شهدت فترة الاحتلال الإنكليزي لمصر حركة وطنية وتاريخاً كبيراً من النضال الكبير، وقام الشعب المصري بالعديد من الثورات لعل أهمها ثورة 1919، بقيادة الزعيم الراحل سعد زغلول، والتي كانت صاحبة اليد فى بداية الحصول على الاستقلال، وصولاً إلى ثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو/ تموزعام 1952، أنهت 74 عاماً من الاحتلال الإنكليزي للبلاد، بعد توقيع اتفاقية الجلاء عام 1953.
ففي حقبة الاحتلال لم تكن مصر تعرف نظاماً تعليمياً بالمعنى الدقيق الذي يدل عليه هذا المصطلح فلم يكن هناك سوى الأزهر الشريف وبعض المدارس الملحقة بالمساجد والكتاتيب بالمدن والقرى ولكنها جميعاً لم تكن ذات نظام يصل بينها ويجعل منها وحدة تعليمية كما كانت بعيدة عن سلطان الدولة ورقابتها رغم أنها استطاعت أن تقوم على تعليم أهل البلاد قروناً طويلة، حيث استمد النظام التعليمي الحديث تلاميذه من الكتاتيب والأزهر عند بدايته فكانت هناك لجان تطوف البلاد لزيارة الكتاتيب واختيار النجباء من تلاميذها للالتحاق بالمدارس الحديثة كما وقع الاختيار على المتميزين من طلاب الأزهر للالتحاق بالمدارس العليا عند إنشائها بل كان من حظ بعضهم الانضمام إلى البعثات التى أوفدها محمد علي باشا (1805 – 1848) للدراسة في فرنسا، بالتالي، لقد كان النظام التعليمي الحديث من أهم التطورات التى شهدتها مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر وارتبط ارتباطاً وثيقاً بالمشروع السياسي النهضوي الذي ارسى دعائمه محمد علي باشا.
واستمرت سياسة التعليم قائمة على الارتباط بين حاجة الدولة إلى الموظفين والتوسع في المدارس طوال عهد الاحتلال البريطاني (1882 – 1922) فأولى الانكليز الاهتمام للكتاتيب دون بذل الجهد لتطويرها بينما ربطوا القبول بالتعليم الابتدائي بالحاجة للتعليم الثانوي والتعليم العالي فيتسع التعليم الابتدائي بالقدر الذي يكفي حاجة المدارس الثانوية والخصوصية (العالية) من التلاميذ مع العمل على ترقية هذا التعليم والارتفاع بمستواه وحاجة تلك المدارس إلى التلاميذ إنما ترتبط بحاجة الدولة إلى الكوادر الإدارية والفنية واقتصر القبول بالمدارس على أبناء القادرين الذين يستطيعون دفع المصروفات فهو تعليم للخاصة لا للعامة ومن ثم أصبح التعليم الثانوي والعالي مقتصراً على طبقة اجتماعية معينة بعد ما كانت الكفاءة والاستعداد الشخصي هما معيار اختيار التلاميذ في المدارس قبل عهد الاحتلال البريطاني حيث كان التعليم مجانياً داخلياً فى جميع المدارس فى عهد محمد علي واسماعيل.
وفي مطلع القرن العشرين ارتبط الكفاح الوطني ضد الاحتلال بمعارضة سياسته التعليمية والمطالبة بنظام تعليمي وطني يتسع ليشمل الراغبين في طلب العلم من المصريين وفي إطار تلك الحركة كانت الدعوة إلى تأسيس (الجامعة المصرية) بعد ما توفرت لمصر قاعدة عميقة الجذور من التعليم العالي.
