لم يكن، وهو يطل من شاشته، وفي منصات التواصل الاجتماعي الأخرى بصوته الأجش، وعنفه وتعنيفه، وكأنه مصنع إعادة إنتاج فتن الأولين ومصائبهم بين بعضهم، يجترها اجترارًا بكل تفاصيلها التي غابت عنه، وكأنه أحد شهودها، لم يكن يعلم أنه ضحية من ضحايا الشيطان، وبات ضمن أوليائه المقربين، فلا ينفعه تسميته نفسه، ولا ادعاؤه قربه من ربه؛ “والله أمرنا بها”، أو أنه من المسلمين، ولا كثرة أنصاره ومريديه، وهو متلبس بذلكم الكم من المخالفات الجسيمة والرئيسة في حق الله، وحق عباده والعالمين، من ترهيب الناس وتكفيرهم، ونشر البغضاء بينهم باسم الله وكتابه، وباسم رسوله وسنته، والله ورسوله منه ومن دعوته بَرَاء.
يقوم هذا الخط (الرسالة) لأبناء الوطن العزيز على بعض تلكم الظواهر التي باتت تتصاعد مؤخرًا، وبعض الموجات والمسالك المتعصبة، التي استطاعت أن تخترق كياناتٍ ودولًا، لتكون سببًا في تفككها، وحلول اللعنة على لُحمتها، وغاب عنها وعي نسيجها الداخلي مؤسساتٍ وأفرادًا، الذي كان ليحميها، ويجنبها ويلات ما باتت عليه اليوم، وتحاول هذه الرسالة أو الخط المشاركة في إيجاد ذلكم الوعي الجمعي في بلدنا الحبيب عمان، تأكيدًا لنهج فقيد الوطن جلالة السلطان قابوس ذكره الله بجميل الصنع، ومن قبله الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، بنبذ الفرقة والشقاق، والعصبية…
يجب أن يُعلم أولا أنه ما ضيع الإسلامَ والمسلمين بل والإنسانَ عموما للأسف إلا الخوضُ والجدل في الغيب بينهم، والمسارعة في استعداء بعضهم على بعض على أثره، حدَّ تفلتِ ألسنتهم، وزهق أرواحهم، ودمار حياتهم وأوطانهم..
لو كف الناس الشر عنهم، واستنطقوا الحياة الجامعة لهم، والمصلحة العامة بينهم، وتركوا الاحتراب على عقائدهم ونواياهم ومطلق الغيب، ما رأينا الحروب اليوم، ولو أماتوا ما أماته تعاقب الزمان من ألفاظ عصبية منتنة بينهم وبين بعضهم في القِدم -ربما يُعذر أسلافُهم لقلة وسائل تواصلهم، ولا يُعذر هؤلاء لكثرتها- لما رأيتَ القلوب سوداء، تحمل السم الناقع في صدر الواحد ضد أخيه في الوطن، وأخيه في الدين، وأخيه في الإنسانية، لأنه ليس على رأيه.. دون أن يكون من الأخير ظاهر شر عليه في ما اعتقد..
عُمان أكبر من هذه “الموضات” و”التقليعات” بتعايشها مع الآخرين من المسلمين وغيرهم منذ الأزل، وعدم ورود خصومات دينية أو مذهبية بينها وبينهم، تكون هي مُشعلَتَه أو سببه ، فقد كانت إمبراطورية قوية في غير مرة وعصر، قارعت الغرب المحتل لسواحل العرب وأفريقيا والهند وأساطينَه، وكانت لها اليد الطولى عليه، فلم توجه تلكم القوة الضاربة لأخذ مكة والحرم مثلا (العاصمة الدينية أو الروحية للمسلمين) من أيدي من كانوا يديرونها يومئذ، ممن ما فتئوا يخاصمونهم تاريخيا، كما فعلت دولٌ من غيرها (الدولة الأموية، والدولة العباسية، والدولة الإخشيدية، والدولة الفاطمية، والدولة الأيوبية، والدولة العثمانية، والهاشميون، وغيرها)، ولم توجه سلاحها تحت غطاء المذهبية يوما ما، رغم ما نالها من غيرها تحت عنوانه، بل أنقذت حواضر تلكم الدول، كإنقاذها البصرة من الفرس التابعة للدولة العثمانية، وفك حصارها.
