يرى الفكر الإنساني منذ القدم أن العقوبة ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لتحقيق العدل وحماية المجتمع وضمان استقراره، إلا أن تخيّل هذه الوسيلة، من حيث أهدافها ووظيفتها، قد تطور عبر الزمن بتطور المجتمعات وتبدل حاجاتها، وفي الفقه الإسلامي، وُضعت العقوبة في إطار مقاصدي دقيق يجعلها جزءاً من منظومة القيم والرحمة، أما في الفكر القانوني نجد أن الحديث يحوي تيارات متباينة، أوضحها العدالة الإصلاحية التي تسعى إلى إعادة تأهيل الجاني بدلاً من الاقتصار على معاقبته، وبين هذا وذاك، تتشكل رؤية متوازنة ترى في العقوبة مزيجاً من الردع والإصلاح، تنطلق من فلسفة شرعية عميقة وتلتقي مع الوعي الإنساني المعاصر في هدفه الأسمى: حفظ الكرامة البشرية وتحقيق الأمن العام.
ومن ثم جاءت الشريعة الإسلامية بأحكام العقوبات لتسد منافذ الفساد وتدرأ المفاسد عن المجتمعات الإسلامية، لكنّها لم تجعلها أداة للانتقام أو التشفي، بل وسيلة تربوية تهدف إلى ردع المعتدي وصيانة الحقوق وتحقيق الإصلاح في المجتمع، قال تبارك وتعالى: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون”، وهذه الآية هي لبّ فلسفة العقوبة في الإسلام، إذ تُظهر بجلاء أن القصاص لا يراد به إزهاق الروح، بل حفظها، وأن الردع فيها حياة لا موت وبالأحرى والمعنى الأدق إصلاح الإنسان، فالحكمة ليست في القسوة، وإنما في إقامة العدل وتذكير المجتمع بقدسية النفس وحرمة التعدي عليها.
وبالنظر في مقاصد العقوبة في الفقه الإسلامي، نجد أنها تدور حول ثلاثة مرتكزات كبرى وهي: تحقيق الردع العام والخاص، والزجر عن الجريمة، ثم إصلاح الفرد والجماعة، فالردع العام يهدف إلى بث الخوف المشروع في نفوس الناس لئلا يقدموا على ارتكاب ما حرّم الله تبارك وتعالى، والردع الخاص يمنع الجاني نفسه من تكرار فعله، أما الإصلاح فهو الغاية النهائية، إذ لا يراد من العقوبة أن تبقى في دائرة الألم فقط، بل أن تفتح باب التوبة والتطهير، وقد أدرك فقهاء المسلمين هذا المعنى مبكراً، فأكدوا أن الحدود، رغم صرامتها، تسقط بالشبهات وتُدرأ حيث يوجد مجال للرحمة فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: “ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم”، وفي هذا تأكيد على أن المقصد ليس التنفيذ بقدر ما هو الإصلاح والتحذير.
ومما يدل على عمق النظرة الإصلاحية في الفقه الإسلامي أن العقوبة فيه ليست واحدة، بل تتنوع بتنوع المقاصد والظروف، فهناك الحدود التي تمثل حماية للمجتمع من الجرائم الكبرى كقتل النفس والزنا والسرقة، وهناك القصاص والدية التي تجمع بين العدل والتسامح وقد ذكرنا هذه الأمور تفصيلياً في مقالات سابقة، وهناك التعزير الذي يترك تقديره للحاكم أو القاضي وفق مصلحة الناس وحال الجاني، وهذا التنوع التشريعي يمنح النظام العقابي الإسلامي مرونة بالغة تتيح له التوفيق بين الردع والرحمة، وبين الزجر والإصلاح، فالقاضي في باب التعزير مثلاً قد يرى أن العقوبة المثلى ليست الجلد أو السجن، بل التوجيه أو التعليم أو الخدمة الاجتماعية، تحقيقاً للمصلحة العامة ومراعاةً لظروف المذنب.
