تعكف الادارة الامريكية على بلورة مبادرة سلام لتسوية الصراع العربي الاسرائيلي. ملامح هذه المبادرة بدأت تتكشف بشكل تدريجي من خلال تسريبات لبعض الصحف الغربية على لسان بعض المسؤولين العرب، سواء بشكل مباشر، مثلما كان عليه الحال في المقابلة التي اجرتها صحيفة 'التايمز' البريطانية مع العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني، او غير مباشر من خلال نشر اخبار تنسب الى مصادر دبلوماسية غير محددة.
المبادرة الامريكية تقوم على مرحلتين اساسيتين وفق التسريبات المذكورة:
الاولى: تسريع خطوات التطبيع العربي الرسمي مع اسرائيل من خلال فتح الحدود والاجواء، والسماح للاسرائيليين بالحصول على تأشيرات دخول الى الدول العربية بشكل طبيعي، واعطاء الحق لشركة الطيران الاسرائيلية (العال) بالمرور في الاجواء العربية، والهبوط في المطارات دون اي عوائق. وكل هذا من اجل طمأنة الحكومة الاسرائيلية الحالية، واقناعها 'بتجميد' الاستيطان، والقبول بحل الدولتين.
الثانية: الدخول في مفاوضات على اساس حل الدولتين، مع تأجيل البحث في قضايا الحل النهائي مثل مستقبل القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين الى مرحلة لاحقة.
هذا يعني ان هذه المبادرة التي من المفترض ان يكشف النقاب عن بنودها الرئيس باراك اوباما اثناء زيارته الى القاهرة يوم الرابع من حزيران (يونيو) المقبل، في الخطاب الذي سيوجهه الى العالم الاسلامي، ويدعو فيه الى مؤتمر سلام ينعقد في شهر تشرين الأول /اكتوبر المقبل بحضور جميع الدول العربية والاسلامية، جنباً الى جنب مع اسرائيل، وبرعاية دولية.
المبادرة الامريكية الجديدة هذه ستلغي عملياً مبادرة السلام العربية، او بالأحرى ستحل مكانها، على اعتبار ان الجديد يجبّ ما قبله، وهذا ما يفسر القول بأن الادراة الامريكية ستبني تحركها وفق بعض البنود في المبادرة العربية.
خطورة التحرك الامريكي الجديد هذا تتمثل في عدة نقاط نوجزها في ما يلي:
اولا: مطالبة الحكومات العربية بتطبيع العلاقات مع الدولة العبرية (حرية تنقل الاسرائيليين واعطاء ممرات جوية لخطوطهم)، ليس مقابل الانسحاب الكامل، مثلما نصت مبادرة السلام العربية، وانما مجرد 'تجميد' الاستيطان وقبول حكومة نتنياهو بحل الدولتين.
ثانيا: تأجيل القضايا التي تعتبرها اسرائيل شائكة او معقدة، مثل القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين، وهذا يعني قيام دولة فلسطينية، ولو كمرحلة انتقالية، ودون الاتفاق على هاتين المسألتين، اي دولة فلسطينية دون حدود متفق عليها، ودون القدس عاصمة لها. وهذا النهج هو ما جرى اتباعه في مفاوضات اوسلو السرية، والاتفاق الذي تمخض عنها، اي نحن امام اعادة صياغة هذا الاتفاق، وتقديمه بصورة اخرى، من قبل ادارة جديدة.
ثالثا: توسيع دائرة التطبيع بحيث تشمل الدول الاعضاء في منظمة المؤتمر الاسلامي (57 دولة)، وانهاء اي خلاف بين هذه الدول والدولة العبرية بعد التوصل الى اي اتفاق سلام وفق المبادرة الامريكية الجديدة.
هذه المبادرة اذا ما تم تبينها من قبل الدول العربية، تعتبر اخطر بكثير من اتفاقات كامب ديفيد التي ادت الى إحداث شرخ كبير في الصف العربي بخروج مصر، وانهاء حالة الحرب بينها وبين الدولة العبرية، واطلاق يد الاخيرة لشن حروب دموية متواصلة في لبنان (مرتين) وقطاع غزة، وتدمير المفاعل النووي العراقي 'اوزيراك'عام 1981، وشن غارات في العمق السوري نفسه (ضرب منشآت عسكرية نووية قرب دير الزور).
