حَفْلَةُ المَوْتِ الأحْمَرِ التَّنَكُّرِيَّة

للكاتب إدجار آلن بو (Edgar Allan Poe)
ترجمة : بدر العوفي (سلطنة عمان)

مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ وَطَاعونُ "المَوتِ الأَحْمَرِ" يُهْلِكُ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ فِي هَذِه البِلادِ ، إِذْ مَا مِنْ وَبَاءٍ كَانَ يُضَاهِي فَدَاحَتَهُ وَبَشَاعَتَهُ أَبَدًا، فَقَدْ كَانَ يَتَجَسَّدُ بِالدِّمَاءِ أَمَّا عَلامَتُهُ فَقَدْ كَانَتْ احْمِرَارُ الدَّمِ وَمَنَظَرِهِ المُرْعِبِ، وَيُصَاحِبُ هُجُومَهُ الشَّرِسُ آلامٌ شَدِيدَةٌ وَدُوارٌ مُفَاجِئٌ يَتْبَعُهُ نَزِيفٌ حَادٌ، فِي حِين أَنَّ البُّقَعَ القُرْمُزِيَّةَ التِي كَانَ يُخَلَّفُهَا عَلَى الجَسَدِ وَتَحْدِيدَا تِلْكَ المُنْطَبِعَةُ عَلَى وَجْهِ الضَّحِيَّةِ كَانَتْ بِمَثَابَةِ الوَبَاءِ اللَّعِينِ الذِي يِحُولُ دُونَ وُصولِ المُسَاعَدَةِ إِليْهِ أَوْ حَتَّى مِنْ إِشْفَاقِ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ، بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ النَّوْبَةِ المَرَضِيّةِ بِأكْمَلِهَا مِنْ تَطَوُّرِهَا حَتَّى انْتِهَائِهَا لا تَتَعَدَّى زُهَاءَ أَحْدَاثِ نِصْفِ سَاعَةٍِ مِنَ الزَّمَنِ!

ورغم هذا الرعب الذي كان يزرعه الموت الأحمر في النفوس إلا أن أمير البلاد، بروسبيرو لم يكن مكترثا لذلك، إذ عندما فتك هذا المرض اللعين بنصف سكان أراضيه الخاصة دعا إلى حضرته أكثر من ألف صديق من بين فرسان قصره الأصحاء ونسائه الحسناوات، واختلى بنفسه بعيدًا مع هؤلاء المدعوين في إحدى أجمل كنائسه الحصينة وأوسعها حيث كان هذا الذوق الغريب والمهيب نِتاج إبداع الأمير نفسه، لقد كانت الكنيسة مسوّرة بجدار منيع وشامخ وتحرسها بوابات حديدية، وفور دخول رجال الحاشية إلى الكنيسة أحضروا الأفران الملتهبة والمطارق الضخمة وقاموا بلحام الأقفال سعيا منهم إلى إحباط أدنى وسيلة للدخول إليها أو الخروج منها لأي سبب كان، كما تم توفير جميع المؤن الضرورية داخل الكنيسة، حيث سيتسنى لرجال الحاشية الآن تحدى العدوى بهذه التدابير الوقائية، أما العالم الخارجي فبإمكانه تدبر أمره بنفسه، ذلك أن مجرد الحزن على أولئك القابعين في الخارج أو التفكير بحالهم لا يعدو كونه حماقة كبرى، والفضل في هذا يعود إلى الأمير حيث قام بتوفير جميع سبل الراحة والترفيه من مهرجين وراقصات البالية وعازفي الموسيقى والحسناوات والشراب، وجميع هذه المظاهر كانت بمأمن في الداخل أما في الخارج فقد كان يقبع "الموت الأحمر".

