فلسطين الحبيبة كيف أغفو.. وفى عينى أطياف العذاب تمر قوافل الأيام تروى.. مؤامرة الأعادى والصحاب»
أحفظ هذا الشعر منذ كنت تلميذةفى المدرسة الإعدادية، ليس لأنه شعر عظيم لشاعر فحل، ولكن لأنه يعكس ألماً قاتلاً يحمله كل مولود عربى شاء حظه أن يأتى إلى هذه الدنيا بعد عام ١٩٤٨. أحفظه لأنه يذكرنى ببورسعيد.. مدينتى التى أجبرنا اليهود على تركها بعد هزيمة ٦٧ مثلما أجبروا أهلنا فى فلسطين أن يهجروا قدسهم وزيتونهم عام ٤٨. نعم أحفظه لأنه يذكرنى بالهوان ونخوتنا التى عبثت بها إسرائيل، وشجاعتنا المتألقة فى شعرنا القديم فقط.
فلسطين الحبيبة كيف نغفو ونحن لا نكف عن الغناء لك والبكاء عليك، وإهدائك كل ما نملك، حيث لا نملك غير حناجر قوية ودموع ساخنة. لا نملك سواعد مفتولة تقوى على حمل السلاح.. لا نملك إرادة تمضى إلى آخر الطريق.. ولا نملك أرواحاً قادرة على الصمود.. فقط نملك أصواتاً عذبة وكلمات تفتت الصخور وموسيقى تمزق القلوب.. ألا يكفيك منا ذلك؟
أرجوك لا تطمعى فى الأكثر لأنك لن تظفرى بأكثر مما قدمنا، ربما يأتى من أصلابنا من يمتلكون تلك السواعد، وتلك الإرادة، وتلك النخوة، وتلك الشجاعة.. لا تسألى: كيف يخرج الشجعان من أصلاب الجبناء؟ لأننا فى الأصل خرجنا من أصلاب الشجعان.. أجدادنا الذين كانت تجرى فى عروقهم دماء حارة لم نأخذ منها إلا اللون فقط، حتى هذا ليس مطابقاً تماماً.. دمنا أقل احمراراً وأكثر برودة لأن الماء يشكل نسبة كبيرة منه.
فلسطين الحبيبة سوف أغفو مثلما غفا أقرانى فى الدول العربية، سوف أنام كما ينام حكامنا فى قصورهم المنيفة وفرشهم الوثيرة، سوف أتابع مباريات الدورى العام المحلية نهاراً والأوروبية مساءً وربما أشاهد آخر أخبار مآسيك بين المباريات من باب الفضول حتى إذا ما وجدت نفسى فى حفلة بكاء عليك أذرف الدمع مع الدامعين وأتدثر بالكوفية الفلسطينية مع المتدثرين قبل أن أعود إلى غرفتى وتليفزيونى أقلب فى القنوات ما بين مسلسل عربى قديم وفيلم سينما أفرنجى وأضحك كثيراً مع المفتش كرومبو.
وفى الصباح تعرض على ابنتى ورقة كتبتها بالأمس عندما كنت أشاهد فيلم عادل إمام «السفارة فى العمارة»، كنت أضحك مع الزعيم وكانت تلميذة الخامسة ابتدائى تكتب مقالاً قصيراً تحت عنوان «متى تتكلم الشجرة؟» سألتها: ما هذا؟ فقالت: مقال عن غزة؟ فرحت كثيراً لأن الجينات التى أحملها انتقلت إلى ابنتى.
لكننى اكتشفت فى اللحظة التالية لفرحى أن «دينا» ابنتى تجاوزتنى كثيراً.. بل تجاوزت كل زملائى وأساتذتى الخبراء فى الصراع العربى الإسرائيلى حين خاطبت تلك الشجرة التى ستتكلم مع المسلمين فى معركتهم الأخيرة مع اليهود وتقول: هناك يهودى يختبئ خلفى.. اقتله.. وساعتها، ساعتها فقط سينتهى عصر اليهود ونعيش ـ حسب مقال دينا ـ فى سلام إلى الأبد.
لكن الشجرة لن تتكلم الآن.. لن تتكلم إلا مع اقتراب يوم القيامة، وحتى يحدث ذلك ستمر أجيال وأجيال.. أجيال من اليهود وأجيال من المسلمين.. أجيال من اليهود الذين يجمعهم هدف واحد، وأجيال من المسلمين الذين لا يجمعهم أى هدف.
ستكون هناك مفاوضات بيننا وبينهم من أجل الحل النهائى.. ستكون هناك غارات من طائراتهم وآلاف من شهدائنا ومؤتمرات لإعادة إعمار، ومؤتمرات مصالحة بين الفصائل وفتح وغلق للمعابر وحرق لأعلام إسرائيل وأمريكا، ومظاهرات بالملايين فى كل أنحاء العالم الإسلامى.. سيحدث ذلك كله فى العشر سنوات المقبلة والخمسين سنة المقبلة كما حدث منذ عشر سنوات ومنذ خمسين عاماً.
فالصهاينة على عهدهم لا يتغيرون والعرب على دأبهم لا يتغيرون مع تغيير الحكام الجالسين على عروشنا. إنها مأساتنا التى نحملها فوق كاهلنا.. أو بلغة أخرى هى صليبنا الذى نحمله فوق أكتافنا لنصعد به وهاداً وهضاباً وجبالاً قبل أن يحملنا فى رحلة أخيرة، أو بلغة أقدم قليلاً هى صخرة «سيزيف» التى يرفعها إلى أعلى حتى إذا ما اقترب من القمة دفعته الصخرة إلى السفح ليعيد المحاولة مرة ومرة ومليون مرة دون جدوى.
هل ابكى لان الجزائريين حرقوا علم بلادى مصر
الحل هو الشجرة التى ننتظر كلامها.. لعل سيزيف مثلنا ينتظر شجرته، لعلنا ننجو من الصلب على لسان تلكم الشجرة، فتكلمى أيتها الشجرة.. نتوسل إليك أن تنطقى قبل الأوان بمليون أوان، أنعمى علينا برجول شبابنا الضائعة وشجاعتنا الذائبة ونخوتنا المهدرة ارفعى رؤوسنا أمام أطفالنا لأنك إن لم تفعلى لن نجد أمامنا إلا التنديد والتظاهر وسب إسرائيل وارتداء الكوفية إياها. إن لم تفعلى سيفتح بعضنا باب التطوع للجهاد، وسيعلن بعضنا تبرعه بمئات الملايين من أجل الإعمار، وسيرسل بعضنا مئات الأطنان من الأدوية، وسيكتب بعضنا عشرات الأبيات من الشعر، وسيعاير بعضنا الفلسطينيين بكسرة الخبز التى أرسلها وجرعة الماء التى أسالها وخيمة الإيواء التى شيدها.
فلسطين الحبيبة كيف أغفو.. كيف أتنفس.. كيف آكل.. كيف أشرب.. كيف أشتهى وأتمتع بحياتى دون أن تشرق على وجهى نقطة خجل حمراء، نقطة واحدة فقط، فأين حمرتك أيها الخجل؟

[