أحْلامُ آينِشْتَاين
للكاتب: آلان ليتمان
ترجمة: بدر العوفي
(1)
26 أَبْريل 1905م
افترض أن الزمن دائرة تدور حول نفسها، والعالم يكور نفسه بدقة سرمدية، وعلى الأرجح لا يعلم البشر بأنهم سيعيشون حياتهم من جديد، فالتجار لا يدركون بأنهم سيعقدون نفس الصفقة مرة تلوى الأخرى، كما أن أرباب السياسية يجهلون بأنهم سيلقون خطبهم العصماء من على ذات المنصة إلى عدد لا يحصى من المرات خلال دورات الزمن، ويحتفظ الآباء والأمهات بأول ضحكة يطلقها أطفالهم كما لو أنهم لن يسمعوها مرة أخرى، والعشاق يتعرون للمرة الأولى على استحياء مبهورين بالأجساد الناعمة والحلمات الغضة، كيف لهم أن يعرفوا بأن كل نظرة مسترقة وكل لمسة مآلها أن تتكرر مرة بعد مرة بعد مرة تماما كالسابق؟
ولا يختلف الأمر في السوق، فكيف يتسنى للباعة أن يعرفوا بأن كل سترة يدوية الصنع وكل منديل مطرز وكل قطعة حلوى وكل بوصلة معقدة وكل ساعة يد ستعود إلى أماكنها في الأكشاك؟ وعند الغسق يرجع الباعة إلى بيوتهم فيذهبون إلى عوائلهم أو يعرجون إلى احتساء الشراب في الحانات، فينادون بمرح أصدقاءهم في الأزقة المتعرجة، ويداعبون كل لحظة كما لو أنها زمردة في وديعة زائلة، أنى لهم أن يعرفوا بأن ما من شيء زائل، وبأن كل شيء سيحدث مرة أخرى؟ إذ لا أحد يعرف بأنه سيعود إلى حيث بدء سوى نملة تدب حول حافة ثريا بلورية.
وفي المستشفى الواقع على شارع جيربيرن تلقي امرأة الوداع على زوجها الذي يفترش السرير ويحدق فيها بنظرة فارغة، ففي الشهرين الماضيين امتد السرطان من حنجرته إلى كبده ومنه إلى البنكرياس فالدماغ، وفي أحدى زوايا الغرفة يقبع طفلاه الصغيران على أحد الكراسي، يمنعهما الخوف من النظر إلى والدهما الذي غارت خدوده وذبل جلده كرجل عجوز، تقترب الزوجة من السرير وتودع قبلة رقيقة على جبين زوجها، تهمس له بعبارات الوداع وتغادر مسرعة مع طفليهما وهي متأكدةبأن تلك القبلة كانت الأخيرة، كيف لها أن تعرف بأن الزمن سيعيد نفسه من جديد، وبأنها ستولد من جديد وستدرس في المدرسة الثانوية الألمانية مرة أخرى، وستعرض رسوماتها في المعرض بمدينة زيورخ, وستلتقي بزوجها مرة أخرى في المكتبة الصغيرة في فريبورج، وستبحر معه مجددا في بحيرة ثين في أحد أيام يونيو الدافئة، وستنجب من جديد، وسيعمل زوجها مجددا لثمان سنوات في مجال الأدوية ليعود إلى المنزل في أحد المساءات بورم في حنجرته، سيتقيأ وسيضعف جسده وسينتهي به المطاف في هذا المستشفى داخل هذه الغرفة وعلى هذا السرير وفي هذه اللحظة، كيف لها أن تعرف كل هذا؟
في عالم الزمن المكور، ستعاد كل مصافحة وكل قبلة وكل ولادة وكل كلمة بمنتهى الدقة، وكذلك الحال مع كل لحظة يتجافى فيها الأصدقاء ومع كل وقت يتزعزع فيه كيان الأسرة بسبب المال، ومع كل تعليق قاس ينفجر في جدال بين زوجين، ومع كل فرصة ضاعت بسبب حسد أحد الرؤساء، ومع كل وعد لم يحفظ.