وعندما اقتربت عزلة الأمير في داخل كنيسته من شهرها الخامس أو السادس قام باستضافة أصدقائه الألف لحضور حفلة رقص تنكرية لم يسبق لها مثيل. لقد كانت هذه الحفلة التنكرية مسرحا مثيرًا للحواس، لكن في البداية اسمحوا لي أن أخذكم في جولة داخل القاعات التي أُحيت فيها هذه الحفلة، لقد كنُّ سبع قاعات أو بالأحرى جناحًا إمبراطوريًا ضخمًا، إن أجنحة كهذه في العديد من القصور تشكل أفقًا طويلاً وممتدا تترامى على جدرانه الأبواب على كلا الجهتين من دون أن تتيح لأي شيء بإعاقة منظر النطاق، لكن ثمة شيء في هذا القصر بالذات يختلف تمامًا عما هو معهود وهو ما يمكن توقعه من حب الدوق للغرائب، فقد كانت هذه الغرف موزعة بطريقة غير متناسقة مطلقةً العنان للبصر بمعانقتها بشدة مرة بعد مرة لينتهي بها المطاف باستدارة حادة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار بحيث تتوسط كل جدار نافذة قوطية طويلة وضيقة تطل على ممر مغلق يتتبع التفافات الجناح، لقد كانت هذه النوافذ مصنوعة من زجاج تتفاوت ألوانه طبقا للون الزخرفة السائدة في الغرفة التي تفتح بداخلها هذه النافذة، فعلى سبيل المثال، كانت الغرفة في أقصى الشمال تتشح باللون الأزرق الزاهي وكذا كانت نوافذها زرقاء مشرقة، أما الغرفة الثانية فقد كانت حليها وأقمشتها تزدان باللون الأرجواني ، لذلك كان اللون الأرجواني منعكسا على ألواح نوافذها الزجاجية، الغرفة الثالثة كانت خضراء نضرة وكذلك كانت نوافذها البابية، أما الغرفة الرابعة فقد كان أثاثها يشع بلون أزرق باهي ... الغرفة الخامسة بيضاء كشعاع الشمس والسادسة بلون أزهار البنفسج، أما الغرفة السابعة والأخيرة فقد غُطيت بعناية فائقة بأقمشة النجود المخملية الداكنة التي كانت تتدلى من أعلى سقف الغرفة لتعانق الحيطان ومن ثم تهوي بشكل لفافات ثقيلة على سجادة مصنوعة من اللون والمواد ذاتها، بيد أن لون النوافذ في هذه الغرفة-فقط- أخفق في الانسجام مع زخارفها، لقد كانت قرمزية بلون الدم الأحمر القاني، وبالرغم مما تتمتع به هذه الغرف السبع من أجواء احتفالية وسط كل تلك الحلي والمجوهرات الذهبية المنتشرة هنا وهناك والمتدلية من أسقفها إلا أن أياً منها لم يكن بداخلها شمعدان أو مصباح مضيء، لقد كان المكان يفتقر لأدنى مصدر ضوئي، ولكن في ممرات الجناح وقبالة كل نافذة ثمة مشعل يسلط أشعته المتوهجة عبر الألواح الزجاجية الملونة ليضيء الغرفة بوهجه الساطع، لقد شكلت هذه الأجواء المتداخلة العديد من المظاهر المبهرجة والرائعة، ولكن وهج النار في الغرفة الغربية أو الخلفية كان فظيعًا إلى أبعد الحدود، فقد كان ينسدل على الستائر الداكنة عبر الألواح المتشحة بلون الدم وهو أمر بعث في نفوس أولئك الذين دخلوها نظرة موحشةً جدًا، لذلك لم يكن بداخلها سوى عدد بسيط جدا ممن كانت لديهم الجسارة الكافية لأخذ موضع قدم داخل فنائها.

وقبالة الحائط الشرقي لهذه الغرفة أيضا تنتصب ساعة عملاقة مصنوعة من خشب الأبنوس، يتراقص بندولها جيئةً وذهابًا محدثًا ضجيجًا رتيبًا وثقيلاً ومملاً، وما أن يكمل عقرب دقائقها دورته الزمنية وتتأهب هي لتطلق نغماتها حتى يصدر من رئتيها النحاسيتين صوتٌ واضحٌ وقوي، عميقٌ وموسيقي، صوت يتسم بنغمة غريبةٍ جدًا، نغمة تجعل عازفي الأوركسترا يتوقفون رغما عنهم عن عزف مقطوعاتهم الشجية لبرهة من الزمن مع انقضاء كل ساعة زمنية لينصتوا بإمعان إلى ذلك الصوت مما يدفع الراقصين أيضا إلى التوقف بسبب تلك الربكة القصيرة التي قاطعت نفوسهم المرحة في حين أن الساعة لا تزال مستمرة في مخاضها الموسيقي، في هذه اللحظة بالذات تنمو ملامح الشحوب على محيّا أكثر المحتفلين استهتارًا، أما أولئك المسنين والرصينين فقد جعلوا أياديهم تحلّق فوق جباههم كما لو كانوا مستغرقين في تفكير حالم أو تأمل مشوش، ولكن ما أن تتوقف الأصداء بالكامل حتى تخترق ضحكة خفيفة جموع الحاضرين ويتبادل بعدها العازفون النظرات فيما بينهم ويرسمون الابتسامات على شفاههم كما لو كانوا يسخرون من حماقتهم ونوبة الارتباك التي ألمت بهم، وهنا يهمس الواحد منهم للآخر واعدًا إياه بأن الدقات القادمة يجب أن لا تحرك فيهم مثل هذه المشاعر ثانية، وهكذا يمر الوقت سريعا وتنقضي معه ستون دقيقة أي ما يعادل ثلاثة آلاف وستمائة ثانية من الوقت الذي مضى لتمطر الساعة المكان بدقاتها المدوية محدثة بذلك نفس الإرباك والرعشة والتأمل كالسابق.

