منازل بغداد في ذلك الغروب الحالم بدت وكأنها جوار حسان جلسن على الشاطئ ينظرن الى تدافع المياه ؛ وقد تكسرت فوقها بقايا أشعة الشمس قبل أن تغيب .
النوافذ المفتوحة والكوى تبعث ضوءً واهناً لقناديل أسرجت تواً . إستعداداً لليلة طويلة فاتنة ؛ الامام موس الكاظم
يجوس خلال القصور اخذاً طريقه نحو بيت يقبع ما بين مقابر قريش ودير القباب على شاطئ دجلة حيث تتناثر
بيوت الفقراء هنا وهناك .
الأزقة النظيفة المرصوفة بالحجارة شهدت ذلك الغروب خطى هادئة لرجل قدم من الحجاز على قدر .
ليس هناك من يسبر الام موس في ذلك الزمن القاسي ؛ كل شئ كان هادئاً ؛ والنوافذ التي كانت ترسل أضواءً
واهنة راحت تبعث بأنغام الموسيقى ؛ وقد ظهر القمر متألقاً فوق ذرى النخيل .
بغداد تبدأ لهوها الليلي ؛ تعد موائدها الساهرة ؛ وقد ارتدت الجواري الحسان ثياباً منسوجة من حرير مضمخة
بأنواع الشذى والعطور .
كان الرجل الأسمر الذي يحمل في صدره هموم الأمة ما يزال يجوس خلال الديار ؛ في زمن قاسي ضاعت
فيه مواعظ الأنبياء .
وفيما كان الإمام ينعطف في زقاق مرصوف بالحجارة المفخورة ؛ فتحت باب خشبية أنيقة ؛ وظهرت جارية
حسناء ؛ وتدفقت عبر الباب أصوات الموسيقى والغناء .
وضعت الجارية قمامة في مكان على مبعدة من الباب ؛ ووقفت تتطلع الى الرجل الغريب ؛ الواثق الخطى .
توقفت الخطى عند الباب حيث تتدفق أصوات اللهو والمجون والعربدة .
قال الإمام وهو يسدد نظرة تكاد تخترق الزمن :
- ياجارية .. صاحب هذه الدار حر أم عبد ؟
شعرت الجارية أن السؤال قد باغتها تماماً ؛ قالت حتى لا تبدو بكماء في نظر الغريب :
- بل هو حر .
همس أبو ابراهيم بصوت يشوبه حزن غامض :
- صدقت ِ ؛ لو كان عبداً لخاف مولاه .
ومضى الغريب لا يلوي على شيْ ؛ فيما وقفت الجارية تنظر مذهولة الى خطى هادئة تبتعد رويداً رويداً ..
كانت تتطلع الى رجل نحيف تموج في سمرته تألقات نور غريب ؛ نور يشبه ما يسطع في أعماق النفوس
المطمئنة المفعمة بالسلام .
إنبعث صوت من داخل المنزل :
- أين أنتِ يا روحي .. كؤوسي فارغة ؛ وفي قلبي تستعر الجحيم .
دخلت الفتاة ؛ وقد علا وجهها وجوم .. ربما كانت مشغولة بفك رموز لم تسمعها من قبل ..
كلمات نفاذة تسبر الأعماق ..
قال الرجل السكران قليلاً :
- ماذا دهاك .. لماذا تقيفين هكذا كالمعتوهة ..
- لا شىْ يا شيدي .. لقد مر الساعة رجل .. رجل غريب ؛ سألني عن صاحب هذه الدار .
- عني أنا ؟ ماذا قال ؟
- قال : صاحب هذه الدار حر أم عبد ؟
- حر أم عبد ؟ !!
- قلت .. بل هو حر .
- هل قال شيئاً اخر ؟
- قال : صدقت ؛ لو كان عبداً لخاف مولاه .
مثلما يضرب الزلزال الأرض ؛ فترتعش ذرات التراب وترتجف الأشياء؛ كانت الكلمات النفاذه تضرب
الأعماق ؛ تطيح بكل الصروح ؛ تمزق خيوط العناكب ؛ تحيل الانفاق المظلمة الى خرائب .
