الموسيقى الموضوع القديم المتجدد، لعلماء المسلمين -بل وحتى غيرهم- صولات فيه وجولات، بين الحل والحرمة، والمنزلة بين المنزلتين، وهنا أرفق بعض الحديث في الموسيقى ودورها في المواد الفنية العصرية، في انتشارها وتقبل الناس لها… وأصل المقال تعقيبان منفصلان لمداخلتين منفصلتين على برنامجنا قبس في اليوتيوب، فأحببت جمعهما في مقال واحد للفائدة، وسيكون في محورين، الأول يجيب على رأي من يرى أن خلو المادة من خلفية أو تأثيرات موسيقية سيكون أكثر انتشارا، لأنه يضمن اطلاع المانعين للموسيقى، وهي فئة ليست بقليلة، والمحور الثاني سيتناول الموسيقى من حيث آلاتها وسياقاتها المختلفة، والأدلة النقلية والعقلية في كل ذلك.
المحور الأول: دائرة الانتشار والخلفية الموسيقية
جوابنا هذا على نقد راق جميل من قبل بعض الأفاضل في صفحة برنامجنا قبس في اليوتيوب.. يتناول الخلفية الموسيقية ومراعاة المانعين أو المحرمين للموسيقى ليتمكنوا من متابعة الحلقة، وبالتالي انتشار الحلقة بشكل أكبر، وتنزيه الآية أو تقديسها من الخلفية الموسيقية!
نقول: بالنسبة للانتشار، فالدائرة الأوسع هي دائرة الإنسان، ما كانت خلفيته وثقافته ودينه، وهو غاية البرنامج، من ثم كانت الخلفية على مقبول من الفئة الأعم.
أما رأي أو نظرية “الخلو من الخلفية الموسيقية يزيد من عدد حاضري البرنامج” فليس دقيقًا، فهناك ذائقات عدة لا تستسيغ العمل الفني دون تأثير إيقاعي، بل هناك من المتعصبين -نقيض الأولين المحرمين- ممن يرى في خلو المادة من الموسيقى، أو استعاضتها بالآهات أو أصوات الطبيعة خللا ينفر منها، لأنه مرتبط بمكروه في ذهنه (فئة المانعين للموسيقى) تعصبا.
وكلا الفريقين؛ المانعين والمبيحين -المتعصب منهم- لا يتحاكم إلى الفن وأثر المادة على النفس في تزكيتها ما كانت الخلفية، ولا ينظر إلى المادة بتكاملية، بل ممزعة، من ذلك لا يقع في نفسه جمالية المعروض، لأنه مشغول عنها بالنقد البيني، وليس بالجمال الكلي للوحة المقدمة، فصد عنها ورد، وهو شبيه بتعاطي المنتقدين ومنظومة هذا الدين وكتابه، فهم لا يأخذون كلية الكتاب العزيز، بل يجتزؤون منه، ويشتغلون على ما انتزعوا تشويها، وشفاء لما في قلوبهم من غل له، جهلا وعمدا.
أما مسألة تنزيه الآية عن الخلفية الموسيقية.. فدعوى التنزيه هنا مفتعلة.. لأن الإشكال في الخلفية كونها موسيقى فقط، ولا يشفع لها أنها ثانوية غير أصلية، وهذا جوابه أنه لا يفرق عند من يرى ثبوت الإباحة في الموسيقى أن تكون خلفية مثلها مثل أصوات الطبيعة والآهات الإنسانية وغيرها، أما مطلق الاعتراض على وجود خلفية صوتية على آية فينسحب ذلك على أي خلفية لمجرد وجودها مع ذكر الآية.. فلا معنى لاستثناء أصوات الطبيعة أو الآهات البشرية على هذا من هذا التنزيه بهذا المفهوم، فهي مشترك كونها خلفية، وما دام ذاك فأي شيء من خلفية على ذات السوية غير ممتنع.. كان بصوت إنسان أو كائن أو بصوت آلة (للمبيحين لها)، ما دام جميعها يسبح في فلك الخلفية المستساغة فنيًا، والتي تبقي للمادة الرئيسة مكانتها وتزيدها جلاء ومقامًا.
