« رسائل السلاطين البوسعيديين إلى الحكام الفرنسيين"3" »
" سيرة مِنْ حُكْم دولة اليعاربة لِعُمان "
دولة اليعاربة: قامت دولة اليعاربة في عُمان عام ( 1034 هـ / 1624 م ) نتيجة لظروف عديدة، منها أن البلاد كانت تعاني الكثير من الفوضى السياسية عند نهاية عهد النباهنة، تلك الدولة التي عمرت خمسة قرون كانت الثلاثة القرون الأولى تمثل فترة قوتها، ومع اقتراب القرن الخامس عشر بدأت عوامل الضغط تعمل في كيانها كنتاج طبيعي لانقسام الدولة إلى ممالك وكيانات ضعيفة عجلت بنهايتها.وتشير المصادر العُمانية إلى أن تاريخ النباهنة لم يكن كله ضعيفاً وإنما كانت هنالك فترات قوة، حيث حكم عُمان بعض الحكام العظام، لعل أشهرهم فلاح بن محسن.وبينما كان البرتغاليون يجهزون على كل القوي الإقليمية كانت عُمان تشهد مولد عهد جديد وزعامة جديدة. فقد ظهر ناصر بن مرشد كأول أمام لدولة اليعاربة، وقد استطاع هذا الإمام أن يستوعب كل أبعاد القضية، وان يدرك المتغيرات الجارية من حوله سواء على المستوى العُماني أو على مستوى المنطقة بشكل عام، وقدر كل أبعادها حيث اعتقد أن مواجهة البرتغال لا يمكن أن تكون حاسمة إلا إذا استند إلى جبهة وطنية متراصة ومتماسكة، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا إذا خاض حروباً ضارية في سبيل توحيد كل القبائل العربية.وبما أن منطقة الرستاق هي التي شهدت بعثة إمامة ناصر بن مرشد فقد كان عليه أن يبدأ بها، ولهذا مضى ومعه جمع من أنصاره نحو قلعة الرستاق وكان المالك للرستاق ابن عمه مالك بن أبي العرب اليعربي، وبعد حصار لم يدم طويلاً فتحها الإمام.ونظراً لثقل المهمة التي كان يقوم بها الإمام ناصر بن مرشد واستعداداً لحروب قد تطول أكثر مما كان يتوقع، لذا فقد كان يقيم في المناطق التي كان يدخلها حصناً أو قلعة بعد أن يترك أحدا من أتباعه لكي يواصل مهمته في ترسيخ مبادئه ومواصلة دعوته التي أخذت تنساب في كل أرجاء عُمان، وقد حققت هذه السياسة تعاظم نفوذ الإمام إضافة إلى عدالته التي كانت مضرب المثل مما دفع المترددين إلى القدوم إليه طالبين بسط سلطته العادلة.ومما يؤكد صعوبة المهمة التي مضى الإمام في سبيل تحقيقها كثرة الممالك التي أقيمت على مقومات قبلية بحيث يصعب التمييز فيها بين القبيلة والحكومة، وذلك أن الحكم كان بيد شيخ القبيلة الذي كان يطلق عليه تجاوزا ملكاً أو أميراً، أما فكرة الدولة القومية الواحدة والإدارة المركزية فهي من المفاهيم التي لم تتعود عليها القبائل في تلك الفترة.لعل الإمام ناصر كان يعول أهمية كبيرة على نزوى ولذا فبمجرد أن فتحها فضل أن يتريث لبعض الوقت ويبدو انه كان يتوقع توافد القبائل عليه تجنباً لإراقة الدماء وقد تحقق ما توقعه الإمام. ومن الظواهر اللافتة للنظر في سياسة الإمام انه كلما حقق قدراً لا باس به من الوحدة راح يتريث ترقباً لرد فعل قد يحول دون الحرب، ولعلها فرصة لإعادة ترتيب جنده ومحاولته العودة لتفقد المناطق التي دخلت في حوزته، وهي سياسة حكيمة تتعدد فوائدها على كل المستويات. وهكذا استطاع الإمام ناصر بن مرشد خلال سنوات حكمه والتي امتدت حتى(1059هـ/1649م)، أن يحقق لعُمان تماسكها. وكانت محاولاته نحو الوحدة باعثة على تحقيق الأمل الكبير الذي افتقرت إليه البلاد منذ زمن طويل، وينفرد الإمام ناصر بن مرشد بين أئمة اليعاربة بتصديه لهذا الكم الهائل من المشكلات حيث حارب في جبهتين (الساحل والداخل) وعند وفاته في (ربيع الثاني 1059هـ /23 ابريل 1649م) كانت القبائل العُمانية تحت لواء واحد، وعموماً فان فترة الإمام ناصر بن مرشد تعتبر من أغنى وأخصب الفترات في تاريخ اليعاربة، ويعد دوره في سبيل الوحدة الوطنية أساساً لكل الانتصارات اللاحقة ضد البرتغاليين. وإذا كانت عُمان منذ (1034هـ/1624م) وحتى وفاة الإمام ناصر بن مرشد (1059هـ/ 1649م) قد واجهت حروباً أهلية طاحنة إلا أنها استطاعت أن تخرج منها أكثر تماسكا وقوة وبدأت مرحلة جديدة من الوحدة في ظل حكومة مركزية وانتهى العهد الذي كانت فيه مقسمة إلى دويلات صغيرة تحت رئاسة ملوك ضعاف ارتضوا أن يحكموا دويلات هزيلة، بدلا من أن تقوى بلادهم وتتحد.وإذا كان الإمام ناصر بن مرشد قد أنجز تحقيق الوحدة الوطنية، إلا أن الوجود البرتغالي على السواحل العُمانية كان في حاجة إلى إمكانيات جديدة تفوق الإمكانيات التقليدية التي استخدمها اليعاربة في سبيل القضاء على الحروب الأهلية والانصياع لسلطة الدولة الموحدة، لقد وقعت كل المعارك التي خاضها الإمام ناصر بن مرشد من أجل الوحدة على اليابسة، أما البرتغاليون فقد كانوا أهل بحار، وطريقتهم في الحرب اعتمدت على السفن التي شهدت طفرة كبيرة منذ الكشوف الجغرافية، ولذا فان سياستهم الاستعمارية اعتمدت على احتلالهم لكثير من المدن والقلاع والحصون التي تقع في طريق البحار والمحيطات دون اللجوء إلى التعمق في اليابسة والذي لا يتناسب وإمكاناتهم البشرية.أدرك اليعاربة مقدرة عدوهم القادم من أقصى الطرف الأوربي كدولة بحرية خاضت معارك طاحنة في سبيل الحفاظ على مكانتها، ولذا فقد كانت العناية بالأسطول وتنمية الموارد الاقتصادية من الركائز الأساسية التي اعتمد عليها اليعاربة، ولذلك فقد طوروا أسطولهم التجاري والعسكري مستفيدين من خبرة الدول الأكثر تقدماً في هذا المجال وخصوصاً شركة الهند الشرقية البريطانية، حيث أقاموا معها علاقات طيبة مستفيدين من تنافسها مع السياسة البرتغالية في تلك الفترة قبل أن تنشأ سياسة الوفاق الجديدة.وبمجرد أن انشأ الإمام ناصر بن مرشد أسطوله وانتهى من القضاء على جميع القوى المحلية المناوئة ألقى بكل ثقله في محاربة البرتغاليين حيث انتزع منهم صور وقريات، على يد ابن عمه سلطان ابن سيف اليعربي.ويبدو أن انتزاع صور وقريات لم تكن مهمة سهلة، فقد كان التباين واضحاً بين حجم وكفاءة القوتين المتنافستين، إضافة إلى أن الوحدة الوطنية لم تكن قد تحققت بما يتناسب وأعباء المواجهة التي كانت تقضي بقدر كبير من الانسجام والتفاهم خصوصاً وان البرتغاليين كانوا قد استردوا أنفاسهم منذ أن طردوا من هرمز 1622م بسبب انشغال القبائل بالحروب الأهلية وقبل كل ذلك قد استجدت على مسرح الأحداث سياسة وفاق جديدة بين البرتغال وشركة الهند الشرقية بدءاً من عام (1044هـ/1634م)، تحولت إلى صداقة متينة وتعاون بين الطرفين وخصوصاً بعد أن استرد البرتغاليون استقلالهم من أسبانيا عام (1050هـ/1640م). ومنذ عام (1050هـ/1640م ) بدأ ناصر بن مرشد يجني ثمار الوحدة الوطنية فبمجرد أن علمت القبائل بحصار صحار أخذت تستنفر همم شبابها الذين شاركوا في بناء القلعة، وخصوصاً من مناطق لوى وبات وكافة المناطق المتاخمة لصحار، وبينما ضرب العُمانيون حصاراً منيعاً حول صحار، كانت سرية أخرى قد وصلت إلى مسقط بأمر الإمام، وعلى الرغم من أن تلك السرية لم تحقق نتائج حاسمة، إلا أنها أربكت القوات البرتغالية، سواء في صحار أو مسقط مما مهد لسلسلة من الهجمات العُمانية الخطيرة ضد كافة المعاقل البرتغالية.ففي عام(1053هـ/1643م) استولى الإمام ناصر بن مرشد على مدينة صحار وبنى بها حصناً مقابلاً للحصن الذي يسيطر عليه البرتغاليون، كما نجح العُمانيون في الحصول على عدد من السفن المتقدمة، وكذا الذخيرة والبارود من الإنجليز مما ضاعف من حجم العمليات العسكرية ضد القواعد البرتغالية، وعموماً فلم يصل حجم المساعدات البريطانية لعُمان بما يتناسب وإمكانات البرتغال مثل ما حدث في اتفاقية ميناب عام( 1032هـ/1622م)، حيث حاربت بريطانيا بجانب الفرس لتحرير هرمز أما اليعاربة فقد حاربوا في ظروف مختلفة حيث لم يستعينوا بقوة أجنبية إضافة إلى أن البرتغال أثناء طردها من هرمز كانت في ظل التبعية الأسبانية في حين أن العُمانيين قد تضاعف جهودهم بشكل ملحوظ بعد أن استردت البرتغال استقلالها. وعند وفاة ناصر بن مرشد لم يبق تحت السيطرة البرتغالية إلا مسقط ومطرح وحصن لهم في صحار، وقد حاول الإمام ناصر أن يسترد هاتين المدينتين وبعث بمسعود بن رمضان على رأس جيش بهدف تحريرهما، وتمكن مسعود بن رمضان من الوصول إلى مطرح وضرب عليها حصاراً في وقت تفشى فيه مرض الطاعون وأصيب البرتغاليون بهلع شديد.. ولم يؤد هذا الحصار إلى تحرير مسقط ومطرح وإنما نجم عنه إبرام هدنة جاءت معظم بنودها في صالح العُمانيين. وقد تضاعفت طموحات العُمانيين وأدركوا أنهم قاب قوسين أو أدنى من تحرير بلادهم من احتلال دام أكثر من مائة وأربعين عاماً، وبوفاة الإمام ناصر بن مرشد كان العُمانيون قد وضعوا أقدامهم عند نهاية الطريق بعد رحلة طويلة من الجهاد والتضحيات وامتد جهادهم إلى جلفار (رأس الخيمة) التي كان البرتغاليون يحتلون إحدى قلاعها بينما الفرس بقيادة ناصر الدين الفارسي يحتلون القلعة الثانية. بويع الإمام سلطان بن سيف (1059هـ -1649م) بعد وفاة الإمام ناصر بن مرشد ومن البداية أخذ الإمام الجديد يعد العدة للقضاء على البرتغاليين وأدرك أهمية الوقت كعامل هام في الإجهاز عليهم وخصوصاً بعد أن نما إلى علمه إن عدد جنودهم قد نقص نقصاً كبيراً بسبب حملات برتغالية كانت قد أرسلت إلى الهند اعتقاداً بأن موت الإمام ناصر بن مرشد يعد سبباً كافياً لإرجاء أي نوايا عدوانية نحو مسقط ومطرح، إلا أن سلطان بن سيف لم يمكث إلا أياماً قليلة وأسرع متخذاً من طوى الرولة قاعدة للهجوم الشامل عليهم، بينما تحصن البرتغاليون بقلاع وأسوار عالية، حيث رابط جنودهم بعد أن ثبتوا مدافعهم الثقيلة في كل اتجاه، وزيادة في الحيطة فقد حفروا خندقاً عميقاً حول الأسوار، كما بنوا على رؤوس الجبال المحيطة بمسقط ومطرح مجموعة أبراج ثبتوا في داخلها جنوداً أشداء أخذوا يمطرون القوات العُمانية بوابل من نيران مدافعهم.وكانت الحرب سجالاً بين الفريقين، فلم تكن للبرتغاليين قدرة على مواجهة العُمانيين ولم يكن للعُمانيين قدرة دخول مسقط ومطرح، وأعتمد الجيشان على القنص كلما أتيحت الفرصة لذلك. وهكذا طالت الحرب حتى كاد سلطان بن سيف أن يتراجع عن حصاره، وخصوصاً بعد أن نما إلى علمه أن بعض القبائل بدأت تفكر في التراجع عن مساندته. ولكن حدث شيء لم يكن في الحسبان إذ أن الإمام سلطان بن سيف قد تلقى معلومات على غاية من الأهمية من العرب القاطنين حول مسقط، مكنته من دخول المدينة ولا يستبعد أن تكون هذه المعلومات كانت تعبر عن حقيقة الأوضاع داخل المدينة خصوصاً عند (نهاية ذي الحجة 1059هـ/ ديسمبر1649م) وهو موعد رأس السنة الميلادية، حيث لم تكن هناك ثمة مراقبة دقيقة مما سهل على العرب مهمة التسلل إلى داخل مسقط، وأطلعوا على أحوال البرتغاليين ونقلوا إلى الإمام ما رأوه، ولم تلبث قوات الإمام أن حاصرت البرتغاليين في قلعة الجلالي، وبعد أن نفذت مؤونتهم اضطروا إلى التسليم وتركوا القلعة، وهذا ما حدث في مطرح أيضاً ولم يبق للبرتغاليين غير سفينتين كانت تحاصران مسقط إلا أن العُمانيين تمكنوا من أسرهما، وعندما وصلت هذه الأخبار إلى السلطات البرتغالية في الهند أسرعت بإرسال أسطول برتغالي كبير ولكنه وصل متأخراً، فقد كانت القلاع وكل الحصون البرتغالية قد تهاوت وسقطت في يد العُمانيين، وأصيب البرتغاليون بخسائر جسيمة، حيث قتل معظم جنودهم، وكل المحاولات التي قاموا بها في الهند لإمداد مسقط باءت بالفشل وبنهاية (1063هـ/1652م) لم يبق البرتغاليون في الخليج، إلا وكالتهم في كنج على الساحل الشرقي من الخليج.ومع ذلك فلم يفقد البرتغاليين الأمل في استعادة ساحل عُمان، حيث راحوا يدعمون مركزهم في كنج بل واخذوا يتفاوضون مع الفرس على السماح لهم بإنشاء وكالة تجارية في جزيرة هانجام، إلا أن الشروط الفارسية كان مبالغاً فيها، ولذا فقد رفض البرتغاليون العرض الفارسي، ويؤكد لوريمر أن سبب رفض البرتغاليين للعرض الفارسي هو تطلعهم إلى الساحل العربي، حيث كانت تبذل محاولات في هذا الصدد.لم يكتف العُمانيون بطرد البرتغاليين من سواحل عُمان بل شنوا عليهم حرباً تمثلت في سلسلة من الغارات ضدهم في المحيط الهندي براً وبحراً، وتعرضت المواقع البرتغالية في الهند إلى تلك الهجمات:- بومباي في(1072هـ/1661م) وديو في(رجب1079هـ/نوفمبر1668م) وفي شوال ( 1086هـ/الموافق يناير1676م)، وكذلك في(سنة1081هـ/الموافق1670م)، وباسين Bassein في(1085هـ/الموافق1674م) وامتدت المعارك لتشمل غرب المحيط الهندي حيث خاض الطرفان صراعاً طويلاً للسيطرة على شرقي أفريقيا، فقد اتصل سكان زنجبار الذين ربطتهم عوامل دينية وقومية مع العُمانيين بالإمام سلطان بن سيف من اجل تحريرهم من الاستعباد البرتغالي وبالرغم من الانتصارات التي حققها الإمام سلطان بن سيف في مياه زنجبار، إلا أن الجلاء البرتغالي لم يتم إلا في عهد الإمام سيف بن سلطان الذي وضع حجر الأساس لبحرية عُمان الشهيرة التي سيطرت على جميع الساحل الإفريقي الشرقي من (ممباسة) إلى (كلوه) إذ سيطر العُمانيون على ممباسة (1110هـ/1698م) وسيطروا على بيما وزنجبار وبته Patta وكلوه، وكانت (موزمبيق) هي الوحيدة التي قاومت الأسطول العربي العُماني وبقيت بأيدي البرتغاليين إلى القرن العشرين، وقد حاول البرتغاليين استعادة مراكزهم البحرية الضائعة وقاموا بهجوم موحد على زنجبار ومسقط في آن واحد عام (1142هـ/1729م) ولكنهم أصيبوا بهزيمة منكرة، وبذلك انهارت آمال البرتغال في استعادة سيادتها على الخليج والمحيط الهندي، وامتد نفوذ عُمان من جنوب الجزيرة العربية وسواحل شرقي أفريقيا في الغرب إلى سواحل وادي السند في الشرق.وفي هذه الفترة أصبحت مسقط تتمتع بـ(مركز التوزيع التجاري الرئيسي) لمنطقة الخليج، فأصبحت واحدة من المواني الرئيسية في المحيط الهندي وسواحل الخليج وإيران والعراق والجزيرة العربية، وفي حدوده الغربية امتد هذا النفوذ إلى البحيرات الأفريقية المركزية، وفي الشرق لامس دلتا الكنج. وهكذا ظهرت قوة عُمان بعد القضاء على الهيمنة البرتغالية بشكل بات يخشاه الجميع، فقد أصبحت السفن العُمانية هي التي تبحث عن سفن الأعداء في مياه الخليج والمحيط الهندي، واضطرت السفن الهولندية والإنجليزية إلى تعزيز دفاعاتها تخوفاً من عرب عُمان، وقد عبر المقيم البريطاني في بندر عباس عن مخاوفه من تنامي قوة عُمان بقوله سنة (1106هـ/1694م)"إنهم سيثبتون أنهم كارثة كبرى في الهند كالجزائريين في أوروبا". وقد أشارت السلطات الصفوية أيضاً إلى تفوق العُمانيين في هذه الفترة من خلال مذكرة رفعتها إلى الحكومة الفرنسية جاء فيها: (أن تمتعهم بموقع جغرافي مهم يتيح لهم الفرصة للسيطرة على الخليج وهذا يفسر قوة العُمانيين الذين تمكنوا بما يناهز الثلاثين قارباً من الاستيلاء على الغنائم).ذلك أن الانتصارات التي حققها اليعاربة أثارت فارس التي كانت تتطلع إلى وراثة النفوذ البرتغالي، ولذا فقد تعددت المواجهات العُمانية الفارسية والتي جاءت في صالح اليعاربة، بدرجة أن التجارة الفارسية أصيبت بضرر بالغ مما دفع بالفرس إلى الاستعانة بالقوى الأوروبية بهدف القضاء على منافسة عُمان لها في هذا الميدان واتصلوا بالإنجليز لتحقيق هذا الهدف.