وبمجرد أن تتكرر جميع الأشياء في المستقبل فإن جميع الأشياء التي تحدث الآن قد حدثت مليون مرة فيما مضى، غير أن قلة من الناس في المدن تدرك في أحلامها إدراكا مبهما بأن كل شيء قد حدث في الماضي، وهؤلاء الناس هم الأشقياء في الحياة، إذ يساورهم شعور بأن أحكامهم وافعالهم الخاطئة وحظوظهم السيئة جميعها أشياء حدثت في دورة الزمن المنصرم، وفي هزيع الليل يصارع هؤلاء المواطنون الملعونون أغطية أسرتهم، لا يذوقون طعم الراحة، مفجوعون لعلمهم بأنه ليس بمقدورهم تغيير فعل واحد ولا حتى إيماءة واحدة، لذلك ستتكرر أخطاؤهم بدقة في هذه الحياة كما في الحياة السابقة، وهؤلاء التعساء هم فقط الذين يطلقون الإشارة الوحيدة بأن الزمن يدور حول نفسه ذلك أن في وقت متأخر من الليل تضج شوارع المدن الفارغة وشرفاتها بأصوات نواحهم ونحيبهم.
الزمن في هذا العالم كما الماء المتدفق، لكن مجراه يتحول من حين إلى آخر بسبب كميات الحطام الكثيرة وهبات النسيم العابرة، وبين فينة وِأخرى تتسبب بعض الإضطرابات الكونية في تحويل مسار غدير الزمن بعيدا عن المجرى الرئيسي ليتصل في النهاية بمجرى الزمن الماضي، وعندما يحدث هذا التحول فإن كل ما يعلق بالروافد المتفرعة من طيور وأتربة وبشر يجدون أنفسهم فجأة وهم (يساقون إلى) الماضي.
من السهل تمييز الأشخاص الذين تم نقلهم إلى الزمن الماضي بملابسهم الداكنة والباهتة وبطريقتهم في المشي على أطراف أصابعهم في محاولة منهم لأن لا يصدروا أي صوت ولا أن يدهسوا أية عشبة، ذلك أنهم يخشون أن يكون لأي تغيير يحدثونه في الماضي تداعيات لا تحمد عقباها في المستقبل.
والآن على سبيل المثال تقبع إحدى السيدات تحت ظلال أحد الأروقة المقنطرة على شارع كرام 19، وبالرغم من أن مكانا كهذا يعتبر غريبا بالنسبة لمسافرة قادمة من المستقبل إلا أنها هناك، يعبر من أمامها المارة ويحدقون فيها ثم يواصلون مسيرهم، تحشر جسدها في إحدى الزوايا ثم تزحف سريعا عبر الشارع وتنكمش مرتعدة في بقعة مظلمة أخرى على الشارع رقم 22، إن هذه السيدة تخشى أن تثير الغبار أثناء مرور شخص يدعى بيتر كلوسن قاصدا الصيدلية الواقعة على شارع سبيتال في ظهيرة هذا اليوم الموافق 16 أبريل 1905م، وكلوسن هذا (شخص غندور) وهو يكره أن تتسخ ملابسه، فإذا ما لامس الغبار ملابسه فإنه سيتوقف لتنظيفها بعناية شديدة بغض النظر عن إلتزاماته الأخرى، وإذا تأخر كلوسن كثيرا فقد لا يشتري المرهم لزوجته التي تشتكي من آلام في رجلها منذ عدة أسابيع، وفي هذه الحالة ونظرا لمزاجها المتعكر فقد ترفض زوجة كلوسن الذهاب إلى بحيرة جنيف، وإذا لم تذهب إلى هذه البحيرة في 23 يونيو 1905م فإنها لن تلتقي بفتاة تدعى كاثرين دي بياني وهي تمشى على مرفأ الشاطئ الشرقي ولن تكون هناك لتُُعَرِِّّف الآنسة دي بياني بإبنها ريتشارد، وفي المقابل، لن يتزوج ريتشارد بكاثرين في 17 ديسمبر 1908م ولن ينجبا طفليهما فريدريك في 08 يوليو 1912م، كما لن يكون فريدريك كلوسن أبا لهانز كلوسن في 22 أغسطس 1938م وبدون هانز كلوسن فلن يقوم الإتحاد الأوروبي في عام 1979م أبدا.