مصدر الخطورة ان اتفاقات كامب ديفيد رغم سلبياتها الكارثية، تركزت حول العلاقة المصرية الاسرائيلية، ولم تتطرق مطلقاً الى جوهر الصراع العربي الاسرائيلي، اي الثوابت الفلسطينية، ولكن المبادرة الامريكية تركز على 'تسوية' هذه القضية، بالقفز على هذه الثوابت، تحت ذريعة تأجيلها، والرضوخ بالكامل للمطالب الاسرائيلية في هذا الصدد.
الرئيس المصري انور السادات الذي بدأ التطبيع بزيارة القدس المحتلة، تمهيداً لتوقيع اتفاقات كامب ديفيد، ومعاهدة السلام مع اسرائيل، حصر مطالبه باستعادة الاراضي المصرية في سيناء، ولم يقترب مطلقاً من الاراضي العربية الاخرى، او الثوابت الفلسطينية، ولكن المطلوب من خليفته الرئيس حسني مبارك والزعماء العرب الآخرين، الذهاب الى ما هو ابعد من ذلك، اي تصفية القضية الفلسطينية برمتها دون اي مقابل، غير الدخول في علاقات تحالفية طبيعية مع اسرائيل تشمل الاقتصاد وربما تمتد الى تحالف عسكري وتكتل سياسي ضد ايران اذا لزم الامر.
فمن الواضح ان هذه المبادرة الامريكية الجديدة تريد توسيع دور 'سمسار' السلام العربي، بحيث يمتد الى العالم الاسلامي بأسره، اي ان يبدأ الزعماء العرب، ومن دول الاعتدال خاصة، حملة علاقات عامة في العالم الاسلامي لتجميل وجه اسرائيل، وتسويق عمليات التطبيع معها، باعتبارها دولة صديقة، وربما حليفة لمليار ونصف مليار مسلم.
والمفارقة ان قبول بعض الزعماء العرب بدور 'السمسار' للترويج للتطبيع ومن ثم 'السلام' مع اسرائيل، يأتي في وقت تتخذ فيه دول اسلامية مواقف متشددة تجاهها، مثل ايران التي لم يتردد رئيسها احمدي نجاد في فضح عنصرية اسرائيل واغتصابها لفلسطين من على منبر مؤتمر العنصرية الاممي في جنيف، او تركيا التي انسحب رئيس وزرائها رجب طيب اردوغان احتجاجاً على اكاذيب الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريس في مؤتمر دافوس الاقتصادي مطلع هذا العام، وانتصاراً لضحايا العدوان الوحشي الاسرائيلي على قطاع غزة.
ندرك جيداً اننا نقف في خندق القلة التي تحاول تمزيق حواجز الصمت الممارس حالياً في بعض الاوساط الاعلامية العربية، وفضح مخططات جديدة يجري طبخها بهدوء في واشنطن وتل ابيب حالياً بتعاون بعض القيادات العربية، او بمباركتها على الاقل، ولكن نرى ان من واجبنا ان نشرح الاخطار، بتسليط الاضواء عليها للمواطن العربي المطحون بالفقر والأمية والاضطهاد من قبل الدكتاتوريات العربية المتغولة.
قضية اللاجئين هي جوهر الصراع العربي الاسرائيلي، واحتلال القدس ومقدساتها هو جوهر العداء الاسلامي للدولة العبرية، ولا يجب ان يكون هناك اي تنازل او تطبيع قبل التوصل الى حلول عادلة وفق قرارات الشرعية الدولية لهاتين المسألتين.
تأجيل البحث في قضايا اللاجئين والقدس هو تنازل مبطن عنها، وتسليم بالمطالب الاسرائيلية كاملة ودون مقابل، اللهم بضعة وعود، والانخراط في مفاوضات قد تمتد لعشرات السنوات. فمنذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد قبل ثلاثين عاماً والعرب يتفاوضون واسرائيل تبتلع الارض وتهود القدس وتبني المستوطنات. ولا مؤشر على الاطلاق لحدوث اي تغيير. فقد اظهرت استطلاعات رأي ان 52 ' من الاسرائيليين يعتبرون الاراضي المحتلة اراضي اسرائيلية محررة حسب صحيفة 'معاريف' في عددها الصادر قبل ثلاثة أيام.
نضع هذه الحقائق امام الشارع العربي، حتى لا يفاجأ بما سيعلنه الرئيس اوباما في خطابه، وسلسلة التنازلات التي يستعد بعض، او معظم، قادته العرب لتقديمها تودداً لاسرائيل التي لم تعد عدواً في نظرهم، بعد ان جعلوا ايران تحتل مكانها على قمة قائمة العداء، بتعليمات امريكية وتحريض اسرائيلي.
القدس العربي
تعليق