كما تفرد بذلك الجمال الخلقى والكمال الخلقى , واختص بفرائد المزايا , ومحامد الفضائل , تفرد فى الخلق جميعا بالمحبة الشاملة والخلة الكاملة , فهو حبيب إلى كل نفس تخلل حبه مسالك الروح من أصحابه وأتباعه , فملك عليهم نفوسهم , وإحتل من أنفسهم مكانا لم يكن حل من قبل , وشاع فى أرواحهم وأفئدتهم فليس له قبل وليس له بعد .
وإن حبه لفريضة يفرضها الدين , وعقيدة واجبة على المؤمنين , ولو لم يكن كذلك لرأيته صفة لازمة لهم وخاصة واضحة من خصائصهم .
يقول أبا سفيان بن حرب فى بعض أحاديثه : " والله لقد زرت الملوك ودخلت على كسرى وقيصر فما رأيت أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا , إذا تكلم سكتوا وكأن على رؤوسهم الطير , وإذا تحدثوا فى حضرته همسوا حتى لا يكاد يسمع بعضهم بعضا , وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه , وما تنخم نخامة إلا وقعت فى كف رجل منهم فدلك بها وجهه " . ولا تستغرب هذا أيها الأخ القارىء , فإن الحب عاطفة إذا تملكت النفس ملكت عليها كل شىء من مشاعرها وحواسها وصورت لها السعادة فى كل ما يتصل بحبيبها
ولقد جاء ثوبان إلى النبى باكيا مستعبرا , فقال له : ما يبكيك يا ثوبان ؟ فقال : يا رسول الله ذكرت حين يدخل أهل الجنة الجنة فتكون أنت بمنزلة لا ينالها أمثالى فأحرم رؤيتك وهى كل سعادتى فكيف لى بالصبر عنك ؟ , فسكت النبى , فنزلت الآية الكريمة : ﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ﴾ , فكانت خير بشرى ظفر بها ثوبان وظفر بها المؤمنون معه .
أرأيت تلك الأرملة التى خرجت تستشرف الجيش بعد عودته من إحدى الغزوات فأخبرت بإستشهاد أبيها وأخيها وزجها وإبنها فقالت : ما فعل رسول الله ؟ قالوا لها : خيرا !! قلت : أرونيه حتى أنظر إليه , فملا رأته قالت : الحمد لله فيك عوض من كل فائت .
وأرأيت كيف أن بلالا لم ينس حبه للنبى فى أشد حالة يكون فيها المرء تلك هى ساعة سكرات الموت , إذ سمع إمرأته تقول : واحرباه , فقال : واطرباه , غدا ألقى الأحبة محمدا وصحبه .
وبعد ..فهل أتاك نبأ خبيب بن عدى وقد رأى الموت بعينيه وخرج به آسروه ليقتلوه ثم بدا لهم أن يداعبوه فقالوا له : يا خبيب , أيسرك أن تكون فى أهلك وبنيك ومحمد مكانك نقتله بك , فإبتسم إبتسامة الهازىء بهم الساخر بقولهم ثم فاجأهم بقوله :
- " ما أجهلكم والله ما يسرنى أنى أكون فى أهلى وأبنائى ومحمد فى مكانه تصيبه شوكة وإنى لأفضل الموت عن ذلك " .
تصور هذا وإذكر معه ما يذكره إنجيل متى الذى يتداوله المسيحيون ويعتقدون صحته من أن بطرس الأكبر - وهو شيخ الحواريين عندهم - تبرأ من مسيحه وأنكره ثلاث مرات قبل أن يصيح ديك وأقسم لهم ثلاثة أيمان أنه ما عرفه ولا رآه ولا كان معه !
أو ترى بعد ذلك أن هذا الحب من عمل محمد أم أنه فضل الله يؤتيه من يشاء : ﴿ لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بين قلوبهم إنه عزيز حكيم ﴾