وبدون سابق إنذار، تندفع هذه المرأة القادمة من المستقبل إلى هذا الزمن وإلى هذا المكان بالتحديد وتحاول الآن أن تتوارى في بقعتها الداكنة على شارع كرام رقم 22 ، ولا يخفى على هذه المرأة من أن قصة كلوسن وآلاف القصص الأخرى بانتظار أن تتجلى للعيان معتمدة في ذلك على المواليد من الأطفال وعلى تحركات البشر في الطرقات وعلى تغريد الطيور في لحظات محددة وعلى الموضع الدقيق للكراسي وعلى حركة الرياح، تتوارى هذه المرأة في الظلال متجاهلة النظرات التي تحدق بها، تتوارى هناك وتنتظر جدول الزمن ليأخذها إلى زمانها.
عندما يتحتم على أحد المسافرين القادمين من المستقبل أن يتحدث فإنه لا يتكلم بل (يئن) ويهمس بأصوات معذبة، وهو المتعذب لإنه لو أحدث أتفه التغييرات في أي شيء فإنه بذلك قد يدمر المستقبل، وفي نفس الوقت، يكون مجبرا على مشاهدة أحداث لا دخل له بها وبدون أن يتدخل فيها، فتراه يحسد الناس الذين يعيشون في أزمنتهم لأنهم يتصرفون كيفما يشاؤون، ولأنهم يغفلون عما (يخبئه) لهم المستقبل، بل إنهم يجهلون ما لأفعالهم من تداعيات، لكنه لا يقوى على التصرف، فهو كغاز خامل أو كشبخ أو كقصاصة بلا روح، لقد فقد شخصيته وأصبح منفي زمانه.
يمكن العثور على هؤلاء (البائسين القادمين) من المستقبل في كل قرية وفي كل مدينة، تجدهم مختبئين تحت إفريز المباني وفي السراديب وتحت القناطر المعلقة وفي الحقول المهجورة، لا يسألهم الناس عن الأحداث القادمة ولا عن حفلات الزواج المقبلة ولا عن حالات الولادة ولا عن الموارد المالية ولا عن الاختراعات ولا عن الفوائد التي يرتجى جنيها، وعوضا عن ذلك فإنهم يتركون لوحدهم ويعاملون بشفقة.
للكاتب: آلان ليتمان
ترجمة: بدر العوفي
(1)
26 أَبْريل 1905م
مِنَ الوَاضِحِ لِلْوَهَلَةِ الأُولَى أَنَّ أَمْرًا مُرِيبًا يَشُوبُ هَذا العَالَمَ، فَمَا مِنْ بُيُوتٍ لاَ فِيْ الوِدْيَانِ وَلاَ فِيْ السُّهُولِ، ذَلِكَ أَنَّ الجَمِيعَ قَدْ اسْتَوْطَنَ الجِبَالَ.
فِي وَقْتٍ مّا مِنَ المَاضِي، اكْتَشَفَ العُلَمَاءُ أَنَّ الوَقْتَ يَنْقَضِي بِشَيْءٍ مِنَ البُطْئِ كُلّمَا ابْتَعَدْنَا عَنْ مَرْكَزِ الأَرْضِ، وَهَذَا التَّأْثِيرُ ضَئيلٌ جِدًا بِحَيثُ لاَ يُمْكِنُ قِيَاسُهُ سُوَى بِاسْتِخْدَامِ أَجْهِزَةٍ عَالِيَةِ الحَسَاسِيَّةِ، وَبِمُجَرَّدِ أَنْ عَلِمَ النَّاسُ بِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ حَتَّى انْتَقَلَ البَعْضُ مِنْهُمُ إِلَى الجِبَالِ وَاللَّهْفَةُ تَحُفُّهُمُ لِلبَقَاءِ عَلَى قَيْدِ الشَّبَابِ ، وَالآنَ أَصْبَحَت جَميعُ البُيوتِ مَبْنِيَّةً عَلَى قِمَمِ جَبَلِ الدُّومِ وَجَبَلِ مَاتِرهون وَجَبَلِ مُونتَا رُوزَا وَالأرَاضِي المُرْتَفِعَةِ الأُخْرَى، وَأَصْبَحَ مِنَ المُسْتَحِيلِ بَيْعُ الأّرَاضِي السّكَنِيَّة فِي أَيِّ مَكَانٍ آخَرَ.
