عبد العزيز بدر عبد الله القطان*
تمثل شخصية أحمد حسين نموذجاً فريداً للقانوني المصلح الذي ارتبطت حياته بتاريخ مصر الحديث في فترة بالغة الحساسية والتعقيد، حيث شهدت البلاد تحولات جذرية على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، لم يكن الرجل مجرد قانوني تقليدي، بل كان مفكراً ومجتهداً ومصلحاً اجتماعياً، جمع بين ثقافة قانونية موسوعية وفهم عميق لطبيعة المجتمع المصري وتحدياته.
تمتد أهمية هذه الشخصية لتشمل جوانب متعددة، بدءاً من دوره في تطوير التشريع المصري، مروراً بمساهماته الفكرية في الجدل الدائر حول الهوية القانونية لمصر، ووصولاً إلى تأثيره البالغ في أجيال متعاقبة من القانونيين والمفكرين.
النشأة والتكوين: بين التراث والحداثة
وُلد أحمد حسين في القاهرة عام 1891، في أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى المثقفة التي كانت تشكل العمود الفقري للنهضة المصرية في تلك الفترة، وقد نشأ في بيئة جمعت بين التمسك بالقيم الإسلامية والانفتاح على الأفكار الحديثة، مما ترك أثراً بالغاً في تكوينه الفكري لاحقاً، تلقى تعليمه الأساسي في المدارس الأميرية، التي كانت قد بدأت تتبنى مناهج تعليمية أكثر تطوراً مقارنة بما كان سائداً في الكتاتيب التقليدية. أظهر منذ صغره نبوغاً واضحاً في المواد الأدبية والشرعية، مما جعله محط أنظار أساتذته الذين شجعوه على متابعة دراسته في مجال الحقوق.
وقد التحق أحمد حسين بمدرسة الحقوق الخديوية عام 1908، التي كانت تعتبر آنذاك منارة للعلم وأهم مؤسسة لتخريج النخبة القانونية والإدارية في مصر. تلقى العلم على يد كوكبة من الأساتذة المصريين والأجانب، الذين نقلوا إليه مختلف التيارات الفكرية القانونية السائدة في ذلك الوقت، كماتميزت هذه الفترة بالصراع الفكري بين أنصار التحديث على النمط الأوروبي والداعين إلى الحفاظ على الأصول الفقهية الإسلامية، وهو صراع سيكون له بالغ الأثر في تكوين رؤية أحمد حسين القانونية لاحقاً.
وبعد تخرجه، سافر إلى فرنسا لاستكمال دراساته العليا، حيث التحق بجامعة باريس التي كانت تعج بالمدارس الفكرية المختلفة. هناك تعمق في دراسة الفلسفة القانونية المقارنة، واطلع على أحدث النظريات في علم الاجتماع القانوني، وقد كانت هذه الفترة حاسمة في صقل شخصيته الفكرية، حيث أدرك أن القانون ليس مجرد نصوص جامدة، بل هو تعبير عن تطور المجتمع وقيمه، كما أتاحت له إقامته في أوروبا فرصة مقارنة النظم القانونية المختلفة، والوقوف على إيجابيات وسلبيات كل منها.
المسيرة المهنية: بين القضاء والتشريع
عاد أحمد حسين إلى مصر عام 1915، لتبدأ مسيرته المهنية التي ستترك أثراً بالغاً في الحياة القانونية المصرية، بدأ عمله قاضياً في المحاكم المختلطة، حيث اطلع مباشرة على إشكاليات التعددية القانونية التي كانت تعاني منها مصر بسبب وجود نظم قضائية متوازية، وقد شكلت هذه التجربة نقطة تحول في تفكيره، حيث اقتنع بضرورة توحيد النظام القضائي وتحرير التشريع المصري من التبعية الأجنبية.
في عام 1920، عُين مستشاراً في وزارة الحقانية (العدل لاحقاً)، حيث شارك في العديد من لجان تعديل القوانين، حيث كان له دور محوري في صياغة عدد من القوانين المهمة، خاصة في مجال القانون المدني والتجاري. تميزت مساهماته بالجمع بين الأصول الفقهية الإسلامية والمقتضيات الحديثة، مع الحرص على ملاءمة النصوص للواقع الاجتماعي المصري، كما كان من أبرز إنجازاته في هذه الفترة مساهمته في تطوير قانون العقود، حيث أدخل مفاهيم جديدة تتعلق بحماية الطرف الضعيف في العلاقة التعاقدية.
ومع صدور دستور 1923، برز دور أحمد حسين كمفكر دستوري، حيث شارك في العديد من المناقشات حول ضمانات استقلال القضاء وحدود السلطات، وقد كانت له آراء جريئة في ضرورة ربط الشرعية الدستورية بالإرادة الشعبية، مع الحفاظ على الثوابت الوطنية، في هذه الفترة أيضاً، بدأ يظهر اهتمامه بقضايا العدالة الاجتماعية، حيث دعا إلى ضرورة تطوير تشريعات العمل وحماية حقوق العمال، في وقت كانت فيه هذه الأفكار تعتبر متقدمة جداً.