ولكن بالرغم من هذه الأجواء المشحونة والمشدودة إلا أن الحفلة كانت تعج بألوان المرح الصاخب، فالمحتفلون يعلمون أن للدوق أذواقا غريبة وحسًا مرهفًا جدًا في انتقاء التأثيرات اللونية والصوتية، وهو من أولئك الذين لا يستسيغون الأعمال الزخرفية المجردة، فمخططاته تتسم بالجرأة ومفاهيمه في الحياة تتوهج بلمعةٍ فوضوية، وقد حدا هذا الأمر بالبعض منهم إلى الاعتقاد بأن الجنون قد مس الأمير، إلا أن أتباعه المخلصين لا يرون فيه ذلك رغم ضرورة الاستماع إليه ورؤيته أو حتى لمسه للتأكد من أنه بكامل قواه العقلية.

واحتفاءً بهذه المناسبة العظيمة قام الدوق بنفسه بالإشراف على الجزء الأكبر من هذه الزخارف المتحركة في الغرف السبع، كما أنه هو شخصيًا وجّه جميع المحتفلين على تقمص شخصياتهم التنكرية حسب ذوقه الخاص، حيث شدد على أهمية ظهورهم بشكل مشوه، لقد كان المكان مشوبًا بالكثير من الوهج والتألق، بالإثارة والخيال، بمثل تلك المناظر التي شوهد معظمها في مسرحية "هيرناني"(1)، هناك زخارف من الأرابسك لها تفرعات وعلامات غير متناسقة، كما أن هناك أزياء تنكرية غريبة جدًا كتلك الملابس التي يرتديها المجانين، لقد كانت الحفلة تعج بالكثير من المحتفلين الأنيقين، وبالعديد من المستهترين، وغيرهم من غريبي الأطوار وبضعة من الفظيعين وليس بقليل من ذلك أولئك الذين قد تكون صورهم مدعاة للتقزز. في الواقع، كانت هناك أشكالٌ متعددة من الأحلام تطوف بداخل الغرف السبع جيئةً وذهابا، لقد كان الحالمون يتلوون داخل هذه الغرف وخارجها، يسلبون منها ألوانها المتداخلة حتى أن موسيقى الأوركسترا الصاخبة كانت لتبدو كصدى وقع أقدامهم. وعما قريب تزفر الساعة المنتصبة في غرفة الأقمشة المخملية بدقاتها المعتادة، عندها، وللحظة قصيرة، يسكن الجميع، ويخيم صمت عميق على الجميع ما عدا صوت الساعة، وينتصب الحالمون كجثث هامدة، ولكن لا تلبث أصداء الرنين طويلا حتى تذبل، إنه شيء لا يطاق، تخمد هذه الأصداء ويتبع رحيلها ضحكة يمتزج فيها اللطف والقهر، في هذه الأثناء تصدح الموسيقى بأصدائها عاليا وتنتعش أرواح الحالمين وهم يجوبون الغرف جيئة وذهابا بمرح أكثر من ذي قبل لتتلون أجسادهم بألوان النوافذ ووهج المشاعل، في هذه الأثناء تخلو الغرفة في أقصى الجهة الغربية من مرتاديها الذين خاطروا بأرواحهم لدخولها، لقد بدأ الليل بإسدال ستاره المعتم على الغرفة، كما أن هناك ضوءً متورداً ينبثق من خلال الزجاج الملطخ بلون الدم، والأقمشة المخملية تبدو مرعبة جدا وسط هذه العتمة، كما أن أولئك الذين وضعوا أقدامهم على السجادة الداكنة أحسوا بتلك الجلجلة المكتومة التي تحدثها ساعة الأبنوس والتي حملت في طياتها رهبة مثيرة أكثر من أي شيء التقطته مسامعهم أثناء انغماسهم في ملذات الغرف البعيدة ومباهجها.