بالتالي، وكما أشرنا لم يحظَ العلم في مصر بالأهمية الكبيرة، وهذا كان عليه شكل التعليم المخصص للمسلمين في ذلك الوقت، أما الأقباط واليهود فكان تعليمهم يقتصر على الكتاتيب الخاصة بهم، وعندما تولى محمد علي حكم مصر، قام بمصادرة كافة ممتلكات الأوقاف وهو ما مثل ضربة قوية للتعليم الأساسي في مصر، كان تفكير محمد علي منصب على توسيع رقعة دولته وتأسيس جيش وطني، مما دفعه إلى إنشاء المدارس الجهادية التي كانت بمثابة البداية الحقيقية لاهتمامه بالتعليم المدني وإرسال بعثات تعليمية للخارج، حيث أدرك محمد علي ضرورة الاهتمام بالتعليم المدني وإنشاء المدارس التي تخدم احتياجات الجيش مثل مدرسة الهندسة والطب والصيدلة وغيرها، حيث اعتمد على إنشاء مدارس وطنية وإغلاق الأجنبية، وحتى يتخلص محمد علي من نفوذ الأوروبيين وحاجته إليهم في إدارة المدارس وشؤون الدولة المختلفة فكّر في إرسال بعثات تعليمية للخارج، والحقيقة أن هذه البعثات كانت نقطة تحول في المجتمع المصري، حيث أصبح لمصر خبراء في المجالات المختلفة تلقوا تعليمهم في الخارج وتولوا مناصب عليا، وهكذا ومع توالي الحكام ما بعد محمد علي، ومجيء الاحتلال البريطاني.
إلا أن الذي تغير أنه مع انطلاق الحركة الوطنية بقيادة مصطفى كامل بدأت بالاهتمام بالتعليم وإنشاء المدارس، حيث رأت أن محو الأمية وتثقيف الشعب هو أفضل وسيلة لمحاربة الاستعمار، وبمساهمات من الجمعيات الخيرية والمساعدات الأهلية والشخصيات المهمة أنشئت العديد من المدارس، لا تخضع لإشراف سلطات الاحتلال، ومع الوقت ازدادت المدارس الخاصة بشكل كبير خاصة بعد ما ساهمت في إنشائها الجمعيات الخيرية الإسلامية والقبطية من أجل نشر المعارف.
إلا أن واقع الحال تغير أيضاً ما بعد ثورة يوليو 1952، حيث أولت الدولة اهتماماً كبيراً بالتعليم الحكومي وبدأت تمارس التضييق على التعليم الخاص طوال فترة الخمسينات والستينات، فصدر قرار بتأميم بعض المدارس الأجنبية في مصر عام 1958، كما ألزم بعض المدارس الأجنبية الأخرى التي لم تأمم بأن يتولى إدارتها مصريين، وتوسعت الدولة في إنشاء المدارس الحكومية وأصبح التعليم ما بعد الإلزامي (الجامعي) بالمجان، كما اتخذت الدولة في منتصف السبعينات قراراً بإنشاء مدارس حكومية بمصروفات (المدارس التجريبية) لتقديم تعليماً باللغات الأجنبية لخدمة الطبقة الوسطى التي لا تستطيع إدخال أبنائها المدارس الأجنبية، وبذلك يتم إيجاد جيلاً مؤهلاً لسوق العمل يجيد اللغات الأجنبية للتعامل مع الشركات الدولية التي دخلت الأسواق المصرية في ذلك الوقت.
بالتالي، إن القرن التاسع عشر في مصر كان دون أدنى شك أنه يشكل المجال المعرفي الذي اختلفت حول أحداثه وتطوراته مجموعة كبيرة من الدراسات العلمية والفكرية، ويرجع هذا التنوع في القراءة والتناول إلي غني المرحلة التاريخية من ناحية التحولات العديدة، ولكونها تشكل نقطة التماس والاتصال مع الآخر، حيث سمحت وسائل الاتصال والتواصل لمصر بالتعرف على التجارب الأوروبية في مجالات متعددة عن طريق اتصالها بأوروبا من خلال الحملة الفرنسية ومن خلال تجربة يصطلح على تسميتها بالإصلاح أو التحديث، وقد كانت البعثات إلى فرنسا هي سلاحها الأول، وكما ذكرنا آنفاً كانت البداية مع البعثات التي أرسلها محمد علي باشا، إلى أوروبا حيث شكلت البنية الأساسية الوطنية التي أسس عليها بنيان عمليات التحديث التي قامت في مصر خلال القرن التاسع عشر، فكانت البعثات الأولى إلى إيطاليا ثم إلى فرنسا، عاصر محمد علي الوجود الفرنسي في مصر، وشاهد الفرنسيون في الإسكندرية، ونقل إليه علماء الديوان انطباعاتهم عن التقدم الذي أحرزه الفرنسيين، ومدى التقدم العلمي لديهم، فقد رحب الشيخ حسن العطار بتلك الأفكار وكان من بين أقوله المأثورة ” أن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها” ورشح رفاعة الطهطاوي للسفر ضمن البعثة التي سافرت لفرنسا عام 1826.
