إن إدارة الدول والكيانات السياسية -كما لا يخفى على عاقل- ليست لعبة أطفال ولا تسلية كبار، بل هي عمل شديد التعقيد والتركيب، يتداخل فيه كل شأن من شؤون الحياة مع شؤونها الأخرى، فلا ينفك حفظ الحدود السياسية من عدو خارجي عن هموم رجل الشارع وحياته اليومية، ولا تنفصل مشكلة اجتماعية عن أحوال الفكر والثقافة والإعلام، ولا أمور الاقتصاد عن قضايا التعليم، ولا يستقل قصر الحاكم عن كوخ الفلاح.
إنه جسد واحد يدار دولابه من مجموعة من المكاتب والمواقع، وبقدر ضبط هذه الإدارة وتسييرها وفق أصولها الصحيحة يكون النجاح في إدارة الدولة وتوجيهها وجهة تمكن لها في محيطها الإقليمي والدولي، وتضمن سلامة الأحوال والعلاقات البينية في مجتمعها بصورها المختلفة، وتوجه طاقات الأمة إلى إنجاز الحضارة وإنتاج العمران.
"إن الذي حاولته مصر بثورتها الشعبية قبل أكثر من أربع سنوات هو الانعتاق من التبعية والخروج الحقيقي من جلباب المستعمر الذي عشنا في أسره وأسر أذنابه زمنا طويلا، ثم جاء انقلاب الجيش على السلطة الشرعية في 2013 ليقاوم هذه المحاولة للانعتاق"
إلا أن في المسألة تعقيدات وحسابات أخرى، فنحن لا نعمل في عالم سلس مطواع، أو لا نسكن في العالم وحدنا، بل ثمة ضغوط داخلية للكيانات الاقتصادية والاجتماعية القوية التي تسعى إلى حراسة مصالحها وتوسيعها، وهناك نفوذ الدول وتأثير بعضها في بعض، وكذلك تحكم بعض الدول في سلع ومنتجات استراتيجية وتوظيفها ذلك في التأثير على سياسات الآخرين، وهكذا.
وينبغي حين نعالج "المشكلة المصرية" الحالية -التي تبدو أكثر تعقيدا من المشكلة الشهيرة التي شهدتها المحروسة في مرحلة الاستعمار الإنجليزي للقطر المصري- أن نضع كل هذا في اعتبارنا حتى نستطيع تقديم التفسير الصحيح لما يجري، وبالتالي يسهل اقتراح الحلول.
إن الذي حاولته مصر بثورتها الشعبية قبل أكثر من أربع سنوات هو الانعتاق من التبعية مباشرة وغير مباشرة، والخروج الحقيقي من جلباب المستعمر الذي عشنا في أسره وأسر أذنابه زمنا طويلا، ثم جاء انقلاب الجيش على السلطة الشرعية في 2013 ليقاوم هذه المحاولة للانعتاق.
ومعادلة الصراع القائم الآن في مصر تقوم على هذه الثنائية، وتعتمد السلطة فيها -مع الدعم الدولي والإقليمي الواضح- على استغفال شريحة كبيرة من الشعب، وتخديرها بخطاب إعلامي خطير يضمن بقاءها في غيبوبة لأطول فترة زمنية ممكنة.
والاحتياط الذي يدخره الانقلاب لمواجهة أي خصم -أصيل أو متحول، واع من البداية أو ذهبت عنه الغفلة مع تطور الأحداث- هو آلة البطش التي يملكها، وتتمثل في قوات الشرطة والجيش التي واجهت وهي جاهزة لتواجه أي صوت يعلو بمعارضة الانقلاب، أي أن خيار الانقلاب ليس عمل تنمية حقيقية، ولا بناء دولة مؤسسات قوية، ولا حتى خداع الشعب بمشروعات تقسم الكعكة بين الشعب والجيش.
