رغم إدراكنا أن الموت حق، إلا أننا لم نكن نتصور تلك اللحظة التي سيفارقنا فيها سلطان القلوب وحبيب الشعوب، فلا غرابة أن يعيش أبناء عمان في هذا المشهد الجنائزي التأبيني المتواصل. فلا شك أن الجرح عميق والجميع بحاجة إلى إخراج ما في قلبه تجاه رمز عمان الخالد وباني نهضتها الحديثة، وأقتبس هنا بعض الأبيات :
لمست أمانينا، فصارت جداولا .. وأمطرتنا حبا ولا زلت تمطر
تعاودني ذكراك كل عشية .. ويؤرق فكري حين فيك أفكر
وتأبى جراحي أن تضم شفاهها .. كأن جراح الحب لا تتخثر
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي .. أفسر ماذا؟ والهوى لا يفسر،،
خمسون عاما في كنف رعاية جلالة السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ كان فيها المعلم والقائد والوالد الرحيم الكريم المتسامح، الذي أفنى عمره وقدم التضحيات الجسام من أجل أبناء عمان، فلا ريب أن يبقى خالدا في القلوب .
قد لا تفيك الكلمات والدموع، ولا يلام الشعب في هذا الحب السرمدي الكبير، فما قدمته لعمان وأهلها يتجاوز القرون، ونحن إذ نعيش اليوم في ذكراك لنؤمن أن القضاء والقدر حق، وندرك أن خيارات المولى القدير فيها من الحكمة ما لا نعلمه، ونسلم بتلك المشيئة الإلهية، ولكن يبقى المصاب جللا، فأي علاقة هذه التي رسختها مع أبنائك يا أبي؟؟
الرسالة العظيمة التي جاء بها جلالته وقد اختصه الله بها من خلال مؤهلاته الشخصية ورمزيته التاريخية معززا بما يمتلك من مزايا إنسانية مثل عمق الرؤية والبصيرة وخلق التسامح والسخاء وعبقرية القيادة، كل تلك السمات ألهمها الله باني عمان الحديثة ومجدد تاريخها، كما نهل السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ من مختلف العلوم، وتشرب قواعد الدين الحنيف، وحافظ على اعتزازه بالقيم العمانية الأصيلة التي برزت من خلال لقاءات جلالته بإخوانه من الملوك والرؤساء في القمم واللقاءات الرسمية التي حضرها جلالته، بالإضافة إلى لقاءات جلالته السنوية بأبناء بلده خلال جولاته السامية، ومشاهد الروح الأبوية والأخلاق الكريمة برزت خلال تلك اللقاءات التي تميز بها زعيم عمان الخالد .
لقد قدم جلالة السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ للعالم نموذجا فريدا في السياسة الخارجية، فكانت السياسة الحكيمة تنظم النهج السياسي العماني في ملفات متعددة، فنأت عُمان بنفسها عن الخوض في مناكفات خاسرة لتكسب محبة الجميع، وأصبح العالم بأسره ينظر لعمان نظرة احترام وتقدير، وكانت سلطنة عمان بقيادتها الحكيمة نبراسا للحكمة ومكانا لحل مختلف الأزمات الإقليمية، فساهمت في إخماد التوترات في المنطقة ونشر السلام والأمن في ربوع العالم، وهو مبدأ مهم من المبادئ الدولية في ظل الظروف التي يمر بها العالم في العقود الماضية، فحق للعماني الفخر أن تكون بلده بقيادتها الحكيمة هي مفتاح الحل للأزمات التي تحيط بالمنطقة، وملاذا يستقطب الفرقاء لحلحلة القضايا المستعصية، وذلك بفضل نهج الحكمة السلطانية التي وهبها الله هذا الزعيم التاريخي .
لقد أرسى جلالة القائد الخالد دعائم دولة المؤسسات والقانون، واليوم قدمت عمان نموذجا أبهر العالم، من خلال الانتقال السلس للسلطة بوجود آلية تراتبية محكمة، وهنا نقف وقفة إجلال لمجلس العائلة الحاكمة التي قدمت درسا للعالم بعد رحيل مؤسس عمان الحديثة، فالعالم كله يسلط الأضواء على عمان بعد غياب زعيمها التاريخي، فالنظام الأساسي للدولة يقضي بتشاور مجلس العائلة الحاكمة لمدة ثلاثة أيام لاختيار من يخلف السلطان، ولكن هذه الأسرة الحاكمة الكريمة وإجلالا لجلالة السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ واستشعارا لأهمية هذه اللحظة الوطنية التاريخية في استقرار عمان اتفقت على من اختاره السلطان قابوس في وصيته، وهكذا عندما تتكئ الأسرة الحاكمة على إرث كبير وتاريخ عظيم في الحكم القويم، ولا شك أن اختيار جلالة السلطان الراحل لجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور آل سعيد ـ حفظه الله ورعاه ـ سلطانا لعمان يؤكد أن جلالة السلطان هيثم ـ أيده الله ـ يحمل من النهج القويم ما سيمضي بعمان إلى آفاق أرحب، وسيتجدد عهد جديد على عمان، وهذه الأمانة العظيمة والمسؤولية الجسيمة ستمضي بعون الله إلى ما يصبو إليه أبناء عمان الأوفياء. حفظ الله جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، ونحن أبناء عمان نجدد العهد والولاء، وسنكون عند حسن الظن بعون الله، كما نسأل الله تعالى أن يتغمد فقيد عمان والأمة بواسع رحمته ومغفرته ورضوانه، وأن يرفع درجته في الصابرين، وأن يجعله من ورثة جنة النعيم، إنه تعالى سميع مجيب، حفظ الله عمان، وستبقى كما عهدها العالم دولة راسخة بعون الله .
خميس بن عبيد القطيطي
#عاشق_عمان