عندما يقدر الله سبحانه لأمة من الأمم حالة تحول تاريخي لا شك أنه يضع الأسباب لذلك، فيقيض لهذه الأمة أو تلك قائدا ربانيا عظيما بمستوى ذلك التحول، وهكذا هو حال العظماء في التاريخ، وبعيدا عن المقاربات التاريخية والنماذج العظيمة في تاريخ الأمة نتحدث عن عُمان في التاريخ الحديث والمعاصر، كيف أراد الله عز وجل لهذا البلد العريق أن يظهر في فترات مفصلية من التاريخ ليسود ويعلو شأنه، ويدرك المؤرخون تاريخ عمان القديم والحديث والمعاصر وسنجتزئ جزءا من ذلك التاريخ لنضعه في مقدمة مقالنا وإسقاطا على سياقنا هذا، ونعود لخلفية من التاريخ العماني في القرن السابع عشر عندما احتل البرتغاليون المدن الساحلية الرئيسية في عمان فوجد أهل عمان أنفسهم أمام مقتضى تاريخي مهم، فتنادى أهل الحل والعقد لاختيار رجل رشيد لقيادة عُمان في تلك المرحلة التاريخية، فكان اختيارهم ناصر بن مرشد اليعربي لقيادة عُمان في ذلك المفصل التاريخي، فبدأ الإمام الجديد بتوحيد الصفوف أولا ثم انطلق بجيشه لطرد البرتغاليين واستكمل الأئمة من بعده سلطان بن سيف وسيف بن سلطان (قيد الأرض) وبلعرب بن سلطان مهامهم الوطنية العظيمة، بل تجاوزت انطلاقتهم الحدود العمانية إلى مطاردة البرتغاليين في عموم المنطقة، فكان هؤلاء القادة هم أبرز أئمة عُمان في تلك المرحلة التاريخية من حيث الوحدة الوطنية والبناء في والمنجزات، وإن لم تدم تلك المرحلة الزمنية سوى قرن ونيف من الزمان، ثم استغل الفرس أيضا مفصلا تاريخيا من الانقسام والتشرذم في عُمان فقاموا بغزو إحدى عواصم عُمان التاريخية (صحار) وذلك في ظرف عماني عصيب، فهب العمانيون وأهل الحل والعقد من جديد لاختيار قائد جديد، فكان الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي الذي بدأ بتوحيد الصفوف والانطلاق نحو التحرير والبناء، وهكذا بدأ عهد جديد بعُمان في منتصف القرن الثامن عشر ليؤسس هذا القائد الحكيم لأسرة البوسعيد نظاما حاكما في عُمان حتى اليوم، تمددت خلاله عُمان ووصل امتدادها إلى البصرة مساندة القبائل العربية هناك بعد أن فرض الفرس حصارا طويلا استمر أكثر من عام، ولم تستطع قوات الباب العالي مع قوات القبائل العربية في تلك المنطقة مجابهة الجيش الفارسي، فاستنجدت بحاكم عُمان أحمد بن سعيد البوسعيدي والذي بدوره استجاب لذلك النداء، فهب لنجدتهم وقد استطاعت سفنه تحطيم سلاسل الحديد الموضوعة في شط العرب، وتمكنت من تغيير ميزان القوى ثم انسحاب القوات الغازية لاحقا. وفي عهد السلطان سعيد بن سلطان كانت عُمان امبراطورية عظيمة مهابة في الخليج والشرق الإفريقي إلى سواحل الهند امتدادا إلى الضفة الأخرى المقابلة التي شملها النفوذ العماني، بل تواصل العمانيون في عهد السلطان سعيد مع الولايات المتحدة كأول دولة في المشرق العربي تقيم علاقات دبلوماسية وتجارية مع الولايات المتحدة الأميركية، فكان أحمد بن النعمان الكعبي أول سفير عربي في واشنطن عام ١٨٤٠م، ومنذ ذلك التاريخ تبادلت على عُمان أطوار سياسية مختلفة وظروف اقتصادية متنوعة، وتقلصت الامبراطورية