إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله من شرر أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهد الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله .
أما بعد.
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .
فأهلًا ومرحبًا بإخواني بعد غيبة خمسة عشر عامًا ، في
آخر محاضرة ألقيتها هنا في مدينة بورسعيد كانت سنة خمس وتسعون في مسجد التوحيد ، وكانت بعنوان: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنا عادة قلما أنسى آخر كلام قلته في أي بلد من البلدان ، لأن محاضراتي كثيرة وفي بلاد كثيرة ، لكن كان بيني وبين هذه المدينة نوع محبة وارتباط فالحمد لله الذي أعادنا مرة أخرى لنصافح هذه الوجوه التي أسأل اللهU أن تكون من جند الله ورسوله .
كنت ألقيت في جامعة القاهرة محاضرة بعنوان( الكَياسة في فن السياسة) وأنهيت منها الجزء الأول ووعدت أن أتممه بجزء ثاني ولكن لم أتمكن من الذهاب مرة أخرى بسبب كثرة المحاضرات في المحافظات المختلفة والجامعات المتنوعة ، فإن شاء اللهU أن أتمم موضوعي هنا في هذه المحاضرة ، والموضوع الأول منفصل تمامًا عن هذا الذي أذكره الآن ، لأن معنى أنني أتمم الكلام أي الكلام له مقدمه فقد يبدو أو قد يظن أحد الجلوس أن الأول ناقص ، بل هو محاضرة مستقلة أيضا بأركان مستقلة وأمثلة كثيرة .
لفظة السياسة لفظة غلبت على تسيير شئون الدولة والتعامل مع الدول الأخرى وهذا المصطلح غلب على هذه الكلمة حتى قال شيخنا الألباني رحمة الله عليه يومًا إن من السياسة ترك السياسة ، وكانت هذه العبارة مشهورة له ، والسياسة التي أعنيها بكلامي في هذه المحاضرة ليست هذا المعنى الضيق ولكن السياسة بمعناها العام
السياسة بمعناها العام: هي كيف تصل إلى قلب من تخاطب؟ ويندرج تحتها مصطلحات كثيرة منها المصلحة فإنها لب السياسة ، وأيضًا توصيل العلم إلى الناس فإنه سياسة واختيار الواقع الملائم للدليل فهذا سياسة والمداراة سياسة ، والرفق سياسة ، حتى الخداع سياسة .
فالسياسة شيء لازم لكل حي من غير الثقلين : الدواب والحشرات وغير ذلك والحرباء لما تلون نفسها إذا كانت على شجرة خضراء تكون خضراء وإذا كانت في الصحراء تكون صفراء ، هذه سياسة ، لما حتى تنقذ نفسها تكون بلون الشجر أو لون الصحراء .
فالسياسة هي الحياة : ولذلك جعلت عنوان المحاضرة الكَياسة أي الفطنة والعقل في فن السياسة ، نحن خسرنا كثيرًا جدًا على مستوى الأفراد ومستوى الجماعات والمستوى الدولي بفشلنا السياسي .
والذي يعنيني هو المجال الدعوي أننا ندعو الناس إلى الحق فهذه تحتاج إلى سياسة ، ألم يقل النبيr يومًا كما في حديث أبي مسعود ألبدري t وقال له رجل: يا رسول الله: إني لا أدرك الصلاة مما يطيل بنا فلان فغضب النبي r غضبًا لم يغضبه قط ، وقال: « أيها الناس إن منكم منفرين » الذي ينفر لا يعرف السياسة وتستغرب من كلام الرجل وشكواه يقول: إني لا أدرك الصلاة مما يطيل بنا فلان ، أي بسبب أن فلان يطيل الصلاة ، إمام يقرأ في العشاء بسورة البقرة في الركعة الأولى وأنت في أي طرف من أطراف البلد أليس هذا مدعاة أن تدركني في الركعة الأولى أم لا ؟ ، هو يقول له: بسبب أنه يطيل أنا لا أدرك ، فكيف يكون ذلك ، هو لأنه لا يستطيع أن يقف وقتًا طويلًا في الركعة الأولى فيقدر في ذهنه ، يجلس في البيت ويقول هو سيقرأ في الغالب نصف سورة البقرة في الركعة الأولى ، فنصف سورة البقرة تقريبًا تكون في كم من الوقت ؟ فيقول : يقرأها في ساعتين فيجلس ساعة في بيته ثم ينزل فيلحق ثلاثة آيات مع الركوع فيكون أدرك الركعة الأولى ، فالرجل يقصر في هذه المرة ويأتي فيجده قد انتهى من الصلاة بالكلية ، وليس في الركعة الأولى ، لا .