الإسهامات الفكرية: نحو قانون وطني متجذر
لا يمكن فهم دور أحمد حسين دون التوقف عند إسهاماته الفكرية التي شكلت مدرسة قانونية متميزة، ففي مؤلفه الشهير “أصول التشريع والفقه المقارن” (1928)، قدم رؤية نقدية للقانون المقارن، داعياً إلى تأصيل القانون الوطني مستنداً إلى عدة ركائز:
أولاً: ضرورة الاستناد إلى الأصول الفقهية الإسلامية مع مراعاة تغير الزمان والمكان. كان يرى أن الفقه الإسلامي يحتوي على مرونة كافية تسمح بالاجتهاد وفق مقتضيات العصر.
ثانياً: أهمية الملاءمة الاجتماعية للتشريع، حيث أكد على أن القانون يجب أن يكون تعبيراً عن حاجات المجتمع وقيمه، وليس مجرد استيراد لنصوص أجنبية.
ثالثاً: الربط بين القانون والعدالة الاجتماعية، حيث دعا إلى ضرورة أن يكون التشريع أداة للإصلاح الاجتماعي وليس مجرد تنظيم للعلاقات بين الأفراد.
وفي كتابه الآخر “القانون والمجتمع” (1935)، طور نظرية متكاملة حول العلاقة الجدلية بين النظام القانوني والتطور الاجتماعي، وقد حلل من خلاله كيف تؤثر التحولات الاقتصادية والاجتماعية في التشريع، وكيف يمكن للقانون بدوره أن يكون أداة للتغيير الإيجابي، وقد كانت هذه الأفكار متقدمة جداً على زمانها، حيث سبقت ظهور علم الاجتماع القانوني في الغرب بسنوات عديدة.
التحديات والصراعات: في مواجهة التيارات المتعارضة
واجه أحمد حسين العديد من التحديات خلال مسيرته، التي يمكن إجمالها في ثلاث جبهات رئيسية:
الجبهة الأولى تمثلت في معارضة التيار التقليدي المحافظ، الذي رأى في بعض آرائه خروجاً على الثوابت، خاصة عندما دعا إلى إصلاح بعض القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية، معتبراً أن بعض الأحكام الفقهية تحتاج إلى إعادة نظر في ضوء المستجدات الاجتماعية.
الجبهة الثانية كانت مواجهة التغريب القانوني، حيث انتقد بشدة أولئك الذين يدعون إلى تبني النظم القانونية الأوروبية دون تمحيص أو تكييف مع البيئة المصرية، كان يرى أن الاستعانة بالتجارب الأجنبية مفيدة، ولكن بشروط أن تخضع للدراسة المقارنة وأن تنسجم مع الهوية الوطنية.
أما الجبهة الثالثة تمثلت في الضغوط السياسية، حيث رفض أن يكون القانون أداة في يد السلطة الحاكمة، دفع ثمن مواقفه هذه عندما تم إبعاده عن بعض المناصب القضائية الرفيعة، لكنه ظل متمسكاً بمبدأ استقلالية القضاء.
الإرث والتأثير: بصمات لا تمحى
رغم رحيله المبكر عام 1946، ترك أحمد حسين إرثاً غنياً لا يزال حياً حتى اليوم. يمكن تتبع تأثيره في عدة جوانب:
في المجال الأكاديمي: شكلت مؤلفاته مراجع أساسية لعدة أجيال من دارسي القانون. ولا تزال العديد من أفكاره حول فلسفة التشريع تدرّس في كليات الحقوق.
في المجال التشريعي: كانت العديد من اقتراحاته حول إصلاح القوانين مصدر إلهام للتعديلات التي جرت في الخمسينيات والستينيات، خاصة في مجالات قانون العمل والأحوال الشخصية.
في المجال الفكري: يعتبر أحد رواد الفكر القانوني المستنير الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وقد استلهمت منه العديد التيارات الإصلاحية لاحقاً.
دروس مستفادة
تقدم سيرة أحمد حسين دروساً بالغة الأهمية للوقت الحاضر. أولها أن الإصلاح القانوني الحقيقي يجب أن ينبع من فهم عميق لطبيعة المجتمع وتاريخه، وثانيها أن المزج بين الأصالة والحداثة ليس فقط ممكناً بل ضرورياً لتطوير أنظمة قانونية فاعلة، وأخيراً، أن دور القانوني لا يقتصر على التطبيق الحرفي للنصوص، بل يشمل المساهمة في بناء نظام قانوني يحقق العدالة ويواكب تطورات العصر.
وفي زمننا هذا، حيث تعيد مصر والدول العربية النظر في أنظمتها القانونية في ظل تحولات إقليمية ودولية كبرى، تكتسي تجربة أحمد حسين أهمية خاصة. فهي تذكرنا بأن تطوير التشريعات يجب أن يسير في اتجاهين متكاملين: تعميق الجذور في التربة الوطنية، وفتح النوافذ على تجارب الآخرين، مع الحفاظ دائماً على المصلحة العامة والعدالة الاجتماعية كمعيار أعلى.
*كاتب ومفكر – الكويت.

