يشهد العالم العربي أزمة صامتة تتسلل إلى عمق أنظمته التشريعية والعدلية، أزمة ليست وليدة يوم أو صدام مؤقت بين القديم والجديد، بل هي تراكم فكري وتاريخي نتج عن قرون من التبعية القانونية والاغتراب الثقافي.
وحين نتحدث عن أزمة المرجعية القانونية، فإننا لا نقصد فقط تضارب النصوص أو تعدد مصادر التشريع، بل نعني فقدان الروح التي كانت تمنح القانون معناه الأخلاقي والإنساني في الحضارة الإسلامية، تلك الروح التي كانت تربط بين النص والضمير، وبين المصلحة العامة ومقاصد الشريعة، فاستبدلت اليوم بنماذج غربية غريبة عن البيئة العربية الإسلامية، فرضت من الخارج أو استوردت تحت لافتة التحديث والعولمة التشريعية، فأنتجت قوانين بلا هوية وعدالة بلا جذور.
وفي شرح مبسط، لقد كان القانون في أصله انعكاساً لمنظومة القيم التي يحملها المجتمع، لا مجرد نص جامد على الورق، ففي التاريخ الإسلامي، لم يكن الفقيه مجرد ناقل للحكم بل كان مفكراً يحلل الواقع ويوازن بين المصلحة والعدالة، ويُعمل مقاصد الشريعة قبل أن يُعمل ظاهر النص، لقد كان القاضي يحكم بعقله وروحه معاً، يزن العدالة بميزان الإنسان قبل ميزان النص، ولذلك نشأ فقه واسع للمعاملات والحدود والعقود والأموال يعبر عن تنوع الحياة الإسلامية دون أن يفقد تماسكه المرجعي، أما في التجربة العربية الحديثة، فقد تم تقويض هذا النموذج منذ بدايات القرن التاسع عشر حين خضعت الأنظمة القانونية لتأثير القانون الفرنسي والإنكليزي، لا بوصفها أدوات تنظيمية، بل كبدائل كاملة عن النظام الفقهي الإسلامي، وبهذا بدأت مرحلة “تغريب العدالة”.
وبالإشارة إلى ما حدث في مصر في عهد محمد علي، ثم في تونس والمغرب لاحقاً، كان انتقالاً ممنهجاً من “الاجتهاد الفقهي” إلى “النسخ القانوني”، ومن المرجعية المقاصدية إلى المرجعية الوضعية، فقد استُبدل الفقيه بالمشرع الوضعي، والقاضي بالمحكِّم الإداري، وأصبحت العدالة تُقاس بمعايير الصياغة القانونية لا بمعايير الأخلاق العامة. أدّى هذا التحول إلى انفصام بين القانون والمجتمع، لأن النصوص التي سُنّت لم تكن نتاج تطور اجتماعي محلي، بل جاءت كترجمة لقوانين أجنبية لا تراعي الخصوصية الثقافية أو الدينية، وهكذا أصبح المواطن العربي يعيش في منظومة قانونية “هجينة”، فيها مصطلحات غربية وأحكام إسلامية وتفسيرات سياسية، مما جعل العدالة تفقد معناها التاريخي.
ومن الأمثلة الصارخة والدالة على هذا الاغتراب القانوني، ما نراه في قوانين الأحوال الشخصية التي جرى فيها التوفيق القسري بين الشريعة الإسلامية والمفاهيم الغربية للأسرة، ففي مصر على سبيل المثال، تداخلت قوانين الزواج والطلاق والنفقة مع مفاهيم “الحرية الفردية” المستوردة من القانون الفرنسي، بينما بقيت بعض النصوص الإسلامية في الشكل دون أن تؤثر فعلاً في روح التشريع، وفي تونس أيضاً، بعد الاستقلال، سعت السلطة إلى إلغاء تعدد الزوجات ومنع الطلاق إلا بحكم قضائي بحجة “تحرير المرأة”، وهو ما أثار جدلاً فقهياً واسعاً بين علماء الزيتونة الذين رأوا أن هذا التحول ليس سوى نزع تدريجي لمرجعية الشريعة من بنية المجتمع، أما في بعض دول الخليج العربي، فقد تم تبني تشريعات تجارية غربية بالكامل بدعوى مواكبة الاقتصاد العالمي، مع إهمال أي اجتهاد فقهي في المعاملات المالية الإسلامية، وكأن التجربة المصرفية الإسلامية لا تمت بصلة إلى النظام القانوني الوطني.
من هنا، لقد نبه العديد من المفكرين العرب إلى خطورة هذا المسار منذ عقود، فالدكتور محمد عمارة، رحمه الله تعالى، رأى أن أخطر ما أصاب الأمة هو “تفريغ النص القانوني من محتواه القيمي”، لأن القانون في الإسلام ليس مجرد تنظيم للسلوك بل هو تجسيد للعقيدة في الواقع، كما أشار المفكر التونسي الطاهر بن عاشور بدوره إلى أن المقاصد الشرعية ليست مقصورة على الفقه بل يجب أن تكون قاعدة في التشريع المدني والجنائي والدستوري، وإلا فإن الدولة ستفقد عدالتها، بينما رأى الفقيه عبد القادر عودة أن القوانين الغربية، مهما بلغت من الدقة، لا يمكن أن تحقق العدالة إذا لم تكن مستمدة من فهم إنساني للمجتمع الذي تُطبق فيه، لأن “العدالة المجلوبة” لا تعيش خارج بيئتها.