العمانية بعدما شملت نواحي جغرافية عديدة، وصولا إلى العام ١٩٧٠م الذي سجل تاريخا جديدا في عُمان بظهور قائد عظيم وذلك في ظرف تاريخي دقيق ومرحلة مفصلية من التاريخ، حيث عم التفرق والتشرذم الدولة العمانية، وسادت المواجهات بين أبناء البلد الواحد وانقسمت القبائل بين محورين، وعصفت الثورات بالنسيج العماني، فكانت هنا في الداخل العماني ثورة ونظام حكم مختلف، وهناك في جبال ظفار ثورة أخرى مدعومة من قوى دولية، فعاش العمانيون غربة داخل بلدهم وخارجه، وطلع الفجر على عُمان في ٢٣ يوليو ١٩٧٠م، حيث وهب الله سبحانه لعُمان قائدا حكيما نبغ في شبابه في مختلف العلوم، وآتاه الله من الحكمة ما مكنه من تأليف قلوب العمانيين على قلب رجل واحد، فوحد عُمان وقضى على التوترات والقلاقل الداخلية، ونهج نهجا سياسيا ناعما استطاع به أن يكسب قلوب الجميع، وينطلق بأبناء عُمان في بناء نهضة عُمانية عصرية، ويؤطر لدولة مؤسسات يحكمها القانون وذلك بشيء من التدريج دون أن يتجاوز المراحل المنطقية في حركة التاريخ والدولة، فاستقبل العمانيون هذا التحول التاريخي بروح عالية دفعتهم نحو البناء والتعمير ماضين خلف قائدهم الملهم لا شقاق ولا فتن، بل تحفز العمانيون بالخارج بعد أن وجه جلالته لهم الدعوة للعودة والمساعدة في بناء هذه الدولة المتجددة، فانضمت عُمان إلى محيطها العربي والدولي بجدارة واستحقاق، وساندت العرب في مختلف الأزمات الدولية منذ ذلك التاريخ .
قدم جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ للعالم نموذجا وتجربة فريدة في الحكم وكرس مبادئ عظيمة، فكان يخطط ويعمل في حركة متسارعة، فبدأ ببناء الإنسان قبل بناء الأوطان، وهذا هو الأسلوب التربوي النابع من الأصالة العمانية والتراكمات الحضارية في هذا البلد العظيم، فوضع جلالته سياجا فكريا وأخلاقيا للشخصية العمانية فتمنع المواطن العماني من الخوض في سياقات الجدل والمناوشات التي لا طائل منها بين الأشقاء، فعرف العماني بهدوئه المبني على الحكمة، بل إن هذا الأسلوب الحكيم كان ينظم النهج السياسي العماني في ملفات السياسة الخارجية فنأت بعُمان من الخوض في مواجهات خاسرة لتكسب محبة واحترام الجميع، وأصبح العالم بأسره ينظر لعُمان بقدر كبير من الاحترام والتقدير، بل احتاج الأشقاء لنموذجية الدور العماني في معالجة قضايا متعددة، فكانت سلطنة عمان بقيادتها الحكيمة نبراسا للحكمة والنهج السديد وموطنا للسلام والأمن الذي ينشده العالم، وهذا مبدأ مهم من مبادئ قيادة الدول، وذلك أن تحظى بالاحترام والتقدير وتقود بلدك وشعبك بنهج سديد يقوم على القيم والأخلاق، وأن تقدم بلدك نموذجا للحل وإخماد التوترات في المنطقة ونشر السلام والأمن في العالم، وهو مبدأ مهم في الظروف الدولية التي مر بها العالم في العقود الماضية، فحق للعماني الفخر أن تكون بلده بقيادتها الحكيمة هي مفتاح الحل للأزمات التي تحيط بالمنطقة، وملاذا يستقطب الفرقاء والقوى الدولية لحلحلة القضايا المستعصية، بفضل نهج الحكمة السلطانية التي وهبها الله هذا الزعيم التاريخي في عُمان .
