سيطرة شبه كاملة للفرس على الجهازين العسكري والإداري:
عندما قامت الخلافة العباسية كان للفُرس اليد العليا في قيامها وخاصة الخراسانيين، وقد سنحت الفرصة لهؤلاء للاستئثار بالسلطة وتولي الحكم، وساعد على ذلك شدة ميل العباسيين إلى الفرس، وإيثارهم بالمناصب المدنية والعسكرية، وقد أثار ذلك كراهية العرب بتقريب الفرس إليهم، لذا لا نعجب من انصراف العرب عن العباسيين، فقد دَبَّ في نفوسهم دبيبُ الكراهية لهم وللفرس الذي استأثروا بالسلطة دونهم، لممالأة العباسيين لهم واعتمادهم على ولائهم، فقامت الفتن والثورات في البلاد الإسلامية..
وكان من أثر ذلك الميل الذي أبداه العباسيون نحو الفرس وتلك الرعاية التي حاطوهم بها أن أصبح نظام الحكم عند العباسيين مماثلاً لما كان عليه في بلاد الفرس أيام آل ساسان، قال "بالمر" في كتابه "هارون الرشيد": "ولما كان العباسيون يدينون بقيام دولتهم للنفوذ الفارسي كان طبيعيًا أن تسيطر الآراء الفارسية؛ ولهذا نجد وزيرًا من أصل فارسي على رأس الحكومة، كما نجد أيضًا أن الخلافة تدار بنفس النظام الذي كانت تدار به إمبراطورية آل ساسان"..
كما اتخذ الخلفاء الموالي من الخراسانيين حرسًا لهم لاعتمادهم على ولائهم وإخلاصهم، واستبد هؤلاء الخلفاء بالسلطة وتسلطوا على أرواح الرعية كما كان يفعل ملوك آل ساسان من قبل، وظهرت الأزياء الفارسية في البلاط العباسي..
وطبيعي أن يميل العباسيون إلى الفرس، الذين ساعدوهم على تأسيس دولتهم، وقاموا في وجه أعدائهم الأمويين، وإن مثل هذا الميل إلى الفرس، وتلك الكراهة التي أضمرها العباسيون للأمويين لتتمثل في تلك الخطب التي ألقاها داود بن علي وأبو جعفر المنصور وغيرهما يشيدون فيها بمآثر الفرس وما بذلوه من جهود في سبيل قيام الدولة العباسية.. (34)
على أن الفرس على الرغم مما أظهره العباسيون من ميل ظاهر نحوهم حتى آثروهم على العرب فأسندوا إليهم مناصب الدولة مدنية كانت أو عسكرية، وعلى الرغم من تأثر العباسيين بهم في اقتباس نظم الحكم عنهم، والاقتداء بهم في مظاهر البلاط، وفي اللباس وفي الاحتفال بالأعياد والمواسم، على الرغم من هذا كله كانوا لا يقنعون بما نالوه من عطف وميل، وما وصلوا إليه من نفوذ وسلطان؛ فعملوا على التخلص من العباسيين وتحويل الخلافة إلى العلويين، خاصةً وإن ميل الفرس إلى العلويين قديم يرجع إلى أيام الحسين بن علي..
ولا غرو فقد شايع الفرس العلويين لما كانوا يعتقدونه من أنهم وحدهم يملكون حق حمل التاج لكونهم وارثي آل ساسان من جهة أمهم "شهربانوه" ابنة يزدجرد الثالث آخر ملوك هذه الأسرة، ولأنهم الأئمة رؤساء الدين حقًا، وذلك يتفق مع معتقداتهم الدينية، إذ كانوا ينظرون إلى ملوكهم نظرة تقديس وإكبار، ويعتقدون أنهم ظل الله في الأرض، كما كانوا يعتقدون أن العلويين، وبخاصة أبناء الحسين بن علي يمثلون حق النبوة والملك، لأنهم من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم وآل ساسان وهذا يفسر لنا سبب ميل الفرس إلى العلويين وعملهم على تحويل الخلافة إليهم، وقد اضطلع بهذا الأمر أحد زعماء الفرس وهو أبو سلمة الخلال..
فيحكي لنا التاريخ أن السفاح عندما بُويِع بالخلافة استوزر أبا سلمة على كره منه لمكانته من الخراسانيين، وهم عصب الدولة ومصدر قوتها، ولقبه "وزير آل محمد" إلا أن هذا كله لم يكن مصدره حُسْن النية من جانب السفاح إذ خاف على نفسه إن هو قتله أن يقوم أهل خراسان ليثأروا له، فعمل على أن يتم هذا الأمر على يد أبي مسلم، وكتب إليه مع أخيه المنصور كتابًا يخبره فيه: أن أبا سلمة يعمل على تحويل الخلافة إلى العلويين وعَهِد له بمعاقبته، وباطن الكتاب يُشْعِرُ بتصويب قتله، فأرسل أبو مسلم رجالاً من أهل خراسان فقتلوه، وتخلص منه السفاح وأبو مسلم الذي كان يكرهه ويحقد عليه مقامه، وبذلك هيَّأ أبو مسلم سبيل قتله بنفسه، فقد عوَّل السفاح على التخلص منه إلا أن منيته حالت دون ذلك..
ولكن ميل الفرس إلى العلويين لم يخمد بقتل أبي سلمة الخلال فقد كانوا يناصرون كل علوي يعمل على الخروج على العباسيين، ومن الأمثلة التي تؤيد هذا الرأي محاولة جعفر بن يحيى البرمكي تخليص يحيى بن عبد الله العلوي في عهد هارون الرشيد، وما قام به الفضل بن سهل وزير المأمون في خراسان من تحويل الخلافة من العباسيين إلى العلويين، حيث حمل المأمون على أن يولي عهده عليًّا الرضا، وأن يتخذ الخضرة شعار العلويين بدل السواد شعار العباسيين شعارًا رسميًا لدولته... (35)
الوزارة:
عندما انتقلت الخلافة إلى العباسيين، اتخذوا نظم الحكم عن الفرس ومنها الوزارة، وكان أول وزير للعباسيين أبا سلمة الخلال، لكن معالمها لم تتحدد في عهده، ولأن الدعوة العباسية قد قامت على أيدي الفرس وبمساعدتهم فمن الطبيعي أن يكون وزراء العصر العباسي الأول من الأعاجم مثل: البرامكة وبني سهل وعلى أيدي هؤلاء اكتسبت الوزرة شكلها النهائي في أواخر العصر العباسي الأول وكان الوزير في أيام العباسيين:
ـ ساعد الخليفة الأيمن.
ـ نائبًا عنه في حكم البلاد.
ـ يعين الولاة.
ـ يشرف على الضرائب.
ـ يجمع في شخصه السلطتين: المدنية والحربية.
ـ صاحب المشورة التي يسترشد بها الخليفة.