من جهة أخرى، فإن العولمة التشريعية التي تفرضها المؤسسات الدولية زادت من عمق الأزمة، فالاتفاقيات الأممية ومنظمات التجارة وحقوق الإنسان باتت تملي على الدول العربية نماذج محددة للقوانين، تُقدَّم بوصفها معايير عالمية، بينما هي في الواقع أدوات لضبط السلوك القانوني للدول ضمن منظومة فكرية ليبرالية لا تعترف بالخصوصيات الدينية، وقد تم إدراج مبادئ “المساواة المطلقة” و”الحرية الفردية” و”الاستقلال التشريعي عن المرجعية الدينية” في نصوص الدساتير الجديدة في أكثر من بلد عربي، تحت ضغط المنظمات الدولية، ما جعل القانون يتحول من أداة تعبير عن الإرادة الوطنية إلى أداة خضوع للنظام العالمي.
وهنا تبرز المعضلة الكبرى: كيف يمكن أن تكون للدول العربية هوية قانونية في ظل هذا التبني الكامل للنماذج الغربية؟ الهوية القانونية لا تُبنى بالنصوص وحدها، بل بالفكر القانوني الذي يوجهها، هذا الفكر القانوني العربي اليوم يعاني من ضعف في التأصيل وانقطاع في التواصل مع تراثه، فالجامعات تُدرّس النظريات الغربية في القانون الدستوري والمدني والجنائي دون ربطها بالفقه الإسلامي، والباحثون يتحدثون عن “المنفعة العامة” و”الحقوق الفردية” بمفاهيم فلسفية لا تتناسب مع القيم الجماعية للمجتمع العربي، بالتالي إن هذه الهوة بين التعليم القانوني والواقع الاجتماعي تُنتج قضاة ومحامين ومشرعين يطبقون القانون وكأنه لغة أجنبية لا ينتمون إليها.
ومن ناحية أخرى، فإن الأنظمة السياسية العربية كثيراً ما استغلت هذا الفراغ المرجعي لفرض قوانين تخدم مصالحها لا مصالح العدالة، فغياب المرجعية الفقهية الواضحة جعل التشريع أداة بيد السلطة التنفيذية، وأضعف دور القضاء المستقل، وفي كثير من البلدان، القوانين تُعدَّل بين ليلة وضحاها بقرارات فوقية، دون مراعاة لمبدأ استقرار النص أو احترام المذاهب القانونية المحلية، وهذا بحد ذاته تعبير عن أزمة هوية قانونية حقيقية.
ورغم كل ذلك، فإن الحل لا يكمن في رفض القوانين الغربية جملة وتفصيلاً، بل في القدرة على “توطين” المفاهيم القانونية وتكييفها مع مقاصد الشريعة وروح المجتمع، فكما نجح الفقهاء الأوائل في استيعاب النظم الإدارية والاقتصادية الفارسية والبيزنطية ضمن إطار إسلامي، يمكن اليوم تطوير تشريعات مدنية وتجارية حديثة تنطلق من فلسفة العدالة الإسلامية لا من القوالب الأوروبية التي يمكن تسخيرها لما يخدم الوضع لا الاعتماد عليها بشكل كلي، ما يعني أنه يجب أن يعود الاجتهاد القانوني إلى ساحة الفكر، لا بوصفه منافساً للتشريع الوضعي، بل مكملاً له وموجهاً لروحه.
وبصفتي القانونية، إن رأيي القانوني في هذا السياق هو أن أزمة المرجعية القانونية في العالم العربي ليست أزمة نصوص بل أزمة وعي ولطالما تحدثت عن ذلك في الكثير من المناسبات، لقد تماهى المشرع العربي مع فكرة أن التقدم مرتبط بتقليد الغرب، ففقد القدرة على الإبداع التشريعي المستقل، كما لا يمكن أن نعيد للعدالة معناها إلا إذا أعدنا بناء التعليم القانوني على أساس مقاصدي، يدمج بين الفقه والشريعة من جهة، والفكر الحقوقي الحديث من جهة أخرى، كما يجب أن يُعاد النظر في فلسفة القضاء لتكون أكثر ارتباطاً بالإنسان لا بالنص الجامد، لأن العدالة التي لا تُشبع الضمير لا تملك شرعية البقاء، وإن إصلاح المنظومة القانونية يبدأ من الاعتراف بأننا لسنا مضطرين أن نكون نسخة من أحد ويجب أن يكون لنا هويتنا الخاصة بنا كمجتمع عربي وإسلامي، وأن القوانين العادلة تنبع من الذات الحضارية لا من المراسيم الدولية.
وإذا كان المقال القانوني يسعى إلى التوعية، فإن رسالتي للمجتمع، بكل مكوناته، أن العدالة ليست من اختصاص المحاكم وحدها، بل هي مسؤولية فكرية وثقافية، وحين يعي المواطن أن القانون يجب أن يعبر عن قيمه لا أن يفرض عليه من الخارج، حينها فقط يمكن أن تتشكل إرادة جماعية للمطالبة بتشريعات تعكس هويته، الوعي القانوني الشعبي هو الدرع الأول ضد التغريب، لأن المجتمع الذي يفهم معنى العدالة لا يُخدع بشعارات الحداثة القانونية الزائفة.
وإن العدالة العربية اليوم في حاجة إلى نهضة فكرية قبل أن تكون في حاجة إلى إصلاح تشريعي، نهضة تُعيد وصل ما انقطع بين النص والضمير، بين القانون والمقاصد، بين الإنسان وهويته، فالقانون بلا جذور هو كالشجرة بلا أرض، قد تُزهر في موسم لكنها لا تصمد أمام الرياح العاتية، وإذا أردنا أن نعيد للعدالة معناها العربي والإسلامي الأصيل، فعلينا أن نحرر القانون من اغترابه، وأن نعيد إليه صوته الذي خفت وسط ضجيج العولمة، صوت الفقيه الذي يقول: إن العدل هو أساس المُلك، لا بعبارة القانون، بل بروح الإنسان.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان
مستشار قانوني – الكويت