فكان الهدف تكوين جيل جديد من الأساتذة والعلماء والفنيين الذين تلقوا العلم في أوروبا ووقفوا على أهم ما أنجزه الغرب الأوربي في العلوم والمعرفة ليحلوا عند عودتهم محل الأساتذة والأطباء والمهندسين والضباط الأجانب، وأفضل مثال على ذلك هو قيام الباشا بإعادة افتتاح مدرسة المهندسخانة في بولاق عام 1834، ولعل البارز في أهمية تلك البعثات أن الترجمة لعبت دوراً كبيراً في تلك الحقبة، حيث كان من مهام الموفدين للخارج ترجمة الكتب التي درسوها، فترجم الطهطاوي “مبادئ العلوم المعدنية”، وترجم إبراهيم النبراوي “نبذة في الفلسفة” و”نبذة في أصول الطبيعة والتشريح العام”، وترجم عيسى النحراوي “كتاب التشريح العام”، كما ترجم رفاعة الطهطاوي كتاب “التعريفات الشافية لمريد الجغرافية”، حيث انتخب وتخير فيه خلاصة في عدد من المراجع الفرنسية، حيث جاء في مجلد ضخم ترجمه من الفرنسية لتدريس الجغرافية في المدارس المصرية، وأضاف إليه أيضاً إيضاحات، واستمر عطاء العائدين من البعثات خلال ثلاثينات وأربعينات القرن التاسع عشر يتدفق لتغذية المدارس العسكرية والطبية والهندسية بالكتب المترجمة.
هؤلاء المبعوثين الذين اختيروا من صميم الريف صاروا فيما بعد القادة المفكرين، والعلماء الناصحين، والساسة القادرين على خلق أجيال جديدة من أبناء الشعب من أجل تمدن وتحضر المجتمع وأفكاره، لقد بعث هؤلاء بأعمالهم العلمية في المجتمع روح فكرية جديدة، كما نهضوا باللغة العربية نهضة عظيمة، فدبت فيها روح الحياة، وأخذت تستعيد سابق قوتها بترجمة كثير من الكتب العلمية في الطب والهندسة والميكانيكا والرياضة والقانون والجغرافيا والتاريخ والاجتماع، وقد بدأت اللغة العربية منذ ذلك الحين تساير ركب الحياة العلمية، وتعني بالمصطلحات العلمية التي زودها بها هؤلاء المبعوثون الذين عكفوا على الكتب العربية القديمة ينقبون فيها عما عساه يصلح للحضارة الحديثة، فإن استعصى عليهم شيء عربوه، أو وضعوا له كلمات تناسبه.
بالتالي، حاجة مصر إلى جامعات تضم النُخب البارزة التي واكبت التطور العلمي والأدبي، ضرورة، لكنه اصطدم بعوائق كثيرة، لأن ما من محتل ومستعمر يرغب بتنشئة أجيال مثقفة وواعية ومدركة لخطرهم، فكلما زادت مرحلة الوعي كلما قلت أسهم المستعمرين، بالتالي، لم يكن إنشاء وتأسيس جامعة بالأمر السهل، إذ واجه نخبة قادة العمل الوطني من أمثال محمد عبده ومصطفى كامل وسعد زغلول وقاسم أمين ومحمد فريد مصاعب عديدة عند إنشاء جامعة القاهرة، ووجدوا معارضة كبيرة من جانب سلطات الاحتلال البريطاني خاصة اللورد كرومر، الذي عارض الفكرة بشدة حتى لا يوجد طبقة مثقفة فى صفوف المصريين، تسعى إلى الاستقلال في تحرير الأرض وتحرير الشخصية المصرية، ولكن سرعان ما نجح المتحمسون لإنشاء الجماعة المصرية فى تنفيذ الفكرة وخروجها إلى النور بإنشاء الجامعة، وتم افتتاح جامعة الفاهرة التي أعيدت تسميتها بجامعة فؤاد الأول في عام 1908 ثم جامعة القاهرة بعد ثورة 23 يونيو 1952، هذه الجامعة وكما قال عنها عميد الأدب العربي، طه حسين، (أخص ما امتازت به جامعة فؤاد الأول منذ إنشائها أنها كانت تطمح الى شيئين أساسيين أولهما إذاعة المعرفة العالية الحرة والتي تمكن أصحابها من أن يشاركوا في ترقية الحضارة الإنسانية، وثانيهما تحقيق الكرامة المصرية التى تنشأ عن الاستقلال الثقافي لتكون مصر مساوية لغيرها من الأمم الحرة الراقية)، ويضيف طه حسين، (فالجامعة لم تنشأ رغبة فى الزينة أو تكلفاً للبهرج إنما لأن بعض الصفوة من المصريين أحسوا أن ما يُقدم للشباب من تعليم لم يكن يحقق هذين الغرضين لأنه كان خاضعاً لسلطان الاحتلال، فأرادت هذه الصفوة وكان على رأسها فؤاد بن إسماعيل – الذي لم يكن ملكاً في ذلك الوقت – أن تقدم للأمة هذه الجامعة).
