غيمة
قصة قصيرة
د. أحمد الخميسي

توفيت أمي فجأة قرب الفجر ، وهي جالسة بكامل قواها العقلية والنفسية . لم تنطق إلا بكلمتين : جرعة ماء . اجتهد الموت معها وقدم أسبابه ثلاث مرات ، ردته، فهبط عليها كما هو مجرد موت عار من أي منطق ، دون سبب ظاهر يتعزى به العقل . ولم يبق أمامنا على سريرها سوى القشرة الخارجية للروح التي كانت أمنا لسنوات طويلة .
طبعتُ قبلة على جبينها وهي ممدة أمامي وانصرفتْ دموعي لمشقة حياتها أكثر من أي شيء آخر .
سألتُ نفسي : ما الذي يمكن لها أن تقدمه للموت بطاقة أخيرة وهي تعبر إلى الأبدية ؟ لابد أن هناك معنى يتصل بالعلاقة بين انتهاء الحياة وابتداء الموت ، جسرا صغيرا ، إذا لم يجده المرء يصبح الموت نهاية الطريق . ترى هل وعت شيئا تتكئ عليه وهي تسير إلى العالم الآخر؟
أنهينا كل الإجراءات اللازمة بسرعة كالمعتاد في هذه الحالات . جرى عمي واستخرج تصريح الدفن وقبل أن يعود لاهثا، كان آخرون قد استقلوا سيارة واتجهوا إلى مقابر العائلة لإعداد المثوى، بينما قصدت أنا مع اثنين من أقاربنا محل الحانوتي . وأصبح الموت موضوعا للفصال مع الحانوتي البدين الذي طالب بخمسمائة جنيه عن التغسيل وقماش الكفن والنعش وسيارة النقل . وبعد نحو خمس ساعات تحركت عدة سيارات إلى مدافن العائلة وهي تجهد لكي لا تفقد مسارها في الزحام .

* * *

توقفت أختي الكبيرة عن التردد على البيت مع أطفالها بعد وفاة أمي . قالت : لا أستطيع أن أدخل فلا أجدها . وأخذ أخي الأصغر يكرر على مدى شهرين أنه مازال يرى أمنا من حين لآخر وهي تقطع الصالة بهدوء ، بل ويجدها تتحدث إليه حين يكون واقفا بمفرده في المطبخ أو الحمام . وبعد فترة قصد أخي طبيبا نفسيا يسأله منوما أو مهدئا . قال له الطبيب إنه يعاني من هلوسة سمعية وبصرية عادة ما تظهر بعد وفاة حبيب أو عزيز . أشفقنا جميعاً على أخى لأنه يعيش في نفس الشقة تحيطه أنفاس أمي وأشياؤها . وكنا نستشعر صعوبة وضعه إذا تجمعنا في البيت لسبب أو آخر ، لأننا كنا نحس أن طيف أمي يجوس صامتا سجينا في الهواء .
وخوفاً على صحة أخي ارتأت ثريا زوجته أن تغيرَ أثاث البيت قطعة بعد الأخرى ، حسبت أن ذلك سيبدل الجو القاتم. هكذا فوجئنا ذات يوم أنها اشترت طقم صالون جديد . وحين شاهدناه في مدخل الشقة ابتسمتْ بحرج خفيف وهمهمت كالمعتذرة وهي تفرك فوطة بيدها: نوع من التغيير. قالتها كأنها تطلب المغفرة . تأملنا الطقم وأبدينا إعجابنا به . لكني شعرت أن شيئا من روح أمي التي اعتدتُ على رؤيتها على كرسي بعينه قد ولى . ثم بدلت موقد الغاز القديم بآخر اشترته بالتقسيط ، فتلاشت صورة أمي وهي واقفة في المطبخ تغلي الماء للشاي في إبريق صاج تقشر طلاؤه . وعندما اختفت المنضدة القصيرة التي كانت أمي تجلس خلفها لتفطر كل صباح أدركنا جميعا دون أن ينطق أحدنا بحرف أن ما تبقى من السيدة التي أطعمتنا وسقتنا ينزلق من بين أيادينا إلى العدم . في النهاية قررت ثريا أن تطلي جدران البيت بزيت أخضر لامع . وحلت مكان روح أمي التي كانت تجوس بين أشيائها في الشقة صورة كبيرة لها في إطار مذهب توحي ليس بالرغبة في استبقاء وجه أمي طيلة الوقت على مرأى من الجميع بقدر ما تشى بأن المساحة الممنوحة لهذه الروح قد تقلصت بحجم إطار الصورة ، وأن علي أمي من الآن فصاعدا أن تقنع بوجودها الذي تقلص وثُبت بمسمار في الجدار دقته ثريا بارتباك على عجل .