بيد أن الحال في الغرف الأخرى كان مغايرا تماما، فجميعها يعج بالمحتفلين ودبيب الحياة ينتشر في جميع أوصالها، ولا يزال الفرح يغمر المكان، حتى إذا ما مضى وقت طويل تبدأ بعده الساعة بترديد أصداء منتصف الليل، عندها تحبس الموسيقى أنفاسها حسبما ذكرت آنفا، ويهدأ نشاط الراقصين ويخيم على المكان سكون مضطرب في كل شيء كالسابق، ولكن في هذه المرة سيصدر جرس الساعة اثني عشرة دقة، وهكذا بدأ العد لتتزاحم معه الكثير من الأفكار ويمتد معه الاستغراق في التأمل وسط أولئك المعربدين، وهكذا قبل أن تغرق آخر أصداء الدقة الأخيرة في صمت عميق كان هناك العديد من المحتشدين الذين ما أن أحسوا بالراحة حتى انتبهوا لوجود شخص مقنع لم يلفت انتباه أي منهم من ذي قبل، وبدأت إشاعة ظهور هذا الزائر الجديد بالانتشار في جميع الأروقة، ولم يحدث أزيز المحتفلين وهمهمتهم بهذه الإشاعة تقززا فقط بل ورعبَا مخيفَا أيضَا.

في خضم هذه المفارقة المجتمعة للأوهام التي قمت برسمها يمكن القول بأن ما من مظهر عادي قد يثير مثل هذه الأحاسيس، بل إن الحقيقة عارية أمام لا محدودية حرية التنكر في هذه الليلة، بَيْدَ أن الشخص المشبوه قد فاق هيرودوس (2) في فعتله وتعدى كثيرا حدود الحشمة التنكرية لشخص الأمير نفسه، لقد انتابت قلوب أكثر الحاضرين تهورا عاطفة جياشة لا يمكن مجابهتها ببرودة أعصاب، حتى أن أولئك البائسين تماما ممن يعتبرون الحياة والموت دعابتين متشابهتين يؤمنون بوجود أمور يستحيل المزاح فيها، وبالفعل طاف على الجميع شعور عميق بأن ملابس الغريب ومغزاه من هذا التنكر لا ينمان عن خفة دم ولا أدب ظاهر، فهذا الشكل البشري الطويل والهزيل مكفن من رأسه إلى أخمص قدميه بأكفان المقابر، أما القناع الذي يواري خلفه سحنة وجهه فقد صُنع بطريقة تشبه ملامح جثة متيبسة يصعب على أدق الفحوص اكتشاف الخدعة التي عملت بها، ومع ذلك كان بإمكان المعربدين الغاضبين في الجوار تحمل هذا النوع من الدعابات وإن لم يستسيغوها لولا تمادي هذا المهرج المتنكر في طريقة تنكره إلى درجة أنهم شبهوه بأحد أنواع الموت الأحمر، فقد كان رداءه يعتصر دما، أما حاجبه الواسع وجميع ملامح وجهه كانت تمطر رعباً قرمزيا.

لقد لاحظ الجميع ما آل إليه حال الأمير بروسبيرو من اضطراب عندما ألقى بناظريه على هذه الصورة الطيفية وهي تتحرك ببطء وهيبة وتخطوا بشموخ جيئة وذهابا بين الراقصين وكأنها تؤدي دورها ببراعة تامة، ففي اللحظة الأولى انتابته قشعريرة قوية ساقتها الرهبة والتقزز، أما في اللحظة التالية فقد استشاط غضبَا وزمجر بصوته الأجش :" من ذا الذي يجرؤ؟ "، موجها سؤاله إلى خدمه الواقفين بقربه: " من ذا الذي يجرؤ على إهانتنا بهذه المهزلة الكافرة؟ امسكوا به، واخلعوا عنه قناعه علّنا نتعرف على هذا الذي سنعلقه شنقََا من على شرفات الكنيسة عند شروق الشمس".