على أن السياق ليس تلاوة آية، والذي فيه أنزل توجيه ” وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا”، بل هو اقتباس واستشهاد، وهما مقامان يختلفان، وما لا يناسب في مقام قد يناسب في آخر، والمرجع التزكية، فتلاوة القرآن وقوفًا ليس محببًا، وتنزيهه بالجلوس والسكون إلا أن الصلاة قائمة على تلاوته وقوفًا تعبدًا.
لذلك فالخلفية تبقى خلفية تضيف للمادة العامة بعدا جماليًا في الأصل، كما خرير الماء، وأصوات الطبيعة، وربما الآهات في بعضها، ولكون السياق ليس سياق تغن بالقرآن في قالب موسيقي، وهو الممنوع وما يجب تنزيه القرآن عنه، فلا نرى دعوى التنزيه هنا قائمة.. فالخلفية لخفوت صوتها وثانويتها في المادة الرئيسة لا تتصادم والتنزيه ما كانت هذه الخلفية، طبيعية أو بشرية أو آلية.
ختاما لهذا المحور فإن دائرة المباح هي الأصل في عموم الأشياء ولا يخرجها من ذلك الأصل إلا نص صريح غير قابل للتأويل تحريمًا وإيجابا، ونحن نطلب في البرنامج أن لا نقع في حرام شرعًا، ولا بأس إن وقعنا في مكروه على العموم، ما دامت فائدة وجوده أكبر من كراهته، وناتج ذلك تزكية للنفس والإنسان، ولكننا لن نقع في مقطوع الحرمة، منصوص عليها نصًا لا يحتمل التأويل، والله من وراء القصد، وهو المعين.
المحور الثاني: الموسيقى بين الآلة والسياق
معالجة المعترض على استخدام الموسيقى خلفية في المادة الفنية “أن الغاية لا تبرر الوسيلة”.. “وأن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات”
نقول:
إن المسألة ليست بهذا التسطيح.. وإلا فأين يضع أخونا الناقد أو المعترض قامات من علم وفقه ودين وقرآن كمحمد الغزالي والشعراوي وأبي حامد الغزالي والعز بن عبد السلام ومحمد بن عبدالله بن جعفر الطيار، وغيرهم كثر، وأين يضع فنون الرجال كالرزحة والرزفة وغيرها، والتي تخالطها أدوات غير الدف، كالطبل وغيره، والتي كانت في عهد أئمة وعلماء وقضاة في عمان، شهدها بعضهم، واستُقبِل بها آخرون، وما زالت إلى اليوم، وغير ذلك كثير.
فالقاعدة غير منطبقة في هذا السياق…فالوسيلة هنا عند مستخدمها على الأصل في الإباحة..
ومدعي الحرمة يعوزه النص الصريح، والدليل القاطع.. الذي لم يكن ليفوت المبيحين من أمثال من ذكروا من علماء.
وفي كل الأحوال فالاحتكام إلى الله للطرفين.. وكلاهما متعبد بما اعتقد.
والمتأًول للدليل، الصارف له، ليس كالمستحل..