وإذا كان الإنجليز لم يتحمسوا للعرض الفارسي خوفاً على مصالحهم الاقتصادية من الأسطول العُماني، فقد توجهت فارس إلى فرنسا على عهد لويس الرابع عشر وتمخضت الاتصالات عن توقيع معاهدة بينهما في عام (1119هـ/1707م) وكان من بين النصوص السرية التي احتوتها تلك المعاهدة أن يقوم الفرنسيون بإرسال أسطول لمساعدة فارس في غزو مسقط، إلا أن فرنسا ترددت قبل الإقدام على تلك الخطوة بنفس السبب الذي منع الإنجليز من تضامنهم مع فارس، على الرغم من الدبلوماسية النشطة التي مارسها الفرس في محاولة للضغط على لويس الرابع عشر.. وعموما فلم تسفر الاتصالات عن قيام تحالف فارسي فرنسي على الرغم من إبرام اتفاقية جديدة في عام (1127هـ/1715م)، ولعل ما حال دون أقدام فرنسا على تنفيذ بنود المعاهدة الجديدة تلك الفوضى التي اجتاحت فارس وما ترتب عليها من غزو أفغاني لها في عام (1135هـ/1722م)، كانت البرتغال قد أدركت في تلك الفترة أن زمن الضعف العربي قد ذهب وان مواجهة اليعاربة في كل مراحل الصراع قد باءت بالفشل وان استمرار الوضع يعني ضياع كل الممتلكات البرتغالية على سواحل الهند وشرق أفريقيا ولذا فقد راحوا ينسقون مع الفرس في محاولة لقيام تحالف عسكري يكون قادرا على ضرب اليعاربة.وقد أدرك سلطان بن سيف خطورة هذا التحالف الجديد، ولذا فقد عجل بضرب البرتغاليين وتصفية نفوذهم، وقسم أسطوله إلى قسمين أحدهما توجه إلى شرق أفريقيا حيث نجح في انتزاع ممباسا (1110هـ/1698م) تمهيداً لانتزاع الجزيرة الخضراء وكلوه. أما القسم الآخر من الأسطول فقد توجه إلى الهند، حيث نجح في تدمير الوكالة البرتغالية في مانجالور على الساحل الهندي. وهكذا استطاع اليعاربة كسر شوكة البرتغاليين وإنهاء سيادتهم الاحتكارية والقضاء على مراكزهم الاستراتيجية سواء على الشاطئ الأفريقي أو على سواحل الهند، ويقرر المؤرخ الإنجليزي كوبلاند Coupland إن البحرية العُمانية مع مطلع القرن السابع عشر وصلت إلى درجة من القوة يحسب حسابها من مثل الأساطيل الإنجليزية والهولندية. وبكل المقاييس فقد نجح العُمانيون وحتى نهاية عهد سلطان بن سيف الثاني عام (1130هـ/1718م) في إيجاد قدر كبير من التوازن الدولي انعكست نتائجه على كل المستويات، وترك انطباعاً هائلاً لدي الأوربيين عن هيبة الدولة، حيث عملت العديد من القوى الأوربية على كسب ودها، ولعل الازدهار الاقتصادي الذي وصلت إليه دولة اليعاربة ومكانة أسطولها البحري كان نتاجاً طبيعياً لقوة الدولة وحجم ثقلها البحري في كافة البحار الشرقية، في ظل جو مناسب من الألفة لدى عناصر السكان في عُمان، وبات الناس في أمن على حياتهم وأرزاقهم.وإذا كان اليعاربة قد نجحوا كل النجاح في تحقيق هذا الازدهار الذي يترتب على انهيار النفوذ البرتغالي وكسر احتكاره لتجارة المنطقة، فأن من المفيد في هذا المجال أن نعرض للأسباب التي أدت إلى انهيار هذا النفوذ ومكن اليعاربة من هذا النجاح، والحقيقة فإن الأسباب التي عجلت بانهيار النفوذ البرتغالي في عُمان والخليج عديدة منها:-
أولاً: طبيعة الاستعمار البرتغالي للمنطقة التي كانت ترتكز على سلسلة من القواعد العسكرية الواقعة على الطريق البحري بين الهند والبرتغال، فلم يتوغل البرتغاليون في عمق البلاد التي استعمروها، وما كانوا يستطيعون ذلك لقلة عدد سكان البرتغال, ولاتساع إمبراطوريتهم وكان الإبقاء على تلك القواعد في أيديهم مرهون بقوة البحرية البرتغالية فلما ضعفت ضاع كل شيء.
ثانياً: كانت حركة المد البرتغالي تمثل الموجة الاستعمارية الأولى المتعطشة للغزو ونهب ثروات الشعوب وكان الميدان خالياً أمامها، فلما دخلته قوى أوروبية أخرى أكثر منها قوة مثل هولندا وبريطانيا وفرنسا، ولا تقل عنها تطلعاً في أن يكون لها نصيب في الغنيمة يتفق مع ثقلها السياسي والعسكري، لم تقو البرتغال على الصمود أمام هذه القوى الطامعة.
ثالثا: حسن اختيار العُمانيين للظروف الدولية المناسبة لتوجيه ضرباتهم القاضية ضد الوجود البرتغالي في عُمان فالتنافس الذي ساد العلاقات بين البرتغاليين من جهة والفرس والهولنديين والإنجليز من جهة أخرى، ورغبة الفريق الثالث في القضاء على النفوذ البرتغالي وإبعادهم عن الخليج ساعد العُمانيين إلى الحد الكبير.
رابعا: اتبع البرتغاليون سياسة الشدة والبطش في معاملاتهم للشعوب التي حكموها وقيامهم باستنزاف ثرواتها ومواردها مما زاد في كراهية الشعوب لهم وجعلها تتحين الفرص المناسبة للخلاص من نيرهم.
خامسا: ازدياد قوة العُمانيين وثقتهم بأنفسهم وتفوقهم في الملاحة البحرية إذ أدرك العُمانيون حقيقة الصراع بينهم وبين البرتغاليين انه صراع بحري أولاً وقبل كل شيء.. ولذا فقد اعدوا أسطولاً بحرياً مدرباً ومنظماً أمكنهم أن يتغلبوا على أهم نقاط القوة لدي البرتغاليين وكان من أهم العوامل التي أدت إلى القضاء على النفوذ البرتغالي في عُمان والمحيط الهندي.
سادساً: الوحدة الوطنية باعتبارها الدرس الأول الذي التزم به ناصر بن مرشد وبغير الوحدة لن تتحقق المصالح العليا للبلاد، وفي سبيل الالتزام بهذا المبدأ خاض الإمام حروباً ضارية ضد أنصار التجزئة كما سبق القول.
سابعاً: عناية اليعاربة باستثمار كل مقومات النجاح، وكانت الزراعة في مقدمة اهتماماتهم حيث شقت الافلاج وتم جلب كثير من المحاصيل الزراعية من شرق أفريقيا ونجاح تجربة زراعتها بشكل ملحوظ مما أوجد رواجاً اقتصادياً.
ثامناً: عناية اليعاربة بتوفير كل مقومات النجاح لحركة التجارة بعد أن تم القضاء على سياسة الاحتكار التي ابتدعها البرتغاليون وباتت التجارة العُمانية جزءً من حركة التجارة الدولية وهو ما عاد على عُمان بفوائد اقتصادية مهمة.
أسباب كثيرة كما نرى أدت وساعدت على القضاء على النفوذ البرتغالي سواء في عُمان أو في الساحل الشرقي لأفريقيا، بل وفي المحيط الهندي كله وكما رأينا فقد كان للعُمانيين في عهد اليعاربة الدور الهام في القضاء على الوجود البرتغالي الذي استمر قرابة قرن ونصف من الزمان. وكما كان هنالك أسباب أدت إلى القضاء على النفوذ البرتغالي، فهنالك أيضاً نتائج على درجه كبيرة من الأهمية ترتبت على ذلك وعلى خروجهم من عُمان بالذات وأثرت تأثيراً عميقاً على المنطقة كلها، ويمكن إجمال هذه النتائج فيما يلي:-
أولاً: إن نجاح العُمانيين في إجلاء البرتغاليين من أرضهم قد رفع روحهم المعنوية وأشعرهم بقوتهم وبمدى ما يمكن أن يقوموا به وهيأت لهم هذه الفرصة أن يلعبوا دوراً بارزاً في النشاط البحري في المنطقة ولا سيما منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ثانياً: افلح العُمانيون في القضاء على سياسة الاحتكار التي انتهجها البرتغاليون وحققوا مبدأ حرية التجارة لجميع الأجناس، فعاد الانتعاش الاقتصادي إليهم وساعدهم هذا على أن يصبحوا قوة مؤثرة في منطقتهم بل وفي شرق أفريقيا كذلك.
ثالثاً: تطلع الفرس في أن يحلوا محل البرتغاليين وان تكون لهم الزعامة الإقليمية عن طريق إقامة نسيج متداخل من تضارب المصالح مع الفرس والبريطانيين تارةً وتوافقها تارةً أخرى.
وهكذا نرى أن هنالك نتائج عديدة وهامة نتجت عن طرد البرتغاليين من الخليج، وكانت الوحدة الوطنية التي حققها اليعاربة الأوائل هي محور الزوايا في هذا النجاح العظيم، وأيضاً تحقيق كثير من الإنجازات الداخلية التي تمت في عهد اليعاربة الأوائل، وفي عهد من خلفهم من الأئمة وأولهم بلعرب بن سلطان بن سيف الذي بويع بالإمامة بالإجماع (يوم الجمعة 16 من ذي القعدة 1091هـ / منتصف ديسمبر1680م) وقد سار سيرة حسنة، وكان جواداً كريماً وعمر بلدة جبرين وعمق فلجها واستصلح أراضيها. وقام ببناء حصن جبرين الشهير واعتنى به اعتناء كبيراً من حيث هندسة بنائه وزخرفته وتحصيناته وتقسيماته واتخذه مقاما له ومركزا لدولته، كما انشأ فيه مدرسة ارتادها الطلاب لتحصيل العلم والمعرفة.
وهكذا كانت السنوات الأولى من فترة حكم الإمام بلعرب استمراراً لفترة الازدهار والاستقرار والرخاء التي أنعمت بها عُمان في عهد دولة أبيه الإمام سلطان بن سيف، ولذلك حافظ الإمام بلعرب على الدولة التي وليها بعد أبيه، واستمر في سياسة الإعمار والبناء، ألا انه في السنوات الأخيرة من فترة حكمه خرج عليه أخوه سيف بن سلطان مطالباً إياه باعتزال الحكم، ومن ثم بدأت عوامل الهرم تسري في هذه الدولة منذ تلك الفترة، وبدأت تسير في غير المسار الذي كانت عليه بالنسبة لعملية اختيار القادة وتوليتهم في عهد اليعاربة، وابتلي أهل عُمان بخروج سيف على أخيه الإمام المنتخب، الذي خرج من نزوى متجهاً ناحية الشمال، ثم عاد إلى نزوى ولكن أهلها في تلك الفترة كانوا قد انحازوا إلى جانب أخيه سيف بن سلطان وأحالوا بينه وبين دخول المدينة، وتوجه إلى جبرين حيث حاصره أخوه سيف في هذا الحصن ولما طال أمد الحصار ورأى أكابر عُمان عجز الإمام عن التصدي لأخيه استسلموا للأمر الواقع فعقدوا الإمامة لأخيه سيف بن سلطان بن سيف بن مالك، وقد بويع بالإمامة بعد وفاة أخيه الإمام بلعرب وقد واصل الإمام سيرة سابقيه كما تابع سياسة مقاومة البرتغاليين بشرق أفريقيا والهند. لقد عمل الإمام سيف على إعمار عُمان حيث قام بحفر أفلاج جديدة تزيد على خمسة عشر فلجاً كفلج البركة وفلج البزيلي في الظاهرة وفلج الحزم وأفلاج جعلان بني بو حسن، على أن بعض هذه الافلاج كانت صغيرة وغير عميقة فعمل على تعميقها وتوسع في زراعة المحاصيل كالقمح والشعير والحلبة والخضروات، كما أهتم بزراعة قصب السكر وكان يشرف بنفسه على عملية الزراعة وسيرها، كما غرس عددا كبيرا من أشجار النخيل والفواكه كالانبا ( المانجو ) وبعض أشجار العطور والزهور كالورس والزعفران واستقدم من أفريقيا النحل ونتيجة لهذه السياسة اتسعت الأراضي الزراعية المملوكة لبيت المال وزادت إيرادات الدولة زيادة كبيرة وتوفي الإمام سيف بن سلطان في (شهر رمضان سنه 1123هـ/1711م) بعد أن وصلت عُمان في عهده درجة كبيرة من الاستقرار والامتداد إلى مناطق خارج شبة الجزيرة العربية حيث كان يمتلك قوة عسكرية ضاهت القوى الأوربية المعاصرة لها. ومن أهم الأعمال التي قام بها الإمام سلطان بن سيف الثاني تحرير البحرين من الفرس الذين كانوا قد احتلوها، وقد مهد الإمام لتحقيق هذا الإنجاز بتقوية قبضته على بعض الجزر التي تقع في مدخل الخليج مثل جزيرة لاركا والقسم وهرمز، وكذلك على بعض المدن الفارسية الهامة مثل لنجه وبندر عباس ثم جهز جيشاً بقيادة الشيخ حمير بن سيف بن ماجد وزحف هذا الجيش على البحرين ودارت معركة كبيرة بين الفريقين كان النصر فيها للجيش العُماني مما أدى إلى خروج الفرس من البحرين وتقلص نفوذهم في الخليج، ومن أشهر الأعمال التي قام بها الإمام لتدعيم نفوذه في البحرين بناء قلعتها المشهورة والتي تسمى قلعة عراد، وقبل وفاته كان التواجد العُماني قد امتد إلى الخليج كله والساحل الهندي وشرق أفريقيا كما كانت بعض بلاد العرب على البحر الأحمر تحت نفوذه. وقد انتهت حياته بالوفاة في حصن الحزم يوم الأربعاء الخامس من جمادى الآخرة سنة (1131هـ/مايو 1718م) وبذلك دامت إمامته سبع سنوات وبضعة شهور. وبوفاته بدأ تصدع الوحدة الوطنية ونهاية دولة اليعاربة، تخللها عودة الفرس إلى عُمان بناءاً على طلب سيف بن سلطان اليعربي الذي استنجد بالفرس ليعود إمام عام (1145هـ-1732م)، وبهذا تكون بداية النهاية لعهد اليعاربة. ويعتبر نادر شاه أول من أسس من الحكام الفرس قوة بحرية في مياه الخليج واسند قيادتها إلى لطيف خان وكان هذا القائد يتطلع في توسعاته إلى الساحل العربي من الخليج، واتخذ من طلب سيف بن سلطان باباً ينفذ منه إلى احتلال عُمان وإخضاعها إلى الحكومة الفارسية، وقد رحب نادر شاه بهذه الفكرة وأمر بتشكيل قوة بحرية وبرية للتوجه إلى عُمان وبذل كل ما في وسعه لإنجاح هذه المهمة حيث أشرف بنفسه على إعدادها وتجهيزها، كما أمر بتشكيل هيئة لدراسة المنطقة تكون عوناً للقوات الفارسية ولتمدها بالمعلومات اللازمة، وكان نادر شاه يهدف من ذلك إلى ضم عُمان والبحرين إلى فارس إضافة إلى طموحاته في السيطرة التامة على مياه الخليج. وفي (منتصف ربيع الأول 1150هـ/14مارس 1737م) أبحرت القوات الفارسية المؤلفة من أربع سفن كبيرة وسفينتين متوسطتين وعدد كبير من السفن والزوارق الصغيرة بقيادة لطيف خان، واكتشف سيف فيما بعد أن هذه القوات لم تأت لمساعدته وإنما جاءت لإخضاع عُمان للسيطرة الفارسية، وفي هذه الأثناء قام بعض رؤساء القبائل بالصلح بينه وبين بلعرب بن حمير على أن يتنازل بلعرب عن الإمامة لسيف حقنا للدماء وإنقاذاً لعُمان من الغزو الفارسي. وصار سيف بن سلطان إماماً للمرة الثانية واختار الشيخ احمد بن سعيد البوسعيدي (مؤسس الدولة البوسعيدية) والياً على صحار، غير أن سيف لم يلبث أن أساء السيرة وأحدث أحداثاً مخالفة للشريعة الإسلامية، فعزله المسلمون ونصبوا سلطان بن مرشد اليعربي إماماً سنة (1154هـ/1741م) الأمر الذي أغاظ سيفاً فجعله يستنجد بالفرس للمرة الثانية، وقد بعث نادر شاه إمدادات أخرى لقواته بقيادة محمد تقي خان وقد وعد سيف بن سلطان الحكومة الفارسية بأنه سوف يقدم ولاء الطاعة ويعترف بالسيادة الفارسية على عُمان ويدفع الضرائب والإتاوات لها إذا تمكنت من إعادة حقوقه. وعلى الرغم من التجارب السابقة لسيف بن سلطان مع القوات الفارسية التي جاءت إلى عُمان بزعم نصرته ولكنها ما جاءت إلا لتحقيق أهداف توسعية. وبهذا فانه فقد ثقة العُمانيين ومنهم بعض أعوانه المقربين.. أما الإمام سلطان بن مرشد فقد سار إلى صحار ليتعاون مع واليها أحمد بن سعيد البوسعيدي لمواجهة قوات نادر شاه.وان دلت هذه الأحداث التي جرت في عُمان من الخلافات الأسرية والعصبية القبلية والتدخل الفارسي على شيء فإنما تدل على أن أسرة اليعاربة التي استطاعت أن تجعل عُمان تتمتع بالازدهار والنمو الاقتصادي طيلة قرن من الزمان، قد وصلت إلى نهايتها بسبب مغامرات القادة الأواخر وسوء تصرفاتهم.هذا وقد توفي الإمام سلطان بن مرشد في حصن صحار حيث يوجد أحمد بن سعيد نتيجة إصابته في مواجهة مع الفرس، أما سيف بن سلطان المخلوع فقد توفي بعد ذلك بقليل بعد أن لام نفسه على فعلته الشنعاء وظهر له أن الفرس لم يأتوا لمساعدته وإنما للاستيلاء على عُمان وأصابه من ذلك هم وحزن ولكن بعد فوات الأوان، وكان على أحمد بن سعيد أن يظل في الساحة في مواجهة الفرس الذين كانوا محاصرين صحار ومسقط.وقد استمر حصار القوات الفارسية لمدينة صحار تسعه أشهر واستطاع واليها احمد بن سعيد أن يقاوم الغزاة على الرغم من أن إمداداته قد أوشكت على النفاذ وظلت القوات الفارسية تقذف المدينة ليلاً ونهاراً بالمدافع الثقيلة، فاضطر أحمد بن سعيد إلى طلب الهدنة وعقدت اتفاقية بين الجانبين الفارسي والعُماني في جمادى الأولى (1155هـ/ يوليو1742م) بعد أن فقد الأمل في وصول إمدادات من قبل القبائل العُمانية. ولم تكن هذه الاتفاقية استسلاماً كما ذكرت بعض المصادر المحلية وغيرها، وإنما كانت انتصار للعُمانيين وكان الوالي أحمد بن سعيد يهدف من وراء هذه الاتفاقية إلى عدة أمور منها:-
(1) وقف إراقة دماء المسلمين بعد أن نفذت جميع المؤن والعتاد والذخائر الحربية الموجودة في الحصن.