لقد كان الأمير بروسبيرو في الغرفة الزرقاء عندما أطلق تلك الصيحات التي دوى صداها بشدة ووضوح جميع أرجاء الغرف السبع، ولا عجب في ذلك فالجميع يشهد بشجاعة الأمير وغلظته، إذ بمجرد أن لوح بيده في الهواء حتى حبست الموسيقى أنفاسها.

وقف الأمير في الغرفة الزرقاء وإلى جانبه مجموعة من أفراد حاشيته وقد كسا الشحوب وجوههم، في البداية وأثناء ما كان الأمير يتكلم هرعت جماعته بحركة خفيفة تجاه الشخص الدخيل الذي كان في هذه اللحظة أيضا قريبا من قبضتهم وهو يهم بخطى حثيثة وثابتة ليدنو من الأمير، ولكن تلك الهيبة الغامضة التي فرضتها تلك الإشاعة بتخيلاتها المجنونة على الجميع لم تتح لأي منهم المجال لأن يحرك ساكنا للقبض عليه، وهكذا وبدون أية تدخل عبر المتنكر فناء شخص الأمير ذاته، وبينما كانت الجموع الغفيرة تندفع كموجة ممتدة من أواسط الغرف إلى جدرانها كان الدخيل يشق طريقه دون عناء وبنفس الخطى المهيبة والمدروسة التي ميزته منذ البداية مارًا عبر الغرفة الزرقاء إلى الأرجوانية ومن الأرجوانية إلى الخضراء ومن الخضراء إلى البرتقالية وعبر هذه الغرفة إلى البيضاء وحتى من هناك إلى البنفسجية قبل أن تكون هناك حركة حازمة لاعتقاله، عندئذ جن جنون الأمير بروسبيرو وهو يرى عار الجبن وقد لحق به في تلك اللحظة لينطلق مسرعا كسهم أفلت من قوسه عبر الغرف الست، ولكن تلك الرهبة القاتلة التي ألمت بالجميع لم تسعف أحدا منهم على اللحاق بصاحبهم، حينها استل الأمير خنجره المغمود عاليا ودنا سريعا بمقدار ثلاثة أقدام أو أربعة من الشخص الدخيل، ولكن عندما وصل هذا الأخير إلى آخر أتون الغرفة المخملية استدار فجأة ليواجه الشخص الذي يطارده... هناك..انطلقت صرخة شديدة سقط إثرها الخنجر اللامع على السجادة الداكنة التي ما لبثت هي الأخرى حتى خر عليها الأمير بروسبيرو صريعَا، واستجمع المحتفلون قواهم البائسة وألقوا بأجسادهم دفعة واحدة داخل الغرفة السوداء وهموا بإحكام قبضتهم على المتنكر الذي كان ما يزال هيكله الفارع والنحيل منتصبا بلا حراك تحت ظل ساعة الأبنوس، إلا أنهم صعقوا جميعا عندما رأوا الأكفان والجثة- حالها حال القناع الذي تنازعوه بينهم بعنف- ليتبينوا في نهاية المطاف أن ما من جسد ملموس بداخلها!

وتيقن الجميع الآن من وجود الموت الأحمر بينهم، فقد تسلل إليهم كلص في غيهب الليل، واخذ يلقي بالمعربدين الواحد تلوى الآخر في القاعات المضرجة بالدماء وكل من يسقط منهم أرضا يموت على تلك الحالة المزرية، ومع آخر ألوان المرح تلفظ الساعة أنفاسها الأخيرة وتخمد ألسنة المشاعل ويسدل الظلام الديجور رعبا موحشا ويعم الخراب والدمار في كل مكان ويبسط الموت الأحمر هيمنة مطلقة على كل شيء.


(1) مسرحية هيرناني للكاتب الكبير فيكتور هوغو حاولت الرقابة الفرنسية حظر عرضها بيد أنه قام بدعوة أصدقائه الفنانين في ليلة العرض وجميعهم يرتدون ملابس غريبة وخيالية جدا.
(2) هيرودوس هو ملك اليهود أيام النبي عيسى عليه السلام، ويقال أنه كان يريد قتل المسيح في مهده خوفا من أن يرث المسيح عرش الملك كما تنبأ المنجمون.