وكان الوزراء في العصر العباسي الأول يتجنبون تسمية نفسهم باسم "وزير" على الرغم من قيامهم بأعمال الوزارة ومهامهم، فإليهم يرجع الفضل في ضبط أمور الدولة، ونشر لواء الأمن والعدل بين الرعية، ومَرَدُّ ذلك إلى تخوف الوزراء من الخلفاء بعد أن لقي البعض منهم حتفه على أيديهم، ولكن هذا لم يمنع الوزراء من الإقبال على اكتساب الألقاب المنسوبة إلى الدولة مثلاً:
عماد الدولة، وعز الدولة، وركن الدولة..
وكانت الوزارة أيام العباسيين ضعيفة أمام قوة الخلافة، قوية كلما ضعفت الخلافة؛ لذا تطرق الفساد إلى منصب الوزارة في عهد الخليفة المقتدر (295ـ320هـ) لاتباعه سياسة خرقاء في تعيين وزرائه وعزلهم، حتى تقلَّد الوزارة في عهده اثنا عشر وزيرًا، عُزِل بعضُهم أكثر من مرة، وكان لضعف الوزراء في ذلك العصر وازدياد نفوذ القواد أن ضاعت هيبة الوزارة فلم يبق للوزراء شيء من النفوذ؛ فاقتصرت وظيفتهم على الحضور إلى دار الخلافة في أيام المواكب مُرتَدِين السواد متقلدين السيوف والمناطق وغيرها من شعارات الوزارة، وأصبح تعيين الوزراء وعزلهم بيد أمير الأمراء الذي هيمن على شئون الخلافة والوزارة والدولة جميعً، وبخاصة في عصر البويهيين والسلاجقة. (36)
الكُتَّاب:
اتسعت الدولة العربية الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين وضمت شعوبًا وطوائف عديدة من الناس، فكان لابُدَّ لهذه الدولة من أن ينشأ فيها جهاز وظيفي يتولى أعمال الكتابة التي يوجهها الخليفة إلى الوزير أو القضاة والولاة في الأقاليم، وتسجيل الرسائل الواردة من الولاة والقضاة إلى الخلافة، وكذلك في سائر الدواوين كانت هناك الحاجة إلى من يتولى الأعمال الكتابية فيها..
وفي العصر الأموي والعصر العباسي استمرت تلك الحاجة إلى مجموعة من الموظفين أو الكتاب للقيام بالأعمال الكتابية خاصة في العصر العباسي الأول بعدما تعددت الدواوين لمساعدة الوزير في أعماله الواسعة، وللإشراف على هذه الدواوين المختلفة وإدارة شؤونها فاقتضى طبقًا لذلك أن يكون لكل وزير كاتب أوكتَّاب يساعدونه، وأن يكون لكل والٍ من ولاة الأقاليم ورجال الدولة كاتب أو أكثر..
ويرأس جماعة الكتاب الوزير، وأحيانًا كثيرة كان بعض الكتاب يتدرجون في الرقي إلى أن يتولوا الوزارة معتمدين على كفايتهم الكتابية وبلاغة أقلامهم..
وتولى الأعمال الكتابية في الخلافة العباسية الفرس، لأن الفرس كانت لهم القدرة الفائقة في الكتابة، بينما كان العرب يفخرون بالسيف لا بالقلم، لذا نجد كثيرًا من الكتاب في العصر العباسي يحذون حذوَ أجدادهم الفرس، حتى في مظهرهم الخارجي، وكان لامتلاك بعض الكتاب ثقافةً أوسعَ من ثقافة غيرهم، ودائرة معارفهم الواسعة، ودرايتهم بأحوال الناس الاجتماعية، وتقاليدهم الكبيرة الفضل في سيطرة الفُرس على ميدان الكتابة، هذا فضلاً عن إن إجادتهم عملهم كان يتطلب دراية في اللغة والأدب وعلوم الدين والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، إلى جوانب كثيرة قد تعرض في مسائل للخليفة أو الوزير أو الوالي..
ولما كانت الأعمال الكتابية مهمة وخطيرة يجب على من يتولاها أن يتحلى بأخلاق حميدة وثقافة واسعة ودقيقة، فقد تعددت الكتب التي أُلِّفَتْ لجماعة الكُتَّاب بصفة خاصة فأَلَّف ابنُ قتيبة كتابًا اسمه "أدب الكاتب" أوضح فيه الكثير من ألوان المعرفة التي اعتقد "ابن قتيبة" أن الكاتب بحاجة إليها، كما أَلَّف "أبو بكر الصولي" كتاب "أدب الكاتب" توسَّع فيه في شرح أمور كثيرة لم يعرض لها ابن قتيبة، ونصح "عبد الحميد الكاتب" الكتاب فقال:"فنافسوا معشرَ الكتَّاب في صنوف العلم والأدب، وتفقهوا في الدين، وابدأوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض، ثم العربية فإنها ثقافة ألسنتكم، وأجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار، واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسعون إليه، ولا يضعفن نظركم في الحساب فإن قوام كتاب الخراج منكم"..
تنوع الكتَّاب تبعًا لتنوع الدواوين في ذلك العصر، فكان منهم كتاب الرسائل وكتاب الخراج وكتاب الجند وكتاب الشرطة وكتاب القاضي، وقد كان صاحب ديوان الرسائل الكاتب الأهم والأعلى شأنًا من غيره إذ كان عليه إذاعة المراسيم وإبراءات وتحرير الرسائل السياسية، وختمها بخاتم الخلافة بعد اعتمادها من الخليفة، ومراجعة الرسائل الرسمية ووضعها في صيغتها النهائية، وكانت مهمة كاتب الرسائل تشبه وزارة الخارجية اليوم..
فكان يتولى مكاتبة الملوك والأمراء عن الخليفة، بأسلوب عذب بليغ؛ لذا روعي في الكاتب رصانة الأسلوب وسعة العلم فضلاً عن عراقة الأصل. (37)
وقد زَخَرَ العصر العباسي الأول بطائفة من الكتاب لم يسمح الدهر بمثلهم، فقد اشتُهِرَ يحيى بن خالد البرمكي، والفضل بن الربيع في عهد هارون الرشيد، واشتهر الفضل والحسن ابنا سهل وأحمد بن يوسف في عهد المأمون، واشتهر محمد بن عبد الملك الزيات والحسن بن وهب وأحمد بن المدبر في عهد المعتصم والواثق. (38)
الحركة العلمية في العصر العباسي الأول:
اشتغال الموالي بالعلم:
مما يسترعي نظر الباحث في تاريخ الثقافة الإسلامية أن السواد الأعظم من الذين اشتغلوا بالعلم كانوا من الموالي، وخاصة الفرس وكانت اللغة العربية هي الوسيلة الوحيدة للتفاهم بين المسلمين إلى أن أزال المغول الخلافة العباسية من بغداد في القرن السابع الهجري، وفي ذلك يقول "ابن خلدون" في "مقدمته" عند كلامه على "أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم": "من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية، ولا من العلوم العقلية، إلا في القليل النادر، وإن كان منهم العربي في نسبته، فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي..."
ثم ذكر "ابن خلدون" بعض مشاهير "اللغة العربية" أمثال: سيبويه والفارسي والزَّجَّاج في علم النحو،وهم عجم في أنسابهم.