فالدف وهو آلة موسيقية استُقْبِلَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أول نزوله المدينة، واستقبل بها في رجوعه من بعض غزواته، تغنيه امرأة وجواري، ومات والدف في المدينة، فلو كانت هذه الأدوات بعينها ممنوعة، ولم يكن سياقاتها المذكورة من غناء ومجون وقينات الممنوع، لأتى أمر تكسير أدوات العزف يومها، كما أتى على الخمر وأوعيته، لا سيما وقد جاء اقتران الخمر بالمعازف في حديث الاستحلال الشهير ” يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف”… فلما لم يكن ذلكم، بقيت الآلات على حلتها، وصرف كل ذلك لسياقات استخدامها واقترانها بحرمة مصحوبها.. الخمر.. وما يلزم من تجاوزات شرعية فيه.. وفي هذا المعنى جاء ذات الحديث بصيغة مفصلة تدل على السياق عن ابن ماجه وابن حبان عن أبي مالك الأشعري -الذي روى عن طريقه البخاري أشهر أدلة التحريم حديث الاستحلال أعلاه- ولكن بصيغة مفصلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، وتضرب على رؤوسهم المعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض”… فالمعازف هنا مرتبطة بالخمر وتعاطيه، فهي مرتبطة بالسياق لا بالآلة مستقلة.
بل حتى استثناء الدف في الأعراس لغاية الإشهار هو تكلف من المانعين.. بل اعتراف بضعف الاستدلال! فالحرام لا يُستثنى إلا لمن خشي الفوت على نفسه وهلاكها بعدمه (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)، أو من تحقق الضرر الواقع عليه.. أما ما عداه من تكميل، فلا يُحِلُّ حراما.. وإلا لأحل مصائب تترى، واستثنى بدعوى المُلك وإكرام الضيف وغيره الكثير، فعلى هذا فالغاية (الإشهار في الأعراس) لا تبرر الوسيلة الحرام (الدف = المعازف)… أما التعلق بورود ذلك في الأثر عن النبي والصحابة، فهو دليل عليه (أي ضد رأي المنع) لا له، بثبوت هذه الآلات على إباحتها، وعدم انتقالها يقينًا للحرمة.. وخلاصته قولهم في أدلة تحريم الآلات الموسيقية ” لا يوجد دليل صريح صحيح، ولا صحيح صريح”، أي لا يوجد دليل صريح في المتن والمعنى بالحرمة، ثابت وصحيح في السند، ولا يوجد دليل ثابت في السند، صريح في الدلالة والمعنى بالحرمة.
هذا كله من حيث الأدلة النقلية فقط، أما العقلية فظاهرة القوة فـ:
- هذه الآلات في مظهرها لا تحرم.. فهي لا تسقط من أدب، ولا تشي بصورة مخلة
- وفي ما تصدر من صوت لا تخرج عن أصوات هذه الطبيعة، بل تتقاطع مع خرير الماء وهديل الحمام وغيرها من أصوات، وتُمَازج بينها.
- وفي آلية عملها، فهي ذات الآلية التي تعتمد عليها أدوات الصوت البشرية وغير البشرية.. هواء معترض، ينتج عنه أمواج بأطوال مختلفة، تظهر على شكل صوت بعينه تلتقطه الآذان… فالآلية ليست مبتدعة، بل مستوحاة من بديع خلق الله.. فمن أين يُحكم عليها بالحرمة؟!
- العقل يبطل دعوى من قابل الموسيقى بالقرآن، فجعلهما ضدين، فلا يعتمر قلب بحب القرآن والموسيقى في آن، إذ التجربة خير برهان، فمن أعظم القراء الذين تصدح أصواتهم بالقرآن والقراءات المختلفة لا يمتنعون عن الموسيقى ويتذوقونها، كعبد الباسط عبد الصمد والشيخ مصطفى إسماعيل… فلم يمتنع عليهم القرآن بسماعهم الموسيقى.. فكيف يكون بين الموسيقى والقرآن عداوة؟!.. بل الموسيقى كما الشعر، كما البيان من النثر، كما الرسم، كما الرياضة كما أي هواية أو فن راق إنساني لا تعارض بينها وبين القرآن.. فهي من المباحات لا ينقلها إلى الحرمة إلا سياقها ومقامها وموضوعها ساعتئذ.. وإلا فهي جميعها أدوات تزكية ومصادرها ترقي للإنسان، وتعزيز، وتمكين للإيمان والطمأنينة في قلبه في الأصل.