غَيْرَ أَنَّ العَدِيدَ مِنَ البَشَرِ لَمْ يَقْتَنِعُوا بِبِنَاءِ بُيُوتٍ لَهْمُ عَلَى قِمَّةِ جَبَلٍ فَحَسْب، بَلْ إِنَّهُمُ عَمَدُوا إِلَى بِنَاءِ بُيُوتِهِمُ عَلَى رَكَائِزَ طَوِيلَةٍ كَيْ يَحْصُلوا عَلَى أَكْبَرِ قَدْرٍ مِنَ التَّأْثِيرِ ، لِهَذَا أَصْبَحَتْ قِمَمُ الجِبَالِ فِي شَتَّى بِقَاعِ العَالَمِ مَكْسُوّةً بِمِثْلِ هَذِهِ البُيوتِ التَّي تَبْدو مِنْ بَعِيدٍ وَكَأَنَّها سِرْبٌ مِنَ الطُّيورِ الضَّخْمَةِ تَجْثُمُ عَلَى أَرْجُلٍ نَحِيلَةٍ وَطَويلَةٍ، أَمَّا الَبشَرُ الذّينَ يَتُوقُونَ إِلى البَقَاءِ لِعُمُرٍ أَطْوَلَ فَقدْ شَيّدوا بُيُوتَهُمُ عَلَى أَعْلَى الرّكَائِزِ، وَيَاللعَجَبْ! بَعْضُ البُيُوتِ كَانَتْ تًرْتًفِعُ عَالِيًا إِلى نِصْفِ مِيلٍ عَلى أَرْجُلِها الخَشَبِيَةِ الطّويلَةِ، لَقَدْ أَصْبَحَ العُلُوُّ بِمَثَابَةِ مَنْزِلَةِ رُقِيٍ، إِذْ عِنْدَمَا يُريدُ شَخْصٌ مّا أَنْ يَجُولَ بِبَصَرِهِ عَالِيًا مِنْ عَلَى نَافِذَةِ مَطْبَخِهِ لِرُؤْيَةِ أَحَدَ الجيرَانِ فَإِنَّهُ يُدْرِكَ بَأَنَّ ذَلِكَ الجَارَ لَنْ يُصَابَ بِتَصَلُّبِ المَفَاصِلِ بِالسُّرْعَةِ الّتِي سَيُصَابُ هُو بِهَا وَلَنْ يَفْقِدَ شَعْرَ رَأْسِهِ وَلَنْ تَكْسو جَسَدَهُ التَّجَاعِيدَ حَتَّى وَقْتٍ لاحِقٍ وَلَنْ يَفْقُدَ شَغَفَ الرّومَنْسِيَّةِ بَاكِرًا مِثْلَهُ، وَبِالمِثْلِ فَإِنّ الشّخْصَ الّذِي يُطِلٌّ بِبَصَرِهِ مِنْ عُلُوٍ عَلَى بَيْتٍ آخَرَ يَمِيلُ إِلَى نَعْتِ سَاكِنِيهِ بَالمُنْهَكِينَ وَالضُّعَفَاءِ وَقَصِيرِي النَّظَرِ، وَيَتَفَاخَرُ البَعْضُ مِنَ البَشَرِ بِأَنّهُمُ قَضَوا جُلَّ حَيَاتِهُمُ في العَلالي وَبِأَنّهُمُ وُلِدُوا فِي أَعْلَى بَيْتٍ وَعَلَى أَعْلَى قِمّةِ جَبَلٍ وَلَمْ يَنْزِلوا إِلى الأّسْفَلِ قَيْدَ أُنْمُلَهٍ، وَهَؤلاءِ يَحْتفِلونَ بِشَبَابِهُمُ عَلى المَرَايا وَيَمْشُونَ عُرَاةً في الشُّرُفَاتِ.
