قمة بغداد للتعاون والشراكة (قمة دول الجوار العراقى) التى عقدت فى العاصمة العراقية فى الثامن والعشرين من أغسطس الفائت بمشاركة 9 دول منها 5 دول مجاورة للعراق، إضافة إلى ثلاث دول عربية غير مجاورة للعراق هى مصر والإمارات وقطر ودولة أوروبية هى فرنسا، بينما تم عن عمد تغييب سوريا، قدمت مدخلاً مهماً لحل الأزمات الساخنة المتفجرة على المستويين العربى والإقليمى الشرق أوسطى عبر ما يُعرف بـ “سياسة تبريد الأزمات” التى جرى الانخراط فيها مباشرة بين العديد من الأطراف العربية والإقليمية التى شاركت فى تلك القمة ومنها الطرفين الإيرانى والتركى اللذين شاركا بحضور وزيرى الخارجية.
حصلت لقاءات ثنائية مهمة على هامش تلك القمة كان أبرزها اللقاء المصرى – القطرى، واللقاء الإماراتى- القطرى، واللقاء الإماراتى – الإيرانى، وقدمت هذه القمة رسالتين عراقيتين مهمتين للأطراف المشاركة فى القمة وأطراف أخرى يهمها أمر العراق . جاءت الرسالة الأولى على لسان رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمى أكد فيها على رفضه أن “تستخدم الأراضى العراقية ساحة للصراعات الإقليمية والدولية (كان يعنى الصراع الأمريكى- الإيرانى)، ورفضه أن يكون العراق منطلقاً للإعتداء على جيرانه من أى جهة كانت”. أما الرسالة الثانية فجاءت على لسان وزير الخارجية فؤاد حسين عقب انتهاء تلك القمة أكد فيها أن العراق “استطاع فتح مجال للعمل المشترك فى المحيط الإقليمى عبر الحوار بدل الصراعات”، ومشدداً على أن “استقرار العراق يعنى استقرار المحيط الإقليمى والمنطقة بأكملها”.
لكن كانت هناك رسالة ثالثة صامتة ظاهرياً وصاخبة واقعياً تقول : وأين سوريا من هذا كله؟ هل لسوريا نصيب من تجريب سياسة “تبريد الأزمات”؟ هل يمكن التوجه لوقف أن تكون سوريا ساحة للصراعات الإقليمية والدولية خاصة : الإسرائيلية – الإيرانية، والأمريكية – الروسية؟ وهل يتصور أحد أن يعود الأمن والاستقرار الإقليمى فى ظل استمرار الغليان السورى؟ وهل يتصور أحد أن يستقر “الحال العربى المأزوم” مع بقاء سوريا مأزومة؟
يبدو أن الرسالة السورية سواء كانت صامتة أو صاخبة قد وصلت إلى أطراف كثيرة معنية، وبدأت تعبر عن نفسها عبر مسارات متعددة، قد لا تكون مرتبطة ببعضها، لكنها فى مجملها تقود نحو تجديد فتح ملف الأزمة السورية، على هدى من مخرجات إيجابية لملفات أخرى ساخنة بدأت تشهد ولوجاً عن مسار التهدئة والحل من أبرزها الانتكاسة الكبيرة التى واجهت الولايات المتحدة فى أفغانستان وأخذت تفرض تداعياتها الهائلة .
الحدث الأفغانى كانت له أصداؤه القوية فى قمة جوار العراق المشار إليها: حضرت فرنسا وغابت أمريكا، وأخذ سؤال موعد الرحيل الأمريكى عن العراق يتردد، ولو بصمت فى أروقة تلك القمة. فهل يمكن أن يكون للفرار الأمريكى من أفغانستان أصداؤه فى سوريا؟ هل سيفكر الأمريكيون فى الانسحاب من سوريا وقبلها من العراق، وعندها ستفرض حتماً هندسة جديدة لخرائط التحالفات والصراعات فى المنطقة .
من تلك الأحداث القريبة أيضاً التى دعمت مسار التهدئة للأزمات الإقليمية أو تبريدها وحفزت الدفع لسؤال: ما هو نصيب سوريا من تلك السياسة كانت النجاحات والمصالحات التى تحققت على هامش قمة جوار العراق من كسر للحواجز النفسية السلبية المتراكمة على العلاقات بين كثير من الأطراف عربية كانت أو إقليمية (إيران وتركيا)، وجاء السؤال المهم يقول: هل يمكن أن تتصالح هذه الأطراف العربية والإقليمية فى سوريا؟ هل يمكن النأى بسوريا عن كل تلك الصراعات؟
على هدى من هذه التطورات جاءت أربعة تطورات مهمة تدفع بالإجابة على تلك الأسئلة بـ “نعم” نشير إليها هنا فى عجالة انتظاراً لتحليل أكثر عمقاً لكل منها.