فهو بسبب أنه يقدِّر أن فلان سيطيل فيقدِّر الوقت فيقول أنا لا أدرك الصلاة بسبب أن فلانًا يطيل ، لما ؟ لأنه يتأخر حتى ينتهي من الركعة الأولى ثم ينتهي من القراءة في الركعة الثانية ونلحق به في الركوع في الركعة الثانية ، والثالثة والرابعة ليس فيها قراءة فيكون أدرك الصلاة فالنبي r غضب غضبًا شديدًا وقال: « أيها الناس إن منكم منفرين ».
السياسة تحتاج إلى حكمة وذكاء واستقراء : الاستقراء استفعال من القراءة أي كثرة القراءة ، وأنا لا أعني القراءة بمفهومها المحدود الذي يتبادر إلى الأذهان أنك تقرأ كتب العلم ، لا ، أن تقرأ نفوس الناس في وجوههم وهذا من الكياسة بمكان ، وأي رجل مدرب في صنعته يستطيع أن يصل إلى هذا ، الطبيب أحيانًا يأتيه المريض دون أن يشتكي فيقول المريض هذا عنده كذا وكذا وَكذا ، لماذا ؟ مر عليه هذا الشكل وهذا الوجه مائة مرة أو مائتين مرة ، ألف مرة ، والمرض أي مرض يكون له حدود معروفة ، الذي عنده القلب يظهر عليه والذي عنده الكبد يظهر عليه والذي عنده الصفراء يظهر عليه ، فتكون علامات يستطيع أن يدركها الطبيب المتأمل الممارس لفترة طويلة هناك مثل ضربته مرة ، كنت أسكن في القاهرة في مكان ورش وكان تحتي أو بجانب البيت الذي بجواري رجل ميكانيكي ، وأنا كنت أسكن على الأوتوستراد الذي هو شارع النصر الذي به المنصة بالقاهرة الذي يصل بك إلى حلوان والملك الصالح ، المهم ونحن نقف مع بعض أمام البيت مرت سيارة لها صوت ضجيج ، فقال لي: هذه السيارة الكرونة الخاصة بها ليس فيها شحم وهذا كله حديد يأكل في بعضه ، فكانت معلومة وانتهت ، واحد يبين لي أنه ماهر ، والغريب أن هذا الرجل كان قد أتى لهذا الميكانيكي ، أول ما رآه وهو يعرف لون السيارة ، أول ما رآه قال له: أنت مشكلة سيارتك أن الكرونة ليس بها زيت أو شحم وتأكل في بعضها وتعمل صوت رديء الرجل وقف وبهت وقال له: وما الذي عرفك ؟ قال له هذا عملي ما معنى الذكاء والفطنه ، فلما فتح السيارة وجده كما قال بالضبط .
هذا الميكانيكي مدة صنعته أربعون سنة ،يعمل في هذه المهنة أنا اعرف الصوت نفسه وأميز لو سمعت صوت معين في السيارة في الموتور أقول لك هذا يأتي من المكان الفلاني بدون أن أحضر لك آلة وأكشف عليها وغير ذلك ، فهذا الاستقراء وهذا الفهم في كل الصناعات وليس في العلم وحده ، كل ما الإنسان يكبر في السن مع محبته لمهنته ينجح فيها ، لذلك نحن :
نقول لشبابنا في الدعوة استفيدوا بخبرة الشيوخ ويستفيد الشيوخ بسواعدكم : لأن نفس المرحلة التي مر بها الشباب نحن مررنا بها ، عندنا حماس وعندنا نشاط وغيره على السنة ومحبة للدين ، فكان كل هذا يدفعنا إلى تخطي حواجز الحكمة ، فكنا نفسد لأنه لم يكن لنا آنذاك من يربينا .