لكن اللوثة والتقليعة الأخيرة الدينية أفرزت للأسف من يعمل على خلاف ذلك، متبعين منهجًا حديثًا نسبيًا، يقوم على تسفيه الآخر ، حد تكفيره والاستهزاء بمعتقداته، برغم عدم ضرها عليه، ولا على غيره في الحياة الدنيا..وأفرزت للأسف تيارات متعصبة ذات منهج متزمت، اخترقت جميع المذاهب، وإن غلب الوصف على مذهب بعينه حتى التصق به، لكنه بات رائجًا في المذاهب الإسلامية الأخرى المقابلة، فرغم اختصامها عقائدَ ومنطلقاتٍ إلا أنها تتقاطع في تنامي هذا النهج المتعصب قالَبا عاما بين أبنائه ومتخصصيه، ولو تفاوتت النسبة من مذهب لآخر، في الغلظة والشدة على مخالفهم الرأي، فضلا عن مخالف العقيدة.
يعرف أولاء باهتماماتهم وحواراتهم وما يشغل يومهم وغدهم.. فأغلبهم مشغول بالآخر من المذهب المقابل المخالف ليله ونهاره.. لا يفتأ يعمل فيه، ويتتبع زلاته، وزلات مشائخه المتأخرين والمتقدمين، ويعمل على تكفيرهم أو الاستنقاص منهم، بل وتكون له قنوات خاصة ومحطات تلفزيونية، ومنصات إعلامية تعمل على هذه المواضيع فقط، من النيل من المذاهب الأخرى والآراء المغايرة بالتسفيه والطعن، أو المناظرة مع نظرائه منهم بفض القول، وقذاء الكلام والتعبير.
الدعوة هنا للعُمانيين جميعًا، ومن خلفهم المسلمين، بل وللعالمين إلى التنبه لمثل هذا النهج المتعصب الظلامي، والحذر من الوقوع فيه، أو أن يُتهاون معه ويُعلل لمتبنيه، مهما كان المذهب الفقهي، ومهما كان لقب من يظهر عليه، ففي كل مذهب هناك فئة تمثل ذلك التيار المتعصب المتشبع بحب “الأنا”، وأن الحق المطلق معه، حتى يكاد يشرك الله في الحكم على عباده، وتَسَوُّرِ القلوب والنوايا، والحكم عليها بها، وأن يعوا جميعًا أن ذلك من الفساد الأعظم، وأنه من عمل الشيطان في الإنسان، فليتعايشوا سويًا على مصالح دنياهم مهما تعددت معتقداتهم، ما حَدُّوها بعدم الضرر بالآخرين، وليستبقوا الخيرات، فإنه مطمع الحياة، ومطلب الخالق في الناس مهما تعددت مللهم ووجهاتهم، بقوله سبحانه: “ولكلٍ وجهةٌ هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا”، فإن في استباق الخيرات عمارًا للدنيا، وخلافةً رشيدةً للإنسان فيها، وهو ما خُلق الإنسان له، أما قَبولُ هذه الخيرات في الآخرة فهي بين الإنسان وخالقه؛ ما نوى وما أراد، وما قام عليه من حجج، وما غاب عنه منها.
ليشتغل الناس بأخراهم بما يرفع دنياهم، ولا ترتفع دنياهم دون تقدير للآخرين، وتقدير لمعتقداتهم التي لا تُخلُّ بطبيعة الحياة وسلامها واطمئنانها، ولا تدعو إلى فساد، بل لا بد من تعايش معهم وبر وقسط إلا من ظلم، والظلم يعني هنا التعدي على الناس في دنياهم، وإلا فهم في سلام ووصل وقسط بينهم، مقتبسين من التوجيه الإلهي العدل؛ “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم”.. وقوله؛ “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين”…فهي قاعدة لجميع من لم يفسد عليك دينك ودنياك، وكان جارًا لك، وإنسانًا قويمًا، مهما اختلفت عقيدته عنك، ما كانت له بينه وبين ربه ولم تكن عليك.