ومع هذا لا بأس من الإجابة عن السؤال الذي افتُتحتْ به هذه السطور، وهو في الحقيقة يستدعي سؤالا آخر يمكن أن يربط خيوط المسألة بعضها ببعض، وهذا السؤال الجديد هو: لماذا قام جنرالات الجيش بالانقلاب أصلا؟
والإجابة معروفة مجهولة معا، معروفة لأن الجنرالات سعوا بانقلابهم إلى الاحتفاظ بالسلطة لأنفسهم حين عجزوا عن حفظ نفوذهم الاقتصادي بدونها، أو قل: إنهم اختاروا النموذج العسكري الأفريقي بالحكم مباشرة حين عجزوا عن تطبيق النموذج الباكستاني الذي يحكمون فيه من خلف الستار. والمجهول هو حجم المبادرة الذاتية للعسكر وحجم التحريض الخارجي للقيام بهذا الانقلاب، وهو أمر مهم لمعرفة الهدف الدولي للانقلاب معرفة واضحة ودقيقة.
إذن قام عسكر مصر بانقلابهم الأخير للحفاظ على نفوذهم الاقتصادي، مع تلبية رغبات المصابين منهم بجنون العظمة والطموح إلى السلطة، وتحقيقا لهذا الهدف وذاك سفكوا دماء الآلاف، واعتقلوا أضعافهم، وشردوا مثلهم، وروعوا مثليهم، بل أمثالهم.
"دارت الكاميرا المصرية ذاتها التي دارت في 30 يونيو/حزيران 2013 من جديد في استعراض سينمائي آخر، بل في مخدر آخر لجموع كبيرة من المصريين لتعلن عن افتتاح "قناة السويس الجديدة.. هدية مصر للعالم""
ولكن أليس من شروط بقاء أي نظام سياسي في مواقع السلطة أن يضمن حدا من الاستقرار الاقتصادي والأمن الداخلي والخارجي يسكن الجماهير ويشعر الناس بأن لهم دورا يؤدونه ووظيفة يقومون بها؟ وإلا فلأي سبب يمكن أن تقبل الجماهير بوجوده وهو لا يوفر لها ضروريات الحياة وأساسياتها؟
إن بقاء الانقلاب في مصر رهن بالقيام بمشروعات حقيقية توفر فرص عمل للناس، وتحرك عجلة الاقتصاد الراكد، ورهن بالتخطيط لتوفير الأمن للمواطنين الذين باتت تتخطفهم يد اللصوص في الطرقات السريعة ومحاور المدن، وبتحقيق مستوى من الوئام الاجتماعي يقاوم هذا التفسخ المتصاعد في علاقة البنى الاجتماعية للشعب المصري بعضها ببعض.
ولا يتم هذا بصورة تلائم مصر والمصريين إلا بمراعاة طبيعة تركيبهم الاجتماعي، وعمقهم التاريخي والجغرافي، وثقافتهم الغالبة، نتيجة الثانوية ليبيا وهويتهم الأصيلة التي قد يعلوها في الأذهان شيء من الغبار أو التحوير، إلا أنها في عمقها شرقية عربية إسلامية.
ومن يغض الطرف عن هذا ويظن أن الدول والأنظمة الحاكمة تسقط فقط بعوامل القوة التي يملكها خصومها، لا يمكن أن يكون قد فهم بصورة صحيحة سيرورة التاريخ البشري ولا طبيعة السنن الحاكمة له، فإن عجز خصوم الانقلاب العسكري المصري إلى الآن عن إسقاطه -وإن بقي هذا العجز إلى النهاية- لا يعني أن الانقلاب سيستمر، لأن عوامل التآكل الذاتي أشد خطورة على أي كيان من تأثير الخصم فيه.
لقد سعى الانقلاب إلى إضعاف خصومه إلى أقصى حد ممكن، ومع أنه نجح في هذا بعد قتله من قتل، واعتقاله من اعتقل، واستمراره في تصفية المعارضين جسديا بوسائل خسيسة تدين المجتمع الدولي الصامت ومنظمات حقوق الإنسان المصرية توقعات الابراج اليوم والعربية والدولية بكل قوة، مع هذا وغيره فإن الانقلاب غفل عن عوامل التآكل الذاتي التي يتعرض لها، ويمثلها الفشل الذي ينحدر إليه في إدارة الدولة وتسيير شؤون المجتمع، والاعتماد في تثبيت نفسه في السلطة على الكذب الصراح، والعنف البالغ، وعلى تمييز طوائف وفئات من الناس على الأخرى بدون داع أدت إليه حركة طبيعية للمجتمع أو الاقتصاد.