ومن المعروف أن جامعة القاهرة (الجامعة المصرية أو جامعة فؤاد الأول سابقاً) هي ثاني أقدم الجامعات المصرية والثالثة عربياً بعد جامعة الأزهر وجامعة القرويين، وقد تأسست كلياتها المختلفة في عهد محمد علي باشا، كالمهندسخانة ( 1820) والمدرسة الطبية عام 1827، ثم ما لبثا أن أغلقا في عهد الخديو محمد سعيد ( 1850). وبعد حملة مطالبة شعبية واسعة لإنشاء جامعة حديثة بقيادة مصطفى كامل تأسست الجامعة في 21 ديسمبر 1908 تحت اسم الجامعة المصرية، وحكايات الجامعة المصرية لا تنتهي فهي كثيرة وجميلة وعريقة وتقص الكثير عن زمن جميل ولى وفات، ومن ضمن الحكايات التى توثقها الصور أن الطلبة الشباب كانوا يذهبون الى الجامعة بالبذلة الرسمية وربطة العنق أو البابيون وقميص أبيض نظيف وبالطبع الطربوش لزوم الأناقة، وكانوا يمضون أوقاتهم في المحاضرات فإذا فرغوا من تحصيل العلم وقفوا يتسامرون بمنتهى الأدب على مدرجات الجامعة، ويكفيني فخراً أني نهلت علمي من هذه الجامعة التي كانت عاملاً مهماً في تكوين ثقافتي العلمية والعملية لما حصلت عليه من فائدة، فضلاً عن أنها كانت سبباً في لقائي بعشرات المفكرين والأساتذة والعلماء في كل المجالات، لأن مصر غنية بمثقفيها، غنية بحرفها وكلمتها، غنية بتراثها وحضارتها، مصر حقاً إنها أم الدنيا بلا منازع.
هذا يأخذنا إلى أن نهضة مصر لم تكن سهلة بل كانت طريقاً طويلاً معبّداً بالأشواك لا بالورود، لكن هذه الصعوبة والتحديات واجهها المصريون بقوة وثبات، فإن قلنا دين، هناك مئات الأسماء التي خلّدها التاريخ، وإن قلنا أدب، تُعتبر مصر أم الأدب العربي، وإن قلنا لغات فإن هذا البلد المعطاء كان سبباً في فتح آفاق التطور العلمي ومواكبته من خلال البعثات والترجمات كما ذكرنا آنفاً، فهناك الكثير من الأسماء كما عرجنا عليها سابقاً، لكن أيضاً هناك أسماء ظُلمت من الناحية الأدبية والعلمية، لأسبابٍ ما، فإن كانت هذه الأسباب هي العائق في طمس معالم هذه الشخصية أو تلك، يجب علينا أن نتستذكر على الأقل ما تم تقديمه منها للعالم المصري والعربي، فمن الظلم بمكانٍ ما عدم ذكر المعارف التي حققها هؤلاء مهما كانت الأسباب.