ويتحدث الأستاذ "نيكلسون" عن النهضة الثقافية في العصر العباسي قائلا:"وكان لانبساط رقعة الدولة العباسية ووفرة ثروتها، ورواج تجارتها أثر كبير في إنشاء نهضة ثقافية لم يشهدها الشرق من قبل، حتى لقد بدا أن الناس جميعًا من الخليفة إلى أقل الأفراد عامة شأنًا غدوا فجأة طلابا للعلم أو على الأقل أنصارًا للأدب، وفي عهد الدولة العباسية كان الناس يجوبون ثلاث قارات سعيًا إلى موارد العلم والعرفان؛ ليعودوا إلى بلادهم كالنحل يحملون الشهد إلى جموع التلاميذ المتلهفين، ثم يصنفون بفضل ما بذلوه من جهد متصل هذه المصنفات التي هي أشبه شيء بدوائر للمعارف، والتي كان لها أكبر الفضل في إيصال هذه العلوم الحديثة إلينا بصورة لم تكن متوقعةً من قبل" (39)
هذا في الشرق الإسلامي في العصر العباسي الأول، أما في الغرب فقد نافست قرطبة بغداد والبصرة والكوفة ودمشق والفسطاط فأصبحت حاضرة الأندلس سُوقًا نافقة للعلم وكعبةً لرجال الأدب، حتى جذبت مساجدُها الأوروبيين الذين وفدوا إليها لأخذ العلم من مناهله والتزود من الثقافة الإسلامية، ومن ثم ظهرت فيها طائفة من العلماء والشعراء والأدباء والفلاسفة والمترجمين والفقهاء وغيرهم..
كان عهد الحكم الأول (180ـ206هـ) وعبد الرحمن الأوسط (206ـ238هـ) فترة هدوء سياسي لم يقع فيها من الأحداث السياسية ما يستحق الذكر وقد ساعد هذا الهدوء على بدء نهضة علمية، ولا سيما في عهد عبد الرحمن الأوسط الذي يُعتَبر عهدُه عهدَ يُسرٍ ورخاء وازدهار ثقافي، وذلك عن طريق تأثير الشرق الإسلامي في العصر العباسي..
وكان عبد الرحمن الأوسط نصيرًا للعلوم والفنون، أولع بالفلك والتنجيم، وأحاط نفسه بنخبة من علماء الفلك وأَدَرَّ عليهم الأرزاق والمنح..
وقد بعث في بداية عهده عباس بن نصيح إلى الشرق الإسلامي لينقل إليه الكتب التي استحوذ عليها العباسيون، وكان هذا الأميرُ الأمويُّ مولعًا بمطالعة كتب الطب والفلسفة القديمة..
وانتقل كثيرٌ من التراث اليوناني والفارسي إلى قرطبة بفضل جهود عبد الرحمن الأوسط، وبذل الحكم المستنصر حتى قبل أن يُجْعَل على عرش الخلافة الأموية سنة 350هـ، جهودًا بعيدة الأثر في توجيه الدراسة الأندلسية في ميدان العلوم والطب. (40)
تقسيم العلوم:
لقد ميز كُتَّابُ المسلمين بين العلوم التي تتصل بالقرآن الكريم وبين العلوم التي أخذها العرب عن غيرهم من الأمم ويُطلَق على الأولى: العلوم النقلية أو الشرعية، وعلى الثانية: العلوم العقلية أو الحكمية، ويطلق عليها أحيانًا علوم العجم،أو العلوم القديمة..
وتشمل العلوم النقلية: علم التفسير وعلم القراءات، وعلم الحديث، والفقه، وعلم الكلام، والنحو واللغة، والبيان، والأدب..
وتشمل العلوم العقلية: الفلسفة، والهندسة، وعلم النجوم، والموسيقى والطب والكيمياء، والتاريخ، والجغرافيا..
وفي العصر العباسي الأول اشتغل الناس بالعلوم الدينية، وظهر المتكلمون، وتكلم الناس في مسألة خلق القرآن، وتدخل الخليفة المأمون في ذلك؛ فأوجد مجالس للمناظرة بين العلماء في حضرته، ولهذا عاب الناس عليه تدخله في الأمور الدينية، كما عابوا عليه تفضيله علي بن أبي طالب على سائر الخلفاء الراشدين، وذهب البعض إلى أن المأمون أراد بعقد هذه المجالس إزالة الخلاف بين المتناظرين في المسائل الدينية، وتثبيت عقائد من زاغوا عن الدين، وبذلك تتفق كلمة الأمة في المسائل الدينية التي كانت مصدر ضعفهم، وكان "المأمون" يميل إلى الأخذ بمذهب المعتزلة؛ لأنه أكثر حرية واعتمادًا على العقل، فقرب أتباع هذا المذهب إليه؛ ومن ثم أصبحوا ذوي نفوذ كبير في قصر الخلافة..
وفي هذا العصر ظهر نوعان من العلماء: الأول: هم الذين يغلب على ثقافتهم النقل والاستيعاب ويُسَمَّوْن أهلَ علم، والثاني: هم الذين يغلب على ثقافتهم الابتداع والاستنباط، ويسمون أهل عقل، وقد ذكر "ابن خلكان" في كتابه "وفيات الأعيان": أن الخليل بن أحمد اجتمع بابن المقفع وتحدثا في شتى المسائل؛ فلما افترقا قيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفع؟ فقال: رأيت رجلا علمه أكثر من عقله، وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ قال: رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه..
وليس من شك في أن ابن المقفع قد غلب على ثقافته النقل والترجمة والتأثر بآراء غيره من العلماء، على حين قد غلب على ثقافة الخليل الابتكار الذين يتجلى من هذه الحقيقة، وهي أنه أول من فرَّع قواعد النحو، وأول من صنَّف المعاجم، وأول من تكلم في علم العروض، فالأول إذًا ذو علم، والثاني ذو عقل. (41)
(أ)ـ العلوم النقلية (الشرعية):
1ـ علم القراءات:
ومن العلوم التي اشتغل بها العباسيون علم القراءات، ويعتبر المرحلة الأولى لتفسير القرآن، وتتركز النواة التي بدأ بها هذا العلم في القرآن نفسه، وفي نصوصه نفسها، وبعبارة أخرى في قراءاته، ففي هذه الأشكال المختلفة نستطيع أن نرى أول محاولة للتفسير، ويرجع السبب في ظهور بعض هذه القراءات إلى خاصية الخط العربي، إذ أن الرسم الواحد للكلمة الواحدة قُرِيء بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها..
وقد وجدت سبعة طرق في القراءات، تمثل كل طريقة منها مدرسة معترف بها ترجع قراءتها إلى إمام ترتبط باسمه وتستند على أحاديث موثوق بها، وعليها يُقتصَر في قراءة المصحف ويعتبرها هارون بن موسى البصري اليهودي الأصل (المتوفى بين سنتي 170و180هـ) مولى الأزد، أول من حاول نقد القراءات المختلفة، وبحث وجوه النظر التي تقوم عليها، ونقد الأسانيد التي تسند إليها نقدًا قويًا، وعلى الرغم من أنه كان قدريًا معتزليًا، قدره البخاري ومسلم، ووثقه يحيى بن معين، ويرجع أغلب الاختلافات في القراءات إلى رجال موثوق بهم ممن عاشوا في القرن الأول كابن عباس وعائشة، وعثمان صاحب القراءة وابنه أبان، وإلى قُرَّاء معترف بهم، كعبد الله بن مسعود، وأُبيّ بن كعب، وهؤلاء قد أثنى عليهم التابعون وغيرهم..
