في خضم التحولات الكبرى التي شهدها العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر، تحت وطأة الضغوط الاستعمارية وتحديات التحديث، برزت شخصية خير الدين التونسي (1820-1890) كأحد أبرز رواد الإصلاح القانوني والفكري الذين سعوا إلى بناء جسر بين التراث الإسلامي ومتطلبات العصر الحديث.
ولد هذا الرجل الاستثنائي في القوقاز عام 1820، حيث اختطف وهو طفل من مسقط رأسه في منطقة الشركس، ليباع في سوق النخاسة ويجد نفسه في تونس، التي كانت آنذاك ولاية عثمانية تتمتع بحكم شبه ذاتي، هذه البداية الصعبة لم تمنعه من الصعود إلى قمة الهرم السياسي والفكري، حيث تحول من عبد إلى رئيس وزراء، ومن طالب علم إلى مجدد شرعي وقانوني.
لقد عاش خير الدين في فترة بالغة التعقيد، شهدت فيها تونس – مثل غيرها من الأقاليم الإسلامية – صراعاً وجودياً بين التمسك بالهوية الإسلامية وبين ضرورات التحديث التي فرضتها التفوق الأوروبي المتصاعد. كانت الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تونس جزءاً منها اسمياً، تعاني من تراجع مطرد أمام القوى الأوروبية، بينما كانت النخب المحلية منقسمة بين تيارين: محافظين يرون في كل تغيير خروجاً عن الدين، ومتغربين ينادون بتبني النماذج الأوروبية بكاملها. في هذا المناخ الصعب، قدم خير الدين رؤية ثالثة، حاولت تأسيس مسار إصلاحي متوازن، يحافظ على الأصول الشرعية مع قبول ما لا يتعارض معها من نظم العصر.
كما تتجلى عبقرية خير الدين في كونه جمع بين صفتين نادراً ما تجتمعان، العمق الشرعي والرؤية السياسية الواقعية. تلقى تعليمه التقليدي في جامع الزيتونة، حيث أتقن العلوم الشرعية واللغوية، ثم توسع في دراسة النظم الأوروبية من خلال اطلاعه المباشر على تجارب الإصلاح في أوروبا والعالم الإسلامي، هذه الخلفية المزدوجة مكنته من تطوير رؤية إصلاحية فريدة، تجمع بين الأصالة الإسلامية والوعي بمتطلبات العصر، وهو ما تجلى في كتابه الشهير “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”، الذي يعتبر من أهم الوثائق الفكرية في تاريخ الإصلاح الإسلامي الحديث.
بالتالي، لم تكن جهود خير الدين التونسي نظرية فحسب، بل تمثلت في سلسلة من الإصلاحات العملية التي قادها خلال توليه مناصب رفيعة في تونس ثم في الدولة العثمانية. كرئيس وزراء تونس (1873-1877)، ثم كصدر أعظم للدولة العثمانية (1878-1879)، حيث عمل على تطبيق رؤيته الإصلاحية عبر إجراءات تشريعية وقانونية ملموسة. كان همه الأساسي إثبات أن الشريعة الإسلامية ليست عائقاً أمام التقدم، بل يمكن أن تكون إطاراً مرناً يستوعب المستجدات، إذا ما فهمت وفق مقاصدها الكلية لا وفق جمود النصوص.
وتكمن أهمية دراسة خير الدين التونسي في كونه يمثل نموذجاً للإصلاحي المسلم الذي رفض كلا الخيارين المتطرفين: الرفض المطلق للحداثة، أو القبول المطلق للنموذج الغربي. لقد أدرك مبكراً أن التحدي الحقيقي ليس في الاختيار بين الإسلام والحداثة، بل في كيفية تحقيق التحديث في إطار الإسلام. هذه الرؤية الثاقبة تجعل من سيرته وكتاباته مرجعاً لا غنى عنه لفهم إشكاليات الإصلاح الديني والقانوني التي ما زالت تواجه العالم الإسلامي حتى اليوم.
وفي هذا المقال الذي وددت مشاركته مع كل طالب علم وطالب معرفة ومحب وعاشق لرموز أمتنا، سنحاول تتبع مسيرة هذا الرجل الاستثنائي، بكل تعقيداتها وإنجازاتها، مع التركيز بشكل خاص على إسهاماته في تطوير الفقه القانوني الإسلامي، ومحاولاته الجادة لبناء نموذج تشريعي يجمع بين الثوابت الشرعية والمتغيرات العصرية. كما سنناقش كيف استطاع، في ظل ظروف بالغة الصعوبة، أن يقدم رؤية متوازنة للإصلاح، ترفض الجمود من ناحية، والتبعية الفكرية للغرب من ناحية أخرى، كما سنحاول تقييم إرثه الفكري والسياسي، ومدى إمكانية الاستفادة من تجربته في معالجة التحديات المعاصرة.
بدايةً، يمثل القرن التاسع عشر مرحلة مخاض عسيرة في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث كانت تشهد تحولات جيوسياسية وثقافية عميقة تحت وطأة المد الاستعماري الأوروبي المتصاعد. في هذا المناخ التاريخي الاستثنائي، برزت شخصية خير الدين التونسي كواحد من أبرز المجددين الذين حاولوا صياغة رؤية إصلاحية شاملة تنقذ الأمة من حالة الجمود والتخلف. ولد هذا الرجل الاستثنائي عام 1820 في منطقة القوقاز، تحديداً في قرية تابعة لشركسيا، حيث اختطف وهو في الرابعة عشرة من عمره خلال أحد الغارات التي كانت تشنها القوات الروسية على القرى الشركسية. هذه الحادثة المؤسفة، التي قد تبدو للوهلة الأولى بداية مأساوية، كانت في الواقع نقطة التحول التي قادته إلى مسرح الأحداث الكبرى في التاريخ الإسلامي الحديث. بعد رحلة عذاب في أسواق النخاسة، وصل إلى تونس حيث اشتراه أحد الوزراء، ليكتشف فيه النبوغ والذكاء فيبدأ في تعليمه وتنشئته تنشئة مميزة جمعت بين العلوم الشرعية التقليدية والثقافة العصرية.