سقط الكأس من يده ؛ وانتفض كمحموم ؛ مهرولاً باتجاه الباب ؛ لحقت به فتاته تدله على وجهة الرجل
الأسمر الذي مر بها قبل لحظات ..
وشهدت ظلمة المساء رجلاً حافياً ينهب الأرض بخطاه ؛ يبحث عن رجل أسمر يحمل في صدره هموم الأنبياء .
هتف الحافي بصوت مخنوق وقد لاح له الإمام :
- يا سيدي !
توقفت الخطى ؛ والتفت أبو إبراهيم الى رجل حاف يشرق بدموعه ..
والتقى الرجلان .. رجل أسمر ورجل حاف ؛ يبحث عن جادة الطريق ..
وبكى الحافي ما شاء له أن يبكي .. شعر أن روحه تغتسل تحت رشاش من مطر طهور .
إنكبى الحافي على يدي موس ؛ ينشده الخلاص .. والطريق الى ينابيع النور ؛ وانحنى أبو ابراهيم يمسح على
رأس العائد الى الله .
لقد اكتوى بنار الشيطان أمداً طويلاً ؛ قال له موس وهو يعظه :
- كفى بالتجارب تأديباً ؛ وبممر الأيام عظة ؛ وبأخلاق من عاشرت معرفة ؛ وبذكر الموت حاجزاً من الذنوب والمعاصي ؛ والعجب كل العجب للمحتمين من الطعام والشراب مخافة الداء إن نزل بهم !
- كيف لا يحتمون من الذنوب مخافة النار إذا إشتعلت في أبدانهم .
الرجل الحافي ما يزال مستغرقاً في بكاء صامت كغيمة حزينة كانت عيناه تهملان الدموع ..
تسأل الحافي وكان اسمه بشراً :
- من تكون يا سيدي .
قال الذي قدم من المدينة على قدر :
- أنا ابن محمد حبيب الله وابن اسماعيل ذبيح الله وابن ابراهيم خليل الله .. أنا موس بن جعفر .
وفي تلك اللحظة عندما تحطمت انية الخمر ؛ ولج – بشر – عالم الملكوت .
المراجع :
- روضات الجنان ص 132 و 133
- منهاج الكرامة ص 19
- على الجسر ببغداد - كمال السيد
النوافذ المفتوحة والكوى تبعث ضوءً واهناً لقناديل أسرجت تواً . إستعداداً لليلة طويلة فاتنة ؛ الامام موس الكاظم
يجوس خلال القصور اخذاً طريقه نحو بيت يقبع ما بين مقابر قريش ودير القباب على شاطئ دجلة حيث تتناثر
بيوت الفقراء هنا وهناك .
الأزقة النظيفة المرصوفة بالحجارة شهدت ذلك الغروب خطى هادئة لرجل قدم من الحجاز على قدر .
ليس هناك من يسبر الام موس في ذلك الزمن القاسي ؛ كل شئ كان هادئاً ؛ والنوافذ التي كانت ترسل أضواءً
واهنة راحت تبعث بأنغام الموسيقى ؛ وقد ظهر القمر متألقاً فوق ذرى النخيل .
بغداد تبدأ لهوها الليلي ؛ تعد موائدها الساهرة ؛ وقد ارتدت الجواري الحسان ثياباً منسوجة من حرير مضمخة
بأنواع الشذى والعطور .
كان الرجل الأسمر الذي يحمل في صدره هموم الأمة ما يزال يجوس خلال الديار ؛ في زمن قاسي ضاعت
فيه مواعظ الأنبياء .
وفيما كان الإمام ينعطف في زقاق مرصوف بالحجارة المفخورة ؛ فتحت باب خشبية أنيقة ؛ وظهرت جارية
حسناء ؛ وتدفقت عبر الباب أصوات الموسيقى والغناء .
وضعت الجارية قمامة في مكان على مبعدة من الباب ؛ ووقفت تتطلع الى الرجل الغريب ؛ الواثق الخطى .
توقفت الخطى عند الباب حيث تتدفق أصوات اللهو والمجون والعربدة .
قال الإمام وهو يسدد نظرة تكاد تخترق الزمن :
- ياجارية .. صاحب هذه الدار حر أم عبد ؟
شعرت الجارية أن السؤال قد باغتها تماماً ؛ قالت حتى لا تبدو بكماء في نظر الغريب :
- بل هو حر .