بَيْنَ فَيْنَةٍ وَأُخْرَى يَضْطَرُّ البَشَرُ إِلى النُّزُولِ مِنْ بُيُوتِهِمُ لِقَضَاءِ بَعْضِ الأُمُورِ الطّارِئَةِ وَيَقومُون بِذّلكَ عَلَى وَجْهِ السُّرْعَةِ حَيْثُ يَنْزِلونَ عَلَى عَجَلٍ مِنْ عَلَى سَلالِمِهِمُ الطّويلَةِ إِلى الأَرْضِ وَيَهْرَعُونَ إِلى سُلَّمٍ آخَرَ أَوْ إلى الوَادي في الأَسْفَلِ وَيُنْهُونَ تَعَامُلاتِهِمُ وَمِنْ ثُمَّ يَعُودُونَ أَدْرَاجَهُمُ بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُهُمُ إلى بُيُوتِهِمُ أَوْ إِلى أَمَاكِنَ أُخْرَى مُرْتَفِعَةً ، وَيُدْرِكُ هَؤلاءِ البَشَرُ أَنّ مَعَ كُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُونَ بِهَا إلى الأَسْفَلِ يَتَسَارَعُ مُرُورَ الوَقْتِ وَيَهْرَمُونَ شَيْئًا فَشَيْئًا، إِنّ الَبَشرَ الّذينَ يَنْزِلُونَ إلى مُسْتًوى الأَرْضِ لاَ تَهْدَأُ لًهُمُ سَاكِنَةٌ، فًهُمٌ يَعْدُونَ بِأَحْمَالِهِمُ مِنْ حَقَائِبٍ وَمُشْتَرَيَاتٍ.
بَيْدَ أَنّ قِلّةً مِنَ القَاطِنِينَ فِي المُدُنِ لَمْ تَعُدْ تَأْبَهُ بِأَمْرِ تَقَدُّمِ العُمْرِ بِضْعَ ثَوانٍ أَسْرَعَ مِن جِيرَانِهَا، لِذَلكَ تَنْزِلُ هَذِهِ الأَنْفُسُ المُغَامِرَةُ إِلى العَالَمِ السُّفْليِّ لِعِدَّةِ أَيَّامٍ في المَرَّةِ الوَاحِدَةِ وَتَسْتَلْقِي تَحْتَ الأشْجَارِ المُنْتَشِرَةِ في الوِدْيَانِ وَتَسْبَحُ الهُويْنَا في البُحَيْرَاتِ المُمْتَدّةِ عَلى ارْتِفَاعَاتٍ دّافِئَةٍ وَتَتَمَرّغُ عَلى مُسْتَوى الأَرْضِ، ونَادِرًا مَا يُنَاظِرُ هَؤلاءِ النّاسُ سَاعَاتِهِمُ إِلى دَرَجَةِ أَنّهُمُ لا يَعْرِفُونَ مَا إذَا كَانَ اليَوْمُ هُو الاثْنينُ أمِ الخَميسُ، وعِنْدمَا يُهَرْولُ أَمَامَهُمُ الآخَرُونَ بِسُخْريَاتِهُمُ لا يُبَادِلُونَهُمُ سُوى بِالابْتِسَامِ.