ومن أشهر أصحاب القراءات في العصر العباسي الأول يحيى بن الحارث الذماري المتوفى سنة 145هـ، وحمزة بن حبيب الزيات المتوفي سنة 156هـ، وأبو عبد الرحمن المقريء المتوفي سنة 213هـ، وخلف بن هشام البزاز المتوفى سنة 229هـ..
2ـ التفسير:
اتجه المفسرون في تفسير القرآن اتجاهين: يعرف أولهما باسم التفسير بالمأثور: وهو ما أُثِر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة رضوان الله عليهم، ويعرف ثانيهم باسم التفسير بالرأي: وهو ما كان يعتمد على العقل أكثر من اعتماده على النقل، ومن أشهر مفسري هذا النوع المعتزلة والباطنية..
على أن النوع الأول من التفسير وهو التفسير بالمأثور قد اتسع على مر الزمن بما أدخل عليه من آراء أهل الكتاب الذين دخلوا في الإسلام والذين كانت لهم آراء أخذوها عن التوراة والإنجيل مثل: كعب الأحبار اليهودي، وعبد الله بن سلام،، وابن جريج، ولقد كان إسلام هؤلاء فوق التهمة والكذب، ورفعوا إلى درجة أهل العلم الموثوق بهم..
ولما كان الحديث يشغل كل عناية المسلمين في صدر الإسلام اعتُبر التفسير جزءًا من الحديث أو فرعًا من فروعه، حتى إن التفسير في ذلك العهد كان تفسيرًا لآيات مبعثرة غير مرتبة حسب ترتيب السور والآيات، إلا تفسير ابن عباس، ولو أن كثيرين يشككون في نسبته إليه..
أما الطريقة المنظمة في تفسير القرآن فإنها لم تحدث إلا في العصر العباسي، فقد روى "ابن النديم" في "الفهرست": "أن عمر بن بكير كان من أصحاب الفرَّاء صاحب كتاب (معاني القرآن) المتوفى سنة207ه، وكان منقطعًا إلى الحسن بن سهل؛ فكتب إلى الفرَّاء: إن الأمير الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن فلا يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولاً، أو تجعل في ذلك كتابًا أرجع إليه فعلت، فقال الفراء لأصحابه: اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابًا في القرآن، وجعل لهم يومًا، فلما خرج إليهم وكان في المسجد رجل يؤذن ويقرأ بالناس في الصلاة، فالتفت إليه الفراء فقال له: اقرأ، وبدأ بفاتحة الكتاب ففسرها، ثم استوفى الكتاب كله، فيقرأ الرجل، ويفسر الفراء، فقال أبو العباس: لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أن أحدًا يزيد عليه"..
ولا شك أن الفراء قد فسر القرآن حسب ترتيب الآيات، وأنه فسره بهذه الطريقة التي رسمها لنفسه في أربعة أجزاء..
ومن المفسرين المشهورين أيضًا مقاتل بن سليمان الأزدي، المتوفى سنة 150هـ، وقد تأثر بتفسير التوراة الذي أخذه عن اليهود، حتى أن الإمام أبا حنيفة قد اتهمه بالكذب، أما الشافعي فقال عنه: الناس كلهم عيال على ثلاثة:
على مقاتل في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام"، ويروي عنه أيضًا أنه قال:"من أحب التفسير فعليه بمقاتل"..
على أن هذه التفاسير قد ضاعت، ولم يصل إلينا شيء منها إلا عن ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ في تفسيره المشهور الذي قال عنه أبو حامد الأسفراييني: "لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصِّل كتاب تفسير محمد بن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرًا"..
ويمتاز الطبري في تفسيره بتحري الدقة في النقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، ومعارضته أصحاب الرأي المستقلين في التفكير، لأنهم كثيرًا ما يتبعون هواهم..
كما امتاز العصر العباسي الأول بوجود جماعة من المعتزلة )الذين يقدمون عقولهم على الشرع) الذين لم يتقيدوا بالتفسير بالمأثور، وإنما كانوا يعتمدون في دعم آرائهم على العقل، وقد بذلوا جهدًا عظيمًا لدحض آراء معارضيهم بتفسير بعض الآيات القرآنية تفسيرًا يتفق مع مبادئهم العقلية..
ومن أشهر تفاسير المعتزلة تفسير أبي بكر الأصم (ت 240هـ)، وتفسير ابن جرو الأسدي (ت 387هـ) وقد قيل: إنه كتب في تفسير البسملة نحو 120 وجهًا..
ومن ذلك نرى أن القرآن الكريم قد أصبح منبعًا لكثير من العلوم التي اشتغل بها المسلمون في العصر العباسي، فعلماء النحو اتخذوا منه مادة خصبة يعتمدون عليها في استنباط قواعد اللغة العربية، كما ساعد "الإعراب" على تفسير القرآن وكشف غوامض بعض الآيات القرآنية، حتى لقد وضع علماؤهم كالكسائي والمبرد والفراء وخلف النحوي كتبًا أطلقوا عليها "معاني القرآن"، كما اعتمد الفقهاء في آرائهم الفقهية على القرآن أساسًا للتدليل على صحة ما ذهبوا إليه، وأَلَّفوا في المذاهب المختلفة كتبًا سموها "أحكام القرآن" ومن هؤلاء الشافعي وأبو بكر الرازي، أضف إلى ذلك ما كتبه المؤرخون من تفسير الآيات القرآنية التاريخية من حيث صلتها بتاريخ الأمم الأخرى، وغير خافٍ أن القرآن الكريم من أهم المصادر التاريخية على الإطلاق؛ لأنه أقدمها وأصدقها وأوسعها مجالاً. (42)
3ـ الحديث:
ومن أهم مصادر التشريع الإسلامي "الحديث" وهو ما أُثِرَ عن النبي صلى الله عيه وسلم من قول أو فعل أو تقرير لشيء رآه، ويأتي في الأهمية بعد القرآن الكريم. (43)
وكانت دراسة علوم القرآن الكريم باعثًا قويًا على ظهور علوم الحديث الشريف، وذلك لأنه يفصل ما أجمله القرآن الكريم، ويفسر ما يصعب على الناس فهمه، فقد شرح الحديث الكثير من الآيات القرآنية، ولم يُدوَّن الحديث الشريف تدوينًا شاملاً منظمًا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي عهد صدر الإسلام، ويُروَى أن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم نهى عن تدوين الحديث حتى لا يختلط بالقرآن الكريم حيث قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار"..