(2) إعادة بناء قواته استعداداً لمواجهة الجولة الثانية بهدف التحرير لشامل.
(3) بعد وفاة الإمام سلطان بن مرشد شغر منصب الإمامة حيث وجد الوالي احمد بن سعيد أن أسرة اليعاربة لا يمكنها الاستمرار في إدارة الدولة فخشي أن يحتدم الصراع وتشتد الفتن في عُمان نتيجة لهذا الفراغ السياسي وخاصة إذا ما استمرت المعارك مع الفرس.
(4) إعادة توحيد الأقاليم والمدن العُمانية التي أصبحت منقسمة إلى شبه دويلات وإمارات صغيرة، حتى يمكنه مواجهة الفرس على رأس جبهة قوية موحدة.
وبذلك نجح احمد بن سعيد في توطيد مركزه وضمن تأييد القبائل العُمانية، هذا إلى جانب أن الحكومة الفارسية قد اعترفت رسمياً به كحاكم لعُمان حيث أصبح الطرف الرئيسي في هذه الاتفاقية.
وهكذا تزعم أحمد بن سعيد حركة التحرير ضد الفرس، كما أحس شيوخ عُمان أن الأوضاع قد ساءت وان عُمان بحاجة إلى إمام قوي يستطيع أن يوحد البلاد ولا سيما أن المذهب الأباضي لا يجيز وجود أكثر من إمام للدولة. وقد حاول دعاة إحياء الدولة اليعربية إعادتها بعد وفاة سيف بن سلطان فاجتمع شيوخ وأعيان نزوى وعقدوا البيعة للسيد بلعرب بن حمير اليعربي في ربيع الآخر من عام (1157هـ/1744م)، وأعلنت مجموعة من المدن العُمانية ولائها للإمام الجديد مثل بهلاء ونزوي وأزكي، بينما تحفظ البعض عن الاعتراف به، ولم يمض وقت طويل على هذا الإمام حتى انصرف عنه العُمانيون. وبذلك بدأ نجم أحمد بن سعيد يعلو في عُمان وكان محل تقدير جميع القبائل العُمانية والأعيان الذين كانوا يتطلعون إلى تحرير بلادهم من الغزاة وإعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع عُمان.وفيما يتعلق بالعلاقات الفارسية العُمانية فبعد وفاة سيف بن سلطان فقد الفرس نصيرهم وقلت همتهم وتعاظمت المشاكل والقلاقل الداخلية في فارس، حيث أن حكومة نادر شاه كانت مضطرة لسحب قسم من جنودها الرابطين في عُمان لمواجهة تلك المشاكل، وهذا سهل على أحمد بن سعيد تحقيق طموحاته.ومما هو جدير بالذكر أن أحمد بن سعيد كان سياسياً فطناً، وعلى الرغم من أن الكثير من العُمانيين قد اندهشوا لما كان يقوم به من إكرام الفرس، ألا أنهم أدركوا في النهاية ما كان يدبر للفرس لتحرير بلاده منهم حيث تم له ذلك في عام (1157هـ/1744م)، مما أدى إلى عقد البيعة بالإمامة له في نفس العام، وفي ذلك يقول ابن زريق (إن أحمد بن سعيد لما آل إليه أمر عُمان كله، وعول أهلها عليه، أجتمع أكابر الرستاق وسائر أكابر عُمان، فاتفقوا على عقد الإمامة لأبي هلال الإمام المعظم، الفاضل الممجد، أحمد بن سعيد بن محمد السعيدي الأزدي العُماني الاستقامي الأباضي المذهب، وكان ذلك في عام (1157هـ/1744م). وبهذا تمت البيعة للإمام أحمد بن سعيد بن محمد بن سعيد البوسعيدي وقامت الدولة البوسعيدية على أنقاض الدولة اليعربية التي أسسها ناصر بن مرشد اليعربي عام (1034هـ/1624م) وفي ظروف مشابهة لقيام الدولة البوسعيدية.
” سيرة مِنْ الحُكْم البوسعيدي لِعُمان “1
تُعتبرُ السلالة البوسعيدية من أقدم السلالات الحاكمة، وبدأت على يد الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي الذي كان واليًا على صُحار. ومن أهم رموزها مؤسسها أحمد بن سعيد والإمبراطور سعيد بن سلطان والإمام عزان بن قيس وحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم والذي تولى مقاليد الحكم في سلطنة عمان منذ 1970م.
اختلفت الروايات بشأن مبايعة احمد بن سعيد بالإمامة فابن رزيق لم يحدد تاريخا للإمامة وان كان يفهم من كتاباته أن عام 1154هـ/1741م هو العام الذي بدأ فيه احمد بن سعيد صراعه مع الفرس ولذا فقد اعتبر ابن رزيق أن ذلك بداية عملية لاختياره إماما بينما مؤرخ مهم كالسالمي اعتبر العام 1158هـ/1744م هو العام الذي بويع فيه أحمد بن سعيد إماماً، وعموما فان رواية السالمي هي الأقرب إلى المنطق على اعتبار انه اعتبر العام الذي تم فيه طرد الفرس من عُمان ونجاح احمد بن سعيد في التخلص من بلعرب بن حمير وهو نفس العام الذي تمت فيه مبايعة احمد بن سعيد. لقد أدرك احمد بن سعيد منذ الوهلة الأولى أهمية عودة الوحدة الوطنية، لذا فقد بذل جهدا فائقا مما مكنه من أن يعيد لعُمان وحدتها وهيأ لها أن تلعب دورا هاما في تاريخ الخليج خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وإذا كان الإمام احمد بن سعيد قد برز في تاريخ عُمان الحديث كمؤسس لدولة البوسعيد إلا أن المعلومات الخاصة بحياته قبل سطوع نجمه تؤكد انه كان تاجراً أمينا صادقا مهابا ينحدر من أسرة عربية أصيلة يعمل معظم أفرادها بالتجارة وقد تميز بجرأة نادرة وشجاعة فائقة لفتت إليه الأنظار مما مكنة من الوصول إلى ولاية صحار كوال من قبل اليعاربة. ولاشك أن الدور الذي قام به في تثبيت دعـائم الحكم قد استغرق منه الكثير من الجهد ولعل ابرز المشاكل التي واجهته في مستهل عهده ثورات اليعاربة ضده بسبب فقدانهم الحكم ثم تمرد بعض القبائل في منطقة الظاهرة ألا أن احمد بن سعيد استخدم أسلوب القوة حينا واللين في كثير من الأحيان كما عمد إلى أسلوب المصاهرة بهدف التقرب مع القبائل المناوئة له. كما عني بتوثيق علاقات الجوار مع القبائل العربية القاطنة في جنوب فارس ومنطقة عربستان وتحالف مع قبائل بني كعب عند شط العرب ونهر القارون وتوطدت علاقاته مع قبائل بني معن القاطنة بالقرب من بندر عباس مما حال دون نجاح كريم خان الزندي في السيطرة على تلك المناطق.وامتدت علاقاته إلى الهند حيث ساعد شاه علم إمبراطور المغول في الهند وعاونه في حربه ضد القراصنة الذين كانوا يعوقون التجارة بين مانجالور في ساحل الهند الغربية وبين مسقط وتوجت هذه العلاقة بإبرام معاهدة 1766م التي نصت على استمرار علاقات الصداقة وإنشاء دار في مسقط لمبعوث الحاكم المغولي الذي أصبح يعرف ببيت نواب.ويمكن القول أن البلاد شهدت ولأول مرة بعد أكثر من عشرين عاما نوعا من السلطة المركزية بعد أن تمكن من توحيد القبائل المتناحرة وبادر باتخاذ الإجراءات الكفيلة بترسيخ قواعد الدولة وإعداد قوات مسلحة تتناسب والتحديات التي تواجهها عُمان. ثم قيامه بتحديث الأنشطة الاقتصادية وامتلك أسطولا حربيا وتجاريا وفي عهده حافظت مسقط على مكانتها كإحدى أهم المدن التجارية في المنطقة وغدا ميناؤها من أهم الموانئ التجارية التي ترتاده السفن الأوربية.
لقد واصلت عُمان في عهد الإمام أحمد بن سعيد ترسيخ مكانتها وهيبتها الأمر الذي مهد للسلطات الهولندية والإنجليزية الاعتراف بالسيادة العُمانية على كثير من شواطئ الخليج والمحيط الهندي بفضل فطنة وذكاء احمد بن سعيد الذي استمال إليه أبناء وطنه واتسم بالتسامح في تعامله مع الأجانب وامتد نفوذه إلى شرق إفريقيا، ويعترف رسيو Risso أن عُمان هي الدولة الوحيدة التي استفادت من انحدار تجارة بندر عباس وتدهور أوضاع الأوربيين في الخليج خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر.وعلى الرغم من تصارع القوى الأوربية في الخليج فان أحمد بن سعيد راح يتطلع إلى تحقيق المصالح العُمانية بما لا يتعارض مع التنافس الدولي. وعليه يمكن القول انه إذا كانت دولة اليعاربة قد وصفت بأنها (دولة بحرية حربية) فمن المناسب وصف دولة البوسعيد بأنها (دولة بحرية تجارية). وإذا كان احمد بن سعيد قد نجح في طرد الفرس من عُمان فأنه نجح أيضا في التغلب على المشاكل الناجمة عن الحرب الأهلية العُمانية وتحقق له الولاء من جانب العُمانيين الذين اجمعوا على مبايعته إماما تقديرا للدور الذي لعبه في تحرير عُمان. والثابت أن أوضاع عُمان عند ظهور أحمد بن سعيد تشبه إلى حد كبيرا أوضاعها عند قيام دولة اليعاربة فبينما تصدى ناصر بن مرشد لأنصار التجزئة في الوقت الذي كان يخوض فيه حربا ضارية على السواحل العُمانية ضد البرتغاليين كذلك فعل احمد ابن سعيد في بداية عهده ففي الوقت الذي اخذ يتصدى فيه لبعض القبائل التي رفعت راية العصيان كان يخوض حربا ضارية ضد المعتدين الفرس، وكلما تحقق الانتصار على الجبهة الداخلية كلما انعكس ذلك ايجابياً على الصراع العُماني الفارسي. وبمجرد أن فرغ أحمد بن سعيد من تحرير بلاده بادر على الفور باتخاذ العديد من الإجراءات التي من شأنها أن تكفل ترسيخ قواعد الدولة في عُمان. وتجمع المصادر العربية والأوربية على أن الثمانين عاماً الأولى من حكم البوسعيديين تتميز بالازدهار الشديد وهناك عوامل عديدة ساعدت العُمانيين على الانفراد بدور رائد تأتي في مقدمتها المهارة والخبرة الملاحية والتجارية حيث اكتسب العُمانيون رصيداً ضخماً من التجربة تعد محصلة للأحداث التاريخية والموقع الجغرافي والتراث العُماني، ثم الاستقرار الذي شهدته عُمان وتمتعت به الموانئ العُمانية في الوقت الذي سادت فيه الفوضى وعم الاضطراب أغلب موانئ الخليج، ثم تأتي شخصية أحمد بن سعيد الذي تميز بدرجة كبيرة من الانضباط والحسم والقدرة على اتخاذ القرارات المناسبة، إضافة إلى احترام القوى الأوربية له وثقتها في سياسته التي جذبت الأجانب وحفزتهم على إنشاء وكالات تجارية لهم في المدن العُمانية وخصوصاً مسقط التي أصبحت سنة 1790م من أهم المدن الآسيوية وفقا لتقرير أعدته شركة الهند الشرقية الإنجليزية. حاول نادر شاه بعد أن حرر بلاده من الأفغان، تدعيم مركز فارس في الخليج، مستفيدا دون شك من حالة التمزق التي كانت تعيشها القوة الأولى في منطقة الخليج ألا وهي عُمان.. كما أن المساعدات التي قدمتها الدول الأوروبية كانجلترا وهولندا لنادر شاه أسهمت دون شك في بناء أسطول فارسي قوي على أحدث طراز.ولقد واجه الأسطول الفارسي في عهد نادر شاه مشاكل عديدة منها اعتماده بالدرجة الأولى على المساعدات الأجنبية في بنائه، وكذلك افتقاره إلى وجود الخبرات المحلية المتمرسة في فنون الملاحة مما دفع بقيادة الفرس إلى الاستعانة بالبحارة العرب لقيادة هذا الأسطول، إلا أن كثير من المؤرخين يجمعون على أن نادر شاه استطاع مواجهة تلك الصعوبات نتيجة لإصراره على بناء أسطول حديث يخدم أهداف سياسته الخارجية، ولهذا فقد ارتبطت قوة الأسطول الفارسي بحياة نادر شاه إلى حد بعيد. وقد تزامن اغتيال نادر شاه في عام (1160هـ/1747م) ببروز شخصية الإمام احمد بن سعيد الذي تطلع منذ بداية حكمه إلى تدعيم دور عُمان في منطقة الخليج، ولذلك اصطدمت سياسة الإمام أحمد في المنطقة بسياسة كريم خان زند الذي خلف نادر شاه على عرش فارس، حيث حاول هذا الأخير بعد أن نجح في توطيد حكمة في الداخل، السير على منهج سلفه نادر شاه التوسعي في منطقة الخليج، ومن هذا المنطلق بعث كريم خان برسالة إلى الإمام احمد طالبا منه دفع الجزية السنوية، متعللا بما يدعيه بتبعية عُمان إلى فارس، ولكن الإمام أحمد بن سعيد رفض المطالب الفارسية بأسلوب رجال السياسة المتمرسين الذين يعرفون كيفية مخاطبة التطلعات الاستعمارية، فنجده يعلن بأسلوب ملؤه الإصرار والثقة بالنفس بأن بلاده ترفض المطالب الفارسية جملة وتفصيلا، وضمن ذلك في خطاب ذي لهجة قوية أرسله إلى كريم خان زند، جاء فيه بأن دولة عُمان لا تدفع الجزية لأحد، مشيراً إلى انه إذا ما أصر كريم خان على مطالبه فان عليه أن ينتزعها بالقوة.