مَعَ مُرُورِ الوَقْتِ، تَنَاسَى البَشَرُ السَّبَبَ وَرَاءَ كَونِ المَكَانِ الأََعْلى هُو الأَفْضَل، وَمَعَ ذَلكَ وَاصَلوا حَيَاتَهُمُ في العَيْشِ عَلى قِمَمِ الجِبَالِ وفي تَجَنُّبِ المَنَاطِقِ الغَائِرَةِ قَدْرَ الإمْكَان وَفي تَحْذِيرِ أَبْنَاءِهِمُ مِن مَغَبّةِ مُخَالَطَةِ الأَطْفالِ القَابِعينَ في الطَّبَقَاتِ الدُّنْيَا، لِهَذَا تَعَوّدُوا عَلى تَحَمَُلِ بَرْدِ الجِبَالِ والاسْتِمْتَاعِ بِالشَّقَاءِ كَجُزْءٍ مِن التّرْبِيَةِ الّتي جُبِلوا عَلَيْهَا، حَتَى أَنَّهُمُ أقْنَعُوا أَنْفُسَهُمُ بِأَنّ الهَوَاء الذّي يَفْتَقِرُ إلى الأُكْسِجِين مُفيدٌ لأَجْسَادِهِمُ، وبِاتِّبَاعِهِمُ هِذا المَنْطِقَ مَارَسوا حِمْيَاتٍ قَاسِياتٍ وَرَفَضُوا كُلّ أَنْواعِ الطّعَامِ مَاعَدَا النُّذْرَ اليَسِيرَ مِنْهُ، وَتَدُورُ سَاعَةُ الزّمَنِ وَيُصْبِحُ البَشَرُ كَمَا الهَوَاءِ الخَفِيفِ، فَتَنْحُفُ أَجْسِادُهُمُ ويُصْبِحونَ عَجَزَةً وَكُهولاً قَبْلَ أَوَانِهِمُ.
***
(2)
(2)
14 أبريل 1905
افترض أن الزمن دائرة تدور حول نفسها، والعالم يكور نفسه بدقة سرمدية، وعلى الأرجح لا يعلم البشر بأنهم سيعيشون حياتهم من جديد، فالتجار لا يدركون بأنهم سيعقدون نفس الصفقة مرة تلوى الأخرى، كما أن أرباب السياسية يجهلون بأنهم سيلقون خطبهم العصماء من على ذات المنصة إلى عدد لا يحصى من المرات خلال دورات الزمن، ويحتفظ الآباء والأمهات بأول ضحكة يطلقها أطفالهم كما لو أنهم لن يسمعوها مرة أخرى، والعشاق يتعرون للمرة الأولى على استحياء مبهورين بالأجساد الناعمة والحلمات الغضة، كيف لهم أن يعرفوا بأن كل نظرة مسترقة وكل لمسة مآلها أن تتكرر مرة بعد مرة بعد مرة تماما كالسابق؟
ولا يختلف الأمر في السوق، فكيف يتسنى للباعة أن يعرفوا بأن كل سترة يدوية الصنع وكل منديل مطرز وكل قطعة حلوى وكل بوصلة معقدة وكل ساعة يد ستعود إلى أماكنها في الأكشاك؟ وعند الغسق يرجع الباعة إلى بيوتهم فيذهبون إلى عوائلهم أو يعرجون إلى احتساء الشراب في الحانات، فينادون بمرح أصدقاءهم في الأزقة المتعرجة، ويداعبون كل لحظة كما لو أنها زمردة في وديعة زائلة، أنى لهم أن يعرفوا بأن ما من شيء زائل، وبأن كل شيء سيحدث مرة أخرى؟ إذ لا أحد يعرف بأنه سيعود إلى حيث بدء سوى نملة تدب حول حافة ثريا بلورية.
