لم تَعُدِ القضيَّة المروريَّة اليوم عمليَّة مجرَّدة محصورة في المَركبة والطريق والظروف الخارجيَّة، بقدر ما هي منظومة حياة متكاملة، لها أبعادها وقواعدها الأخلاقيَّة والضبطيَّة ومنهجيَّاتها وآليَّاتها وأُطرها التنظيميَّة والأدائيَّة، تتفاعل مع الإنسان في مدخلاتها وعمليَّاتها ومخرجاتها، كما تتأثر بظروفه وصحَّته وسعادته ومعيشته اليوميَّة وكدحه وعنائه ورضاه وسعادته أو ضغوطاته في العمل وبكُلِّ الأمزجة والقناعات والسلوكيَّات والممارسات الَّتي تُشكِّل حياته اليوميَّة، ولذلك اتَّجهت سياسات التطوير والمراجعة للتشريعات والقوانين والإجراءات وفلسفة بنية العمل المروري وممكناته أو سيناريوهات المستقبل في ظلِّ معطيات الذَّكاء الاصطناعي والتقنيَّات المتقدمة، إلى الانطلاقة من أولويَّات رؤية «عُمان 2040» وتأكيد هدف «مُجتمع إنسانه مبدع» والتَّعامل معها يتمُّ في إطار حوارها مع الإنسان قلبًا وقالبًا، وفكرًا ومشاعر، وقدرتها على استيعاب الظروف والمتغيرات الَّتي يعيشها الإنسان العُماني انطلاقًا من إنسانيَّة المرور وعمق التناغم بَيْنَ مُكوِّنات الحالة المروريَّة وسُلوك السائق وقناعاته وعاداته.
وأدركت شُرطة عُمان السُّلطانيَّة ممثلة في الإدارة العامَّة للمرور هذه المعادلة والمتغيرات الَّتي رافقت المنظومة المروريَّة وأهميَّة الانطلاقة في أيِّ توجُّه مروري من البُعد الإنساني؛ لضمانِ قدرة الأُطر والمنهجيَّات والتشريعات والضوابط الَّتي اتخذتها بشأن الحدِّ من الحوادث المروريَّة أو الإعلاء من شأن الالتزام بقواعد المرور في الوصول إلى جوهر القضيَّة وأساس حركتها المفصليَّة وهي الإنسان «مستخدم الطريق» الَّذي باتَ يشكِّل الرقم الصَّعب في نجاح وكفاءة المعادلة المروريَّة وتحقيق معايير السلامة على الطريق، لذلك اتخذت في إطار عمليَّات التقييم والرصد والمتابعة والتشخيص والتحليل اليومي للشأن المروري في سلطنة عُمان المبادرات الجادَّة الَّتي استهدفت تعظيم الحالة المروريَّة باعتبارها حالة إنسانيَّة من الدرجة الأولى وعبر تعزيز إنسانيَّة المرور وترسيخ الممارسة المروريَّة الوقائيَّة والنوعيَّة، وتوجيه العادات المروريَّة إلى صناعة التزام ذاتي في شخصيَّة السائق ومستخدم الطريق وعبر منهج القيادة الوقائيَّة، بحيثُ يجسِّد السائق في فكره وعقيدته المروريَّة في استخدام الطريق وطريقة استخدام المَركبة والتَّعامل مع الازدحام والاختناق المروري والتَّعامل مع المَرافق المروريَّة بروح الإنسان الواعي وأخلاقه، واستنطاق قِيَمه ومبادئه، واستنهاض الوعي والحسِّ المروري في التَّعامل مع تفاصيل الموقف المروري.