ولم يكتف الإمام احمد برفض الطلب الفارسي بخطاب شديد اللهجة، بل شرع في التخطيط لاستخدام القوة التي قد يلجأ إليها عدوه، وذلك عن طريق عقد التحالفات مع خصوم الفرس وخاصة الأتراك، وذلك بهدف ضرب قوة كريم خان الزندي، وقد لعب الإمام دورا فعالاًُ في إفشال الحصار الذي ضربة كريم خان الزندي على البصرة، وعلى ضوء ذلك قرر السلطان العثماني مصطفى الثالث صرف مكافأة سنوية للإمام أحمد، تدفع له من خزانة البصرة، تقديراً من السلطان لموقف الإمام الشجاع. فقد كان الصراع الدولي ولا يزال صراعاً من اجل الحصول على مناطق للنفوذ والامتيازات، ولذلك لا غرابة من احتدام صراع الدول الكبرى آنذاك (بريطانيا العظمى وفرنسا) حول عُمان ذات الموقع الاستراتيجي المتميز، من اجل ضمها إلى مناطق نفوذها. ولقد فطن الإمام احمد بن سعيد إلى هذه التطلعات الاستعمارية الأوربية، فرسم سياسة خارجية لعُمان مرتكزة بالدرجة الأولى على مبدأ الحياد، ولقد كتب لهذه السياسة كل النجاح عندما كانت العلاقات الفرنسية البريطانية تتميز بالاستقرار، ولكن هذا الحياد تعرض لبعض الهزات، خاصة عندما نشبت حرب السنوات السبع (1170 - 1177هـ / 1756 - 1763م) بين البلدين، ففي هذه الفترة بدأت سفن البلدين تطارد كل منهما الأخرى بالقرب من المياه العُمانية.وقد ظهرت أولى بوادر الإحراج لعُمان عام (1175 هـ/ 1761م) عندما حاول الكونت ديستان الانتقام من الإنجليز بمحاولة الإضرار بتجارتهم في الخليج، حيث تجاهل الكونت ديستان القوانين العُمانية وحاول ملاحقة إحدى السفن البريطانية في داخل المياه الإقليمية العُمانية، مما اضطر الوالي خلفان بن محمد إلى إطلاق النار على الباخرة بولوني التابعة للفرنسيين وإجبارها على الابتعاد، وذلك في محاولة منه لحماية الباخرة البريطانية.وبالرغم من تكرار حالات الإحراج من العُمانيين الذين اضطروا إلى إطلاق الرصاص على السفن الفرنسية خلال عدت مناسبات، إلا أن هذا التصرف العُماني لا يعكس بأي حال من الأحوال ترجيح عُمان للكفة البريطانية بقدر ما يعكس رغبتها في الحفاظ على حيادها وسيادتها، خصوصاً وان السفن البريطانية كانت عادة ما تكون داخل المياه الإقليمية لعُمان: صحيح أن البريطانيين كانوا قد دعموا مركزهم في منطقة الخليج عقب خروج البرتغاليين والهولنديين وكسبوا أيضاً ثقة بعض القوى المحلية لكن الإمام احمد كما يبدو، وعلى الرغم من إدراكه للموقف البريطاني الخاص في المنطقة، كان مؤمناً بأهمية الصداقة مع فرنسا، حيث وردت في إحدى رسائل الإمام إلى الفرنسيين بعد هذه الحوادث المحرجة، العبارة الودية التاليةإنني صديق الفرنسيين).والجدير بالذكر أن الإمام احمد بن سعيد كان أول من بدأ التعامل التجاري مع جزيرة موريشيوس الخاضعة لفرنسا وبعض المستعمرات الفرنسية الأخرى، حيث كانت السفن تأتي محملة بالسكر وتعود وهي محملة بالسمك المملح والبن. ونتيجة لتطور العلاقات التجارية بين عُمان والمستعمرات الفرنسية في المحيط الهندي في تلك الفترة، فقد أبدى الإمام احمد بن سعيد رغبته في أن ينشئ الفرنسيون لهم وكالة خاصة في ميناء مسقط دون مقابل، وقد أكد الإمام هذه الرغبة لأحد المسؤولين الفرنسيين قائلاً إن بلادي هي بلادكم وصداقتنا باقية كما كانت بل أنها أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى وعندما زار هذا المسؤول مسقط حضي باستقبال حافل فيها، مما دفعه إلى حث حكومته في التقرير الذي رفعه لتعزيز علاقاتها بمسقط. ويبدو أن حكومة فرنسا لم تكن متحمسة لإقامة وكاله تجارية في مسقط وقتئذ، لكنها وتحت إصرار القنصل الفرنسي في بغداد، وكذلك حاكم موريشيوس، قررت إنشاء قنصليتين أحداهما في البصرة والأخرى في مسقط في عام 1793 أي بعد ثلاثة أعوام من الثورة الفرنسية، وقد جاء في الكتاب الذي بعث به وزير الخارجية الفرنسي إلى قنصل فرنسا في بغداد الآتي: (إن رغبة إمام عُمان في اعتماد وكيل لديه، وملاحظتكم عن الفوائد التي ستعود على رعايا صاحب الجلالة في الملاحة والتجارة، وعن تسهيل الاتصال بالهند، كل ذلك جعلنا نقرر إقامة وكالة في مسقط ).وهكذا نرى أن سياسة الحياد التي دفع بها الإمام أحمد بن سعيد والتي سمح بموجبها لسفن الدول الكبرى بزيارة موانئ عُمان والمتاجرة معها، أسهمت في تعزيز مكانة عُمان التجارية التي انعكست دون شك على الوضع الاقتصادي للبلاد. وقد تعززت مكانتها أكثر بعد أن قدمت العون الفوري إلى البصرة لإنقاذها من السيطرة الفارسية. كان موت الإمام أحمد بن سعيد خسارة كبرى بالنسبة لعُمان وأهلها وتولى الإمامة بعده ابنه سعيد بن أحمد، ولم تبين لنا المصادر التاريخية الصفة التي تولى بها سعيد الإمامة بعد أبيه، هل كان ذلك بولاية العهد له؟ أم باتفاق من العلماء؟.ونظرا لأن الإمام سعيد كان زاهداً في الحكم والإدارة فقد تولى ابنه حمد زمام الأمور واتخذ من مسقط مقرا للحكم، بينما بقي والده سعيد في الرستاق. ومع مضي الأيام تزايدت قوة ونفوذ حمد حتى أصبحت السلطة الفعلية في يده. ومن أعماله التي ذكرتها وثائق التاريخ أنه بنى برجاً على البحر عند المدخل إلى ميناء مسقط وزوده بمدافع كبيرة رغبة منه في تحصين هذه المدينة. كما بنى قلعة بيت الفلج في روي وعزز حصن بركاء بمدافع ضخمة للدفاع عن المدينة ضد أي هجوم خارجي، كما أمر بصنع باخرة في زنجبار سميت باسم الرحماني التي اشتهر أمرها في عهد الدولة البوسعيدية نظرا لضخامتها وبديع صنعها. وبعد موته آلت إلى السيد سلطان بن أحمد بن سعيد أمور الحكم التي كان يتولاها حمد، في نفس الوقت الذي كان لا يزال فيه سعيد قائما في الرستاق، ولم تلبث أمور البلاد أن خلصت للسيد سلطان بعد موت أخيه سعيد بن أحمد، وساس الناس سياسة محمودة وسار على وتيرة أبيه الإمام أحمد بن سعيد وزاد في بذل المال فكان لا يرد سائلا، ولا يدخر عن قومه شيئا يستطيع بذله لهم، فأحبه الناس ووقروه واحترموه. واجه السيد سلطان بن الإمام أحمد بن سعيد- وهو أول من تلقب بهذا اللقب من أولاد الإمام - بعض المشاكل الداخلية والحروب القبلية ولكنه تغلب عليها بسياسته وقوة جيشه، وما لبث أن توجه إلى البناء الداخلي، فقام بتحصين مدينة مسقط وذلك ببناء قلعة ضخمة على أرض الرابية لتكون حصنا لهذه المدينة، كما بنى البرج المقابل لها، والبرج الشرقي الجنوبي، وذلك في ثلاثة أشهر، وبذلك تم تحصين مدينة مسقط تحصينا كاملا. ثم التفت إلى داخل هذه المدينة فبنى فيها قصرا ضخما وهو بيت العلم الذي بني على أرضه قصر العلم الحالي وجعله مقره الخاص، وبنى حصن الفليج في الواحة المعروفة بهذا الاسم وهي واحة الفليج والتي تقع على الطريق بين بركاء ومسقط، وجعل هذا الحصن مقرا للعائلة بعيدا عن العواصف والحروب والتقلبات السياسية ولذلك أسكنه بعض أهله وكان كثيرا ما يتردد عليه ويقيم فيه بعيدا عن السياسة ومشاكل الحكم. اتجهت أنظار السيد سلطان بن أحمد بعد ذلك إلى خارج عُمان حيث راح يسترد أملاكها التي ضاعت في غفلة من الزمن، ولذلك نراه يشن حملات يستعيد بها جزائـر قسم ( القشم ) وهرمز والبحرين. ويبدو أن السيد سلطان فعل ذلك اتقاء لأخطار عدة منها الخطر الفارسي والخطر الأوربي وكذلك الوهابي الذي اطل على عُمان في تلك الفترة، وفي ذلك يذكر الشيخ سالم بن حمود السيابي أن الوهابيين غزوا عُمان في تلك الأيام، وتحالفوا مع أهل البحرين ولذلك كان من الضروري أن يفرض السيد سلطان نفوذه على هذه الجزر، ففتحها وولى عليها الولاة، ولم يلبث أن بسط نفوذه على الموانئ الهامة في ساحل مكران واستولى على مينائي شهبار وجواذر مما أدى إلى توثيق الصلات بين عُمان وبلوخستان، وازدياد هجرة البلوش إلى عُمان بأعداد كبيرة. وقد أمن السيد سلطان بلاده باستيلائه أيضا على ميناء بندر عباس وذلك بفضل البحرية العُمانية القوية . فقد ذكرت المراجع أن أسطول عُمان في عهده زاد عدد سفنه عن 500 سفينة كانت حمولتها تتراوح بين 250و1000 طن عدا 100 سفينة أخرى يمتلكها أهل صور، ويبدو أن هذه السفن كانت سفنا تعمل في التجارة والقتال أيضا إذا لزم الأمر، ذلك أن المراجع أشارت إلى أن السفن الكبيرة المخصصة للقتال وحده لم تزد على ثلاث. ونظراً لقوة الأسطول العُماني وقوة الجيش الذي كان لا يقل عدد جنده عن 12 ألف مقاتل تمكن السيد سلطان بن أحمد من رد عادية الوهابيين، واسترد نفوذه في البحرين بعد أن كان أشياخها قد دبروا حيلة أخرجوا بها الوالي العُماني واستعانوا بالوهابيين وحالفوهم ودخلوا تحت طاعتهم. وإزاء الصراع الدولي الذي كان قائما في تلك الفترة بين الفرنسيين والإنجليز في مياه المحيط الهندي والخليج، رأى السيد سلطان أن يستفيد من هذا الصراع لمصلحة بلاده خاصة وأن كلا الطرفين حاول أن يوطد علاقته بعُمان ضد الطرف الأخر، وقد انتهى هذا الأمر إلى إبرام اتفاقية بين السيد سلطان وبين الإنجليز في (جمادى الأولى1213هـ/أكتوبر1798م) متخلياً عن صداقته للفرنسيين لأسباب عده، منها اعتماد عُمان على الهند التي تسيطر عليها بريطانيا في ذلك الحين في مؤونتها من الأرز - وهو الغذاء لمعظم سكان شبه جزيرة العرب - وتكرار اعتداءات القراصنة الفرنسيين على السفن العُمانية، وأخيرا قلق أمراء وحكام شبه جزيرة العرب ومنهم حكام عُمان بطبيعة الحال من ازدياد النفوذ الفرنسي بعد احتلال الفرنسيين لمصر في 1213هـ/1798م. ورغم ذلك فان هذه المعاهدة لم توضع موضع التنفيذ الكامل في كثير من شروطها لان السيد سلطان بن احمد لم يقطع في الواقع علاقته التجارية بالفرنسيين في جزيرة موريشيوس ولم يكن في وسعه أن يمنع أصحاب السفن العُمانيين من ذلك، كما أن قطع هذه العلاقات التجارية كان ضارا بمصالح رعاياه، والنتيجة الهامة التي ترتبت على هذه الاتفاقية هي قبول ممثل سياسي بريطاني في عاصمة عُمان للمرة الأولى وذلك في عام 1215هـ/ 1800م. وهكذا وازن السيد سلطان بن أحمد في سياسته الخارجية بين التطلعات البريطانية والفرنسية في منطقة الخليج، كما دعم نفوذه في هذه المنطقة حرصاً منه على أمن وسلامة الخليج، باعتباره بلده عُمان دولة بحرية تجارية. وفي نهاية هذا الجهاد الدائم وقع السيد سلطان بن احمد قتيلا في (14 شعبان 1219هـ/30 نوفمبر 1804م) على يد بعض القراصنة أثناء رحلة بحرية كان يقوم بها بين البصرة وعُمان. وخلفه في حكم عُمان ابنه الشهير الإمبراطور السيد سعيد بن سلطان.
” سيرة مِنْ الحُكْم البوسعيدي لِعُمان “2
يعتبر عصر السيد سعيد بن سلطان وهو - حفيد مؤسس أسرة البوسعيد الحاكمة في عُمان - من أزهى العصور التي مرت بعُمان خلال القرن التاسع عشر إن لم يكن أكثرها ازدهارا رغم الصعوبات الكثيرة التي واجهته في بناء الدولة، ويرى المؤرخون أن السيد سعيد بن سلطان هو بلا شك من ابرز الشخصيات في أسرة البوسعيد التي لعبت دورا في تاريخ عُمان والخليج وشرق إفريقيا، لا بل من الشخصيات الهامة جداً في تاريخ العرب الحديث والمعاصر للاعتبارات التالية:-
1- اتساع نفوذ الدولة العُمانية بشكل لم تشهده من قبل بحيث أصبحت كافة المناطق الواقعة بين بندر عباس على الساحل الشرقي للخليج العربي إلى ميناء زنجبار على الساحل الشرقي لأفريقيا منطقة نفوذ عُمان، هذا بالإضافة إلى أن العديد من الجزر الواقعة في مدخل الخليج والمحاذية للساحل الشرقي للخليج وكذلك إلى جزر بحر العرب والمحيط الهندي بما فيها أرخبيل جزر القمر كانت تحت النفوذ العُماني. .
2- المركز المرموق الذي احتله السلطان السيد سعيد بن سلطان في المجال الدولي والاحترام الذي كان يتميز به بين حكام أوروبا وآسيا وأفريقيا والولايات المتحدة في ذلك العصر، هذا بالإضافة إلى شعبيته الواسعة بين أفراد وطنه.
3- استقرار الحكم العُماني رغم المطامع والمؤامرات الأجنبية، ففي الوقت الذي كانت الصراعات العربية - العربية مستمرة على سواحل الخليج، وفي الوقت الذي شهدت فيه الجزيرة العربية حروبا دائمة بين محمد علي باشا والحركة السلفية، وما كان يتعرض له السيد سعيد بن سلطان من تصادم المطامع البريطانية والفرنسية الفارسية، فان السيد سعيد عمل على المحافظة على استقلال بلاده بتوازن دقيق مستخدماً الدبلوماسية أكثر من القوة العسكرية من اجل الوصول إلى أهدافه. فقد اقتضت الظروف التوقيع على اتفاقيات تجارية مع فرنسا والولايات المتحدة وهولندا والبرتغال. وكانت سياسات السيد سعيد المستندة على البراعة الدبلوماسية والمبادئ الواقعية قد جعلت عُمان من اكبر الدول العربية وأكثرها نفوذا على الإطلاق طيلة فترة حكمه. .
