كان المُبْصِرُ الوحيد بين الماشين فتبعته وأنا أزجرُ خطواتي لأنْ تقْصرَ فتتأخرَ عنه لكيلا تحاذيه رغم لهفتي في الاقتراب من هذا المحمدي الذي يسكبُ فيوضاته في الأسماع.
كانت الساعة قد اقتربتْ من العاشرة ليلاً حين احتوانا الدرب الممتد من سبلته في المغدر إلى “وقبة” فلج “بومنَّين” فسابقْتُ فرحتي وأنا أمشي في الركب النوراني للعلامة الشيخ حمود بن حميد الصوافي ، وكأنَّ الصحابة الذين رقدوا في حجرة أمِّ المؤمنين أو افترشوا زعفران بقيع الغرقد قد خرجوا من المراقد ليتلألؤا في قسماته فيتكرَّر َفيهم ويتكرَّروا فيه.
وكانت الليلة بيضاء كعمامته رغم انتسابها للثالث والعشرين من الشهر القمري.
وكانت أقرب إلى البرودة رغم دفء شتاء هذا العام وكأنَّ الملائكة في رفيفهم من سبلته إلى آخر الشوط عند “الوقبة” وراء المتغير الطقسي.
وكان المشوارُ على قصرِهِ أجمل حلمٍ عشته، والخطوات على لهفتها لتحاذي خطوات العلامة الصوافي كالمشي في منطقة انعدام الجاذبية.
ولم أكن بحاجة لأن أتبصَّر دربي في المشي فأنا أماشي قنديلا علَّقته السماء.
ولا كانت جدر المقاصير ومحاليق أبواب البيوت تستفز فضولي لأسأل عنها فأنا أرتع في الجغرافيا المستنسخة من باب السلام في المسجد النبوي إلى باب جبريل.
لقد تلعثمتْ أسئلتي كطفل يستقبل أباه العائد من سفر طويل وقد ألجمته الفرحة فلا يعرف ما يقول له.
ولكي أكسر الصمت سألته عن معنى المغدر فترك الشيخ الإجابة مفتوحة فتطوعت بالقول أن أعلى ما بالنخلة “غدرها” فلا يليق بالمغدر إلا العلوّ لأنكم زينة أيامها.
وكنت أعبر بذلك عن مقارباتي الفيزيائية إذْ بدا لي الشيخ العلَّامة الصوافي كأعلى ما بالمشهد وقد تصاغرت أمامه الأشياء ، فلا بد للفيزياء إذنْ من تصحيح معادلاتها.
وعلى همهمة الركب الذي يذرع الليل سألت العلامة الصوافي عن الإمام الرضي محمد بن عبدالله الخليلي وما إذا كان قد التقاه فقال : لم أزر نزوى إذ كنتُ في العاشرة حين توفي الإمام ، ولكنني أذكر زمنه وأذكر أحاديث الناس عن ذهابهم للإمام ومجيئهم من عند الإمام ، وأذكر تلقينا لخبر وفاته.
ثم تحدث الشيخ في الركب الماشي عن جوانب من حياة الرضي الخليلي وعن معالجته لطلابه وعن تحديده للمواضع في الجسم التي يجب أن تعالج بالكي ، وكيف أن الإمام الخليلي كان يوجه طلابه بالذهاب إلى المعالجين بالكي وفق المواضع التي حددها الإمام.
ثم ذكر طُرفاً من اختلاف معاني الكلمات على ألسن طلاب الإمام الذين ينتسبون للعديد من الولايات.
واصل الركب السير فتقافزتْ أسئلتي المصحوبة بلهاث أنفاسي لأنتقل بالسؤال عن أبي وما إذا كان الشيخ التقاه فقال : لقد التقيت به يوم قدم إلى سناو معزِّياً في الشيخ أحمد الصوافي فجاء إلى المغدر لزيارة والده.
ولأن العلامة الشيخ حمود بن حميد الصوافي هو المبصر في الركب الذي يمخر الليل توقف الشيخ فجأة ليشير بعصاه نحو باب أحد البيوت فيكمل حديثه : لقد جلسا هنا يقصد والدي ووالده ، ولم يكن المكان على ما هو عليه الحال الآن فقد كانت السبلة من الطين.
سألته ما إذا كان يتذكر الحديث الذي دار بين والدي ووالده فقال أنه لم يعد يتذكره.