وعلى المقلب الآخر، نجد أن الفكر القانوني الحديث مر بمراحل متعددة في نظرته إلى العقوبة، فقد كانت المدرسة الكلاسيكية ترى أن العقوبة هي ردّ فعل اجتماعي على الجريمة، غايتها الأساسية الردع العام وتحقيق العدالة الجزائية، أي أن الجاني ينال ما يستحقه جزاءً لفعلته، ثم جاءت المدرسة النفعية التي ركزت على فاعلية العقوبة في منع الجريمة قبل وقوعها، لكن في القرن العشرين شهد بروز تيار جديد يُعرف بـ “العدالة الإصلاحية” أو “العدالة التصالحية”، وهو اتجاه يهدف إلى إعادة إدماج المذنب في المجتمع من خلال معالجة أسباب الجريمة لا الاكتفاء بعقاب نتائجها.
كما تقوم العدالة الإصلاحية على مسألة مهمة وهي أن فلسفة أن الجريمة ليست مجرد انتهاك للقانون، بل خلل في العلاقة بين الأفراد والمجتمع، وأن إصلاح هذا الخلل يتطلب تعويض المتضرر وإعادة تأهيل الجاني في آنٍ واحد، ومن هنا ظهرت برامج “الوساطة” و”المصالحة” بين الجاني والضحية، وجرى اعتماد بدائل عن السجن مثل الخدمة العامة أو الإشراف القضائي أو برامج العلاج النفسي والسلوكي، فالمجتمعات الحديثة أدركت أن السجون وحدها لا تكفي لإصلاح الإنسان، بل قد تزيده انغلاقاً وعدوانية إذا غاب البعد الإنساني في العقوبة.
وعند المقارنة بين هذه الفلسفة الحديثة ومقاصد الشريعة الإسلامية، نلاحظ تقاطعاً جوهرياً في المفهوم الإنساني للعقوبة، فالإسلام سبق الفكر القانوني الحديث في اعتبار الإنسان محور التشريع وهدف الإصلاح. ولعل قول نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم في شأن المرأة المخزومية التي سرقت حين قال: “والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”، يجسد مبدأ المساواة أمام العدالة، لكن تطبيق الحدود كان مقيداً بضمان العدالة والتحقق من الشروط، بل إن الإسلام فتح باب العفو والتوبة قبل إقامة الحد، ليمنح الإنسان فرصة التغيير. وفي ذلك ما يشبه فلسفة العدالة الإصلاحية في منح الجاني طريقاً للعودة إلى المجتمع دون وصمٍ دائم.
كما أن مبدأ التعويض ورد المظالم في الفقه الإسلامي يمثل لبّ العدالة التصالحية الحديثة، ففي باب الديات مثلاً، يُعوض أولياء الدم بالمال بدلاً من القصاص إذا أرادوا العفو، وهو شكل من أشكال المصالحة التي تحقق العدالة والرحمة معاً، والهدف ليس الانتقام، بل إعادة التوازن الاجتماعي والنفسي بين الجاني والمجني عليه، وإطفاء جذوة الثأر والضغينة.
ولم يخلُ التراث الفقهي من إشارات واضحة إلى أهمية تهذيب النفس ومعالجة دوافع الجريمة. فقد رأى الإمام الغزالي أن العقوبة في جوهرها “زجر للمذنب وإصلاح لقلبه”، بينما أكد ابن القيم أن “العقوبة رحمة من الله بعباده، لأنها تردع الجاني وتطهره وتصلح غيره”. وهذه النظرة الرحيمة تتجاوز مفهوم الردع المادي إلى إصلاح الباطن الإنساني، وهو ما تسعى العدالة الإصلاحية الحديثة إلى تحقيقه بوسائل معاصرة.
ومع ذلك، يجب ألا يُفهم من الطرح الإصلاحي أن الردع لم يعد ضرورياً، فبدون هيبة القانون لا يتحقق الأمن ولا تردع النفوس المائلة إلى الفساد. فالإسلام لم يُلغِ الردع بل جعله أساساً من أسس الإصلاح. إن إقامة الحد في العلن مثلاً تحمل رسالة رمزية للمجتمع كله بأن الجريمة لا تُقبل، وأن القانون فوق الجميع. والردع هنا ليس مجرد تخويف، بل توكيد على العدالة وسيادة النظام، في حين يأتي الإصلاح ليعالج الجذور الاجتماعية والنفسية للجريمة.