4- قوة الاقتصاد العُماني المستندة إلى التقدم وتطور التجارة العُمانية التي كانت تعتمد هي الأخرى على أسطول تجاري ضخم تسانده قوة بحرية متميزة، فبالإضافة إلى التجارة العُمانية الواسعة مع الصين وجنوب شرق آسيا والهند وسيلان وإيران، فان السيد سعيد بن سلطان قد طور وبشكل واسع اقتصاديات شرق أفريقيا لدرجة انه في النصف الثاني من فترة حكمه كان الكثير من واردات عُمان يأتي من أفريقيا. ونتيجة لجهود السيد سعيد بن سلطان في الاهتمام بالبحرية العُمانية. أصبح الأسطول العُماني الحربي والتجاري في الخليج والمحيط الهندي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر ثاني اكبر أسطول على الإطلاق ويأتي في المرتبة الثانية بعد الأسطول البريطاني. وكان لهذا الأسطول الضخم قواعد رئيسية على الساحل الشرقي للخليج في موانئ بندر عباس وجزر قشم وهرمز ولارك، بالإضافة إلى الساحل العُماني الذي كانت موانيه عامرة بسفن الأسطول، أما على الساحل الأفريقي فكان لعُمان قواعد بحرية في ممباسة ولامو وكلوة ومركه ومقديشو وزنجبار. وكان للسيد سعيد بن سلطان، الذي حكم أكثر من نصف قرن دولة واسعة في الخليج والمحيط الهندي، ينتقل بين ممتلكاتها في عُمان والساحل الأفريقي، ويقضي وقتاً طويلاً على ظهر السفن يتفقد بلدان هذه الدولة الشاسعة الأطراف، وفي السنوات الأخيرة من حكمه كان يفضل قضاء أطول مده ممكنة في زنجبار حتى يتمكن من الإشراف على الممتلكات العُمانية في ساحل أفريقيا.. وكانت له علاقات واسعة جدا مع زعماء القبائل الأفريقية وملوك المقاطعات والجزر العديدة التي لم يتمكن من السيطرة عليها مثل مدغشقر وغيرها، ولذلك كان القول المأثور: إذا قرعت طبول السلطان في زنجبار يرقص عليه ابنا البحيرات الأفريقية. ورغم القوة البحرية التي كانت تحت إمرته فقد اتصف بالحذر الشديد، فاقتصر تواجده على السواحل ولم يغامر بالتوسع في الداخل سواء كان ذلك على الساحل الشرقي للخليج أو بالنسبة للساحل الأفريقي. ولكن التجار العُمانيين توغلوا في داخل أفريقيا ووصلوا إلى ما يعرف حاليا بأواسط كينيا والبحيرات الأفريقية، وتاجروا مع الأهالي ونشروا الإسلام وكانوا أول جسر ثقافي ربط بين العرب وأفريقيا الاستوائية. وان كان السيد سعيد بن سلطان قد استطاع أن يكون هذه الدولة الواسعة، واستطاع أن يؤسس أسطولا تجاريا وحربيا قوياً تمكن من خلاله المحافظة على هذه الدولة، فانه أيضاً تمكن من إقامة علاقات دولية قوية سواء مع مصر أو مع بعض الدول الأوربية أو مع الولايات المتحدة الأمريكية. وبالنسبة لعلاقات السيد سعيد بن سلطان بمصر وحاكمها محمد علي، فقد اتصفت العلاقات بين الرجلين بالتقدير المشترك غير المندفع، ورغم أن الرجلين كانا في مواجهة مع النشاط الوهابي في الجزيرة العربية ألا أن الرسائل المتبادلة بين السيد سعيد ومحمد علي كانت قليلة، وان كانت قد عبرت عن إعجاب السيد سعيد بالبناء الحديث للدولة الذي أقامها محمد علي في مصر، كما عبرت عن وجود رغبة لدى السيد سعيد في إقامة علاقات أوثق مع باشا مصر.وأما علاقة السيد سعيد بن سلطان بالدول الأجنبية، فقد تمثلت في ترحيبه بعقد اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 1249هـ / 1833م، وفي ترحيبه بوجود قنصل أمريكي في السلطنة، كما تمثلت تلك العلاقات في عقد معاهدة بين السلطنة وبريطانيا في ربيع الأول 1255هـ/ مايو 1839م تعلقت معظم نصوصها بتنظيم التجارة والملاحة بين البلدين، وتقديم التسهيلات البحرية للسفن البريطانية في موانئ السلطنة.كما تمثلت علاقات السلطنة الخارجية كذلك في عقد معاهدة تجارية مع فرنسا عام 1260هــ / 1844م حصلت فرنسا بمقتضاها على نفس الامتيازات التجارية والقضائية التي نصت عليها معاهدة عام 1255هــ / 1839م مع بريطانيا العظمى.ولم يرفض السيد سعيد بن سلطان طيلة فترة حكمه أي عرض تقدمت به أي دولة إقليمية أو دولية لعقد المعاهدات والاتفاقيات التجارية، فكان يفضل التجارة على أي شي آخر، وعندما طلبت منه الدول الأوربية وخصوصا بريطانيا تحريم تجارة العبيد في ممتلكاته والمساهمة معها في محاربة هذه التجارة في كافة إرجاء الخليج والمحيط الهندي، فانه قبل بهذا العرض وحرم تجارة العبيد التي كانت تدر على بعض التجار أرباحا هائلة، وحارب بقوة نشاطات القراصنة من مختلف الجنسيات الأوربية الذين كانوا يمارسون تجارة العبيد. وكان لموقف السيد سعيد هذا ردود فعل ايجابية في الرأي العام العالمي يومئذ، فقد اثنت الصحف البريطانية كما أشاد مجلس العمــوم البريطاني بمجهود السيد سعيد في مجال محاربة تجارة العبيد ومراعاته لحقوق الإنسان. وبالنسبة للنشاط الاقتصادي الأمريكي، فقد اجتذبت عُمان اهتمام الأمريكيين في الثلث الأول من القرن التاسع عشر لوقوع عُمان في طريق الهند والشرق الأقصى، ولأنها كانت مركزا للعلاقات مع بقية أقطار الوطن العربي وإيران وأفريقيا، وفي شرق أفريقيا بالذات.ادخل السلطان السيد سعيد بن سلطان زراعة القرنفل في زنجبار واعتبره محصولاً تجارياً حيث انشأ عدة مزارع على الأرض الإفريقية للمتاجرة مع الأفارقة، كما قدم مساعدات ذات اثر كبير في نجاح رحلات المستكشفين الأوربيين الذين مارسوا عمليات الكشف داخل إفريقيا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.وكان تطوير القسم الإفريقي للدولة العُمانية في عهد السيد سعيد بن سلطان عامل جذب للقوى الأجنبية لكي تسعى إلى تقوية علاقاتها بالسلطنة ككل، ولتحصل على متاجر زنجبار بصفة خاصة وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أولى القوى الأجنبية في التطلع إلى فتح أسواق زنجبار أمام التجار الأمريكان لبيع السلع الأمريكية من ناحية، ولشراء المنتجات والسلع في الشق الإفريقي من الجولة من ناحية أخرى.وقد بدأت مقدمات العلاقات التجارية بين عُمان والولايات المتحدة الأمريكية حينما زار التاجر الأمريكي (أدموند روبرتس) الذي ينتمي إلى نيوهامبشير زنجبار في عام 1243هـ / 1827م، متطلعاً إلى تحقيق كسب مادي كبير هناك، ولكنه لم يجد التسهيلات التي كان يلقاها البريطانيون الذين كانوا أصدقاء للسيد سعيد بن سلطان. ومن ثم عاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية يحمل فكرة عقد معاهدة مع الحكومة العُمانية لكي تروج التجارة الأمريكية في ممتلكاتها. وقد وافق الرئيس الأمريكي (اندرو جاكسون) على فكرة عقد معاهدة تجارية بين الولايات المتحدة وعُمان، وعهد إلى ادموند روبرتس بإرجاء المفاوضات اللازمة والتوصل إلى المعاهدة المنشودة وكان وصول السفينة الأمريكية (بيكويك) حاملة بعثة روبرتس إلى مسقط دليلاً ليس فقط على الاهتمام الأمريكي بكل من آسيا وإفريقيا، بل أيضا لكون عُمان دولة ذات أهمية بارزة لدى الولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك تم توقيع المعاهدة التجارية بين عُمان والولايات المتحدة في جمادى الأولى (1249هـ / الحادي والعشرين من سبتمبر 1833م)، وكانت أول اتفاقية يعقدها السيد سعيد بن سلطان مع دولة كبرى. وقد صارت هذه الاتفاقية المثل الذي سارت على منواله معاهدات عُمان مع بريطانيا عام (1255هـ / 1839م) ومع فرنسا عام (1260هـ/1844م). وقد ظلت الاتفاقية الأمريكية العُمانية سارية المفعول حتى عام (1378هـ/1958م) حين بطل مفعولها واستبدلت بمعاهدة جديدة للصداقة والعلاقات الاقتصادية والحقوق القنصلية بين الطرفين وبموجب هذه الاتفاقية تمتع الأمريكيون بامتيازات اقتصادية وقضائية في ممتلكات السلطان العربية الأفريقية حيث صار التجار الأمريكيون يتاجرون في أراضي عُمان الواسعة وينزلون في موانيها ويدفعون 5% فقط رسوماً على البضائع التي كانوا يجلبونها إلى الموانئ العُمانية ويعفون من دفع أية ضرائب أخرى على الصادرات والواردات، ويعفون كذلك من رسوم الإرشاد الملاحي في موانئ عُمان، كما صار من حق القنصل الأمريكي في عُمان فض المنازعات التي تنشأ بين رعايا دولته، ونصت المعاهدة كذلك على حق قنصل عُمان في الفصل في القضايا بين رعايا دولته في الولايات المتحدة.وتمشياً مع السياسة الودية بين الإمبراطورية العُمانية والولايات المتحدة بدأت بمعاهدة الصداقة والتجارة التي عقدت بين البلدين عام (1249هـ/1833م)، فقد بعث السيد سعيد سفينته المسماة (سلطانه) في رحلة إلى ميناء نيويورك الأمريكي عام (1256هـ/1840م)، لتقوية العلاقات مع الولايات المتحدة، للمتاجرة وشراء الأسلحة التي كان في حاجة إليها أثناء صراعه ضد الوجود البرتغالي في موزنبيق وقد تولى قيادة هذه السفينة ربان بريطاني يدعى (وليام سليمان)، واختار السيد سعيد أمين سره الخاص الحاج احمد بن نعُمان ليكون ممثلا له في الولايات المتحدة، بل أول مبعوث عربي إلى الولايات المتحدة.وتتويجاً لعلاقة السيد سعيد الحميمة مع إفريقيا فقد قرر الإقامة في زنجبار بوصفها العاصمة الثانية لدولته المترامية يعد قرارا خطيرا وخصوصا أن المسافة بين العاصمتين تبلغ 2500 ميل والوصول من عُمان إلى زنجبار تحكمه حركة الرياح الموسمية.وعلى أية حال فانه كان من المستحيل أن تسيطر حكومة عُمان سيطرة فعلية على ممتلكاتها البعيدة في شرق إفريقيا إلا بإتخذها ذلك القرار. وكانت سياسة السيد سعيد الرامية إلى تدعيم نفوذه في ممتلكاته الجديدة، أهم الأسباب التي دعته إلى نقل بلاطه من بلاد العرب إلى زنجبار في سنة 1248هـ/1832م، حيث ظل مقيما بها بقية حياته.على أن السيد سعيد كان يعمل على تسيير دفة الأمور الخاصة بعُمان وهو بعيد عنها، فكان يضطر كثيرا لمغادرة زنجبار لمواجهة المشاكل الناجمة في عُمان وحلها ورغم انه أقام فترة طويلة في زنجبار، فقد ظلت زنجبار طيلة الحكم الطويل للسيد سعيد تابعة لمسقط رسمياً.
وتجدر الإشارة إلى انه قبل عصر السيد سعيد كان معظم سكان جزيرة زنجبار من السواحلية ولكن في ظل الدولة الجديدة كثرت وفود العرب للإقامة فيها، ذلك أن السيد سعيد كان قد شجع هؤلاء العرب على الهجرة إلى بيمبا وزنجبار. ولاشك أن الدافع الاقتصادي كان أقوى الدوافع التي جعلت السيد سعيد يفضل الإقامة بصفة دائمة في جزيرة زنجبار، والواقع انه لم يكن هناك مكان آخر في إمبراطورية السيد سعيد أكثر ملائمة لتنفيذ سياسته الاقتصادية من هذه الجزيرة.ولذلك انتقل إليها ولم ينتقل إلى ممباسة أو كلوة أو غيرها من المدن الهامة في شرق أفريقيا.وعلى أية حال فقد أكد السيد سعيد منذ البداية بأن التنمية الاقتصادية تعنيه كما يعنيه استتباب نظام الحكم والأمن والاستقرار، ومن المرجح أن يكون أول من ادخل زراعة القرنفل إلى زنجبار وتطويرها حتى أصبحت في أواخر القرن التاسع عشر من أهم المنتجين على مستوى العالم.وكانت وفاة السلطان سعيد في (20 صفر 1273هـ/ 19 أكتوبر 1856م) نهاية لعهد حاكم عربي بارز، ومهما يكن من أمر، فلا يزال عهده يعتبر مرحلة ماجدة في إطار الحضارة التقليدية للمنطقة ونظامها الديناميكي القديم، إلا أن النفوذ البريطاني وعملية التحديث للمنطقة أثرا على البناء السياسي العام الذي أقامه، وبمعنى آخر لم يكن هناك بين أبناء السلطان سعيد من يتمتع بالكفاءة والتأييد السياسي الكافي الذي يؤهله لحكم السلطنة العربية الأفريقية والحفاظ على وحدتها مثلما كان الحال في عهد والدهم رغم أن السلطان سعيد كان قد عين اثنين من أنجاله نائبين عنه في كل من الجزء الأفريقي - زنجبار - والجزء الآسيوي - عُمان - أثناء الفترات الطـويلة التي يتغيب فيها عن الحكم. ومنذ عام (1249هـ/1833م) كان (ثويني) ينوب عن والده في العاصمة مسقط، بينما الابن الثاني (ماجد) ينوب منذ عام (1271هـ/1854م) عن والده في زنجبار، وقد أصبح لكل منهما نفوذ واسع في المنطقة التي كان يحكمها، ولكن ليس بالدرجة التي تمكنه من ضم الجزء الآخر إلى حيز نفوذه، كما لا يبدو أن السلطان سعيد قد رشح احد أبنائه ليخلفه في الحكم بعد وفاته.ولذلك ظل الصراع بين أبناء السلطان سعيد من السمات المميزة للتاريخ العُماني على امتداد بقية القرن التاسع عشر، علما بأنهم كانوا قادرين بالاستخدام الذكي للإمكانيات الاقتصادية والسياسية التي كانت لديهم على أن يحافظوا على دولتهم بشطريها العربي والأفريقي.ونتيجة للاضطرابات السياسية التي اجتاحت عُمان بعد وفاة السلطان سعيد، نشبت الحرب الأهلية للاستيلاء على السلطة بين ورثة السلطان المتوفى تلك الحرب التي أخذت تهدد الدولة العُمانية بشطريها الآسيوي والأفريقي بالتمزق والانهيار، وخاصة بعد أن استغلت الدول الأجنبية الطامعة ذلك الخلاف والصراع الذي نشب بين الأخوين ثويني وماجد.وقد لعبت كل من بريطانيا وفرنسا دورا متفاوتا في استغلال هذا الخلاف بين هذين الأخوين فقد تحركت قواتهما العسكرية والمسـؤولون السياسيون البريطانيون والفرنسيون على الفور لتحقيق مكاسب لمصالح بلدانهم، وقد بذلوا في ذلك جهداً كبيراً وتنقلوا بين مسقط وزنجبار بغرض الحماية والوصاية، وكانوا في حقيقة الأمر يشجعون الخلافات بين الأخوين في وقت كانوا يظهرون فيه على أنهم يبذلون سعيهم وراء التوسط لحل المشاكل.وكان الخلاف حول كسب الموقف في أشده بين بريطانيا وفرنسا، فقد حشدتا قوات وأساطيل على السواحل العُمانية والأفريقية، وأظهرتا عطفا كل على الطرف الأخر من المتنازعين، مشجعين إياهما على الاندفاع أكثر على كسب المواقف الشخصية. والثابت أن أطماع البلدين في شرق أفريقيا كان واضحا حيث حاولا مرارا إيجاد موطئ قدم لهما على الساحلين الأفريقي والعربي، واستعملا أساليب في نشر الإشاعات والأكاذيب والافتراءات التي لا تمت للحقيقة بصلة للحيلولة دون اتفاق الإخوة على وحدة الكلمة.وقد اتهموا السلطان الراحل على انه اعد مستندات أصولية لتقسيم الإمبراطورية وتوزيعها بين أبنائه حيث أكدوا أن السلطان أوصى لخالد وبالتالي لابنه ماجد بأرضي زنجبار مستقلة عن الوطن الأم عُمان. وحقيقة الأمر أن هناك أدله قاطعة تدحض أن يكون السلطان الراحل قد وقع أية وصية من ذلك النوع، وكانت الأمور تسير سيرا طبيعيا بين الإخوة، ولكن التدخلات الأجنبية خلقت عدم الثقة والريبة في كل عمل يصدر عن الأخر.ومهما كان الأمر فقد كانت انجلترا تؤيد تقسيم السلطنة وتعارض فكرة ضم ممتلكات ثويني إلى ممتلكات ماجد، ولذلك وقفت بجانب الأخير متذرعة بأن أية حرب بين الأخوين سوف تشكل خطرا على مصالحها في الطريق البحري إلى الهند. وقد حاول ثويني بالفعل إعادة توحيد السلطنة وبدأ في إعداد حملة سنة 1276هـ / 1859م لإرسالها إلى زنجبار، ألا أن السلطات البريطانية في الهند أسرعت بإرسال الكولونيل رسل وهو احد ضباط البحرية الهندي لكي يوقف تقدم الحملة، واستطاع رسل أن يصل في الوقت المناسب مما اضطر ثويني إلى التراجع إلى مسقط بعد أن أغلق الأسطول البريطاني الطريق في وجهه.ولم يقف الأمر عند حد تقديم المعونة البريطانية للسيد ماجد، بل حاولت بريطانيا أن تحل النزاع بين مسقط وزنجبار بطريقة يقبلها الطرفان، أو يرغمان على قبولها إذا استدعى الأمر ذلك. فتدخلت في ذلك النزاع الناشب بين مسقط وزنجبار بما يحقق في النهاية الهدوء والسلام بينهما، لان غير ذلك قد يؤثر على المصالح البريطانية في الطريق الموصل إلى إمبراطوريتها في الهند، ونتيجة لذلك أرسلت الحكومة البريطانية بعثة إلى كل من مسقط وزنجبار في عام (1277هـ/ 1860م) بهدف التحقيق في أسباب النزاع القائم بين البلدين، وقد رأس هذه البعثة الكولونيل كوجلان المقيم السياسي في عدن. وكان من نتيجة الأعمال والدراسات التي قامت بها البعثة، إنها ذكرت أن الطريقة التي يتولى بها سلاطين أسرة البوسعيد الحكم، إنما تقوم على أساس الانتخاب، وانه عقب وفاة السيد سعيد بن سلطان فان أهل زنجبار انتخبوا ابنه السيد ماجد حاكما عليهم، وعلى ذلك فليس هناك مبرر لمطالب السيد ثويني في السيطرة على ممتلكات أخيه، وينبغي إذن أن يبقى كل منهما سلطانا في مكانه.