تركْتُ المكان الذي جمعَ عمامة أبي وعمامة أبيه يستدعي المشاهد والحكايات ومشيتُ وأنا أمارس تأنيب الخطوات لكيلا تقاربه بل أن تتأخر عنه فقلت للشيخ : كان الخال سعيد بن خلف الخروصي يكنَّ لك الودَّ الذي أنت تستحقه ، وكان كثير الإجلال لك وقد سمعته بنفسي يتحدث عنك بأنه كان يدعو لك في ختام كل صلاة فازدادت عينا الشيخ إشراقا وتلألأت نواجذه وهو يثني على الخال سعيد بن خلف الخروصي وكيف أنه زاره في كافة الأماكن التي تقلد فيها القضاء من سمائل إلى الرستاق فالبريمي وانتهاء بمسقط وأن الخال سعيد زار هنا في المغدر.
ثم تحدث الشيخ عن زيارته للجد خلف بن محمد الخروصي في نخل وأن الحديث يومها انصبَّ حول مصر كما شاهدها الأديبان سليمان بن خلف الخروصي وهلال بن سالم السيابي مطلع سبعينيات القرن الماضي.
وعند “وقبة” فلج “بومنين” أو “الثقبة” في لهجة البعض توقف الركب إلا أن فلج علم الشيخ واصل الجريان وبنفس التدفق إذ أن الشيخ يعلِّم وهو يمشي ويلقن وهو يجلس ويخوض في أصعب المسائل وهو على مائدة الطعام فالشيخ سليل الخلافة الراشدة وان اختلفتْ الأرومات ، وهو ابن العقد الأول من القرن الأول الهجري وإنْ قَدُمَ العهد.
وقد عشتُ الشيخ العلامة الصوافي قبل ساعتين في سبلة الرواشد وهو يغتنم مناسبة تجمع سناو وما جاورها في عقد قران الشيخ الحسين بن علي بن سالم الراشدي فتحدث عن الظواهر التي يجب على الآباء كرعاة الإلتفات إليها قبل أن تستفحل ، فلم تكن المناسبة مجرد “ملكة” تنتهي بغمس الأصابع في دست الحلوي بل كانت حصة جماعية في الفقه وفي التنشئة الصحيحة للأجيال لتبقى حلوى جلسات الشيخ الشهد الذي لا تكسره مرارة الفناجين.
ودَّعْنا الشيخ العلامة الصوافي وعاد الركب الملائكي من الوقبة إلى السبلة فالمغدر على موعد مع ليلة مقمرة وإن غيَّبَ الثالث والعشرون من ربيع الآخر قمر السماء والطرقات على موعد لدوي كدوي النحل حيث يعطر المرتلون الليل بالتهجد والتسبيح.
ووقفتُ والإخوة المشايخ سالم بن رشيد الناعبي وعلي بن راشد المطاعني وأحمد بن محمد الرحبي نتأمل الركب الذي قفل عائدا فنستعيد زمنا غير الزمن ونتأمل وجوها غير الوجوه.
وبينما كانت عمامة الشيخ قمر الركب العائد على زعفران الدرب باتت مصابيح “الزينون” البيضاء للسيارة سراج فحيح الإطارات على “إسفلت” عودتنا لينشغل الشيخ أحمد الرحبي بالطريق وانشغلتُ أنا باحترابي مع الحروف عن المغدر وقمر المغدر والدعوة الكريمة للشيخ علي بن سالم الراشدي وعن جمال المناسبة كما عبر عنها الشيخ زاهر بن سعيد السابقي أحد أعذب الأصوات في مدرسة الشيخ العلامة حمود الصوافي ، وأحد الذين يؤرخون زمنه بالقريض.
يقول الشيخ السابقي:
أيا أيها البرقُ السناويُّ مالكَ؟!
ترفق بقلبي يسترُ الله حالكا
أما والذي جلاكَ قد ذقت هزةً
من الوجدِ هدتْ يا سميري جبالكا
أراك من المنفى البعيد فلا أرى
سوى طيفِ من أهوى فأهوى جمالكا
ولكنني سرعانَ ما أذكر النوى
فأسقي بماء المقلتين جِمالكا
تمالكتُ حتى قيل زاهر قد سلا
وما كان لولا الله أن أتمالكا
سناوُ ارجعيني في البساتينِ نخلةً
ويا برق سرح إن رجعتُ انهمالكا
فإذاك لا أبكي جوى وصبابةً
ولكنْ أغنيِّ كالطيور حيالَكا
وإذاك أغدو كالحسين وقد على
محياهُ صبحٌ يسترقُّ خيالكا
فيا أيها البدرُ المنير أمدَّ لي
سناءً … فأشدو يا صديقي جلالك
وأنظِمُ درَّ المكرمات قلائدا
وما كان ذاك الدر إلا خلالَك
تحدرت من شأو رفيع وقمة
بها يتفيا كل نجمٍ ظلالكا
حمود بن سالم السيابي
مسقط في ١٩ ديسمبر ٢٠١٩م
#عاشق_عمان