وقد ظهرت بدايات تدوين الحديث الشريف في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الذي كلف بعض من يثق بهم من علماء الحديث بجمعها، فقال لأبي بكر بن محمد بن حزم (ت120هـ) عندما كلفه بهذه المهمة ما نصه: "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنة ماضية، أو حديث عمرة فاكتبه، فإني خشيت دروس العلم، وذهاب أهله"..
فكتب الأحاديث في دفاتر، وأُرْسِلَتْ منها نسخ إلى أنحاء الدولة الإسلامية. (44)
حتى إذا جاء القرن الثاني للهجرة أخذ المسلمون يدونون الأحاديث النبوية، وأتاحوا الفرصة لظهور طائفة من أئمة الحديث الذين ظهروا في العصر العباسي، واشتهر منهم سفيان الثوري (ت161هـ) ـ أمير المؤمنين في الحديث ـ وله من الكتب "الجامع الكبير" و"الجامع الصغير" كلاهما في الحديث. (45)
والإمام مالك بن أنس (ت 179هـ) أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وجَّه إليه الرشيد العباسي ليأتيه فيحدثه، فقال: العلم يُؤتَى، فقصد الرشيد منزله واستند إلى الجدار، فقال مالك: يا أمير المؤمنين من إجلال رسول الله إجلال العلم، فجلس بين يديه فحدثه، من مؤلفاته كتاب "الموطأ". (46)
وسفيان بن عيينة (ت 198هـ) كان حافظًا ثقة، واسع العلم، قال عنه الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، له كتاب "الجامع" في الحديث. (47)
والإمام أحمد بن حنبل (ت241هـ) صاحب كتاب "المسند" الذي اشتمل على أربعين ألف حديث تكرر فيها عشرة آلاف، ويعد هذا الكتاب من الكتب المعتمدة في علم الحديث..
وشهد علم الحديث في القرن الثالث الهجري نشاطًا كبيرًا عندما اتسعت حركة الجمع، واستقر نقد الحديث للتمييز بين الصحيح والضعيف، وجمعت الأحاديث في كتب خاصة، وأفردت عن الشروح الفقهية فظهرت المصنفات الصحيحة وأشهرها صحيح البخاري (ت256هـ) وصحيح مسلم (ت261هـ) وسنن ابن ماجة (ت273هـ) وسنن أبي داود (ت273هـ) وجامع الترمذي (ت279هـ)، وتسمى هذه الكتب (بالصحاح الستة) وأشهرها توثيقًا صحيحا البخاري ومسلم. (48)
4ـ الفقه:
كان اختلاف أئمة الفقه في بعض النصوص الفقهية، واستنباط الأحكام منها قد أدى إلى تعدد المذاهب الفقهية، واشتهر من هذه المذاهب أربعة هي: مذهب مالك إمام أهل الحجاز، وزعيم الفقهاء الذين يأخذون بطريقة أهل الحديث، ومذهب أبي حنيفة إمام أهل العراق، وزعيم الفقهاء الذين يأخذون بطريقة الرأي والقياس، ومذهب الشافعي وكان يسير أولاً على طريقة أهل الحجاز، ثم جعل مذهبه وسطًَا بين الطريقتين، ومذهب أحمد بن حنبل، وكان من كبار المحدثين، واختص هو وأصحابه بالمذهب الحنبلي الذي يبعد عن الاجتهاد مما أدى إلى قلة عدد المتمسكين بمذهبه..
ومن ثم ظهرت في ميدان الفقه مدرستان: مدرسة أهل الحديث في المدينة وعلى رأسها الإمام مالك الذي كان يأخذ بمبدأ التوسع في النقل عن السنة، ومدرسة أهل الرأي في العراق وعلى رأسها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بالكوفة سن 80هـ، ومات ببغداد سنة 150هـ، وقيل: إنه حج وهو في السادسة عشرة من عمره مع أبيه، وشهد عبد الله بن الحارث أحد الصحابة يحدث بما سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى أيضًا أنه سمع مالك بن أنس، وكان أبو حنيفة بجانب اشتغاله بالعلم يحترف التجارة؛ فيبيع الخز، ويجلس في الأسواق مما أكسبه خبرة عظيمة، وجعله يعرف حقيقة ما يجري في الأسواق من معاملات الناس في البيع والشراء..
وقد تعلم أبو حنيفة الفقه في مدرسة الكوفة، وأخذ عن عطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة، ونافع مولى عبد الله بن عمر، ولكنه أخذ أكثر علمه عن أستاذه حماد بن أبي سليمان الأشعري، وكان أبو حنيفة يتشدد في قبول الحديث، ويتحرَّى عنه وعن رجاله.
ولم يصل إلينا أي كتاب في الفقه لأبي حنيفة، إلا أن ابن النديم ذكر من بين كتبه كتاب الفقه الأكبر ـ وهو في العقائد ـ ورسالته إلى البُستي، وكتاب الرد على القدرية، والعلم برًا وبحرًا شرقًا وغربًا بعدًا وقربًا..
ومن تلاميذ أبي حنيفة الليث بن سعد الذي تولى قضاء مصر، وقد قيل إن أبا جعفر المنصور اجتمع به في بيت المقدس، وأنه قال لما خرج لوداعه، أعجبني ما رأيت من شدة عقلك، والحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك، وقد ذكر ابن خلكان: أن دخل الليث خمسة آلاف دينار في السنة، وأنه كان يوزعها على أهل العلم استغناء منه وتورعًا..
ومن فقهاء ذك العصر مالك بن أنس الذي قضى حياته بالمدينة المنورة، روى أنه أخذ قراءة القرآن عن نافع بن أبي نعيم، وأخذ العلم عن ربيعة الرأي، وسمع الحديث من كثير من شيوخ المدينة كابن شهاب الزهري، ونافع مولى عبد الله بن عمر، وروى عنه الأوزاعي..
وكان مالك أول من كتب في العلوم الدينية في العصر العباسي، وكتابه (الموطأ) أول كتاب ظهر في الفقه الإسلامي، ومن كتبه "المدونة" وهي مجموعة رسائل من فقه مالك، جمعها تلاميذه أسد بن الفرات النيسابوري، وتشتمل على نحو ست وثلاثين ألف مسألة، وكان مالك يعتمد على الحديث كثيرًا لأن بيئته الحجازية كنت تزخر بالعلماء والمحدثين الذين تلقوا الحديث عن الصحابة رضوان الله عليهم وورثوا من السنة ما لم يتح لغيرهم من أهل الأمصار الإسلامية الأخرى..
وقد دخل مذهب مالك الأندلس في عهد الحكم الأول (180ـ206هـ) وقد قبل الأمير الأموي هذا المذهب لأنه يحرر بلاده من تأثير العباسيين الأدبي، وانتشر هذا المذهب في المغرب في الوقت نفسه، بذلك اتجهت الدراسات الفقهية نحو مذهب مالك، وقد نشأ عن دخول مذهب مالك في المغرب والأندلس مدرسة دينية طبقت شهرتها العالم الإسلامي الغربي، وظهر من بين علمائها: عبد الملك بن حبيب صاحب "الواضحة"، وعيسى بن دينار، وزياد بن عبد الرحمن..