هذا ما وجب التنويه عليه.. والحوار هنا عن الآلة الموسيقية.. وتسخيرها وتوظيفها في الدعوة وتزكية النفس، ورفع كفاءتها في هذه الحياة وإنتاجيتها.. وليس في سياقات الغناء، التي تحل وتحرم بما التبست به من مخالفات شرعية وإنسانية، كالعري والرقص والمجون.. فهذا حرامه ليس للآلة ولكن للسياق.. ليس لحضور الإنسان وكلامه وحركته، ولكن لموضعه من هذا كله، ولنوع وقوفه وحركته، ونوع كلامه..
كما إن المتمسك بأصل إباحة هذه الآلات لا يعني انفتاحه الشخصي لها بأنواعها، فهي كما أي المباحات، طعامًا وشرابًا وعادات وآلات، تتردد بين الكراهة الشخصية والاستحسان، فتميل إليها طباع، وتنفر عنها أخرى، وتتعدد الأسباب، بيئية، ونفسية، وصحية، وبروتوكولية، فالرسول عاف الضب، وأظهر السبب في بعض روايته وإجابته عن سؤال حرمة الضب بقوله: ” لا (أي ليس حراما)، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه”، بينما أكله أصحابه أمامه، ولم يُخِلَّ عدمُ استساغة الرسول صلى الله عليه وسلم بحِلِّيَّتِه، وأصلِ إباحته، فقد يختلف الإنسان في غايته ومراده، وتتنوع ذائقته، والسعيد منهم من اختلف إلى ما فيه تزكية لنفسه، وتمكين لدعوة ربه، وحبه في قلبه.
ختاما لهذا المحور ولعموم المقال فيجب أن يكون منطلق هذا كله قوله سبحانه: ” ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب” وقوله: ” قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق”، وكل القرارات يجب أن تنبثق عن هذين التوجيهين، وهما يحثان على التحري والتحرر من هوى التحليل والتحريم، والأخير يحث على عدم التضييق على عباد الله في دائرة مباحه الواسعة بالتحريم.. والرائي اليوم يرى ميادين ذلك التضييق بالتحريم هي الرائجة.. حتى أزهقت الأرواح ظلمًا، وكثرت الشحناء والنفور بين الناس، جراء ناتج ذلكم التضييق من فكر ومنهجية للأسف.. كما يجب عذر الآخر المقابل، ما أراد من ذلك تحقيق قوله سبحانه: ” قد أفلح من زكاها “.. سواء كان ذلك من المتمسكين بأصل الإباحة في الموسيقى وآلاتها في ما يزكيهم، أو الممتنعين عنها المحرمين في ما يزكيهم من مرجع، ما لم يكن على أيهما أثر بسبب إباحته أو منعه يُخرجه عن أصل خلقه في الحياة، خليفةً لله في أرضه، في نشر السعادة والأمن والعمار، وحفظ النفس واحترامها، والعدل فيها، ومراعاة الله في خلقه، والتمسك بكتابه سبحانه، فمن لم يجد ذلك منهما (المبيح والمانع )، ولم يترق إنسانيا، ويتزكَ نفسا، فلم يَشُفَّ قلبُه حبا لخالقه، وعشقا لكتابه، وطهرا في سريرته، وتوافقا بين باطنه وظاهره، وصلة لخلقه، واحتراما لهم، ووصلا بهم ولينًا (إلا الذين ظلموا منهم)، وتعظيمًا للإنسان داخلهم تعظيم الله لهم، فليراجع منهجه ومتَمَسَّكَه، وليُرْجِعِ البصر كرتين، فإنه على منزلق خطير، والله المعين، وعليه القبول.
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
الجمعة
٣٠ ربيع الثاني ١٤٤١ هـ
٢٧ ديسمبر ٢٠١٩ م
#عاشق_عمان