حيثُ فصَّل الفصل السادس من القانون في الحديث عن أدوات المتابعة المقررة لمجلس الشُّورى وحدَّد آليَّاتها وشروطها، ووجَّه إلى اللائحة الداخليَّة لمجلس الشُّورى مسؤوليَّة تحديد الإجراءات والمواعيد الواجبة مراعاتها من قِبل رئيس وأعضاء المجلس في استعمال تلك الأدوات وذلك بما لا يتعارض مع أحكام قانون مجلس عُمان، كما فصَّلت مواد القانون استحقاقات ممارسة هذه الأدوات والضَّوابط والإجراءات والاشتراطات الَّتي ينبغي توافرها لتفعيل هذه الأدوات وتحقيق ممارسة أصيلة ومنتجة لها تنعكس على أداء عضو مجلس الشُّورى. وبالتَّالي ما يُمكِن أن يقدِّمه الاختصاص التَّشريعي لمجلس عُمان من مظلَّة تشريعيَّة في كُلِّ ما يتعلق بالسَّمْت العُماني وآليَّة تعزيزه في الحياة العامَّة، وطرق المحافظة عَلَيْه والضَّمانات الَّتي تؤسِّس لانتقاله إلى الأجيال القادمة، ورفع درجة التَّوعية والتَّثقيف والبرامج الَّتي تضْمن تعزيز حضوره في ثقافة الأُسرة ومنهجيات التَّربية الوالديَّة والأُسريَّة ومؤسَّسات التَّعليم وقانون الوظيفة العامَّة وقانون العمل وقانون الجزاء وقانون الجنسيَّة وغيرها من القوانين ذات الصِّلة، وسواء كان ذلك على شكل نصوص قانونيَّة أو على شكل سياسات ومقترحات يترك أمر صياغتها في قوالب قانونيَّة إلى الجهات المختصَّة في الحكومة.
وعملا بأحكام المادَّة (53) من قانون مجلس عُمان الصَّادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (7/2021)، والَّتي جاء نَصُّها على النَّحْوِ الآتي: «بالإضافة إلى اختصاصاته الأخرى المنصوص عَلَيْها في هذا القانون، يجوز لمجلس الدَّولة ـ من تلقاء نفسه ـ دراسة ومناقشة الموضوعات المتَّصلة بتنفيذ الخطط التنمويَّة، وتقديم مقترحاته بشأنها إلى الحكومة، كما يجوز له تقديم المقترحات والدِّراسات الَّتي تُسهم في ترسيخ القِيَم الأصيلة للمُجتمع العُماني والمحافظة على منجزاته». حيثُ أجازت هذه المادَّة لمجلس الدَّولة، تنفيذ الدِّراسات وتقديم المقترحات في مختلف المجالات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثَّقافيَّة والتَّعليميَّة، الأمْر الَّذي قد يثري مجال الدِّراسات والمقترحات الَّتي يُمكِن أن يقدِّمها الأعضاء ولجان المجلس ذات الصِّلة بالسَّمْت العُماني والقِيَم والمواطنة والهُوِيَّة.
وحدَّد قانون مجلس عُمان في المادَّة (6) و(7) الفئات الَّتي يتمُّ اختيار أعضاء مجلس الدَّولة مِنْها، والشُّروط الَّتي يَجِبُ أن تتوافر فيمن يتمُّ اختياره لعضويَّة المجلس، وتناولت اللوائح الداخليَّة لكُلٍّ من مجلسَي الدَّولة والشُّورى الكثير من الأحكام المؤصِّلة أو المعبِّرة عن السَّمْت العُماني، حيثُ تناولت أحكام العضويَّة ونظَّمتها تنظيمًا يكفل للعضو حُريَّة الرَّأي وضوابط ممارسة هذا الحق، والواجبات والمحظورات، وحقوق الأعضاء وضمانتهم والحصانة وإجراءات رفعها، والجزاءات الَّتي يجوز توقيعها عَلَيْهم. وتحديد نظام سَير العمل بالمجلس ولجانه وحفظ النِّظام به، وأصول المناقشة والتَّصويت، عملًا بأحكام المادَّة (32) من ذات القانون بأن يضع كُلٌّ من مجلس الدَّولة ومجلس الشُّورى لائحته الداخليَّة، وتبَيْنَ اللائحة الداخليَّة للمجلس واجبات وحقوق الأعضاء وضماناتهم والجزاءات الَّتي يجوز توقيعها عَلَيْهم، وإجراءات تشكيل مكتب المجلس واللجان، وتحديد اختصاصاتهما، بالإضافة إلى اختصاصات رئيس المجلس ونائبيه، وطريقة اختيار نائبَي الرَّئيس، كما بَيَّنَ القانون اختصاصات الأمانة العامَّة بالمجلس؛ ونظام العمل في المجلس ومكتبه ولجانه، وأصول المناقشة والتَّصويت، وقواعد حفظ النِّظام في المجلس.