* * *

ربما منذ أن شرع العمال في طلاء الشقة ، أو قبل ذلك بقليل ، صرت أرفع رأسي للسماء دون سبب ظاهر أثناء سيري في الشوارع . كان ذلك يحدث أحيانا ، وأنا أمشي بمفردي ، فإذا كان ثمة من يسير معي واستغرب ما أفعله ، سارعت أداري نفسي بنظرة خاطفة إلى ما بين قدمي أو إلى واجهة أقرب محل ، دون أن يبدد ذلك الحيرة الصامتة في عيني الآخر عن بسبب نظرتي المفاجئة نحو السماء .
كنت أرفع عيني إلى أعلى بحثا عن شيء مجهول لم أره من قبل. ربما كان سحابة كبيرة بيضاء ، أو فراغا لا أدري شكله ، أو روحا كالغيمة منداة بالدمع .

* * *

ساعة دفن أمي كنت مسروقا من نفسي ، فلم يعلق بذاكرتي سوى ذوب صور مما جرى ونحن نعبر البوابة الحديدية العالية إلى مدخل المدفن بين صراخ أطفال وشحاذين ومقرئين نحو الفسحة الداخلية المدورة المبلطة ، وعيناي كأنما في حلم يراه شخص آخر تمسحان بنظرة غائمة أسماء الراحلين المنقوشة على الشواهد الرخامية العالية في الجدران. غالبية الأسماء معروفة لي . من بينهم تهاني بنت عمي الأكبر . كانت لهم فيلا من طابقين بحديقة واسعة مزروعة بأشجار المانجو والجوافة والليمون في أرض النعام، خيم عليها حينذاك هدوء، وصحا فيها هواء نقي ، وتناثرت المساكن القليلة فيها على مسافات بعيدة . كنت متيماً بتهانى وأنا في الثالثة عشرة ، مغرما حتى باسم التدليل الذي ناديناها به "توتة " .
كانت أكبر مني بعشر سنوات ، لكن نظرة عينيها الواسعتين الصافيتين كانت حين أتطلع إليها ترتجف كسماء يشقها ضوء نجمة. وصار من عاداتي أن أستعد لزيارتها عصر كل خميس فأشتري خصيصا لأجلها عددا جديدا من مجلة " مئة نكتة " ، وأعكف عليه طيلة الليل أحفظ منه قدر ما أستطيع ، ثم أنام مؤرقا . أستيقظ يوم الجمعة مع أول خيط من النور ، وأظل فترة أنتقي الأفضل من بين ثيابي القليلة . ثم أتجه إلى الشارع الموازي لشارعنا ، أركب الباص من الموقف ، وأرتكز برقبتي على حافة نافذة مقعدي ، وأسرح في الشوارع الخالية التي يقطعها الباص زمنا طويلا ، وتوتة في خيالي ومناظر الطريق تتبدل.
أصل إلى بيتهم ، وأتجول مع " توتة " في الحديقة براحتي ، لأنني صبي ، أحكي لها أي شيء فتعلق على كل ما يقال بضحكة : معقول ؟ لا . لا ! وتغرق في الضحك وهي تهتز مرتجفة مع هواء الحديقة الواهن المشبع بعطر الليمون . أسرد عليها النكات واحدة في إثر الأخرى بلا توقف ، فتضحك وتضحك حتى تفيض عيناها بدمع الحنان وتطبع على خدي قبلة خاطفة وحمرة تصعد إلى وجنتيها . أتجمد في مكاني كالمذهول ! تردني إلى وعيي بسؤال – كأنه استفسار عابر - عن أحوال خالي الذي أوشك على إنهاء تعليمه . لم أعرف أبدا إلى أن خطفها الموت إن كانت تداري بالقبلة حبها لخالي؟ أم كانت تداري باستفسارها عنه حبها لي؟ كنت أصغر من أن أسأل ، وكانت أكبر من أن تبوح .
في المدفن كان شعوري باهرا بضوء الصبا القديم الذي انبعث من الموت ، كأنني لم أكن واقفا أودع أمي التي نمونا على ذراعيها كحبات عنب على فروع التعكيبة . كأنني جئت لألتقي توته . كنتُ أشعر بوتر رنان يهزنى من محبة لم أتوقع ظهورها بهذه القوة وغمرني تأنيب عذب ومؤلم للفرح الخفي الذي أحسسته من لقائي بتوته بعد كل تلك السنوات .
سألتُ نفسي : إن كانت الطاقة لا تفنى ، فإلى أين تنصرف مشاعر الدفء والحب التي يهبها البشر بعضهم البعض ؟ هل تتجمع في مكان ما وفقا لقانون خاص وهناك تواصل حياتها في شكل آخر؟ لكن .. أين ؟
لم أهبط مع أمي إلى قاع القبر . ولم أحملها إلى هناك . لم أفعل ذلك مع أبي أيضا حينما ألقوا به يوما إلى هوة سحيقة. لم أستطع . فالموت مثل حكم بالإعدام ، أما الدفن فيشبه لحظة التنفيذ حين ترى العينين والوجنتين وهي تُدفع دفعا إلى التراب .

* * *

هكذا صرت بعد دفن أمي أجدني وأنا أسير بمفردي أرفع رأسي أحيانا إلى أعلى ، على غير إرادة مني ، متطلعا إلى شيء مجهول في السماء ، غيمة من الأرواح تسأل برفق عن أحبائها .



أحمد الخميسي . كاتب مصري
[email protected]