الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:

قد مضت سنة الله عز وجل في مخلوقاته أنه يختار ما يشاء، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]، فاختار من الشهر شهر رمضان، ومن ليالي الشهر ليالي العشر الأواخر، ومن هذه الليالي المفضلة ليلة القدر فهي خيار من خيار من خيار.

لماذا سميت ليلة القدر؟

1- لأن الله يقدر فيها الأرزاق وأمور العباد وتأخذ الملائكة صحائف الأقدار عاماً كاملاً من ليلة القدر إلى ليلة قدر أخرى، فلا يبقى جليل ولا حقير إلا كتب الله أمره عاماً كاملاً، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ(3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3-4] .

2- لأن الله أنزل فيها القرآن وهو أعظم ما يكون من الكتب قدراً.

3- لأن الإنسان يعظم قدره فيها إذا أحياها، لذلك قد تكتب السعادة لإنسان بعد إحيائها قال تعالى:
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] إحياؤها أفضل من عبادة 84 عاما.

4- لأن الأرض تضيق والقدر هو التضييق كما قال تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7]، أي ضيق عليه لأن الأرض تضيق من كثرة الملائكة التي نزلت من السماء.
والصحيح أن كل ذلك واقع في ليلة القدر كما ثبت في النصوص.

ماهي الحكمة من إخفاء ليلة القدر وعدم معرفتها؟

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يخبرنا بليلة القدر فتلاحا رجلان فقال: « إني خرجت وأنا أريد أن أخبركم بليلة القدر فتلاحا فلان وفلان لعل ذلك أن يكون خيرا، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» [مصنف بن أبي شيبة] ..

ما هذا الخير...

قال العلماء:

1- أنه لو علم الأخيار والأشرار لتسلط الأشرار على الناس بالدعاء.

2- ربما أنهم يسألوا فتن الدنيا التي تكون سببا في شقائهم في دنياهم وأخراهم.

3- بيان الصادق في طلبها من المتاكسل لأنّ الصادق في طلبها لا يهمه أن يتعب عشر ليالي من أجل أن يدركها.

4- كثرة ثواب المسلمين بكثرة الأعمال لأنّه كلما كثر العمل كثر الثواب.

في أي ليلة هي؟؟

يقول الشيخ محمد الشنقيطي: " اختلف العلماء رحمهم الله على أكثر من أربعين قول في تحديد ليلة القدر والسبب في ذلك ورود الأحاديث المختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحديدها، وتعارض الأثار عن الصحابة رضي الله عنهم.

والقول الأقوى أنّها في الوتر من العشر الأواخر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «التمسوها في العشر الآواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة» [رواه البخاري].

ونقول كما علق الشيخ صالح اللحيدان: أن على الإنسان أن يجتهد العشر كلها لأنّه قد يكون حساب الشهر عندنا يختلف، فتكون ليلة 27 عندنا هي 28 والله أعلم ".

علامات ليلة القدر

لليلة القدر علامات.. والدليل قول عائشة رضي الله عنه: «قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» [رواه الترمذي].

قال العلماء هذا يدل أن لها علامات وإلّا لما قالت: أريتها!!

فما علاماتها؟ يقول الشيخ بن عثمين رحمه الله في الشرح الممتع:

علامات مقارنة

1- قوة الإضاءة في تلك الليلة وهذه العلامة لا يحس فيها بالمدن.

2- الطمأنينة أي طمأنينة القلب وإنشراح الصدر من المؤمن فإنّه يجد راحة وطمأنينة في هذه الليلة أكثر ما يجده في بقية الليالي.

3- الرياح تكون فيها ساكنة.

4- المنام.. أنه قد يري الله الإنسان في المنام كما حصل مع بعض الصحابة.

5- اللذة.. أن الإنسان يجد في القيام لذة أكثر من غيرها من الليالي.

علامات لاحقة

الشمس تطلع صبيحتها ليس لها شعاع .. صافية.

يعلق الشيخ الشنقيطي: " سبب ذلك - والله أعلم - أن الملائكة تصعد بعد الفجر إلى السماء بعد أن كانت على الأرض فتحجب شعاع الشمس، لأن الله أخبر أن الملائكة تتنزل في ليلة القدر ".

أهم الوصايا في هذه العشر

إتباع هدى النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه قالت: «كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله» [متفق عليه].

- شد مئزره: كناية عن ترك النساء.. وقيل: أي جد واجتهد في العبادة.

- أحيا ليله: قال بعد العلماء: " ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام في ليالي العشر أبداً، أي أن صلاته تستمر من بعد العشاء يحيي ليله إلى أن يندلج الفجر ".

- أيقظ اهله: أنه يوقظ من في بيته لشدة إهتمامه بهذه الليلة حتى لا يفوتهم الخير (نوقظ الخدم والأطفال المميزين).

اعتقاد خاطيء: بعض الناس يعتقد أن ليلة القدر أنها ساعة في الليل أو في الثلث الأخير،.. وهذا خطأ.. ليلة القدر تبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر قال تعالى : {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } [القدر : 5 ].

تفسير سورة القدر

قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} أي القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا.

{فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي ليلة الشرف والتعظيم.

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} هذه الصيغة يستفاد منها التفخيم أي ما أعلمك بليلة القدر وشرفها.

{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي العمل الصالح فيها من صلاة وتلاوة ودعاء خير من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، والمراد بالخير هو ثواب العمل فيها وما ينزل الله فيها من الخير والبركة.

{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} ذكر الله ما يحدث في هذه الليلة أن الملائكة تنزل شيئا فشيئا لأنهم سكان السموات والسموات سبع، ونزول الملائكة في الأرض عنوان الرحمة والخير والبركة ولهذا إذا امتنعت الملائكة من دخول مكان قد يخلو من البركة والخير كالمكان الذي فيه صور.

{بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} أي بكل أمر يأمرهم الله به وهو ما قضاه الله في هذا السنة.

{سَلَامٌ هِيَ} وصفها الله بالسلام لكثرة من يسلم فيها من الآثام وعقوباته - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبة».

{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي هي سالمة من الشر كله من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.


هذا ونسأل الله أن يجعلنا ممن يوفقون لقيامها ويعيننا على ذلك، ونسأله أن يجعل قيامنا بين يديه خير قيام، ونسأله إخلاصا لوجهه وخشوعا بين يديه فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم «إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها فقد حرم الخير كله ولا يحرم خيرها إلا محروم» [رواه ابن ماجه].

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.