لقد كان خلف هذه التوجُّهات الوطنيَّة والسِّياسات والرؤى رؤية أعمق تبرز عُمق الهدف، وتعكس روح التغيير الَّتي يَجِبُ أن تسري في فِقه الشخصيَّة المروريَّة، وتستجيب لها في الواقع اليومي الممارس، ليصنع من السُّلوك المروري قوَّة إيجابيَّة تحفظ هذا الرصيد المروري وتحافظ عليه وتعمل على تثميره وإعادة إنتاجه، وعِندَها يتَّجه الحسُّ المروري إلى إحداث ثورة ذاتيَّة في النفس نابعة عن اقتناع ورغبة، وثقة وشعور ذاتي، يعكس حجم التغيير القادم في العادات المروريَّة، ويحفظ مسار توازنها، بحيثُ يستجيب لهذه الموجهات بطريقة ذكيَّة وفاعلة، ليجسِّد السُّلوك المروري ممارسة أصيلة، فتقوى لدَيْه الضبطيَّة المروريَّة وينهض الحسُّ المروري، ويسمو بثقافته وفكره فوق كُلِّ التَّحدِّيات والإشكاليَّات والممارسات غير المسؤولة الَّتي يشاهدها بأُم عينيه في الطريق من سرعات، وتجاوزات، واستخدام للهاتف في أثناء القيادة، ويصنع من أخلاقيَّات المرور قيمة مضافة في شخصيَّته المروريَّة، ويتحول الهاجس المروري لدَيْه من حالة وقتيَّة تقوى عِندَ وجود رجل الشُّرطة أو باقترابه من جهاز الضبط المروري الثابت والمتنقل، إلى تعزيز الرقابة المروريَّة الذاتيَّة، وتعظيم المواطنة المروريَّة باعتبارها محصَّلة نهائيَّة شاملة لهذا التناغم والتكامل والتفاعل بَيْنَ المسارات التنظيميَّة والبنى المؤسَّسيَّة والتشريعات والإعلام والتوعيَّة والتثقيف وبناء قواعد السلوك المروري المهني والأخلاقي، الَّتي تنعكس على شخصيَّة مستخدم الطريق واتزانه الفكري والانفعالي والعاطفي وحس المسؤوليَّة والذوق الَّذي ينطبع على ممارساته المروريَّة والمواقف المرتبطة باستخدام الطريق وفهم المتغيرات والظروف الَّتي يعمل فيها أو يعيشها. وعِندَها تصبح المواطنة المروريَّة محصَّلة نهائيَّة ناتجة من تفاعل المدركات الحسيَّة والمعنويَّة والمعرفيَّة والمهنيَّة وانصهارها مع الأنظمة واللوائح والقواعد المكتوبة أو المرسومة على الطريق، المسار الَّذي يحفظ خلاله هذه الفرص ويشارك في إنتاجها، ويوظف هذه المدخلات والموجهات الَّتي تحققت للسلامة المروريَّة لصناعة تحول ذي أثر في الواقع.
وتحقيقًا لمعادلة القوَّة في السُّلوك المروري فقد شكلت الخصائص النفسيَّة والفكريَّة والمزاجيَّة للسائق ومستخدم الطريق، أكثر الحالات المؤثرة على السلوك المروري وضبط هذه المتغيرات وتقنينها يحتاج اليوم إلى جملة من الموجهات الَّتي تبدأ من السائق نفسه كما أشرنا إلى بالإضافة إلى امتلاك شُرطي المرور ثقافة مهنيَّة مروريَّة مبتكرة متجدِّدة منتجة من حيثُ أساليب الإقناع واحتواء المواقف المعززة بفلسفة الحدس وحس الفراسة وتقدير الظروف وأسلوب التأثير والاحتواء وحسن التوجيه للسلوك القادم وبناء ضمير داخلي لدى مستخدم الطريق يستشعر فيه بجانب التقدير والاحترام في التَّعامل، نواتج ذلك على سلوكه وإعادة هندسة عمليَّاته الداخليَّة وممارساته وعاداته المروريَّة، وبالتالي فهي ثقافة مسؤولة تلتزم الابتكاريَّة وتتعايش مع مضمون التشريع المروري نفسه المتمثل في قانون المرور الَّذي هو أداة بيد شُرطي المرور عليه أن يتفاعل معه بمهنيَّة ويتعامل مع مواده بوعي ويدرك مسؤوليَّته في نقل صورة المنجز المروري الراقي من أن تشوّهه يد الممارسات البسيطة والمواقف المتشددة، تقرأ فيها مساحات أكبر للاحتواء والتأثير وصناعة التجديد وقراءة التوقعات والتعاطي مع الاستجابات القسريَّة وخلق سلوك جديد يجد فيه مستخدم الطريق فرصته لتغيير العادات أو الممارسات المروريَّة في قادم الوقت، بحيثُ تعكس في مبادئها ومنهجها وأُسلوبها وذوقها ورصانة خطابها وطريقتها في الغوص في نفسيَّة مستخدم الطريق وحضور فرص الثقة في الخطاب وأساليب التعبير ونقل أثر التوجيه؛ مرحلة جديدة ينبغي أن يعيشها شُرطي المرور، فإنَّ ما قدَّمته معهد السلامة المروريَّة من مسارات التدريب والتأهيل وصقل الخبرات وإعادة بناء شخصيَّة شُرطي المرور خير دليل على سُمو الهدف ودقَّة التوجيه وتأكيد القيادة للشُّرطة على حضور مساحات المرونة والمهنيَّة والواقعيَّة وقوَّة الشخصيَّة الشُّرطيَّة وسُمو المنهج الَّذي ينبغي أن يمتلكه شُرطي المرور، فالمعرفة والقراءة والاطلاع والاستماع والإنصات والتريث والانتظار والحزم في غير تعنت والمرونة في غير تسيب والاستماع في غير ضجيج والإنصات في ظلِّ فهم معمق، محددات تصنع ثقافة شُرطي المرور.