وفي هذا السياق، يبدو أن الجمع بين الردع والإصلاح هو الطريق الأمثل لأي نظام عقابي متوازن. فالتجارب الحديثة أثبتت أن التشدد في العقوبة دون برامج إصلاحية لا يؤدي إلا إلى تراكم الغضب والانحراف داخل السجون، بينما التراخي باسم الإصلاح وحده قد يشجع على الجريمة ويضعف هيبة العدالة. لذلك، فإن الرؤية الفقهية الإسلامية، التي تجمع بين الحزم والرحمة، تمثل نموذجاً يمكن استلهامه لتقويم الأنظمة القانونية المعاصرة.
ومن الأمثلة الواقعية التي تؤكد نجاح هذا التوازن، ما قامت به بعض الدول الإسلامية من اعتماد بدائل للعقوبة الحبسية مثل العمل التطوعي أو برامج إعادة التأهيل للمذنبين في الجرائم البسيطة، وهو توجه يعكس روح التعزير في الفقه الإسلامي، الذي يتيح للقاضي مراعاة شخصية الجاني وسلوكه وإمكانية إصلاحه. وفي المقابل، لا تزال بعض التشريعات الحديثة تسعى إلى دمج قيم العدالة التصالحية في قوانينها، مثل كندا ونيوزيلندا، حيث تُمنح الفرصة للضحايا للتعبير عن مشاعرهم، ويُلزم الجاني بالمشاركة في إصلاح الضرر الذي تسبب فيه.
ومن الزاوية الاجتماعية، فإن توعية الناس بفلسفة العقوبة ضرورة ملحّة في مجتمعاتنا. فكثيرون ينظرون إلى العقوبة بوصفها انتقاماً أو إذلالاً، بينما هي في جوهرها تربية وتطهير وردع منظم. إن نشر الوعي بفهم العقوبة كوسيلة لإصلاح المجتمع لا لهدمه، يسهم في تعزيز ثقافة القانون والانضباط، ويزرع في النفوس الإيمان بأن العدالة ليست قسوة، بل مسؤولية جماعية لحماية القيم والحقوق. فعندما يدرك المواطن أن العقوبة تهدف إلى تقويم السلوك لا إلى الانتقام، يصبح شريكاً في تطبيقها والدفاع عنها.
ومن هنا، إن العقوبة لا يمكن أن تكون فعّالة إلا إذا جمعت بين الردع والإصلاح، بحيث تُوازن بين هيبة النظام وحاجات الإنسان. فالتشريعات التي تركز على الردع فقط تُنتج مجتمعات خائفة لكنها غير صالحة، في حين أن القوانين التي تفرط في التسامح باسم الإصلاح تفقد قدرتها على فرض النظام. المعيار الحقيقي هو العدالة المقاصدية التي تجعل الإنسان غاية القانون لا وسيلته، وتربط العقوبة بهدفها الأخلاقي والاجتماعي معاً. لذا أدعو إلى تطوير منظومة العدالة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بما يدمج قيم الشريعة في فلسفة العدالة الإصلاحية الحديثة، لتكون العقوبة باباً للعودة لا سجناً أبدياً للإنسان.
بالتالي إن مثل هذه المقالات والبحوث تسعى إلى توعية المجتمع بأن العدالة ليست حكراً على المؤسسات القضائية، بل هي ثقافة يجب أن تتجذر في وعي الناس. حين يفهم المواطن أن إصلاح الجاني جزء من أمنه الشخصي وسلام مجتمعه، يصبح هو نفسه جزءاً من منظومة الردع والإصلاح، فالعقوبة، كما أرادها الإسلام وكما تتجه نحوها الفلسفات الحديثة، ليست فقط لتصحيح الجريمة الماضية، بل لبناء مستقبل أكثر عدلاً وإنسانية.
وهذا يقود إلى أن العقوبة في الإسلام وفي الفكر الإنساني المتطور ليست أداة قمع، بل وسيلة تربية اجتماعية تحفظ التوازن بين الحرية والمسؤولية، فالإصلاح لا يكتمل إلا بالردع، والردع لا يثمر إلا إذا اقترن بالرحمة، إن الموازنة بينهما هي ما يصنع العدالة الحقة، ويحول العقوبة من مجرد إجراء قانوني إلى فعل حضاري ينهض بالمجتمع أخلاقياً وسلوكياً، تلك هي رسالة الفقه الإسلامي الخالدة، وتلك هي الغاية التي ينبغي أن تسعى إليها العدالة المعاصرة في زمن تتسع فيه الجريمة وتضيق فيه الرحمة.
عبد العزيز بدر عبد الله القطان
مستشار قانوني – الكويت.