إنه جسد واحد يدار دولابه من مجموعة من المكاتب والمواقع، وبقدر ضبط هذه الإدارة وتسييرها وفق أصولها الصحيحة يكون النجاح في إدارة الدولة وتوجيهها وجهة تمكن لها في محيطها الإقليمي والدولي، وتضمن سلامة الأحوال والعلاقات البينية في مجتمعها بصورها المختلفة، وتوجه طاقات الأمة إلى إنجاز الحضارة وإنتاج العمران.
"إن الذي حاولته مصر بثورتها الشعبية قبل أكثر من أربع سنوات هو الانعتاق من التبعية والخروج الحقيقي من جلباب المستعمر الذي عشنا في أسره وأسر أذنابه زمنا طويلا، ثم جاء انقلاب الجيش على السلطة الشرعية في 2013 ليقاوم هذه المحاولة للانعتاق"
إلا أن في المسألة تعقيدات وحسابات أخرى، فنحن لا نعمل في عالم سلس مطواع، أو لا نسكن في العالم وحدنا، بل ثمة ضغوط داخلية للكيانات الاقتصادية والاجتماعية القوية التي تسعى إلى حراسة مصالحها وتوسيعها، وهناك نفوذ الدول وتأثير بعضها في بعض، وكذلك تحكم بعض الدول في سلع ومنتجات استراتيجية وتوظيفها ذلك في التأثير على سياسات الآخرين، وهكذا.
وينبغي حين نعالج "المشكلة المصرية" الحالية -التي تبدو أكثر تعقيدا من المشكلة الشهيرة التي شهدتها المحروسة في مرحلة الاستعمار الإنجليزي للقطر المصري- أن نضع كل هذا في اعتبارنا حتى نستطيع تقديم التفسير الصحيح لما يجري، وبالتالي يسهل اقتراح الحلول.
إن الذي حاولته مصر بثورتها الشعبية قبل أكثر من أربع سنوات هو الانعتاق من التبعية مباشرة وغير مباشرة، والخروج الحقيقي من جلباب المستعمر الذي عشنا في أسره وأسر أذنابه زمنا طويلا، ثم جاء انقلاب الجيش على السلطة الشرعية في 2013 ليقاوم هذه المحاولة للانعتاق.
ومعادلة الصراع القائم الآن في مصر تقوم على هذه الثنائية، وتعتمد السلطة فيها -مع الدعم الدولي والإقليمي الواضح- على استغفال شريحة كبيرة من الشعب، وتخديرها بخطاب إعلامي خطير يضمن بقاءها في غيبوبة لأطول فترة زمنية ممكنة.
والاحتياط الذي يدخره الانقلاب لمواجهة أي خصم -أصيل أو متحول، واع من البداية أو ذهبت عنه الغفلة مع تطور الأحداث- هو آلة البطش التي يملكها، وتتمثل في قوات الشرطة والجيش التي واجهت وهي جاهزة لتواجه أي صوت يعلو بمعارضة الانقلاب، أي أن خيار الانقلاب ليس عمل تنمية حقيقية، ولا بناء دولة مؤسسات قوية، ولا حتى خداع الشعب بمشروعات تقسم الكعكة بين الشعب والجيش.
ومع هذا لا بأس من الإجابة عن السؤال الذي افتُتحتْ به هذه السطور، وهو في الحقيقة يستدعي سؤالا آخر يمكن أن يربط خيوط المسألة بعضها ببعض، وهذا السؤال الجديد هو: لماذا قام جنرالات الجيش بالانقلاب أصلا؟
والإجابة معروفة مجهولة معا، معروفة لأن الجنرالات سعوا بانقلابهم إلى الاحتفاظ بالسلطة لأنفسهم حين عجزوا عن حفظ نفوذهم الاقتصادي بدونها، أو قل: إنهم اختاروا النموذج العسكري الأفريقي بالحكم مباشرة حين عجزوا عن تطبيق النموذج الباكستاني الذي يحكمون فيه من خلف الستار. والمجهول هو حجم المبادرة الذاتية للعسكر وحجم التحريض الخارجي للقيام بهذا الانقلاب، وهو أمر مهم لمعرفة الهدف الدولي للانقلاب معرفة واضحة ودقيقة.