التطور الأول، جاء اختراقاً لحاجز الصمت العربى حول سوريا، عبر البوابة اللبنانية، ومن خلال طرفين عربيين مهمين كان لهما الدور الأبرز فى كسر حاجز الصمت حول العراق هما مصر والأردن. فإذا كانت الشراكة المصرية- الأردنية مع العراق قد فتحت أبواب العراق أمام أطراف أخرى عربية وإقليمية كى تعيد حساباتها مع العراق انطلاقاً من الرسالتين الواردتين على لسان كل من رئيس الحكومة ووزير الخارجية العراقيين، فإن مصر والأردن أسستا لما يمكن تسميته بـ “تطبيع عربى جديد مع سوريا”، بغض النظر عن وجود ضوء أخضر أمريكى صريح، لتنشيط هذه الآلية من بوابة حل أزمة الطاقة فى لبنان التى كادت تهدد الأمن والاستقرار اللبنانى بعنف . فعلى الرغم من أن الموافقة أو الضوء الأخضر الأمريكى لقبول نقل الغاز المصرى والكهرباء الأردنية إلى لبنان جاءت تحسباً لمنع إيران من أن تحظى بـ “دور البطولة” لحل هذه الأزمة عبر نقل النفط الإيرانى إلى لبنان عبر الأراضى السورية من خلال ناقلات تنقل النفط من إيران إلى ميناء بانياس السورى ومنه ينقل براً إلى لبنان، وعلى الرغم من أن الموافقة الأمريكية جاءت عبر شروط كثيرة تهدف إلى منع سوريا من الاستفادة سياسياً من هذه الخطوة، وبالذات منع جعل هذه الخطوة مدخلاً لتطبيع عربى أوسع للعلاقة مع سوريا، وخاصة الشرط القائل “عبر سوريا وليس عبر دمشق” أى جعل سوريا مجرد ممر لنقل الكهرباء الأردنية والغاز المصرى إلى لبنان إلا أن لبنان أخذ خطوة جسورة بإرسال وفد سياسى عال المستوى إلى دمشق لبحث ذلك الموضوع، تلاه اجتماع رباعى لوزراء الطاقة فى مصر والأردن وسوريا ولبنان لبحث ذات الموضوع والاتفاق على آلية فنية للنجاح، وهذه كلها بدايات أو مؤشرات لخطوات أخرى ربما تكون أكثر أهمية.
أما التطور الثانى فيتعلق باحتمال انعقاد مؤتمر القمة العربية الدورية فى الجزائر وعلى رأس أولوياتها ضرورة عودة سوريا إلى الجامعة العربية وفق تأكيدات وزير الخارجية الجزائرى رمطان لعمامرة . أما التطور الثالث فيتعلق بتفاهمات روسية – إسرائيلية حول وضع آلية مشتركة تتعلق بالاعتداءات الإسرائيلية على سوريا تحت غطاء المواجهة الإسرائيلية مع إيران. ففى أول لقاء رسمى بين وزير الخارجية الإسرائيلى الجديد يائير لابيد فى موسكو مع نظيره الروسى سيرجى لافروف (9/9/2021) أوضح الأخير حرص روسيا على أمن إسرائيل وألا تستخدم أراضى سوريا ضد إسرائيل على ألا تكون سوريا أرضاً لتصفية الحسابات بين إسرائيل وإيران. هذا التطور يفتح مجالاً أمام تحجيم أدوار إيران وإسرائيل فى سوريا، ويحرر سوريا من أعباء مثل هذه المواجهة، وينزع الحجج الإسرائيلية المعرقلة لإعادة دمج سوريا عربياً ودولياً، رغم أن هذا الملف مفعم بالحسابات المعقدة لسوريا سواء مع روسيا أو مع إيران.
التطور الرابع والأخير يخص تنظيم المواجهة الروسية – الأمريكية فى سوريا . فعلى الرغم من تعدد اللقاءات بين الطرفين حول الأزمة السورية على مدى السنوات الماضية لكن يوجد تفاؤل من اللقاء الذى من المقرر أن يعقد اليوم وغداً (14- 15/9/2021) فى جنيف بين مسئول الشرق الأوسط فى مجلسى الأمن القومى الأمريكى بريت ماكجورك مع نائب وزير الخارجية الروسى سيرجى فريشتين والمبعوث الرئاسى إلكسندر لافرينيف. أهمية هذا اللقاء تأتى من أنه سيبحث أموراً سياسية وعسكرية منها الوجود العسكرى الإيرانى فى الجنوب السورى والترتيبات العسكرية والسياسية والاقتصادية شرق الفرات حيث يتواجد الأمريكيون.
تطورات أربعة لم تكتمل بعد، لكنها تحمل مؤشرات مهمة تقول أن سوريا باتت مرشحة للاستفادة من سياسة “تبريد الأزمات” التى أخذت تفرض نفسها منذ الحدث الأفغانى المهم .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الأهرام : 14 / 9 / 2021 م