وبناءً على ما سبق، لفتتني شخصية مظلمة، رغم أنها تحوي من الإشراقات الكثير، شخصية اختارت أن يلفظها التاريخ، وهذا شأنها، لكن ما يعنيني منها الجانب المثمر الذي كان شريكاً في صناعة النهضة المصرية، سواء في الترجمات أو القانون وغيرهما، إلى جانب العمل السياسي والعلامة الفارقة التي شكلت الشكل القاتم الذي ارتبط بشخصية أحمد فتحي زغلول، فمن هو؟
أحمد فتحي زغلول (1863 – 1914)، هو أحد رجال القانون والقضاء، ومن رواد الترجمة، بجانب اهتمامه بالصحافة والسياسة، وهو الشقيق الأصغر للزعيم الوطني المصري سعد زغلول، كان اسمه، فتح الله صبري؛ ونتيجةً لنشاطه الثوري إبان الثورة العرابية، وخُطبه الحماسية بها، تم فصله من المدرسة التجهيزية، وحتى يتم قيده مرة أخرى غيَّر اسمه إلى أحمد فتحي. أوفدته وزارة المعارف في بعثة إلى فرنسا في عام 1885 لدراسة الحقوق. وبعد أن حصل على درجة الليسانس في القانون من باريس وعاد إلى مصر، أخذ يرتقي في المناصب حتى أصبح رئيساً في المحاكم الأهلية فوكيلاً لنظارة الحقانية، ترجم أمهات الكتب الغربية حتى تتم الاستفادة من خبرات الأوروبيين، مثل كتاب: “أصول الشرائح” للفيلسوف الإنكليزي “بنتام”، وكتاب “الإسلام خواطر وسوانح” ﻟ “هنري دي كاستري”، وكتاب “سر تقدم الإنكليز السكسونيين” ﻟ “ديمولين الفرنسي”، و”سر الاجتماع” و”سر تطور الأمم” ﻟ “غوستاف لوبون”. وإلى جانب ذلك فقد قام بتأليف كتاب “رسائل في القانون” وكتاب “المحاماة”. هذا إلى جانب مجموعة من المقالات طبعت بعنوان: “الآثار الفتحية: مقالات في الأدب والاجتماع”، ساهم مع “أحمد لطفي السيد” في إنشاء جريدة “الجريدة”، وكان عضواً مؤسساً في الجمعية الخيرية الإسلامية، وساهم في وضع نظم المعاهد الدينية الأزهرية.
لكن ما الذي حدث؟ وكيف لشخصية وطنية وصلت إلى درجات العلم هذا أن تسلك طريقاً يمحيها من ذاكرة التاريخ، أن تختار العمالة على الوطنية رغم أنها شخصية قائد وطني وزعيم فذ خالد في ذاكرة العرب والتاريخ والمصريين؟
ربطت أحمد فتحي زغلول علاقة قوية باللورد “كرومر” المندوب السامي البريطاني في مصر، وشارك كقاضٍ في محكمة دنشواي سنة 1906، والتي قضت بإعدام عدد من الفلاحين أمام عائلاتهم، وكان لهذه الحادثة المؤلمة أثرها القاتم على تاريخه وسيرته وأعماله، وإذا ذكر اسمه اقترن بما ارتكبه في دنشواي، حيث آثر التحالف مع سلطات الاحتلال لضمان سرعة الترقي، من هنا بدأت دائرة الربط بينه وبين الاحتلال، متخذاً طريقه الشخصي للاستفادة من سلطات الاحتلال في مصر، فما هي تفاصيل واقعة دنشواي؟
تُعتبر واقعة دنشواي ملحمة تاريخية، جسَّدت شجاعة وبطولة الشعب المصري، والتي كانت الشرارة الأولى لطرد الاحتلال الإنكليزي من مصر، وفي التفاصيل أن ذهب بعض الضباط الإنكليز إلى قرية دنشواي يوم 13 يونيو 1906 لصيد الحمام على الرغم من أنه كان ممنوعاً طبقاً للقانون الإنكليزي آنذاك، وأخذوا يطلقون الأعيرة النارية لصيد الحمام بجوار الأشجار على جانبي الطريق وصولاً إلى قرية دنشواي، فإذا بشرارة إحدى الطلقات تشتعل في جرن الحمام الخاص بمؤذِّن القرية الشيخ محمد عبد النبي، الذي كان يحتوي محصوله من القمح، فاشتعل المحصول، وقد أثار ذلك غضب الأهالي فخاف الضباط الإنكليز، وأطلقوا النيران باتجاه أهالي القرية الثائرين فأصابوا زوجة الشيخ محمد وسقطت قتيلة، فاستشاط أهالي القرية غضباً وخرجوا خلف الضباط الذين ارتعدوا من شدَّة غضب الأهالي، وفرُّوا حتى أُصيب أحدهم بضربة شمس أودت بحياته وهو في طريقه لطلب النجدة من المعسكر الإنكليزي، الذي يبعد حوالي ثمانية كيلو مترات عن القرية، وخلال