إذن قام عسكر مصر بانقلابهم الأخير للحفاظ على نفوذهم الاقتصادي، مع تلبية رغبات المصابين منهم بجنون العظمة والطموح إلى السلطة، وتحقيقا لهذا الهدف وذاك سفكوا دماء الآلاف، واعتقلوا أضعافهم، وشردوا مثلهم، وروعوا مثليهم، بل أمثالهم.
"دارت الكاميرا المصرية ذاتها التي دارت في 30 يونيو/حزيران 2013 من جديد في استعراض سينمائي آخر، بل في مخدر آخر لجموع كبيرة من المصريين لتعلن عن افتتاح "قناة السويس الجديدة.. هدية مصر للعالم""
ولكن أليس من شروط بقاء أي نظام سياسي في مواقع السلطة أن يضمن حدا من الاستقرار الاقتصادي والأمن الداخلي والخارجي يسكن الجماهير ويشعر الناس بأن لهم دورا يؤدونه ووظيفة يقومون بها؟ وإلا فلأي سبب يمكن أن تقبل الجماهير بوجوده وهو لا يوفر لها ضروريات الحياة وأساسياتها؟
إن بقاء الانقلاب في مصر رهن بالقيام بمشروعات حقيقية توفر فرص عمل للناس، وتحرك عجلة الاقتصاد الراكد، ورهن بالتخطيط لتوفير الأمن للمواطنين الذين باتت تتخطفهم يد اللصوص في الطرقات السريعة ومحاور المدن، وبتحقيق مستوى من الوئام الاجتماعي يقاوم هذا التفسخ المتصاعد في علاقة البنى الاجتماعية للشعب المصري بعضها ببعض.
ولا يتم هذا بصورة تلائم مصر والمصريين إلا بمراعاة طبيعة تركيبهم الاجتماعي، وعمقهم التاريخي والجغرافي، وثقافتهم الغالبة، نتيجة الثانوية ليبيا وهويتهم الأصيلة التي قد يعلوها في الأذهان شيء من الغبار أو التحوير، إلا أنها في عمقها شرقية عربية إسلامية.
ومن يغض الطرف عن هذا ويظن أن الدول والأنظمة الحاكمة تسقط فقط بعوامل القوة التي يملكها خصومها، لا يمكن أن يكون قد فهم بصورة صحيحة سيرورة التاريخ البشري ولا طبيعة السنن الحاكمة له، فإن عجز خصوم الانقلاب العسكري المصري إلى الآن عن إسقاطه -وإن بقي هذا العجز إلى النهاية- لا يعني أن الانقلاب سيستمر، لأن عوامل التآكل الذاتي أشد خطورة على أي كيان من تأثير الخصم فيه.
لقد سعى الانقلاب إلى إضعاف خصومه إلى أقصى حد ممكن، ومع أنه نجح في هذا بعد قتله من قتل، واعتقاله من اعتقل، واستمراره في تصفية المعارضين جسديا بوسائل خسيسة تدين المجتمع الدولي الصامت ومنظمات حقوق الإنسان المصرية توقعات الابراج اليوم والعربية والدولية بكل قوة، مع هذا وغيره فإن الانقلاب غفل عن عوامل التآكل الذاتي التي يتعرض لها، ويمثلها الفشل الذي ينحدر إليه في إدارة الدولة وتسيير شؤون المجتمع، والاعتماد في تثبيت نفسه في السلطة على الكذب الصراح، والعنف البالغ، وعلى تمييز طوائف وفئات من الناس على الأخرى بدون داع أدت إليه حركة طبيعية للمجتمع أو الاقتصاد.