وهكذا قدمت البعثة تقريرها إلى اللورد كاننج الحاكم العام للهند، والذي استند عليه في وضع التحكيم المشهور عام (1278هـ/1861م). وطبقا لهذا التحكيم فقد تم إقرار السيد ماجد في منصبه كحاكم على زنجبار والممتلكات الأفريقية الأخرى خلفا للسيد سعيد، كما نص التحكيم على أن يدفع حاكم زنجبار (40,000 ريال) سنوياً لحاكم مسقط، هذا بالإضافة إلى دفع المتأخرات المستحقة عليه من العامين الأخيرين.كما نص التحكيم أيضا على انه لا ينبغي لحكام مسقط أو لقبائل عُمان التدخل في شؤون زنجبار، كما أوضح كاننج بأن هذا المبلغ الذي يدفعه حاكم زنجبار إلى حاكم مسقط لا يعني أية تبعية من جانب زنجبار لمسقط، وإنما قصد به تحقيق المساواة بين ميراثي الأخوين، لان أراضي زنجبار أكثر غنى من أراضي مسقط.وهكذا ونتيجة التحكيم أصبحت العلاقة بين زنجبار ومسقط علاقة مالية فقط، أي انه كان على زنجبار أن تدفع تلك الإعانة السنوية لمسقط، وبخلاف ذلك أضحت العلاقات واهية بين قسمي السلطنة السابقة.ويلاحظ أن الطابع الأفريقي اخذ يغلب على سلطنة زنجبار في عهد السيد ماجد نتيجة لانقطاع الصلة بالوطن ألام، وقد ساعدت سياسة ماجد على تحقيق هذه النتيجة، فقد اتخذ بعض الإجراءات التي أدت إلى إضعاف الصلات بين زنجبار ومسقط ففي عام (1281هـ/1864م) منعت سفن مسقط من الملاحة في مياه زنجبار إلا إذا أبرزت أوراقا تثبت أنها تتجر في سلع شرعية، كما كتب إلى مشايخ الخليج بأن لا يرسلوا سفنهم بعد ذلك إلى زنجبار، كما حرم السيد ماجد على سكان زنجبار تأجير المساكن للتجار العرب الآتين من شبه الجزيرة العربية، وأخيراً أوقف السيد ماجد الهدايا التقليدية التي كان يقدمها السلاطين لقبائل عُمان، مما يدل على انصرافه نهائيا عن فكرة توحيد السلطنة التي أقامها والده السيد سعيد بن سلطان. ولقد كانت عملية تقسيم الإمبراطورية العُمانية هي التي أثارت المشكلات، لان عدم دفع زنجبار الإعانة السنوية لمسقط جعل الأخيرة غير قادرة على دفع قيمة إيجار بندر عباس إلى فارس، مما حدا بفارس إلى محاولة استعادة هذا الميناء ثم محاولة القيام بنشاط بحري واسع في الخليج.. وكان من نتائج ذلك تزايد وتكريس النفوذ البريطاني في المنطقة. الجدير بالذكر أن السيد تركي والسيد برغش أصبحا على علاقة ودية طيبة منذ الوقت الذي تعهدت فيه الحكومة البريطانية بضمان دفع معونة زنجبار، وقد أدت هذه العلاقة الودية إلى أن اقترح السيد تركي فعلا في سنة (1297هـ/1880م) أن يتنازل عن حكم عُمان للسيد برغش. وقد انزعجت حكومة الهند لهذه الأنباء أيما انزعاج وأرسلت إلى روس المقيم البريطاني في الخليج لتحري هذا الأمر، ورد عليها أنه قد تم فعلا اتصالات ومفاوضات بين السيد تركي والسيد برغش، وأن هذا الموضوع أصبح سائدا بين الناس، فأصدرت حكومة الهند تعليماتها لوكيلها السياسي بأنها ستتدخل في حالة وقوع محاولة لإعادة الوحدة بين عُمان وزنجبار. وهذا يوضح لنا مدى تخوف بريطانيا من اتحاد الدولة العُمانية مرة أخرى، ويبدو أن بريطانيا ضغطت على السيد تركي حتى لا يتنازل عن حكم عُمان، لأنها كانت تعلم أنه من الممكن أن يتخلى فعلا عن الحكم، لأن له سابقة في ذلك عندما ترك الأمر لأخيه عبد العزيز. وبذلك قضى على آخر أمل في أمكان إقامة تلك السلطنة الأفريقية العربية مرة أخرى. استمر الشقيقان بعد أن فشلت فكرة الاتحاد على علاقة طيبة وكانا يتبادلان الهدايا، فقد أهدى السيد برغش شقيقه في سنة (1302 هـ/1884م) 22 ألف روبية كمعونة في مواجهة الحركات الداخلية في عُمان في العام السابق، وفي سنة (1304 هـ/1886م) أهداه السفينة البخارية (سلطاني) واليخت (دار السلام)، وفي منتصف عام (1305 هـ/ مارس سنة 1888م) قام برغش بزيارة عُمان وقضى أسبوعا في ينابيع بوشر الحارة أملا في أن يتخلص من مرض أصابه وعامله تركي بمودة واحترام كبيرين، وتلقى منهم بعد ذلك هدية قدرها خمسون ألف روبية، ومات الشقيقان بعد ثلاثة أشهر من لقائهما الأخير. وقد شهدت الفترة الأخيرة من حكم السيد تركي هدوءا حتى وفاته عام (1306 هـ/1888م) بعد أن ترك وراءه مملكة تتميز بقدر من التنظيم والاستقرار وقد هيأ لابنه وولي عهده السيد فيصل أن يتولى مقاليد الحكم في جو سلمي. وقد تولى السلطان السيد فيصل بن تركي حكم عُمان في فترة شهد فيها العالم العربي موجة من ازدياد النفوذ الاستعماري الأوربي وبخاصة البريطاني والفرنسي، حيث احتلت بريطانيا وفرنسا العديد من أجزاء الوطن العربي أو أصبح تحت نفوذهما والقليل من الدول أفلتت من هذا الغزو الاستعماري ومن بينها عُمان حيث تمكن السيد فيصل بن تركي من أن يدير دفة الحكم وسط هذه الأجواء، كما أولى اهتمامه للوضع الداخلي بهدف تقوية الجبهة الداخلية.. ومن أجل ذلك كون جيشا قويا جعل قيادته لأخيه فهد الذي قام بأكثر من حملة لتوطيد الأمن في ربوع عُمان. وقد اتسمت سياسة السلطان السيد فيصل بن تركي بالتوازن في علاقة عُمان بكل من بريطانيا وفرنسا.. في عام (1312هـ/1984 م) وافق عل إنشاء قنصلية فرنسية في مسقط كما أعطى للفرنسيين امتيازا بإنشاء مستودع للفحم في منطقة الجصة في عام (1316هـ/1898م)، وعندما علمت بريطانيا بذلك أرسلت المقــيم السياسي في الخليج كولونيل (ميــد) إلى مسقط مبعوثا من نائب الملك في الهند ثم تبـعه الأدميــرال (دو غلاس)، وبعد مقابلتهما للسيد فيصل انتهى النقاش إلى أن لعُمان الحق في الارتباط بعلاقات خارجية مع أية دولة من الدول، وأن عُمان على استعداد لعقد معاهدات تجارية وود وصداقة مع بريطانيا، واستمر حكم السيد فيصل حتى وافته المنية في (شهر ذي القعدة 1331هـ/أكتوبر عام 1913م) ليخلفه ابنه الأكبر تيمور. تولى السلطان السيد تيمور دفة الحكم في ظروف صعبة على المستويين الداخلي والخارجي حيث شهدت عُمان صراعات داخلية كما أن شبح الحرب العالمية الأولى (1332-1337هـ/1914-1918م) اخذ يلوح في الأفق والأزمة الاقتصادية العالمية تكاد تخنق معظم الدول. وقد حاول السلطان السيد تيمور أن يتجنب كل ما يمكن تجنبه من هذه المصاعب والأزمات، فحاول أن يخلق نوعاً من الاستقرار السياسي الذي يترتب عليه تحسين الوضع الاقتصادي، ولهذا بادر بعقد اتفاقية السيب في (عام 1339هـ/1920م) حافظاً على استقرار عُمان. وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى أخذت التجارة العُمانية تنتعش من جديد، ألا أنها تعرضت لأزمة بسبب الكساد الاقتصادي الذي ساد العالم بعد الحرب العالمية الأولى، كما قام السيد تيمور بإصلاح الوضع الاقتصادي بأن استقدم ثلاثة من الخبراء المصريين لتطوير نظام الجمارك في مسقط، كما شكل أول مجلس للوزراء في تاريخ عُمان برئاسة السيد نادر بن فيصل، ولم يلبث أن عين ولده السيد سعيد رئيسا لمجلس الوزراء وذلك منذ عام (1348هـ/1929م). ومن الأحداث في عهد السيد تيمور توقيع أول اتفاق بين عُمان وشركة داركي لتنقيب عن النفط في السلطنة في (عام 1344هـ/1925م)، إلا أنه لم يتم اكتشاف أي من آبار البترول في عهده الذي امتد حتى (عام 1351هـ/1932م) حيث تنازل في ذلك العام عن الحكم لولده السيد سعيد، وذلك لأسباب صحية ألمت به. ومع تولي السلطان السيد سعيد بن تيمور الحكم كان العالم يعاني معاناة شديدة من وطأة الأزمة الاقتصادية التي تجتاحه، لذلك اختط لنفسه سياسة مالية اتسمت بعدم تحميل البلاد بما لا تطيق من الديون، لان الديون هي مكمن الداء حيث تخلق وضعاً يسمح بالتدخل في شؤون البلاد من قبل الدول الدائنة، لذلك قرر بأن ينفق في حدود دولته، والتزم بتسديد ما على الدولة من ديون. كما اتخذ خطوات لتدعيم علاقاته الخارجية، فقام بجولة في عام (1356 هـ/1937م) زار فيها اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، واجتمع مع رئيسها روزفلت (1352- 1365 هـ/1933- 1945م) الذي استقبله وتبادل معه الهدايا، فكان أول حاكم عربي يزور الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها سافر إلى بريطانيا حيث استقبله ملكها جورج الخامس، ثم انتقل إلى فرنسا فايطاليا وأخيراً الهند الذي عاد منها إلى مسقط. وفي (عام 1363هـ/1944م) قام برحلة إلى مصر واستقبله ملكها فاروق، ثم زار القدس عاصمة فلسطين.
تميز عهد السلطان السيد سعيد بن تيمور بالأحداث الآتية:
أولا: حل الخلافات التي كانت قائمة مع المملكة العربية السعودية حول واحة البريمي.
رابعاً: حرب ظفار التي استمرت حتى عهد جلالة السلطان قابوس حيث تمكن من إخمادها وانتصار القائد الشاب وشعبه العريق في ملحمة وطنية تتوجت بإعلان يوم 11ديسمبر 1975م عيداً للنصر ويوماً للقوات المسلحة.
" سيرة مِنْ حُكْم دولة اليعاربة لِعُمان "
دولة اليعاربة: قامت دولة اليعاربة في عُمان عام ( 1034 هـ / 1624 م ) نتيجة لظروف عديدة، منها أن البلاد كانت تعاني الكثير من الفوضى السياسية عند نهاية عهد النباهنة، تلك الدولة التي عمرت خمسة قرون كانت الثلاثة القرون الأولى تمثل فترة قوتها، ومع اقتراب القرن الخامس عشر بدأت عوامل الضغط تعمل في كيانها كنتاج طبيعي لانقسام الدولة إلى ممالك وكيانات ضعيفة عجلت بنهايتها.وتشير المصادر العُمانية إلى أن تاريخ النباهنة لم يكن كله ضعيفاً وإنما كانت هنالك فترات قوة، حيث حكم عُمان بعض الحكام العظام، لعل أشهرهم فلاح بن محسن.وبينما كان البرتغاليون يجهزون على كل القوي الإقليمية كانت عُمان تشهد مولد عهد جديد وزعامة جديدة. فقد ظهر ناصر بن مرشد كأول أمام لدولة اليعاربة، وقد استطاع هذا الإمام أن يستوعب كل أبعاد القضية، وان يدرك المتغيرات الجارية من حوله سواء على المستوى العُماني أو على مستوى المنطقة بشكل عام، وقدر كل أبعادها حيث اعتقد أن مواجهة البرتغال لا يمكن أن تكون حاسمة إلا إذا استند إلى جبهة وطنية متراصة ومتماسكة، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا إذا خاض حروباً ضارية في سبيل توحيد كل القبائل العربية.وبما أن منطقة الرستاق هي التي شهدت بعثة إمامة ناصر بن مرشد فقد كان عليه أن يبدأ بها، ولهذا مضى ومعه جمع من أنصاره نحو قلعة الرستاق وكان المالك للرستاق ابن عمه مالك بن أبي العرب اليعربي، وبعد حصار لم يدم طويلاً فتحها الإمام.ونظراً لثقل المهمة التي كان يقوم بها الإمام ناصر بن مرشد واستعداداً لحروب قد تطول أكثر مما كان يتوقع، لذا فقد كان يقيم في المناطق التي كان يدخلها حصناً أو قلعة بعد أن يترك أحدا من أتباعه لكي يواصل مهمته في ترسيخ مبادئه ومواصلة دعوته التي أخذت تنساب في كل أرجاء عُمان، وقد حققت هذه السياسة تعاظم نفوذ الإمام إضافة إلى عدالته التي كانت مضرب المثل مما دفع المترددين إلى القدوم إليه طالبين بسط سلطته العادلة.ومما يؤكد صعوبة المهمة التي مضى الإمام في سبيل تحقيقها كثرة الممالك التي أقيمت على مقومات قبلية بحيث يصعب التمييز فيها بين القبيلة والحكومة، وذلك أن الحكم كان بيد شيخ القبيلة الذي كان يطلق عليه تجاوزا ملكاً أو أميراً، أما فكرة الدولة القومية الواحدة والإدارة المركزية فهي من المفاهيم التي لم تتعود عليها القبائل في تلك الفترة.لعل الإمام ناصر كان يعول أهمية كبيرة على نزوى ولذا فبمجرد أن فتحها فضل أن يتريث لبعض الوقت ويبدو انه كان يتوقع توافد القبائل عليه تجنباً لإراقة الدماء وقد تحقق ما توقعه الإمام. ومن الظواهر اللافتة للنظر في سياسة الإمام انه كلما حقق قدراً لا باس به من الوحدة راح يتريث ترقباً لرد فعل قد يحول دون الحرب، ولعلها فرصة لإعادة ترتيب جنده ومحاولته العودة لتفقد المناطق التي دخلت في حوزته، وهي سياسة حكيمة تتعدد فوائدها على كل المستويات. وهكذا استطاع الإمام ناصر بن مرشد خلال سنوات حكمه والتي امتدت حتى(1059هـ/1649م)، أن يحقق لعُمان تماسكها. وكانت محاولاته نحو الوحدة باعثة على تحقيق الأمل الكبير الذي افتقرت إليه البلاد منذ زمن طويل، وينفرد الإمام ناصر بن مرشد بين أئمة اليعاربة بتصديه لهذا الكم الهائل من المشكلات حيث حارب في جبهتين (الساحل والداخل) وعند وفاته في (ربيع الثاني 1059هـ /23 ابريل 1649م) كانت القبائل العُمانية تحت لواء واحد، وعموماً فان فترة الإمام ناصر بن مرشد تعتبر من أغنى وأخصب الفترات في تاريخ اليعاربة، ويعد دوره في سبيل الوحدة الوطنية أساساً لكل الانتصارات اللاحقة ضد البرتغاليين. وإذا كانت عُمان منذ (1034هـ/1624م) وحتى وفاة الإمام ناصر بن مرشد (1059هـ/ 1649م) قد واجهت حروباً أهلية طاحنة إلا أنها استطاعت أن تخرج منها أكثر تماسكا وقوة وبدأت مرحلة جديدة من الوحدة في ظل حكومة مركزية وانتهى العهد الذي كانت فيه مقسمة إلى دويلات صغيرة تحت رئاسة ملوك ضعاف ارتضوا أن يحكموا دويلات هزيلة، بدلا من أن تقوى بلادهم وتتحد.وإذا كان الإمام ناصر بن مرشد قد أنجز تحقيق الوحدة الوطنية، إلا أن الوجود البرتغالي على السواحل العُمانية كان في حاجة إلى إمكانيات جديدة تفوق الإمكانيات التقليدية التي استخدمها اليعاربة في سبيل القضاء على الحروب الأهلية والانصياع لسلطة الدولة الموحدة، لقد وقعت كل المعارك التي خاضها الإمام ناصر بن مرشد من أجل الوحدة على اليابسة، أما البرتغاليون فقد كانوا أهل بحار، وطريقتهم في الحرب اعتمدت على السفن التي شهدت طفرة كبيرة منذ الكشوف الجغرافية، ولذا فان سياستهم الاستعمارية اعتمدت على احتلالهم لكثير من المدن والقلاع والحصون التي تقع في طريق البحار والمحيطات دون اللجوء إلى التعمق في اليابسة والذي لا يتناسب وإمكاناتهم البشرية.أدرك اليعاربة مقدرة عدوهم القادم من أقصى الطرف الأوربي كدولة بحرية خاضت معارك طاحنة في سبيل الحفاظ على مكانتها، ولذا فقد كانت العناية بالأسطول وتنمية الموارد الاقتصادية من الركائز الأساسية التي اعتمد عليها اليعاربة، ولذلك فقد طوروا أسطولهم التجاري والعسكري مستفيدين من خبرة الدول الأكثر تقدماً في هذا المجال وخصوصاً شركة الهند الشرقية البريطانية، حيث أقاموا معها علاقات طيبة مستفيدين من تنافسها مع السياسة البرتغالية في تلك الفترة قبل أن تنشأ سياسة الوفاق الجديدة.وبمجرد أن انشأ الإمام ناصر بن مرشد أسطوله وانتهى من القضاء على جميع القوى المحلية المناوئة ألقى بكل ثقله في محاربة البرتغاليين حيث انتزع منهم صور وقريات، على يد ابن عمه سلطان ابن سيف اليعربي.ويبدو أن انتزاع صور وقريات لم تكن مهمة سهلة، فقد كان التباين واضحاً بين حجم وكفاءة القوتين المتنافستين، إضافة إلى أن الوحدة الوطنية لم تكن قد تحققت بما يتناسب وأعباء المواجهة التي كانت تقضي بقدر كبير من الانسجام والتفاهم خصوصاً وان البرتغاليين كانوا قد استردوا أنفاسهم منذ أن طردوا من هرمز 1622م بسبب انشغال القبائل بالحروب الأهلية وقبل كل ذلك قد استجدت على مسرح الأحداث سياسة وفاق جديدة بين البرتغال وشركة الهند الشرقية بدءاً من عام (1044هـ/1634م)، تحولت إلى صداقة متينة وتعاون بين الطرفين وخصوصاً بعد أن استرد البرتغاليون استقلالهم من أسبانيا عام (1050هـ/1640م). ومنذ عام (1050هـ/1640م ) بدأ ناصر بن مرشد يجني ثمار الوحدة الوطنية فبمجرد أن علمت القبائل بحصار صحار أخذت تستنفر همم شبابها الذين شاركوا في بناء القلعة، وخصوصاً من مناطق لوى وبات وكافة المناطق المتاخمة لصحار، وبينما ضرب العُمانيون حصاراً منيعاً حول صحار، كانت سرية أخرى قد وصلت إلى مسقط بأمر الإمام، وعلى الرغم من أن تلك السرية لم تحقق نتائج حاسمة، إلا أنها أربكت القوات البرتغالية، سواء في صحار أو مسقط مما مهد لسلسلة من الهجمات العُمانية الخطيرة ضد كافة المعاقل البرتغالية.