التحقيقات، اعتبر اللورد كرومر أن ذلك إهانة كبيرة، وأعطى قراراً بنصب المشانق حتى قبل صدور الأحكام، واستمرت المحاكمة ثلاثة أيام، حتى صدر الحكم بإدانة 21 متهماً من أهل القرية، حُكم على أربعة منهم بالإعدام شنقاً في المكان الذي مات فيه الضابط الانكليزي، والسجن والجلد للآخرين، كان تنفيذ الحكم بطريقة وحشية زادت فظاعة المحاكمة، وفاقت كل ما يتصوره العقل، من وسائل الانتقام والتعذيب، وكان أحمد فتحي زغلول شريكاً في إصدار أحكام الإعدام والجلد على فلاحي دنشواي، وعلى إثر ذلك، واتَّخذ الزعيم مصطفى كامل الحادثة دليلاً ضدَّ بريطانيا في المحافل الدولية على ما تقوم به من ممارساتٍ شنيعةٍ ضدَّ الأهالي دون وجه حق، حتى أُفرج عن مسجوني دنشواي عام 1908.
وقال الكاتب الانكليزي جورج برنارد شو: “إذا كانت الإمبراطورية البريطانية تريد أن تحكم العالم كما فعلت في دنشواى.. فلن يكون على وجه الأرض واجب سياسى مقدس وأكثر إلحاحا من تقويض هذه الإمبراطورية وقمعها وإلحاق الهزيمة بها”.
إذاً، هذه الحادثة التي هزّت الشعب المصري، رغم شناعتها والظلم الذي حاق بالمحكومين من أهل دنشواي، لكن أن يشارك ابن مصر في إصدار الأحكام ضد أبناء جلدته، فهو الأمر الجلل أكثر من الحادثة نفسها، ولربما هذا درس لمتسلقي اليوم ممن يدينون بولائهم للمحتلين وللطامعين في البلاد العربية والإسلامية، الذين كانوا شركاء في سفك الدم بطريقةٍ أو أخرى، فكما لفظ التاريخ فتحي زغلول رغم كل عطاءاته، سيأتي يوم ويشيرون بالبنان على هؤلاء المتسلقين الجدد الذين لا يختلفون عن زغلول بشيء، فكم من مجازر كما دنشواي حدث في بلادنا، بوقود عربي من أبناء هذه البلاد نفسها مع شديد الأسف.
بالعودة إلى فتحي زغلول، الذي قضى على عمله وعلمه السابق قبيل واقعة دنشواي، فربما يكون أفضل من أقرانه أو بموازتهم، لكن لسخط العالم منه لم يلتفت له أحد ككاتب رغم ما قدّمه وما تركه، فكان داعياً إلى الليبرالية والديمقراطية، اتسم ذلك من خلال ترجماته، ومنها: “العقد الاجتماعي” ﻟ “روسو” الذي لم يكمل ترجمته، وأشار إلى أن سبب ترجمته لهذا الكتاب توضيح حقوق الأمة والأفراد، مؤكداً على إيمانه بالمذهب الليبرالي عندما قدم ترجمة ﻟ “بنتام”: “أصول الشرائع”، وكان “بنتام” من دعاة الحرية وخاصة الاقتصادية، كما لم يشفع لأحمد فتحي زغلول باشا أنه أسهم في وضع بعض القوانين المصرية وأن هذه القوانين أفادت مما كان له من دراية عميقة وموثقة بالنظم والقوانين المختلفة بدول أوروبية كثيرة وهو ما أهّله ليكون من أفضل المشرعين لما عرف به من الدقة في صياغة التشريعات وفي المؤلفات القانونية، لقد كان من رواد حركة الترجمة في مصر، وكان يرى أن حركة الترجمة تسبق حركة التأليف في نهضة الأمة المصرية، وكان يتقن اللغتين الإنكليزية والفرنسية، كما كان مثقفاً ومفكراً مصرياً متميزاً، وكان من رجال القانون والقضاء النوابغ وكان حرياً بتخليد الشعب له بين مفكريه وأعلامه لو أنه كان قد نجح في اجتياز اختبار اللحظة الفاصلة التي تتمايز فيها معادن الرجال، وقد خسر أحمد فتحي زغلول باشا كل مجده العلمي والقانوني والوطني والثوري حين انحاز ضد الشعب، وفعلاً هذا يعيدنا إلى المربع الأول عندما كان فتحي زغلول ثورياً في بداياته في ثورة عرابي لم تشفع له على الرغم من أنه كان قد فصل من المدارس بسبب نشاطه الثوري، كما كان له فضل كبير في تعريف قراء العربية بكثير من ملامح الفكر الأوروبي الحديث من خلال ترجماته القديرة لأعمال فكرية متميزة، كما أنه أسهم إسهامات قيمة في الأنشطة الاجتماعية والتنويرية، فقد كانت ترجماته أشهر من مؤلفاته.