وممن اشتهر بالفقه من تلاميذ مالك محمد بن الحسن في العراق، ويحيى بن يحيى الليثي في الأندلس، وقد انتهت إليه الرياسة في الفقه والحديث في بلاد الأندلس، كما سمع عن الليث بن سعد في مصر، وسفيان بن عيينة بمكة، وكان قاضي القضاة في بلاد الأندلس لا يلي إلا بمشورة يحيى واختياره..
ومن أشهر أئمة هذا العصر أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الذي جمع بين مدرستي النقل والعقل بما آتاه الله من سعة العقل والقدرة على الابتكار، وهو أول من تكلم في أصول الفقه، وأول من أخذ في وضع مبادئه، وكان الشافعي مُعظِّمًا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه إذا أراد أن يحُدِّث توضأ وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة..
ترك الشافعي بلاد العراق سنة 200هـ، وقصد مصر حيث مات بها سنة 204هـ وله كتب كثيرة في الفقه، منها كتاب المبسوط في الفقه، وكتاب الأم، وقد أملاه على تلاميذه بمصر، وروى عنه كثير من الفقهاء كأبي ثور وابن الجنيد والبويطي وابن سريج وغيرهم..
كان الشافعي ـ كما وصفه ابن خلكان- على علم بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة رضي الله عنهم، وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء، وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة العربية والشعر..
قال عنه أحمد بن حنبل رحمه الله: ما عرفت ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالست الشافعي، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي؟!! فإني سمعتك تكثر من الدعاء له، فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدني، وكالعافية للبدن، هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض؟
ومن هؤلاء الأئمة أحمد بن حنبل رحمه الله الذي قال عنه الإمام الشافعي رحمه الله عندما خرج من بغداد إلى مصر:
"خرجت من بغداد وما خلَّفتُ بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل"..
إلا أن مذهبه قليل الأتباع، وأكثرهم بالشام ونجد والبحرين، وقد شهد له أئمة عصره بالانفراد بالزهد والورع والتقوى، وموقفه من مشكلة خلق القرآن يدل على قوة عزيمته، وشدة تمسكه بالدين..
ومن فقهاء ذلك العصر أبو يوسف (ت182هـ) وقد تولى القضاء للمهدي والهادي والرشيد، وكان في أيام الرشيد يتقلد منصب قاضي القضاة..
وكان أبو يوسف من أكبر تلاميذ أبي حنيفة أخذ عنه الفقه، وعمل على نشر مذهبه ومبادئه بعد أن تقلد قضاء بغداد، ومن مؤلفات أبي يوسف كتاب "الخراج" الذي ألفه للرشيد، وتعرض فيه لأهم أمور الدولة المالية التي لا يستطيع الإلمام بها إلا من كان في مثل منصبه، وقربه من الخلفاء، وتضلعه في الفقه الإسلامي..
ومن أشهر فقهاء هذا العصر-كذلك- الليث بمصر، وقد أطنب العلماء في الإشادة بعلمه، روى عن الشافعي أنه قال: إن الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وقال ابن وهب: ما رأينا أحدًا قَطُّ أفقه من الليث سنة 157هـ.. (49)
5ـ علم الكلام:
من العلوم التي اشتغل بها العباسيون علم الكلام، ويقصد به الأقوال التي كانت تُصاغ على نمط منطقي أو جدلي للدفاع عن عقيدة المتكلم، كما يسمى المشتغلون بهذا العلم "المتكلمين"، وكان يطلق هذا اللفظ أول الأمر على من يشتغلون بالعقائد الدينية، غير أنه أصبح يطلق على من يخالفون المعتزلة ويتبعون أهل السنة والجماعة..
وكان من أثر ذلك أن أخذت كل فرقة تدافع عن عقيدتها، وتعمل على دحض الأدلة التي وردت في عقائد مخالفيها، وكانت المناظرات تعقد بين المتكلمين في قصور الخلفاء، وفي المعاهد الدينية كالمساجد، وغير الدينية كبيوت الحكمة..
ومن أشهر المتكلمين: واصل بن عطاء، وأبو الهذيل العلاف، وإبراهيم النظام، وعمرو بن بحر الجاحظ، وبشر بن غياث، وثمامة بن أشرس. (50)
وقد ظهر في عهد المأمون جماعة من كبار العلماء والمتكلمين الذين تناولوا أصول الدين والعقائد، وحَكَّموا عقولهم في البحث، ونشأت بسبب ذلك اعتقادات تخالف اعتقادات عامة المسلمين، وجمهور علمائهم المعروفين بأهل الحديث، وكان اعتماد المتكلمين في مباحثهم على العقل دون النقل، ومال المأمون إلى الأخذ بمذهب المعتزلة الفاسد؛ القائم على نبذ الشرع وتقديم العقل عليه؛ فقرب أتباع هذا المذهب إليه، ومن ثم أصبحوا ذوي نفوذ كبير في قصر الخلافة ببغداد، ووافقهم فيما ذهبوا إليه من أن القرآن مخلوق وهي بدعة ضالة، وعمد إلى تسخير قوة الدولة لحمل الناس على القول بخلق القرآن.. ربما لفساد عقيدته، وربما لشغل الناس عن القضايا السياسية، ومحاسبة الحكام -كما يرى بعض الباحثين.
وصفوة القول: إن بعض خلفاء العصر العباسي الأول، كالمأمون والمعتصم والواثق شجع بعض الآراء الفلسفية والبحث العقلي في المسائل الدينية، وأن هؤلاء الخلفاء وقعوا فيما وقع فيه الروم من قبل، فأخذوا ببعض هذه الآراء واضطهدوا المعارضين لها، وعضدوا علماء الكلام فيما ذهبوا إليه من المسائل الدينية، وبخاصة مسألة خلق القرآن التي شغلت عقول الخلفاء وعلماء الكلام نحو خمس عشرة سنة (218ـ232هـ)..
ومن أبرز متكلمي المعتزلة أبو الهذيل العلاف الذي وُلِدَ سنة 135هـ وتوفى سنة 235هـ، وكان من أقوى الشخصيات في مدرسة البصرة كما كان رئيس طائفة المعتزلة في أيامه، اشتهر بقوة الجدل والإقناع حتى قيل إنه أسلم على يديه ثلاثة آلاف رجل، وقد شغل كل حياته بالجدل مع الزنادقة والمجوس والثنوية وغيرهم. (51)
6ـ النحو:
نشأ علم النحو في البصرة والكوفة اللتين صارتا من أهم مراكز الثقافة في القرن الأول الهجري، وفي هاتين المدينتين كانت تقيم جاليات عربية تُنسَب إلى قبائل عربية مختلفة ذات لهجات متعددة، وآلاف من الصناع والموالي الذين كانوا يتكلمون الفارسية، ومن ثم تعرضت العبارات العربية السليمة إلى شيء غير قليل من الفساد، ودعت الضرورة إلى تقويم اللسان العربي، حتى لا يتعرض القرآن الكريم للتحريف، وكان أبو الأسود الدؤلي أول من اشتغل بالنحو في عهد الأمويين، وقد قيل: إنه تلقى أصول هذا العلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه..