همس أبو ابراهيم بصوت يشوبه حزن غامض :
- صدقت ِ ؛ لو كان عبداً لخاف مولاه .
ومضى الغريب لا يلوي على شيْ ؛ فيما وقفت الجارية تنظر مذهولة الى خطى هادئة تبتعد رويداً رويداً ..
كانت تتطلع الى رجل نحيف تموج في سمرته تألقات نور غريب ؛ نور يشبه ما يسطع في أعماق النفوس
المطمئنة المفعمة بالسلام .
إنبعث صوت من داخل المنزل :
- أين أنتِ يا روحي .. كؤوسي فارغة ؛ وفي قلبي تستعر الجحيم .
دخلت الفتاة ؛ وقد علا وجهها وجوم .. ربما كانت مشغولة بفك رموز لم تسمعها من قبل ..
كلمات نفاذة تسبر الأعماق ..
قال الرجل السكران قليلاً :
- ماذا دهاك .. لماذا تقيفين هكذا كالمعتوهة ..
- لا شىْ يا شيدي .. لقد مر الساعة رجل .. رجل غريب ؛ سألني عن صاحب هذه الدار .
- عني أنا ؟ ماذا قال ؟
- قال : صاحب هذه الدار حر أم عبد ؟
- حر أم عبد ؟ !!
- قلت .. بل هو حر .
- هل قال شيئاً اخر ؟
- قال : صدقت ؛ لو كان عبداً لخاف مولاه .
مثلما يضرب الزلزال الأرض ؛ فترتعش ذرات التراب وترتجف الأشياء؛ كانت الكلمات النفاذه تضرب
الأعماق ؛ تطيح بكل الصروح ؛ تمزق خيوط العناكب ؛ تحيل الانفاق المظلمة الى خرائب .
سقط الكأس من يده ؛ وانتفض كمحموم ؛ مهرولاً باتجاه الباب ؛ لحقت به فتاته تدله على وجهة الرجل
الأسمر الذي مر بها قبل لحظات ..
وشهدت ظلمة المساء رجلاً حافياً ينهب الأرض بخطاه ؛ يبحث عن رجل أسمر يحمل في صدره هموم الأنبياء .
هتف الحافي بصوت مخنوق وقد لاح له الإمام :
- يا سيدي !
توقفت الخطى ؛ والتفت أبو إبراهيم الى رجل حاف يشرق بدموعه ..
والتقى الرجلان .. رجل أسمر ورجل حاف ؛ يبحث عن جادة الطريق ..
وبكى الحافي ما شاء له أن يبكي .. شعر أن روحه تغتسل تحت رشاش من مطر طهور .
إنكبى الحافي على يدي موس ؛ ينشده الخلاص .. والطريق الى ينابيع النور ؛ وانحنى أبو ابراهيم يمسح على
رأس العائد الى الله .
لقد اكتوى بنار الشيطان أمداً طويلاً ؛ قال له موس وهو يعظه :
- كفى بالتجارب تأديباً ؛ وبممر الأيام عظة ؛ وبأخلاق من عاشرت معرفة ؛ وبذكر الموت حاجزاً من الذنوب والمعاصي ؛ والعجب كل العجب للمحتمين من الطعام والشراب مخافة الداء إن نزل بهم !
- كيف لا يحتمون من الذنوب مخافة النار إذا إشتعلت في أبدانهم .
الرجل الحافي ما يزال مستغرقاً في بكاء صامت كغيمة حزينة كانت عيناه تهملان الدموع ..
تسأل الحافي وكان اسمه بشراً :
- من تكون يا سيدي .
قال الذي قدم من المدينة على قدر :
- أنا ابن محمد حبيب الله وابن اسماعيل ذبيح الله وابن ابراهيم خليل الله .. أنا موس بن جعفر .
وفي تلك اللحظة عندما تحطمت انية الخمر ؛ ولج – بشر – عالم الملكوت .
المراجع :
- روضات الجنان ص 132 و 133
- منهاج الكرامة ص 19
- على الجسر ببغداد - كمال السيد