أخيرًا ليترك الناس الغيب لرب الغيب فيما اعتقده الإنسان، ولم يضره في حياته أو يضر الآخرين؛ فمن اعتقد بالخروج من النار مثلا، بحكم ولادته ونشأته، لكن حبه لربه أبى أن يطلب التسويف والتساهل من خلال ذلك في عمله، فكان من الصالحين طُرَّا والمصلحين، ولم يكن هذا الاعتقاد شماعة لفساد دنيا أو دين، أو ظلمًا لآخرين وأكلًا لحقوق.. فأمره بعد ذلك إلى ربه.. والله أكرم الأكرمين.. وله القسط والوصال والبر، وهكذا يقال لمن يقول بخلافه من كون مذهبه أو منهجه الحقَّ والعدل من دون الناس، ويعتقد به، من دون أن يحمله ذلك على إرهاب الناس وظلمهم وتحقيرهم، وهكذا كل عقيدة وقناعة شخصية لم يكن لها أثر سالب على علاقة المرء في الحياة، وعلاقته بالناس عدالة وحكمًا، فإن الله هو العدل، ولن يظلمهم بعدله، أو يخذلهم بصبرهم وعدم ظلمهم للآخرين في سبيله، ويتجلى هذا المنهج المستقيم مثالا في تناول الخالق سبحانه وتعالى لليهود على سبيلين، قسم ولد في مجتمع يهودي واعتقد لنفسه، وراثة، أو ثقافة، ما لليهود من خصائص عقدية توارثوها منها مثل عقيدة أنهم أبناء الله وأحباؤه وغيرها، مع من ورث من مجتمعهم، إلا أنه غَلَّبَ الفطرة في تعامله مع الناس، وبقي ذلكم المعتقد حاثا له على صلاح نفسه، فلم يتجاوز به إلى ظلم دنيوي لغيره، وهؤلاء أثنى عليهم الله ضمنًا وشهد لهم، “ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك”، ومنهم من تعدى معتقده داخله، ليتجلى ممارسة وظلما على الآخرين في دنياهم، “ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل”، والقنطار أضعاف الدينار مئات المرات، فحمل الله عليهم، وذمهم، وتوعدهم.. ” فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم، وبصدهم عن سبيل الله كثيرا.. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل.. وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما”
هذا حد ما يجب على الإنسان أن يتعامل به في هذه الحياة مع من يخالفه الدين أو المعتقد..
ختامًا توجيه المولى قائم “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم”… توجيه عادل راق كريم.. ينسحب على جميع الظروف والمعتقدات حال الحوار أو التعارف والاختلاط بالآخرين، حتى لا نكون سببًا في صد الناس عن ربهم، واستهزائهم بشعائره ووعده ووعيده وغيبه، أو تكون لهم على خالقهم ردة فعل عنيفة، نكون نحن بمنهجنا الخاطئ وأسلوبنا سببا لها..
نُذَكِّرُ ختامًا بشهادة باني النهضة الحديثة جلالة السلطان قابوس رحمه الله وقوله البليغ.. “إن التطرفَ مهما كانت مسمياتُه، والتعصبَ مهما كانت أشكالُه، والتحزبَ مهما كانت دوافعُه ومنطلقاتُه، نباتاتٌ كريهة سامة، ترفضها التربةُ العمانية الطيبة، التي لا تُنبتُ إلا طيبا، ولا تقبلُ أبدا أن تُلقى فيها بذورُ الفرقة والشقاق”… حفظ الله عمان بأبنائها وأطيافها وخلفياتهم…وبتراثها وثقافتها الأصيلة، التي يشترك فيها كل العمانيين على حد سواء، مما يوجب عليهم جميعًا المنافحة عنها، مهما اختلفت مشاربهم، فعراقة الثقافة العمانية لا تسمح بتضييعها عبر تمييعها، أو عبر إنزال غيرها رديفًا لها، مما له في بقاع الأرض مرجع ومقام بين أهليه في ذلكم القطر، فهذا مما قد يذهب بتميزها، ويهدد جوهرها الفرد..
عبد الحميد بن حميد الجامعي
#عاشق_عمان