من مبادئ الحكم التي أسسها جلالة القائد المفدى ـ حفظه الله ورعاه ـ هي تلك العلاقة الاستثنائية العميقة بين الحاكم والمحكوم والعلاقة الأبوية الراسخة، فأصبح جلالته هو الأب الحقيقي لكل عماني، وهذا لم يتأتَّ إلا من خلال الإخلاص الذي بادل به جلالة السلطان أبناء شعبه والضمير الأبوي الصادق الذي حظي به المواطن العماني من لدن قائد عُمان ومجدد تاريخها، فحفظه الله بعين رعايته وألبسه لباس الصحة والعافية والعمر المديد .
خمسون عاما مضت وما زالت رسالة جلالة السلطان قابوس المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ ماضية في طريقها تنشر الخير والسلام على بلده وأمته والعالم أجمع، فعلى صعيد الداخل العماني كانت القيادة العمانية على موعد مع البناء فوضع القواعد والأسس المتينة لمستقبل عُمان المشرق من خلال محطات مهمة كان أبرزها النظام الأساسي للدولة (الدستور العماني) الذي وضعه جلالته بروح من الحكمة والمسؤولية التاريخية العظيمة ليستمد أبناء عُمان من خلاله النظام السديد لمستقبل قادم بعون الله، فكان هذا النظام قاعدة انطلاق دستورية محكمة متوائمة مع نظام دولة المؤسسات والقانون التي أرسى دعائمها جلالته بهيكلية حاكمة نموذجية لآليات النظام الحاكم، وليعم خيره على مستقبل الوطن بعون الله .
الرسالة العظيمة التي جاء بها جلالته وقد خصه الله بها من خلال مؤهلاته الشخصية ورمزيته التاريخية وقيادته الحكيمة معززا بما يمتلك من مزايا إنسانية من السماحة والشجاعة والكرامة والاعتزاز بعمانيته، والانطلاق من الأصالة العمانية والتربية الصالحة التي أسهم فيها والده رحمه الله، والتعليم المتنوع والانطلاق من قاعدة الدين الإسلامي الحنيف، والعروبة والخصوصية العمانية والنمط السلوكي الذي تربى عليه جلالته كل تلك الخصائص ألهمها الله جلالته، بالإضافة إلى خصائص إنسانية أخرى تتمثل في دماثة الخلق والعطف والالتزام بالنهج التربوي العماني في العلاقات الإنسانية مع الجميع حكاما ومحكومين، وقد برزت من خلال لقاءات جلالته بإخوانه من الملوك والرؤساء في القمم واللقاءات الرسمية التي حضرها جلالته، بالإضافة إلى لقاءات جلالته السنوية بأبناء بلده خلال جولاته السامية، ومشاهد الروح الأبوية والأخلاق الكريمة التي برزت خلال تلك اللقاءات الحميمية والتي تميز بها جلالته، وكذلك انتقاء الكلمة ومعانيها المعبرة واهتمامه باللغة العربية وتسمية الأشياء بمسمياتها، كلها كان لها معانٍ ودلالات مهمة أسهمت في إخراج الوطن والإنسان العماني بحلته البراقة، فنظر العالم إلى تلك الحالة العمانية بقدر كبير من الاحترام والتقدير والإجلال، وبذلك قدم جلالته نموذجا عمانيا استثنائيا آخر ومبدأ أصيلا من المدرسة القابوسية، وحاول جلالته العمل بعيدا عن الضجيج فيما يخدم بلده وأمته، لذلك حق لهذا الزعيم الوطني التاريخي العظيم كل هذا الحب والولاء والفداء، وهكذا هي رسائل السماء عندما يقيضها الله لعباده في الأرض، فحفظ الله جلالته ومتعه بالصحة والعافية ورعاه بعين رعايته.. إنه تعالى سميع مجيب، والحمدلله من قبل ومن بعد والله المستعان
خميس بن عبيد القطيطي
khamisalqutaiti@gmail.com
#عاشق_عمان