إنَّ استدامة الانخفاض في عدد الحوادث المروريَّة المميتة يؤسِّس لمرحلة جديدة في ظلِّ بوادر الارتفاع الَّتي شهدتها الأشهر القليلة الماضيَّة في تجديد عقد الالتزام ورفع سقف معايير إدارة الوضع المروري، وترسيخ معاييره ومساهمة السلوك الجمعي الوطني في إعادة إنتاجه في ظلِّ المعطيات المتجددة، وتبقى هذه الموجهات الإنسانيَّة في السلوك المروري الطريق لممارسة مروريَّة قائمة على مبادئ الهدوء والسكينة والاحترام والثقة والفهم وتعلّم قواعد المرور كاستراتيجيَّة حياة، كما ترفع من فرص ممارسته التأمليَّة لما يحصل في الطريق من نزيف الشوارع فيعزز من التزامه المروري وانضباطه بما يضمن وصوله الرقم صفر في المخالفات المروريَّة الناتجة عن استهتار وإهمال وتسرع في القرار الشخصي، بحيثُ تعمل على توجيه سلوكه المروري بشكل أكثر نضجًا ومصداقيَّة مصحوبًا بإرادة ذاتيَّة ورغبة نابعة من استشعاره بمسؤوليَّاته، وإدراكه لحجم المآسي الناتجة من حوادث المرور.
أخيرًا، يبقى شعور سائق المركبة بمسؤوليَّته في استخدام الطريق، وأنَّ هذا الحق الَّذي حصل عليه باستخدام الطريق وحصوله على رخصة القيادة، ينبغي أن يقابله استحقاقات وجوب التزامه بالمعايير والأخلاقيَّات، الَّتي تقيه مخاطر الطريق أو سوء استخدامه له، وأي ممارسة تتجافى ومنبع الفضيلة وقوامة السلوك، فيقوى جانب الوعي وينمو ضمير المسؤوليَّة، وتتسامى الأخلاق فوق ممارسات الشيطنة والسرعة والتهور والتفحيط، ويجد العقل والقلب في ذلك فرصتهما للتأمل والنَّظر في التخلي عن نزعات النَّفس السلبيَّة الَّتي لا تستمع لتوجيه أو تستجيب لداعٍ. محطَّات ملهمة لصناعة المواطنة المروريَّة الَّتي تستشعر الجهود الَّتي تقوم بها الإدارة العامَّة للمرور، في تأصيل ثقافة مروريَّة مستدامة، تتفاعل مع المعطيات الحاصلة في منظومة النقل والطرق والمركبات، والتشريعات والأنظمة واللوائح النافذة، ومستجدات التقنيَّة المروريَّة والوسائط المستخدمة فيها، بحيثُ يدرك خلالها السائق مسؤوليَّته الشخصيَّة في ظلِّ بيئة مروريَّة آمنة مطمئنة تتجه به نَحْوَ بر الأمان، في ظلِّ مواصفات محدَّدة ومعايير أداء، تضع النقاط على الحروف، تدرك موضع الخطر فتشخّصه، وتعي مكمن القوَّة فتستثمر في ترسيخ مبادئها وتعميق استراتيجيَّتها وفْقَ أنظمة أمان محفَّزة تقترب من سعادة الإنسان كُلَّما تحقق منه التزامًا، أو أدرك في سلوكه مسؤوليَّة.
د.رجب بن علي العويسي