وفي المستشفى الواقع على شارع جيربيرن تلقي امرأة الوداع على زوجها الذي يفترش السرير ويحدق فيها بنظرة فارغة، ففي الشهرين الماضيين امتد السرطان من حنجرته إلى كبده ومنه إلى البنكرياس فالدماغ، وفي أحدى زوايا الغرفة يقبع طفلاه الصغيران على أحد الكراسي، يمنعهما الخوف من النظر إلى والدهما الذي غارت خدوده وذبل جلده كرجل عجوز، تقترب الزوجة من السرير وتودع قبلة رقيقة على جبين زوجها، تهمس له بعبارات الوداع وتغادر مسرعة مع طفليهما وهي متأكدةبأن تلك القبلة كانت الأخيرة، كيف لها أن تعرف بأن الزمن سيعيد نفسه من جديد، وبأنها ستولد من جديد وستدرس في المدرسة الثانوية الألمانية مرة أخرى، وستعرض رسوماتها في المعرض بمدينة زيورخ, وستلتقي بزوجها مرة أخرى في المكتبة الصغيرة في فريبورج، وستبحر معه مجددا في بحيرة ثين في أحد أيام يونيو الدافئة، وستنجب من جديد، وسيعمل زوجها مجددا لثمان سنوات في مجال الأدوية ليعود إلى المنزل في أحد المساءات بورم في حنجرته، سيتقيأ وسيضعف جسده وسينتهي به المطاف في هذا المستشفى داخل هذه الغرفة وعلى هذا السرير وفي هذه اللحظة، كيف لها أن تعرف كل هذا؟
في عالم الزمن المكور، ستعاد كل مصافحة وكل قبلة وكل ولادة وكل كلمة بمنتهى الدقة، وكذلك الحال مع كل لحظة يتجافى فيها الأصدقاء ومع كل وقت يتزعزع فيه كيان الأسرة بسبب المال، ومع كل تعليق قاس ينفجر في جدال بين زوجين، ومع كل فرصة ضاعت بسبب حسد أحد الرؤساء، ومع كل وعد لم يحفظ.
وبمجرد أن تتكرر جميع الأشياء في المستقبل فإن جميع الأشياء التي تحدث الآن قد حدثت مليون مرة فيما مضى، غير أن قلة من الناس في المدن تدرك في أحلامها إدراكا مبهما بأن كل شيء قد حدث في الماضي، وهؤلاء الناس هم الأشقياء في الحياة، إذ يساورهم شعور بأن أحكامهم وافعالهم الخاطئة وحظوظهم السيئة جميعها أشياء حدثت في دورة الزمن المنصرم، وفي هزيع الليل يصارع هؤلاء المواطنون الملعونون أغطية أسرتهم، لا يذوقون طعم الراحة، مفجوعون لعلمهم بأنه ليس بمقدورهم تغيير فعل واحد ولا حتى إيماءة واحدة، لذلك ستتكرر أخطاؤهم بدقة في هذه الحياة كما في الحياة السابقة، وهؤلاء التعساء هم فقط الذين يطلقون الإشارة الوحيدة بأن الزمن يدور حول نفسه ذلك أن في وقت متأخر من الليل تضج شوارع المدن الفارغة وشرفاتها بأصوات نواحهم ونحيبهم.
****
(3)
(3)
16 أبريل 1905
الزمن في هذا العالم كما الماء المتدفق، لكن مجراه يتحول من حين إلى آخر بسبب كميات الحطام الكثيرة وهبات النسيم العابرة، وبين فينة وِأخرى تتسبب بعض الإضطرابات الكونية في تحويل مسار غدير الزمن بعيدا عن المجرى الرئيسي ليتصل في النهاية بمجرى الزمن الماضي، وعندما يحدث هذا التحول فإن كل ما يعلق بالروافد المتفرعة من طيور وأتربة وبشر يجدون أنفسهم فجأة وهم (يساقون إلى) الماضي.
من السهل تمييز الأشخاص الذين تم نقلهم إلى الزمن الماضي بملابسهم الداكنة والباهتة وبطريقتهم في المشي على أطراف أصابعهم في محاولة منهم لأن لا يصدروا أي صوت ولا أن يدهسوا أية عشبة، ذلك أنهم يخشون أن يكون لأي تغيير يحدثونه في الماضي تداعيات لا تحمد عقباها في المستقبل.