ومن علماء البصرة المبرزين في العصر العباسي الأول أبو عمرو بن العلاء (ت153هـ)، والخليل بن أحمد (ت174هـ) واضع علم العروض، وصاحب كتاب "العين" الذي يُعتَبر أول معجم وُضِعَ في اللغة العربية، وسيبويه الفارسي، ويعرف كتابه باسم "كتاب سيبويه"، والمبرد صاحب كتاب "الكامل" ومن أشهر علماء الكوفة الكسائي الذي عهد إليه هارون الرشيد بتهذيب ابنيه الأمين والمأمون، وتلميذه الفراء المتوفى سنة 207هـ.. (52)
ويعد الرؤاسي (ت235هـ) مؤسس مدرسة الكوفة ورأس علمائها، قد غلبت عليه الناحية الصرفية التي اهتم بها الكوفيون، وتقدموا بها على أهل البصرة حتى عَدَّهم المؤرخون الواضعين لعلم الصرف..
وعندما تأسست مدينة بغداد وانتقلت الحركة العلمية إليها تكونت فيها مدرسة جديدة للنحو وقفت بين مدرستي البصرة والكوفة، وشجع الخلفاء العباسيون المناظرات العلمية بين علماء المدرستين، وأشهرها مناظرة الكسائي إمام الكوفة وسيبويه إمام البصرة، وفيها تغلب الكسائي فكان ذلك فوزًا لمدرسة الكوفة في بغداد، وقد أدى الخلاف بين المدرستين إلى بلورة علم النحو. (53)
7ـ الأدب:
لقد شهد العصر العباسي ثورة ضخمة في الشعر، وظهر كثير من الشعراء الذين نهجوا بالشعر مناهج جديدة في الموضوعات والمعاني والأساليب والألفاظ حتى فاقوا في كل ذلك من سبقهم من الشعراء الإسلاميين والمخضرمين والجاهليين، ونشأت فيه أغراض لم تكن موجودة من قبل، وذهبت أخرى فقد ضعف الشعر السياسي والحماسي والغزل العذري، وقوي شعر المدح والرثاء، وازداد الشعر الحكمي، وظهر الشعر الزهدي والصوفي والفلسفي والتعليمي والقصصي، وأسرف الشعراء المتأخرون في استعمال ضروب البديع من جناس وطباق، واهتموا بتزويق اللفظ..
وقد ازدهرت الحركة الشعرية والأدبية في العصر العباسي بفعل عملية الامتزاج بين المجتمعات والعناصر المختلفة وانتقال الثقافات الأجنبية عن طريق الترجمة وتبلور الخلافات السياسية والمذهبية بين الفرق الإسلامية مع بعضها البعض من جهة، ومع غيرها من جهة أخرى، فضلاً عن تشجيع الخلفاء والحكام للشعراء في بغداد، والمدن الأخرى، ولمع في سماء الأدب العباسي شعراء عديدون كبار أمثال: بشار بن برد (ت168هـ)، وأبو نواس (ت198هـ)، وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي (ت228هـ).
لقد نال الشعر من الاهتمام ما لم ينله أي لون أي لون من ألوان الأدب العربي لما عرف عن صلة العرب بالشعر، فقد قيل (الشعر ديوان العرب) وكان الشعر والأدب ينقل شفهيًا منذ العصر الجاهلي رغم ضياع أكثره، وفي إطار هذا الجهد التدويني للشعر الجاهلي ظهرت مجموعات شعرية مهمة كالمعلقات والمفضليات والأصمعيات فالمعلقات هي أقدم ما بقى لنا من مجموعات الشعر الجاهلي وهي سبع قصائد طوال لسبعة من شعراء الجاهلية المشهورين جمعها حماد الراوية (ت156) وسماها المعلقات، والمفضليات هي المجموعة الشعرية الثانية للمفضل بن محمد الضبي الكوفي (ت164هـ)، والأصمعيات لعبد الملك بن قُرَيْب الأصمعي (ت216هـ)، وهناك مجموعات شعرية أخرى كديوان الحماسة لأبي تمام (ت231هـ)، وطبقات الشعراء لابن سلام (ت231)، وغيرها من المصنفات التي دونت أهم ما حفظته ذاكرة الرواة من الشعر الجاهلي بعد الإسلام؛ فصانته لنا من الضياع. (54)
وكان للفرق الدينية كالشيعة والمعتزلة التي نشأت في القرن الأول الهجري، ونمت في العصر العباسي الأول، شعراء يدافعون عن مبدأهم، ويحفزون أتباعهم لمقاومة كل اعتداء يحيق بهم من خلفاء ذلك عصر، ومن هؤلاء السيد الحميري (ت173هـ) وكان كيسانيًا، فأبان عن عقيدته في محمد بن الحنيفة بن علي بن أبي طالب، وأشاد بمآثره..
وكان للمعتزلة الذين نشطت دعوتهم في بداية العصر العباسي، ونمت نموًا سريعًا في عصر المأمون، شعراء يشيدون بمبادئهم وأعمالهم من ذلك ما قاله بعضهم:
له خلف شِعب الصين في كل ثغرة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر
وقد حفَّزت الانتصارات المتوالية التي ظفر بها الخلفاء العباسيون على الروم كثيرًا من الشعراء إلى إنشاد القصائد الرائعة للإشادة ببطولتهم، وما أحرزوه من نصر وظفر في سبيل دفع خطر الأعداء عن المسلمين.. من ذلك ما قاله أبو العتاهية في مطلع قصيدته التي نظمها على أثر انتصار الرشيد على الروم في هرقلة:
ألا نادت هرقلة بالخراب من الملك الموفق بالصواب
ومدح أبو تمام الخليفة المعتصم على أثر انتصاره في عمورية بقصيدته التي قال فيها:
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نظم من الشعر أو نثر من الخطب
(ب)ـ النثر:
أما النثر فلم يكن أقل ثراءً وخصبًا من الشعر، قد بدأ النثر في صدر الإسلام بسيطًا مباشرًا موجز العبارة، وبأشكال عديدة منها: الرسائل والخطب والأحاديث والأمثال والقصص، وبتقدم الحياة الاجتماعية والعقلية تقدم النثر وتنوعت موضوعاته، وتعددت فنونه؛ فظهرت صنعة الكتابة، ومن أبرز الكُتَّاب "عبد الحميد الكاتب" الذي يعتبر شيخ صناعة الكتابة والذي قيل فيه:"بدأت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد".. فقد أحدث فيها أمورًا فنية لم تكن من قبل كالتحميدات في صدور الرسائل، وتقسيم الفقرات والفصول، وختم الرسائل بما يناسب المكتوب إليه.. إلى غير ذلك من الأمور، وليس لعبد الحميد كتب، وإنما خلف رسائل مشهودة مبثوثة في كتب الأدب والتاريخ، من أشهرها رسالته إلى الكتاب، ورسالته التي كتبها إلى ولي عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية..