ففي عام(1053هـ/1643م) استولى الإمام ناصر بن مرشد على مدينة صحار وبنى بها حصناً مقابلاً للحصن الذي يسيطر عليه البرتغاليون، كما نجح العُمانيون في الحصول على عدد من السفن المتقدمة، وكذا الذخيرة والبارود من الإنجليز مما ضاعف من حجم العمليات العسكرية ضد القواعد البرتغالية، وعموماً فلم يصل حجم المساعدات البريطانية لعُمان بما يتناسب وإمكانات البرتغال مثل ما حدث في اتفاقية ميناب عام( 1032هـ/1622م)، حيث حاربت بريطانيا بجانب الفرس لتحرير هرمز أما اليعاربة فقد حاربوا في ظروف مختلفة حيث لم يستعينوا بقوة أجنبية إضافة إلى أن البرتغال أثناء طردها من هرمز كانت في ظل التبعية الأسبانية في حين أن العُمانيين قد تضاعف جهودهم بشكل ملحوظ بعد أن استردت البرتغال استقلالها. وعند وفاة ناصر بن مرشد لم يبق تحت السيطرة البرتغالية إلا مسقط ومطرح وحصن لهم في صحار، وقد حاول الإمام ناصر أن يسترد هاتين المدينتين وبعث بمسعود بن رمضان على رأس جيش بهدف تحريرهما، وتمكن مسعود بن رمضان من الوصول إلى مطرح وضرب عليها حصاراً في وقت تفشى فيه مرض الطاعون وأصيب البرتغاليون بهلع شديد.. ولم يؤد هذا الحصار إلى تحرير مسقط ومطرح وإنما نجم عنه إبرام هدنة جاءت معظم بنودها في صالح العُمانيين. وقد تضاعفت طموحات العُمانيين وأدركوا أنهم قاب قوسين أو أدنى من تحرير بلادهم من احتلال دام أكثر من مائة وأربعين عاماً، وبوفاة الإمام ناصر بن مرشد كان العُمانيون قد وضعوا أقدامهم عند نهاية الطريق بعد رحلة طويلة من الجهاد والتضحيات وامتد جهادهم إلى جلفار (رأس الخيمة) التي كان البرتغاليون يحتلون إحدى قلاعها بينما الفرس بقيادة ناصر الدين الفارسي يحتلون القلعة الثانية. بويع الإمام سلطان بن سيف (1059هـ -1649م) بعد وفاة الإمام ناصر بن مرشد ومن البداية أخذ الإمام الجديد يعد العدة للقضاء على البرتغاليين وأدرك أهمية الوقت كعامل هام في الإجهاز عليهم وخصوصاً بعد أن نما إلى علمه إن عدد جنودهم قد نقص نقصاً كبيراً بسبب حملات برتغالية كانت قد أرسلت إلى الهند اعتقاداً بأن موت الإمام ناصر بن مرشد يعد سبباً كافياً لإرجاء أي نوايا عدوانية نحو مسقط ومطرح، إلا أن سلطان بن سيف لم يمكث إلا أياماً قليلة وأسرع متخذاً من طوى الرولة قاعدة للهجوم الشامل عليهم، بينما تحصن البرتغاليون بقلاع وأسوار عالية، حيث رابط جنودهم بعد أن ثبتوا مدافعهم الثقيلة في كل اتجاه، وزيادة في الحيطة فقد حفروا خندقاً عميقاً حول الأسوار، كما بنوا على رؤوس الجبال المحيطة بمسقط ومطرح مجموعة أبراج ثبتوا في داخلها جنوداً أشداء أخذوا يمطرون القوات العُمانية بوابل من نيران مدافعهم.وكانت الحرب سجالاً بين الفريقين، فلم تكن للبرتغاليين قدرة على مواجهة العُمانيين ولم يكن للعُمانيين قدرة دخول مسقط ومطرح، وأعتمد الجيشان على القنص كلما أتيحت الفرصة لذلك. وهكذا طالت الحرب حتى كاد سلطان بن سيف أن يتراجع عن حصاره، وخصوصاً بعد أن نما إلى علمه أن بعض القبائل بدأت تفكر في التراجع عن مساندته. ولكن حدث شيء لم يكن في الحسبان إذ أن الإمام سلطان بن سيف قد تلقى معلومات على غاية من الأهمية من العرب القاطنين حول مسقط، مكنته من دخول المدينة ولا يستبعد أن تكون هذه المعلومات كانت تعبر عن حقيقة الأوضاع داخل المدينة خصوصاً عند (نهاية ذي الحجة 1059هـ/ ديسمبر1649م) وهو موعد رأس السنة الميلادية، حيث لم تكن هناك ثمة مراقبة دقيقة مما سهل على العرب مهمة التسلل إلى داخل مسقط، وأطلعوا على أحوال البرتغاليين ونقلوا إلى الإمام ما رأوه، ولم تلبث قوات الإمام أن حاصرت البرتغاليين في قلعة الجلالي، وبعد أن نفذت مؤونتهم اضطروا إلى التسليم وتركوا القلعة، وهذا ما حدث في مطرح أيضاً ولم يبق للبرتغاليين غير سفينتين كانت تحاصران مسقط إلا أن العُمانيين تمكنوا من أسرهما، وعندما وصلت هذه الأخبار إلى السلطات البرتغالية في الهند أسرعت بإرسال أسطول برتغالي كبير ولكنه وصل متأخراً، فقد كانت القلاع وكل الحصون البرتغالية قد تهاوت وسقطت في يد العُمانيين، وأصيب البرتغاليون بخسائر جسيمة، حيث قتل معظم جنودهم، وكل المحاولات التي قاموا بها في الهند لإمداد مسقط باءت بالفشل وبنهاية (1063هـ/1652م) لم يبق البرتغاليون في الخليج، إلا وكالتهم في كنج على الساحل الشرقي من الخليج.ومع ذلك فلم يفقد البرتغاليين الأمل في استعادة ساحل عُمان، حيث راحوا يدعمون مركزهم في كنج بل واخذوا يتفاوضون مع الفرس على السماح لهم بإنشاء وكالة تجارية في جزيرة هانجام، إلا أن الشروط الفارسية كان مبالغاً فيها، ولذا فقد رفض البرتغاليون العرض الفارسي، ويؤكد لوريمر أن سبب رفض البرتغاليين للعرض الفارسي هو تطلعهم إلى الساحل العربي، حيث كانت تبذل محاولات في هذا الصدد.لم يكتف العُمانيون بطرد البرتغاليين من سواحل عُمان بل شنوا عليهم حرباً تمثلت في سلسلة من الغارات ضدهم في المحيط الهندي براً وبحراً، وتعرضت المواقع البرتغالية في الهند إلى تلك الهجمات:- بومباي في(1072هـ/1661م) وديو في(رجب1079هـ/نوفمبر1668م) وفي شوال ( 1086هـ/الموافق يناير1676م)، وكذلك في(سنة1081هـ/الموافق1670م)، وباسين Bassein في(1085هـ/الموافق1674م) وامتدت المعارك لتشمل غرب المحيط الهندي حيث خاض الطرفان صراعاً طويلاً للسيطرة على شرقي أفريقيا، فقد اتصل سكان زنجبار الذين ربطتهم عوامل دينية وقومية مع العُمانيين بالإمام سلطان بن سيف من اجل تحريرهم من الاستعباد البرتغالي وبالرغم من الانتصارات التي حققها الإمام سلطان بن سيف في مياه زنجبار، إلا أن الجلاء البرتغالي لم يتم إلا في عهد الإمام سيف بن سلطان الذي وضع حجر الأساس لبحرية عُمان الشهيرة التي سيطرت على جميع الساحل الإفريقي الشرقي من (ممباسة) إلى (كلوه) إذ سيطر العُمانيون على ممباسة (1110هـ/1698م) وسيطروا على بيما وزنجبار وبته Patta وكلوه، وكانت (موزمبيق) هي الوحيدة التي قاومت الأسطول العربي العُماني وبقيت بأيدي البرتغاليين إلى القرن العشرين، وقد حاول البرتغاليين استعادة مراكزهم البحرية الضائعة وقاموا بهجوم موحد على زنجبار ومسقط في آن واحد عام (1142هـ/1729م) ولكنهم أصيبوا بهزيمة منكرة، وبذلك انهارت آمال البرتغال في استعادة سيادتها على الخليج والمحيط الهندي، وامتد نفوذ عُمان من جنوب الجزيرة العربية وسواحل شرقي أفريقيا في الغرب إلى سواحل وادي السند في الشرق.وفي هذه الفترة أصبحت مسقط تتمتع بـ(مركز التوزيع التجاري الرئيسي) لمنطقة الخليج، فأصبحت واحدة من المواني الرئيسية في المحيط الهندي وسواحل الخليج وإيران والعراق والجزيرة العربية، وفي حدوده الغربية امتد هذا النفوذ إلى البحيرات الأفريقية المركزية، وفي الشرق لامس دلتا الكنج. وهكذا ظهرت قوة عُمان بعد القضاء على الهيمنة البرتغالية بشكل بات يخشاه الجميع، فقد أصبحت السفن العُمانية هي التي تبحث عن سفن الأعداء في مياه الخليج والمحيط الهندي، واضطرت السفن الهولندية والإنجليزية إلى تعزيز دفاعاتها تخوفاً من عرب عُمان، وقد عبر المقيم البريطاني في بندر عباس عن مخاوفه من تنامي قوة عُمان بقوله سنة (1106هـ/1694م)"إنهم سيثبتون أنهم كارثة كبرى في الهند كالجزائريين في أوروبا". وقد أشارت السلطات الصفوية أيضاً إلى تفوق العُمانيين في هذه الفترة من خلال مذكرة رفعتها إلى الحكومة الفرنسية جاء فيها: (أن تمتعهم بموقع جغرافي مهم يتيح لهم الفرصة للسيطرة على الخليج وهذا يفسر قوة العُمانيين الذين تمكنوا بما يناهز الثلاثين قارباً من الاستيلاء على الغنائم).ذلك أن الانتصارات التي حققها اليعاربة أثارت فارس التي كانت تتطلع إلى وراثة النفوذ البرتغالي، ولذا فقد تعددت المواجهات العُمانية الفارسية والتي جاءت في صالح اليعاربة، بدرجة أن التجارة الفارسية أصيبت بضرر بالغ مما دفع بالفرس إلى الاستعانة بالقوى الأوروبية بهدف القضاء على منافسة عُمان لها في هذا الميدان واتصلوا بالإنجليز لتحقيق هذا الهدف.وإذا كان الإنجليز لم يتحمسوا للعرض الفارسي خوفاً على مصالحهم الاقتصادية من الأسطول العُماني، فقد توجهت فارس إلى فرنسا على عهد لويس الرابع عشر وتمخضت الاتصالات عن توقيع معاهدة بينهما في عام (1119هـ/1707م) وكان من بين النصوص السرية التي احتوتها تلك المعاهدة أن يقوم الفرنسيون بإرسال أسطول لمساعدة فارس في غزو مسقط، إلا أن فرنسا ترددت قبل الإقدام على تلك الخطوة بنفس السبب الذي منع الإنجليز من تضامنهم مع فارس، على الرغم من الدبلوماسية النشطة التي مارسها الفرس في محاولة للضغط على لويس الرابع عشر.. وعموما فلم تسفر الاتصالات عن قيام تحالف فارسي فرنسي على الرغم من إبرام اتفاقية جديدة في عام (1127هـ/1715م)، ولعل ما حال دون أقدام فرنسا على تنفيذ بنود المعاهدة الجديدة تلك الفوضى التي اجتاحت فارس وما ترتب عليها من غزو أفغاني لها في عام (1135هـ/1722م)، كانت البرتغال قد أدركت في تلك الفترة أن زمن الضعف العربي قد ذهب وان مواجهة اليعاربة في كل مراحل الصراع قد باءت بالفشل وان استمرار الوضع يعني ضياع كل الممتلكات البرتغالية على سواحل الهند وشرق أفريقيا ولذا فقد راحوا ينسقون مع الفرس في محاولة لقيام تحالف عسكري يكون قادرا على ضرب اليعاربة.وقد أدرك سلطان بن سيف خطورة هذا التحالف الجديد، ولذا فقد عجل بضرب البرتغاليين وتصفية نفوذهم، وقسم أسطوله إلى قسمين أحدهما توجه إلى شرق أفريقيا حيث نجح في انتزاع ممباسا (1110هـ/1698م) تمهيداً لانتزاع الجزيرة الخضراء وكلوه. أما القسم الآخر من الأسطول فقد توجه إلى الهند، حيث نجح في تدمير الوكالة البرتغالية في مانجالور على الساحل الهندي. وهكذا استطاع اليعاربة كسر شوكة البرتغاليين وإنهاء سيادتهم الاحتكارية والقضاء على مراكزهم الاستراتيجية سواء على الشاطئ الأفريقي أو على سواحل الهند، ويقرر المؤرخ الإنجليزي كوبلاند Coupland إن البحرية العُمانية مع مطلع القرن السابع عشر وصلت إلى درجة من القوة يحسب حسابها من مثل الأساطيل الإنجليزية والهولندية. وبكل المقاييس فقد نجح العُمانيون وحتى نهاية عهد سلطان بن سيف الثاني عام (1130هـ/1718م) في إيجاد قدر كبير من التوازن الدولي انعكست نتائجه على كل المستويات، وترك انطباعاً هائلاً لدي الأوربيين عن هيبة الدولة، حيث عملت العديد من القوى الأوربية على كسب ودها، ولعل الازدهار الاقتصادي الذي وصلت إليه دولة اليعاربة ومكانة أسطولها البحري كان نتاجاً طبيعياً لقوة الدولة وحجم ثقلها البحري في كافة البحار الشرقية، في ظل جو مناسب من الألفة لدى عناصر السكان في عُمان، وبات الناس في أمن على حياتهم وأرزاقهم.وإذا كان اليعاربة قد نجحوا كل النجاح في تحقيق هذا الازدهار الذي يترتب على انهيار النفوذ البرتغالي وكسر احتكاره لتجارة المنطقة، فأن من المفيد في هذا المجال أن نعرض للأسباب التي أدت إلى انهيار هذا النفوذ ومكن اليعاربة من هذا النجاح، والحقيقة فإن الأسباب التي عجلت بانهيار النفوذ البرتغالي في عُمان والخليج عديدة منها:-
أولاً: طبيعة الاستعمار البرتغالي للمنطقة التي كانت ترتكز على سلسلة من القواعد العسكرية الواقعة على الطريق البحري بين الهند والبرتغال، فلم يتوغل البرتغاليون في عمق البلاد التي استعمروها، وما كانوا يستطيعون ذلك لقلة عدد سكان البرتغال, ولاتساع إمبراطوريتهم وكان الإبقاء على تلك القواعد في أيديهم مرهون بقوة البحرية البرتغالية فلما ضعفت ضاع كل شيء.
ثانياً: كانت حركة المد البرتغالي تمثل الموجة الاستعمارية الأولى المتعطشة للغزو ونهب ثروات الشعوب وكان الميدان خالياً أمامها، فلما دخلته قوى أوروبية أخرى أكثر منها قوة مثل هولندا وبريطانيا وفرنسا، ولا تقل عنها تطلعاً في أن يكون لها نصيب في الغنيمة يتفق مع ثقلها السياسي والعسكري، لم تقو البرتغال على الصمود أمام هذه القوى الطامعة.
ثالثا: حسن اختيار العُمانيين للظروف الدولية المناسبة لتوجيه ضرباتهم القاضية ضد الوجود البرتغالي في عُمان فالتنافس الذي ساد العلاقات بين البرتغاليين من جهة والفرس والهولنديين والإنجليز من جهة أخرى، ورغبة الفريق الثالث في القضاء على النفوذ البرتغالي وإبعادهم عن الخليج ساعد العُمانيين إلى الحد الكبير.
رابعا: اتبع البرتغاليون سياسة الشدة والبطش في معاملاتهم للشعوب التي حكموها وقيامهم باستنزاف ثرواتها ومواردها مما زاد في كراهية الشعوب لهم وجعلها تتحين الفرص المناسبة للخلاص من نيرهم.
خامسا: ازدياد قوة العُمانيين وثقتهم بأنفسهم وتفوقهم في الملاحة البحرية إذ أدرك العُمانيون حقيقة الصراع بينهم وبين البرتغاليين انه صراع بحري أولاً وقبل كل شيء.. ولذا فقد اعدوا أسطولاً بحرياً مدرباً ومنظماً أمكنهم أن يتغلبوا على أهم نقاط القوة لدي البرتغاليين وكان من أهم العوامل التي أدت إلى القضاء على النفوذ البرتغالي في عُمان والمحيط الهندي.
سادساً: الوحدة الوطنية باعتبارها الدرس الأول الذي التزم به ناصر بن مرشد وبغير الوحدة لن تتحقق المصالح العليا للبلاد، وفي سبيل الالتزام بهذا المبدأ خاض الإمام حروباً ضارية ضد أنصار التجزئة كما سبق القول.
سابعاً: عناية اليعاربة باستثمار كل مقومات النجاح، وكانت الزراعة في مقدمة اهتماماتهم حيث شقت الافلاج وتم جلب كثير من المحاصيل الزراعية من شرق أفريقيا ونجاح تجربة زراعتها بشكل ملحوظ مما أوجد رواجاً اقتصادياً.
ثامناً: عناية اليعاربة بتوفير كل مقومات النجاح لحركة التجارة بعد أن تم القضاء على سياسة الاحتكار التي ابتدعها البرتغاليون وباتت التجارة العُمانية جزءً من حركة التجارة الدولية وهو ما عاد على عُمان بفوائد اقتصادية مهمة.
أسباب كثيرة كما نرى أدت وساعدت على القضاء على النفوذ البرتغالي سواء في عُمان أو في الساحل الشرقي لأفريقيا، بل وفي المحيط الهندي كله وكما رأينا فقد كان للعُمانيين في عهد اليعاربة الدور الهام في القضاء على الوجود البرتغالي الذي استمر قرابة قرن ونصف من الزمان. وكما كان هنالك أسباب أدت إلى القضاء على النفوذ البرتغالي، فهنالك أيضاً نتائج على درجه كبيرة من الأهمية ترتبت على ذلك وعلى خروجهم من عُمان بالذات وأثرت تأثيراً عميقاً على المنطقة كلها، ويمكن إجمال هذه النتائج فيما يلي:-
أولاً: إن نجاح العُمانيين في إجلاء البرتغاليين من أرضهم قد رفع روحهم المعنوية وأشعرهم بقوتهم وبمدى ما يمكن أن يقوموا به وهيأت لهم هذه الفرصة أن يلعبوا دوراً بارزاً في النشاط البحري في المنطقة ولا سيما منذ منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ثانياً: افلح العُمانيون في القضاء على سياسة الاحتكار التي انتهجها البرتغاليون وحققوا مبدأ حرية التجارة لجميع الأجناس، فعاد الانتعاش الاقتصادي إليهم وساعدهم هذا على أن يصبحوا قوة مؤثرة في منطقتهم بل وفي شرق أفريقيا كذلك.
ثالثاً: تطلع الفرس في أن يحلوا محل البرتغاليين وان تكون لهم الزعامة الإقليمية عن طريق إقامة نسيج متداخل من تضارب المصالح مع الفرس والبريطانيين تارةً وتوافقها تارةً أخرى.