برزت مساهمات أحمد فتحي زغلول في العمل الأهلي منذ مرحلة مبكرة، فكان عضواً مؤسساً في الجمعية الخيرية الإسلامية مع الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وحسن عاصم، وكان عضواً نشطاً، بل ربما كان أكثر الأعضاء نشاطاً، كما اشترك في تأسيس الجامعة الأهلية، وهذا يعود إلى البيئة التي نشأ فيها، فكان والده (عمدة) إبيانة بكفر الشيخ حالياً، وهو الابن الأصغر للعمدة إبراهيم زغلول، والشقيق الأصغر للزعيم سعد زغلول، تلقى تعليمه الأول في كتّاب قريته، وكان تلميذاً بالمدارس التجهيزية إبان الثورة العرابية، وكان من أبرز الخطباء الذين يحضون على الثورة مقتدين بأستاذهم عبد الله النديم، ثم أكمل تعليمه في أوروبا كما ذكرنا آنفاً، ونال أفضل الوظائف المتاحة لأمثاله فعين أولاً في قلم قضايا الحكومة، ثم عمل في النيابة العامة والمحاكم الأهلية، وقد عمل رئيساً للنيابة بأسيوط، ثم رئيساً لنيابة الإسكندرية، عيّن أيضاً أحمد فتحي زغلول باشا رئيساً لمحكمة المنصورة الأهلية، ونقل رئيساً لمحكمة مصر الابتدائية الأهلية، وهكذا أصبح من أكبر رجال القضاء المصريين، فمن مؤلفاته القانونية، (المحاماة، شرح القانون المدني، التزوير في الأوراق، الآثار الفتحية)، أما أهم المقالات والخُطب، (ماهية اللغة، علموا الأمة، التمدن والحرية والتمدن والتقدم، التمدن والتغريب، إصلاح اللغة العربية)، وإلى جانب ما تم ذكره من ترجماته، فقد ترجم زغلول باشا أيضاً، (الفرد ضد المملكة، لهربرت سبنسر، وجمهورية أفلاطون، والاقتصاد السياسي، لبروجار).
لكن وعلى الرغم من العلامة السوداء في حياة أحمد فتحي زغلول، فقد حظي بتكريم له في الجامعة المصرية حضره عدد كبير من الأدباء والعلماء ورجال القضاء الأهلي، ورجال القضاء الشرعي، وعند وفاته، أقيم له حفل تأبين رسمي في دار الأوبرا الخديوية، واشترك في رثائه عدد من الأمراء والوزراء، ليغادر عن عمر 51 عاماً، كان ليكون عمراً محفوراً في كتب التاريخ لولا السقطة المدوية التي قام بها، ضد أبناء بلدته، فلا يمكن لجلاد أن يكون ضحية، اليوم من خانوا الأوطان كثر، إن كان بالدم أو بالكلمة أو بالولاء العقدي أو السياسي أو الحزبي، فأين الشعوب من العطش والجوع والاستقلالية والحريات، حادثة دنشواي طردت الاحتلال الانكليزي، لكن مجزرة دير ياسين وصبرا وشاتيلا، وقانا، ودير البلح ومئات المجازر الصهيونية والأمريكية بحق الشعوب العربية والإسلامية، لم تطرد المحتل الأمريكي والصهيوني، بسبب عمالة البعض، لم تنصف الشعب العراقي أو السوري أو الليبي واللبناني، وعلى رأسهم القضية الفلسطينية.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان