إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

القانون منفتحا ومنغلقا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القانون منفتحا ومنغلقا

    القانون مُنفتحاً ومُنغلقاً

    إهداء

    إلى السماء التي سأظل أنظر إليها حتى يغيضَ بصري أو أموت

    يأتي تشريعُ القانون في المجتمعات المدنية الحديثة كضرورة حتمية لازمة ، إذ أن فلسفة الحياة تقتضي ضبطَ النزعات البشرية بناء على مقاييس معينة تكون بمثابة قواعد سلطوية لا يجوز انتهاكها أو الالتفاف حولها ، ولما كانت النزعاتُ البشرية تحمل في أعماقها قدراً هائلا ومُخيفا من التصارع والنشاز إذا طفتْ وأمستْ ملموسة حية كانت علة لحدوث التشابك السلبي بين البشر ، فكل إرادة تتوجه إلى اجتراح أفعالها وأقوالها ومحاولة فرض ذاتها وتأسيس خياراتها وإعلاء صوتها دون الاكتراث بكينونة الإرادات البشرية الأخرى ، وبذلك نكون أمام صراع إرادات حاد تتأسس عليه غلبة القوي على الضعيف وتتحول الحياة البشرية إلى حياة قاسية وعنيفة يعلو فيها نداءُ الوحش والطاغوت ، فيخسر البشر جميعا إمكاناً حياتيا يضمن لهم عيشوشة حافلة بالانضباط توازن بين حرياتهم وإراداتهم بمقاييس قانونية تحول دون المغالاة .

    وانبناءً على هذا المدلول الفلسفي يبرز القانون كضامن وحافظ يؤسس لحياة مجتمعية منضبطة فخطوات الفرد في ظل مجتمع القانون لا يمكن أن تكون مبعثرة تقتحم الحدود وتخوض بلا علامات ، وإنما هي تنطبع على ترسيمات شارعة لاشتراطات حتمية وضرورية لا يسوغ الخروج عليها باعتبارها السقف المرفوع الذي ينبسط على الجميع لأجل ضبط النزعات البشرية في صخبها وهيجانها ورسم الصراط والحيلولة دون صراع الإرادات ، فالصورة النمطية للحياة القديمة الأولى تعكس احتشاداً بشريا جماهيريا يخوض في صراع مأساوي لأجل اقتناص لذائذ الطبيعة والهيمنة على الآخر وفرض السيطرة والغلبة ، يحدث ذلك لكون كل فرد منهم كان يحوز على حريته الفردية مطلقة وهو ينشطُ في سبيل تغذيتها وتقويتها فتتحول هذه الرغبة العميقة إلى هاوية تبتلع في جوفها حقوق البشر وحرياتهم ورغباتهم .

    ولذلك عندما يُخضَعُ القانون إلى عملية تشريح إناسي لمعرفة الأصل التاريخي للنشوء يجلو لنا ذلك العمق المضيء لحظة اجتماع حشد من البشر تجمعهم رقعة جغرافية وعلامات لغوية وفضاء اجتماعي مشترك على تأسيس وثيقة مجتمعية يتعهد كل فرد منهم بالكف عن الصراع والالتزام بالمقاييس القانونية التي يتوافقون عليها وبإدراك التأثير الزماني تتحول الأفعال البشرية من خيار حر إلى عادة لازمة يكون انتهاشُها عُرضة للاصطلاء بالعقاب الجماعي ، وتندمج لحظة التأسيس على فيضٍ من التشابكات التي تُحيل إلى مجموع القراءات التأويلية التي يمكن أن ينهض بها الخطاب التفكيكي للبنية القانونية ، ولذلك كانتْ نقطة التحول هي لحظة التوافق الجماعي على تشريع منظومة أخلاقية باعتبارها خياراً حراً ومُشتركاً جمعياً ثم ما لبثتْ هذه القيم الأخلاقية في ظل ديمومة الصيرورة والتراكم الزمني أن تحولتْ إلى قيم قانونية مفروضة ، وهذا التحول لم يكن تحولاً عابراً بل كان ارتقاء معمارياً يرتفع به البناءُ القانوني المؤسساتي .

    وكذلك تأسس القانون في بداياته الأولى باعتباره مُستودعاً لحريات البشر وحقوقهم وضامناً لحياة مُجتمعية مُنضبطة ومُهندَسة بمقاييس واشتراطات ، لأجل تحقيق غائية تتعين في الارتقاء بالسلوك البشري إلى مستوىً من النظام الحر لا يتحقق في ظل غياب القانون ، تأسيساً لم يكن خروجاً على مقتضيات البشرية الأرضية ولم يكن استلاباً لحريات الأفراد بل كان يُحايث الحياة في مراقيها العليا ولا يفارقها ويؤسس لحريات الأفراد ويضبطها ، لذلك لم يكن القانون جوهراً مُقدساً يتسامى على بشرية الإنسان بل كَان بياناً مُلزماً يؤسس لحياة مغايرة ، فهو ينبني على مشيئة الإنسان الذي يحاول اقتناص ما يضمن عيشوشة مجتمعية عادلة ومشروطة .

    ولما كان الإنسان هو المؤسس الأول للقانون والإنسان بطبعه كائن متغير لا يعرف الثبات والانحجار مفطور على التحول والصيرورة والانقلاب المستمر من حال إلى حالٍ في حركة دائبة تكيفاً مع تغيرات الحياة واشتراطات الطبيعة المتحولة وتشابكات الأفراد ، كان كل ما يصدر عن الإنسان قابلا للتحول بل ومنذوراً له لأن التحول شرط رئيس لديمومة الارتقاء ، وكذلك وجب على القانون باعتباره نتيجة الإنسان أن يكون منفتحاً يتساوق مع التغيرات المجتمعية الزمكانية قادراً على ممارسة التحول ونقد الذات بحسم وصرامة لأن الانغلاق من شأنه الجمود وعدم الانفساح على فضاءات مغايرة وانعدام حس المقارنة وشرنقة الذات في إطار ضائق وكل ذلك يمهد للانكماش والتلاشي وتقديس النصوص القانونية باعتبارها الخلاص المطلق ، أما الانفتاح الحر فهو الذي يضمن التحول المستمر نحو الارتقاء وتأسيس خيارات جديدة والحفر في مستويات من نوع آخر .
يعمل...
X