والآن على سبيل المثال تقبع إحدى السيدات تحت ظلال أحد الأروقة المقنطرة على شارع كرام 19، وبالرغم من أن مكانا كهذا يعتبر غريبا بالنسبة لمسافرة قادمة من المستقبل إلا أنها هناك، يعبر من أمامها المارة ويحدقون فيها ثم يواصلون مسيرهم، تحشر جسدها في إحدى الزوايا ثم تزحف سريعا عبر الشارع وتنكمش مرتعدة في بقعة مظلمة أخرى على الشارع رقم 22، إن هذه السيدة تخشى أن تثير الغبار أثناء مرور شخص يدعى بيتر كلوسن قاصدا الصيدلية الواقعة على شارع سبيتال في ظهيرة هذا اليوم الموافق 16 أبريل 1905م، وكلوسن هذا (شخص غندور) وهو يكره أن تتسخ ملابسه، فإذا ما لامس الغبار ملابسه فإنه سيتوقف لتنظيفها بعناية شديدة بغض النظر عن إلتزاماته الأخرى، وإذا تأخر كلوسن كثيرا فقد لا يشتري المرهم لزوجته التي تشتكي من آلام في رجلها منذ عدة أسابيع، وفي هذه الحالة ونظرا لمزاجها المتعكر فقد ترفض زوجة كلوسن الذهاب إلى بحيرة جنيف، وإذا لم تذهب إلى هذه البحيرة في 23 يونيو 1905م فإنها لن تلتقي بفتاة تدعى كاثرين دي بياني وهي تمشى على مرفأ الشاطئ الشرقي ولن تكون هناك لتُُعَرِِّّف الآنسة دي بياني بإبنها ريتشارد، وفي المقابل، لن يتزوج ريتشارد بكاثرين في 17 ديسمبر 1908م ولن ينجبا طفليهما فريدريك في 08 يوليو 1912م، كما لن يكون فريدريك كلوسن أبا لهانز كلوسن في 22 أغسطس 1938م وبدون هانز كلوسن فلن يقوم الإتحاد الأوروبي في عام 1979م أبدا.
وبدون سابق إنذار، تندفع هذه المرأة القادمة من المستقبل إلى هذا الزمن وإلى هذا المكان بالتحديد وتحاول الآن أن تتوارى في بقعتها الداكنة على شارع كرام رقم 22 ، ولا يخفى على هذه المرأة من أن قصة كلوسن وآلاف القصص الأخرى بانتظار أن تتجلى للعيان معتمدة في ذلك على المواليد من الأطفال وعلى تحركات البشر في الطرقات وعلى تغريد الطيور في لحظات محددة وعلى الموضع الدقيق للكراسي وعلى حركة الرياح، تتوارى هذه المرأة في الظلال متجاهلة النظرات التي تحدق بها، تتوارى هناك وتنتظر جدول الزمن ليأخذها إلى زمانها.
عندما يتحتم على أحد المسافرين القادمين من المستقبل أن يتحدث فإنه لا يتكلم بل (يئن) ويهمس بأصوات معذبة، وهو المتعذب لإنه لو أحدث أتفه التغييرات في أي شيء فإنه بذلك قد يدمر المستقبل، وفي نفس الوقت، يكون مجبرا على مشاهدة أحداث لا دخل له بها وبدون أن يتدخل فيها، فتراه يحسد الناس الذين يعيشون في أزمنتهم لأنهم يتصرفون كيفما يشاؤون، ولأنهم يغفلون عما (يخبئه) لهم المستقبل، بل إنهم يجهلون ما لأفعالهم من تداعيات، لكنه لا يقوى على التصرف، فهو كغاز خامل أو كشبخ أو كقصاصة بلا روح، لقد فقد شخصيته وأصبح منفي زمانه.
يمكن العثور على هؤلاء (البائسين القادمين) من المستقبل في كل قرية وفي كل مدينة، تجدهم مختبئين تحت إفريز المباني وفي السراديب وتحت القناطر المعلقة وفي الحقول المهجورة، لا يسألهم الناس عن الأحداث القادمة ولا عن حفلات الزواج المقبلة ولا عن حالات الولادة ولا عن الموارد المالية ولا عن الاختراعات ولا عن الفوائد التي يرتجى جنيها، وعوضا عن ذلك فإنهم يتركون لوحدهم ويعاملون بشفقة.