في تونس، التي كانت آنذاك ولاية عثمانية تتمتع بحكم شبه ذاتي تحت حكم البايات الحسينيين، تفتحت عيون خير الدين على أزمة الأمة الإسلامية في أبعادها المختلفة. كانت تونس تعاني من أزمات متعددة المستويات: ضعف الإدارة المركزية، تفشي الفساد في أجهزة الدولة، التهديدات الاستعمارية المتزايدة من فرنسا وإيطاليا، الأزمات الاقتصادية الناتجة عن القروض الأجنبية، والانقسامات الاجتماعية بين النخبة الحاكمة وعامة الشعب. في هذا الجو المشحون، بدأ خير الدين رحلته الفكرية والسياسية من أسفل الهرم الاجتماعي، حيث كان عبداً مملوكاً، إلى قمة الهرم السياسي حيث أصبح رئيساً للوزراء ثم صدراً أعظم للدولة العثمانية. هذه المسيرة المدهشة لم تكن مجرد صعود اجتماعي تقليدي، بل كانت رحلة فكرية عميقة جعلته أحد أبرز مجددي الفكر الإسلامي في العصر الحديث.
أما في الجانب الفكري، تميز خير الدين بقدرته الفذة على الجمع بين التكوين الشرعي العميق والاطلاع الواسع على النظم الأوروبية الحديثة. تلقى تعليمه الأولي في جامع الزيتونة، أحد أعرق المؤسسات العلمية في العالم الإسلامي، حيث درس العلوم الشرعية واللغوية على أيدي كبار العلماء. لكنه لم يقف عند حدود التعليم التقليدي، بل انفتح على المعارف الحديثة من خلال اطلاعه المباشر على تجارب الإصلاح في أوروبا والعالم الإسلامي. أتقن عدة لغات أجنبية مكنته من التواصل مباشرة مع الفكر الأوروبي دون وساطة، كما أجرى اتصالات واسعة مع المصلحين المسلمين في مختلف الأقطار. هذه الخلفية المعرفية المزدوجة مكنته من تطوير رؤية إصلاحية فريدة، تجمع بين الأصالة الإسلامية والوعي بمتطلبات العصر، وهو ما تجلى في كتابه الشهير “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”، الذي يعتبر من أهم الوثائق الفكرية في تاريخ الإصلاح الإسلامي الحديث.
وفي الجانب السياسي والعملية، تميزت مسيرة خير الدين بالتوازن الدقيق بين المبادئ والواقعية السياسية. عندما تولى منصب رئيس الوزراء في تونس (1873-1877)، ثم منصب الصدر الأعظم للدولة العثمانية (1878-1879)، عمل على تطبيق رؤيته الإصلاحية عبر إجراءات تشريعية وقانونية ملموسة. كان همه الأساسي إثبات أن الشريعة الإسلامية ليست عائقاً أمام التقدم، بل يمكن أن تكون إطاراً مرناً يستوعب المستجدات، إذا ما فهمت وفق مقاصدها الكلية لا وفق جمود النصوص. في تونس، قاد إصلاحات قانونية مهمة مثل تطوير نظام القضاء، وإصلاح التعليم، وتحديث الإدارة، مع الحفاظ على الهوية الإسلامية للمجتمع. وفي الدولة العثمانية، حاول تطبيق نفس النهج رغم الصعوبات الهائلة التي واجهها بسبب تعقد البنية العثمانية وقوة المعارضة المحافظة.
وما يميز فكر خير الدين الإصلاحي هو رفضه للثنائيات الجاهزة التي حكمت النقاش حول الإصلاح في العالم الإسلامي. لقد رفض الخيار بين التمسك الحرفي بالتراث أو التخلي الكامل عنه لصالح النموذج الغربي. بدلاً من ذلك، قدم رؤية ثالثة تقوم على إعادة اكتشاف المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية وتطبيقها بشكل خلاق على مستجدات العصر. في كتاباته، نجد تركيزاً واضحاً على مفاهيم العدل والشورى والمساواة، التي يرى أنها تمثل جوهر الإسلام السياسي، وأن غيابها هو سبب رئيسي لتخلف المسلمين. في الوقت نفسه، كان واقعياً يدرك أن الإصلاح لا يمكن أن يتم دفعة واحدة، بل يحتاج إلى تدرج وتهيئة الظروف المناسبة.
أما في تقييم تجربة خير الدين التونسي، يمكن القول إنه كان مجدداً حقيقياً حاول إنقاذ الأمة الإسلامية من مأزقها التاريخي عبر رؤية متوازنة تجمع بين الأصالة والمعاصرة. رغم أن كثيراً من إصلاحاته لم تنجح في عصره بسبب مقاومة القوى التقليدية والضغوط الاستعمارية، إلا أن أفكاره ظلت مصدر إلهام للأجيال اللاحقة من المصلحين.
واليوم، في ظل الأزمات التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، تكتسي تجربة خير الدين أهمية خاصة، حيث تقدم نموذجاً للإصلاح المتدرج القائم على التوفيق بين الهوية الإسلامية ومتطلبات العصر الحديث. إن دروس هذه التجربة الثرية ما زالت تنتظر من يستوعبها ويطورها لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.