وعَلَيْه تمثِّل هذه الأحكام في مجملها إطارًا مرجعيًّا محكمًا في نقلِ السُّلوك البرلماني إلى واقع الممارسة التَّشريعيَّة وعبْرَ جلسات المجلس وما يصار فيها من مناقشة مشروعات القوانين المحالة من الحكومة أو المقترحة من المجلس أو المرتبطة بتعديل قوانين نافذة والمقترحات المرفوعة عَبْرَ اللجان، وأعطتْ هذه المناقشات في كفاءة إدارتها، والتزامها معايير المناقشة وأصول طلب الكلمة، حكمة في إبراز نهج التَّوازن في بناء الرَّأي والرَّأي الآخر وتداول الأفكار والمشاركة بالفكر المستنير والرَّأي البنَّاء في اقتراح الأحكام والسِّياسات الدَّاعمة للعمل الوطني المعبِّرة عن السَّمْت والخصوصيَّة العُمانيَّة، ليستمرَّ هذا النَّهج في كُلِّ إجراءات عمل المجلس، حتَّى مع وجود اختلاف في رأي مجلس الدَّولة مع رأي مجلس الشُّورى حَوْلَ مشروع القانون أو في بعض مواده، من خلال تشكيل لجنة عمل مصغَّرة تدرس مشتركات التقارب في الرَّأي ومناقشة أوْجُه الاختلاف للتوصُّل إلى حلول مناسبة لها، وعقد جلسة مشتركة بدعوة من رئيس مجلس الدَّولة، الَّتي تسري عَلَيْها الأحكام والقواعد المنظِّمة لِسَيْر الجلسات ويصدر القرار فيها بالأغلبيَّة المُطلقة للأعضاء الحاضرين. فإنَّ المنهجيَّة المتوازنة الَّتي رسمها مجلس عُمان داخليًّا في التعاطي بمهنيَّة عالية وقراءة فاحصة مع مختلف الآراء ووجهات النَّظر والنِّقاشات في تناول مشروعات القوانين أو مشروعات الخطَّة الخمسيَّة والميزانيَّة السنويَّة وتقرير جهاز الرَّقابة الماليَّة والإداريَّة للدَّولة، وخارجيًّا في تأطير منهجي للدبلوماسيَّة البرلمانيَّة وعَبْرَ مجموعات الصداقة مع البرلمانات الدوليَّة والإقليميَّة؛ شاهد إثبات على فلسفة العمل الممنهج الَّتي اعتمدها المجلس في أجندته وقراءته للواقع واستشرف المستقبل بروح الفريق الواحد ونهج الحكمة وحسِّ الوطن وسُمو الفكرة وعلوِّ الهمَّة وهدوء الشخصيَّة ومبدأ الثِّقة، وبالتَّالي ما يضيفه هذا التَّناغم في الأفكار ووجهات النَّظر وأرصدة التميُّز الَّتي يمتلكها، من قِيَمه مضافة تظهر تجلياتها على مسارات عمل المجلس في احتواء المواقف، وتوظيف الفرص وتوجيهها نَحْوَ تحقيق الصَّالح العامِّ للوطن والمواطن.
وبعد.. فلقد صبغت الممارسة التشريعيَّة البرلمانيَّة بالسَّمْت العُماني، سواء كان ذلك في اختصاصات المجلس وأعماله أو في أحكام العضويَّة والحقوق والواجبات أو في أحكام الجلسات العامَّة والمشتركة، وعمل اللجان وقواعد وأصول المناقشة والتَّصويت وإجراءاتهما، أو في قواعد السُّلوك البرلماني العام وهيبة عضو المجلس كرجُل دَولة وأصالة السَّمْت الَّتي ترافقه في التزامه بالزِّي الرَّسمي وارتداء الخنجر في الجلسات العامَّة والمشتركة وزيارات الوفود وبحسب ما تقتضيه طبيعة الموقف. وسِمة الشخصيَّة العُمانيَّة في مساحة الهدوء الَّتي التزمتها وهي مع تراكميَّة الخبرة ووضوح الأُطر والنُّضج الفكري الَّذي التزمه المجلس في قراءة الأحداث والتَّعاطي مع المستجدَّات والمتغيِّرات الداخليَّة والخارجيَّة بعيدًا عن الإثارة والنزاع والصراخ، واستصحاب سَمْت الشخصيَّة العُمانيَّة في هدوئها وتوازنها واحترام واحتوائها لوجهات النَّظر المغايرة لها والبُعد عن التعصُّب للرَّأي، والتَّنابز والشَّتم وتشويه السُّمعة وشخصنة الأحداث ولغة الإقصاء والتشفِّي وتصفية الحسابات والجدل العقِيم والنَّأي بنفسه عن أساليب الإثارة والتشمُّت والخلاف الَّذي يسُودُ أروقة مجالس برلمانيَّة في العديد من دول العالَم المتقدمة والنَّامية على حدٍّ سواء، ولُغة المهاترات والتَّجاذبات الَّتي قد تصل إلى حدِّ التَّقاذف بالأحذيَّة وعبوات المياه. إنَّها عقيدة التَّوازنات الَّتي التزمها العُمانيون وعدالة السُّلوك الَّتي استنطقتها أخلاقهم وممارساتهم التَّشريعيَّة، وعبَّرت عن جوهر السَّمْت العُماني في أصدق تجليَّاته وأدقِّ ممارساته.
د.رجب بن علي العويسي