ومن أدباء العصر العباسي الأول أيضًا عبد الله بن المقفع الذي يرجع إليه الفضل في نقل كثير من الكتب عن الفهلوية، وهي الفارسية القديمة، ومن هذه الكتب كتاب "كليلة ودمنة" الذي ترجمه عن أقاصيص "بيدبا" التي كتبت بالسنسكريتية، وهي اللغة الهندية القديمة، ويعد هذا الكتاب من أقدم كتب النثر في الأدب العربي، كما يعد مثلاً أعلى في سلامة الأسلوب وسلاسة العبارة. (55)
ومن أدباء ذلك العصر أيضًا ـ عمرو بن بحر الجاحظ ـ (ت255هـ) الذي عرف بالميل إلى عقائد المعتزلة، حتى لقد نشأت فرقة تسمى الجاحظية نسبة إليه، ومن أشهر كتبه كتاب "الحيوان" وكتاب "البيان والتبيين". (56)
حركة التعريب والترجمة والتأليف:
ـ التعريب: نقل الكتب والنصوص من لغة أجنبية إلى اللغة العربية..
ـ الترجمة: نقل الكتب وترجمتها من لغة إلى لغة أخرى..
يجمل الدكتور / عمر فروخ (بواعث النقل في الإسلام) بما يلي:
كانت البواعث على نقل كتب العلوم والفلسفة إلى اللغة العربية جمة منها:
1ـ القرآن الكريم وحثه على التفكير وطلب العلم.
2ـ احتكاك العرب بغيرهم من الأمم أطلع العرب على ثقافات جديدة، فأحب العرب أن يوسعوا بهذه الثقافات آفاقهم الفكرية.
3ـ حاجة العرب إلى علوم ليست عندهم، مما كانوا يحتاجون إليه في الطب وفي معرفة الحساب والتوقيت لضبط أوقات الصلوات وتعيين أشهر الصوم والحج وأول السنة.
4ـ العلم من توابع الحضارة، فحينما تزدهر البلاد سياسيًا واقتصاديًا ويكثر فيها الترف، ويستبحر العمران، تتجه النفوس إلى الحياة الفكرية، والتوسع في طلب العلم..
5ـ رعاية الخلفاء للنقل والنقلة، فقد كان الخلفاء يدفعون للناقل ثقل الكتاب المنقول ذهبًا، ثم إن الخليفة العباسي المأمون أنشأ (بيت الحكمة) وجمع فيه الناقلين، فأصبح نقل الكتب الفلسفية جزءًا من سياسة الدولة، وكانت ثمة أسر وجيهة غنية محبة للعلم، تبذل الأموال في سبيل الحصول على الكتب، وفي سبيل نقلها، فإنَّ آل المنجم كانوا ينفقون خمسمائة دينار في الشهر على نقل الكتب..
وأول نقل في الدولة العباسية قام به عبد الله بن المقفع (ت142) فقد نقل عددًا من كتب السلوك إلى اللغة العربية، ووضع كتاب "كليلة ودمنة" بالاستناد إلى قصص فارسية وهندية، ومنذ عهد أبي جعفر المنصور (ت158هـ)، أصبح التعريب عملاً منظمًا، وممن قام به يوحنا بن ماسويه، وسَلمٌ أمين مكتبة بيت الحكمة، والحجاج بن مطر..
وفي عصر المأمون (عصر الازدهار العلمي) أصبحت بغداد أعظم منارة للعلم والمعرفة في العصور الوسطى، وكان التعريب من كل اللغات وقدم لكل مترجم قبالة كل كتاب عرَّبه زنته ذهبًا..
وعندما انتصر "المأمون" على تيوفيل ملك الروم سنة 215هـ علم بأن اليونان كانوا قد جمعوا كتب الفلسفة من المكتبات وألقوا بها في السراديب عندما انتشرت النصرانية في بلادهم، فطلب المأمون من تيوفيل أن يعطيه هذه الكتب مكان الغرامة التي كان قد فرضها عليه، فقبل "تيوفيل" بذلك وعده كسبًُا كبيرًا له، أما المأمون فعد ذلك نعمة عظيمة عليه..
ومن المترجمين في هذه الفترة شيخ المترجمين حنين بن إسحاق، وثابت بن قرة والحجاج بن مطر..
وكان المنهج العلمي المتبع في الترجمة والتعريب الآتي:
أولاً العودة إلى عدة نسخ من الكتاب المراد تعريبه، ومن ثم انتقاء أفضل نسخة موثقة لاعتمادها، ومراجعة الترجمات السابقة للكتاب إن وُجِدَت للاستفادة منها، والاطلاع على أخطائها لتداركها، ثم تقسيم العمل بين عدة أشخاص، وإلى عدة مراحل، فواحد يترجم من اليونانية إلى السريانية وآخر يترجم من السريانية إلى العربية، وثالث يراجع النصوص وينقح ويدقق..
وكان للنقل طريقتان:
ـ لفظية: انتهجها يوحنا بن البطريق، وعبد المسيح بن الناعمة الحمصي، وكانت الترجمة فيها حرفية..
ـ ومعنوية: انتهجها حنين بن إسحاق، وكانت تعطي المعنى واضحًا دون التقيد باللفظ..
ونتج عن حركة النقل والتعريب هذه اتساع الثقافة العربية بما دخل عليها من ثقافات الأمم ومناحي تفكيرها، واطلاع العرب على علوم كانوا في حاجة إليها كالرياضيات والطب وأتاحت فرصة باكرة للعرب للمسلمين مكنتهم من أن يؤدوا رسالتهم في تقدم الثقافة الإنسانية، فارتقت الحضارة العربية الإسلامية في الحياة العملية العامة في البناء وأسباب العيش، وفي الزراعة والصناعة والأسفار والطب... واغتنت اللغة العربية بالمصطلحات العلمية والتعابير الفلسفية. (57)
سمات عامة للعصر العباسي الأول (132 ـ 232هـ):
ـ قوة الدولة..
ـ وحدة الدولة..
ـ سيطرة شبه كاملة للفرس على الجهازين العسكري والإداري..
ـ كان الجيش طوعًا للقيادة إلى حد كبير..
ـ توقف حركة الجهاد؟ لماذا؟
في الحقيقة إن الفتوحات الإسلامية أيام الدولة العباسية، كانت محدودة وعلى نطاق ضيق، بل تم توقف الفتوحات الواسعة منذ أواخر الدولة الأموية..
ويرجع ذلك إلى ضعف الروح الإسلامية لدى المسلمين في ذلك العهد بالنسبة إلى ما كان عليه المسلمون الأوائل في الصدر الأول، وضعف الإيمان في النفوس، وتراجع الفكر الإسلامي من العقول، وعدم فهم طبيعة الإسلام في الجهاد. (58)
بالإضافة إلى الترف الذي أصاب الدولة العباسية يومئذ وهذا أمر خطير لم تكن له نتائج مباشرة في هذه المرحلة لقوة الدولة، ولكنه كان مرضًا تفشى مع مرور الوقت حتى شُغِلَ الناسُ بأنفسهم، وبدأ الجيش ينشغل في الأمور الداخلية بدلاً من الجهاد في سبيل الله..
والقوة فتنة إن لم تُصرف في الحق صُرفت في الباطل. (59)