وهكذا نرى أن هنالك نتائج عديدة وهامة نتجت عن طرد البرتغاليين من الخليج، وكانت الوحدة الوطنية التي حققها اليعاربة الأوائل هي محور الزوايا في هذا النجاح العظيم، وأيضاً تحقيق كثير من الإنجازات الداخلية التي تمت في عهد اليعاربة الأوائل، وفي عهد من خلفهم من الأئمة وأولهم بلعرب بن سلطان بن سيف الذي بويع بالإمامة بالإجماع (يوم الجمعة 16 من ذي القعدة 1091هـ / منتصف ديسمبر1680م) وقد سار سيرة حسنة، وكان جواداً كريماً وعمر بلدة جبرين وعمق فلجها واستصلح أراضيها. وقام ببناء حصن جبرين الشهير واعتنى به اعتناء كبيراً من حيث هندسة بنائه وزخرفته وتحصيناته وتقسيماته واتخذه مقاما له ومركزا لدولته، كما انشأ فيه مدرسة ارتادها الطلاب لتحصيل العلم والمعرفة.
وهكذا كانت السنوات الأولى من فترة حكم الإمام بلعرب استمراراً لفترة الازدهار والاستقرار والرخاء التي أنعمت بها عُمان في عهد دولة أبيه الإمام سلطان بن سيف، ولذلك حافظ الإمام بلعرب على الدولة التي وليها بعد أبيه، واستمر في سياسة الإعمار والبناء، ألا انه في السنوات الأخيرة من فترة حكمه خرج عليه أخوه سيف بن سلطان مطالباً إياه باعتزال الحكم، ومن ثم بدأت عوامل الهرم تسري في هذه الدولة منذ تلك الفترة، وبدأت تسير في غير المسار الذي كانت عليه بالنسبة لعملية اختيار القادة وتوليتهم في عهد اليعاربة، وابتلي أهل عُمان بخروج سيف على أخيه الإمام المنتخب، الذي خرج من نزوى متجهاً ناحية الشمال، ثم عاد إلى نزوى ولكن أهلها في تلك الفترة كانوا قد انحازوا إلى جانب أخيه سيف بن سلطان وأحالوا بينه وبين دخول المدينة، وتوجه إلى جبرين حيث حاصره أخوه سيف في هذا الحصن ولما طال أمد الحصار ورأى أكابر عُمان عجز الإمام عن التصدي لأخيه استسلموا للأمر الواقع فعقدوا الإمامة لأخيه سيف بن سلطان بن سيف بن مالك، وقد بويع بالإمامة بعد وفاة أخيه الإمام بلعرب وقد واصل الإمام سيرة سابقيه كما تابع سياسة مقاومة البرتغاليين بشرق أفريقيا والهند. لقد عمل الإمام سيف على إعمار عُمان حيث قام بحفر أفلاج جديدة تزيد على خمسة عشر فلجاً كفلج البركة وفلج البزيلي في الظاهرة وفلج الحزم وأفلاج جعلان بني بو حسن، على أن بعض هذه الافلاج كانت صغيرة وغير عميقة فعمل على تعميقها وتوسع في زراعة المحاصيل كالقمح والشعير والحلبة والخضروات، كما أهتم بزراعة قصب السكر وكان يشرف بنفسه على عملية الزراعة وسيرها، كما غرس عددا كبيرا من أشجار النخيل والفواكه كالانبا ( المانجو ) وبعض أشجار العطور والزهور كالورس والزعفران واستقدم من أفريقيا النحل ونتيجة لهذه السياسة اتسعت الأراضي الزراعية المملوكة لبيت المال وزادت إيرادات الدولة زيادة كبيرة وتوفي الإمام سيف بن سلطان في (شهر رمضان سنه 1123هـ/1711م) بعد أن وصلت عُمان في عهده درجة كبيرة من الاستقرار والامتداد إلى مناطق خارج شبة الجزيرة العربية حيث كان يمتلك قوة عسكرية ضاهت القوى الأوربية المعاصرة لها. ومن أهم الأعمال التي قام بها الإمام سلطان بن سيف الثاني تحرير البحرين من الفرس الذين كانوا قد احتلوها، وقد مهد الإمام لتحقيق هذا الإنجاز بتقوية قبضته على بعض الجزر التي تقع في مدخل الخليج مثل جزيرة لاركا والقسم وهرمز، وكذلك على بعض المدن الفارسية الهامة مثل لنجه وبندر عباس ثم جهز جيشاً بقيادة الشيخ حمير بن سيف بن ماجد وزحف هذا الجيش على البحرين ودارت معركة كبيرة بين الفريقين كان النصر فيها للجيش العُماني مما أدى إلى خروج الفرس من البحرين وتقلص نفوذهم في الخليج، ومن أشهر الأعمال التي قام بها الإمام لتدعيم نفوذه في البحرين بناء قلعتها المشهورة والتي تسمى قلعة عراد، وقبل وفاته كان التواجد العُماني قد امتد إلى الخليج كله والساحل الهندي وشرق أفريقيا كما كانت بعض بلاد العرب على البحر الأحمر تحت نفوذه. وقد انتهت حياته بالوفاة في حصن الحزم يوم الأربعاء الخامس من جمادى الآخرة سنة (1131هـ/مايو 1718م) وبذلك دامت إمامته سبع سنوات وبضعة شهور. وبوفاته بدأ تصدع الوحدة الوطنية ونهاية دولة اليعاربة، تخللها عودة الفرس إلى عُمان بناءاً على طلب سيف بن سلطان اليعربي الذي استنجد بالفرس ليعود إمام عام (1145هـ-1732م)، وبهذا تكون بداية النهاية لعهد اليعاربة. ويعتبر نادر شاه أول من أسس من الحكام الفرس قوة بحرية في مياه الخليج واسند قيادتها إلى لطيف خان وكان هذا القائد يتطلع في توسعاته إلى الساحل العربي من الخليج، واتخذ من طلب سيف بن سلطان باباً ينفذ منه إلى احتلال عُمان وإخضاعها إلى الحكومة الفارسية، وقد رحب نادر شاه بهذه الفكرة وأمر بتشكيل قوة بحرية وبرية للتوجه إلى عُمان وبذل كل ما في وسعه لإنجاح هذه المهمة حيث أشرف بنفسه على إعدادها وتجهيزها، كما أمر بتشكيل هيئة لدراسة المنطقة تكون عوناً للقوات الفارسية ولتمدها بالمعلومات اللازمة، وكان نادر شاه يهدف من ذلك إلى ضم عُمان والبحرين إلى فارس إضافة إلى طموحاته في السيطرة التامة على مياه الخليج. وفي (منتصف ربيع الأول 1150هـ/14مارس 1737م) أبحرت القوات الفارسية المؤلفة من أربع سفن كبيرة وسفينتين متوسطتين وعدد كبير من السفن والزوارق الصغيرة بقيادة لطيف خان، واكتشف سيف فيما بعد أن هذه القوات لم تأت لمساعدته وإنما جاءت لإخضاع عُمان للسيطرة الفارسية، وفي هذه الأثناء قام بعض رؤساء القبائل بالصلح بينه وبين بلعرب بن حمير على أن يتنازل بلعرب عن الإمامة لسيف حقنا للدماء وإنقاذاً لعُمان من الغزو الفارسي. وصار سيف بن سلطان إماماً للمرة الثانية واختار الشيخ احمد بن سعيد البوسعيدي (مؤسس الدولة البوسعيدية) والياً على صحار، غير أن سيف لم يلبث أن أساء السيرة وأحدث أحداثاً مخالفة للشريعة الإسلامية، فعزله المسلمون ونصبوا سلطان بن مرشد اليعربي إماماً سنة (1154هـ/1741م) الأمر الذي أغاظ سيفاً فجعله يستنجد بالفرس للمرة الثانية، وقد بعث نادر شاه إمدادات أخرى لقواته بقيادة محمد تقي خان وقد وعد سيف بن سلطان الحكومة الفارسية بأنه سوف يقدم ولاء الطاعة ويعترف بالسيادة الفارسية على عُمان ويدفع الضرائب والإتاوات لها إذا تمكنت من إعادة حقوقه. وعلى الرغم من التجارب السابقة لسيف بن سلطان مع القوات الفارسية التي جاءت إلى عُمان بزعم نصرته ولكنها ما جاءت إلا لتحقيق أهداف توسعية. وبهذا فانه فقد ثقة العُمانيين ومنهم بعض أعوانه المقربين.. أما الإمام سلطان بن مرشد فقد سار إلى صحار ليتعاون مع واليها أحمد بن سعيد البوسعيدي لمواجهة قوات نادر شاه.وان دلت هذه الأحداث التي جرت في عُمان من الخلافات الأسرية والعصبية القبلية والتدخل الفارسي على شيء فإنما تدل على أن أسرة اليعاربة التي استطاعت أن تجعل عُمان تتمتع بالازدهار والنمو الاقتصادي طيلة قرن من الزمان، قد وصلت إلى نهايتها بسبب مغامرات القادة الأواخر وسوء تصرفاتهم.هذا وقد توفي الإمام سلطان بن مرشد في حصن صحار حيث يوجد أحمد بن سعيد نتيجة إصابته في مواجهة مع الفرس، أما سيف بن سلطان المخلوع فقد توفي بعد ذلك بقليل بعد أن لام نفسه على فعلته الشنعاء وظهر له أن الفرس لم يأتوا لمساعدته وإنما للاستيلاء على عُمان وأصابه من ذلك هم وحزن ولكن بعد فوات الأوان، وكان على أحمد بن سعيد أن يظل في الساحة في مواجهة الفرس الذين كانوا محاصرين صحار ومسقط.وقد استمر حصار القوات الفارسية لمدينة صحار تسعه أشهر واستطاع واليها احمد بن سعيد أن يقاوم الغزاة على الرغم من أن إمداداته قد أوشكت على النفاذ وظلت القوات الفارسية تقذف المدينة ليلاً ونهاراً بالمدافع الثقيلة، فاضطر أحمد بن سعيد إلى طلب الهدنة وعقدت اتفاقية بين الجانبين الفارسي والعُماني في جمادى الأولى (1155هـ/ يوليو1742م) بعد أن فقد الأمل في وصول إمدادات من قبل القبائل العُمانية. ولم تكن هذه الاتفاقية استسلاماً كما ذكرت بعض المصادر المحلية وغيرها، وإنما كانت انتصار للعُمانيين وكان الوالي أحمد بن سعيد يهدف من وراء هذه الاتفاقية إلى عدة أمور منها:-
(1) وقف إراقة دماء المسلمين بعد أن نفذت جميع المؤن والعتاد والذخائر الحربية الموجودة في الحصن.
(2) إعادة بناء قواته استعداداً لمواجهة الجولة الثانية بهدف التحرير لشامل.
(3) بعد وفاة الإمام سلطان بن مرشد شغر منصب الإمامة حيث وجد الوالي احمد بن سعيد أن أسرة اليعاربة لا يمكنها الاستمرار في إدارة الدولة فخشي أن يحتدم الصراع وتشتد الفتن في عُمان نتيجة لهذا الفراغ السياسي وخاصة إذا ما استمرت المعارك مع الفرس.
(4) إعادة توحيد الأقاليم والمدن العُمانية التي أصبحت منقسمة إلى شبه دويلات وإمارات صغيرة، حتى يمكنه مواجهة الفرس على رأس جبهة قوية موحدة.
وبذلك نجح احمد بن سعيد في توطيد مركزه وضمن تأييد القبائل العُمانية، هذا إلى جانب أن الحكومة الفارسية قد اعترفت رسمياً به كحاكم لعُمان حيث أصبح الطرف الرئيسي في هذه الاتفاقية.
وهكذا تزعم أحمد بن سعيد حركة التحرير ضد الفرس، كما أحس شيوخ عُمان أن الأوضاع قد ساءت وان عُمان بحاجة إلى إمام قوي يستطيع أن يوحد البلاد ولا سيما أن المذهب الأباضي لا يجيز وجود أكثر من إمام للدولة. وقد حاول دعاة إحياء الدولة اليعربية إعادتها بعد وفاة سيف بن سلطان فاجتمع شيوخ وأعيان نزوى وعقدوا البيعة للسيد بلعرب بن حمير اليعربي في ربيع الآخر من عام (1157هـ/1744م)، وأعلنت مجموعة من المدن العُمانية ولائها للإمام الجديد مثل بهلاء ونزوي وأزكي، بينما تحفظ البعض عن الاعتراف به، ولم يمض وقت طويل على هذا الإمام حتى انصرف عنه العُمانيون. وبذلك بدأ نجم أحمد بن سعيد يعلو في عُمان وكان محل تقدير جميع القبائل العُمانية والأعيان الذين كانوا يتطلعون إلى تحرير بلادهم من الغزاة وإعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع عُمان.وفيما يتعلق بالعلاقات الفارسية العُمانية فبعد وفاة سيف بن سلطان فقد الفرس نصيرهم وقلت همتهم وتعاظمت المشاكل والقلاقل الداخلية في فارس، حيث أن حكومة نادر شاه كانت مضطرة لسحب قسم من جنودها الرابطين في عُمان لمواجهة تلك المشاكل، وهذا سهل على أحمد بن سعيد تحقيق طموحاته.ومما هو جدير بالذكر أن أحمد بن سعيد كان سياسياً فطناً، وعلى الرغم من أن الكثير من العُمانيين قد اندهشوا لما كان يقوم به من إكرام الفرس، ألا أنهم أدركوا في النهاية ما كان يدبر للفرس لتحرير بلاده منهم حيث تم له ذلك في عام (1157هـ/1744م)، مما أدى إلى عقد البيعة بالإمامة له في نفس العام، وفي ذلك يقول ابن زريق (إن أحمد بن سعيد لما آل إليه أمر عُمان كله، وعول أهلها عليه، أجتمع أكابر الرستاق وسائر أكابر عُمان، فاتفقوا على عقد الإمامة لأبي هلال الإمام المعظم، الفاضل الممجد، أحمد بن سعيد بن محمد السعيدي الأزدي العُماني الاستقامي الأباضي المذهب، وكان ذلك في عام (1157هـ/1744م). وبهذا تمت البيعة للإمام أحمد بن سعيد بن محمد بن سعيد البوسعيدي وقامت الدولة البوسعيدية على أنقاض الدولة اليعربية التي أسسها ناصر بن مرشد اليعربي عام (1034هـ/1624م) وفي ظروف مشابهة لقيام الدولة البوسعيدية.
” سيرة مِنْ الحُكْم البوسعيدي لِعُمان “1
تُعتبرُ السلالة البوسعيدية من أقدم السلالات الحاكمة، وبدأت على يد الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي الذي كان واليًا على صُحار. ومن أهم رموزها مؤسسها أحمد بن سعيد والإمبراطور سعيد بن سلطان والإمام عزان بن قيس وحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم والذي تولى مقاليد الحكم في سلطنة عمان منذ 1970م.
اختلفت الروايات بشأن مبايعة احمد بن سعيد بالإمامة فابن رزيق لم يحدد تاريخا للإمامة وان كان يفهم من كتاباته أن عام 1154هـ/1741م هو العام الذي بدأ فيه احمد بن سعيد صراعه مع الفرس ولذا فقد اعتبر ابن رزيق أن ذلك بداية عملية لاختياره إماما بينما مؤرخ مهم كالسالمي اعتبر العام 1158هـ/1744م هو العام الذي بويع فيه أحمد بن سعيد إماماً، وعموما فان رواية السالمي هي الأقرب إلى المنطق على اعتبار انه اعتبر العام الذي تم فيه طرد الفرس من عُمان ونجاح احمد بن سعيد في التخلص من بلعرب بن حمير وهو نفس العام الذي تمت فيه مبايعة احمد بن سعيد. لقد أدرك احمد بن سعيد منذ الوهلة الأولى أهمية عودة الوحدة الوطنية، لذا فقد بذل جهدا فائقا مما مكنه من أن يعيد لعُمان وحدتها وهيأ لها أن تلعب دورا هاما في تاريخ الخليج خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وإذا كان الإمام احمد بن سعيد قد برز في تاريخ عُمان الحديث كمؤسس لدولة البوسعيد إلا أن المعلومات الخاصة بحياته قبل سطوع نجمه تؤكد انه كان تاجراً أمينا صادقا مهابا ينحدر من أسرة عربية أصيلة يعمل معظم أفرادها بالتجارة وقد تميز بجرأة نادرة وشجاعة فائقة لفتت إليه الأنظار مما مكنة من الوصول إلى ولاية صحار كوال من قبل اليعاربة. ولاشك أن الدور الذي قام به في تثبيت دعـائم الحكم قد استغرق منه الكثير من الجهد ولعل ابرز المشاكل التي واجهته في مستهل عهده ثورات اليعاربة ضده بسبب فقدانهم الحكم ثم تمرد بعض القبائل في منطقة الظاهرة ألا أن احمد بن سعيد استخدم أسلوب القوة حينا واللين في كثير من الأحيان كما عمد إلى أسلوب المصاهرة بهدف التقرب مع القبائل المناوئة له. كما عني بتوثيق علاقات الجوار مع القبائل العربية القاطنة في جنوب فارس ومنطقة عربستان وتحالف مع قبائل بني كعب عند شط العرب ونهر القارون وتوطدت علاقاته مع قبائل بني معن القاطنة بالقرب من بندر عباس مما حال دون نجاح كريم خان الزندي في السيطرة على تلك المناطق.وامتدت علاقاته إلى الهند حيث ساعد شاه علم إمبراطور المغول في الهند وعاونه في حربه ضد القراصنة الذين كانوا يعوقون التجارة بين مانجالور في ساحل الهند الغربية وبين مسقط وتوجت هذه العلاقة بإبرام معاهدة 1766م التي نصت على استمرار علاقات الصداقة وإنشاء دار في مسقط لمبعوث الحاكم المغولي الذي أصبح يعرف ببيت نواب.ويمكن القول أن البلاد شهدت ولأول مرة بعد أكثر من عشرين عاما نوعا من السلطة المركزية بعد أن تمكن من توحيد القبائل المتناحرة وبادر باتخاذ الإجراءات الكفيلة بترسيخ قواعد الدولة وإعداد قوات مسلحة تتناسب والتحديات التي تواجهها عُمان. ثم قيامه بتحديث الأنشطة الاقتصادية وامتلك أسطولا حربيا وتجاريا وفي عهده حافظت مسقط على مكانتها كإحدى أهم المدن التجارية في المنطقة وغدا ميناؤها من أهم الموانئ التجارية التي ترتاده السفن الأوربية.
لقد واصلت عُمان في عهد الإمام أحمد بن سعيد ترسيخ مكانتها وهيبتها الأمر الذي مهد للسلطات الهولندية والإنجليزية الاعتراف بالسيادة العُمانية على كثير من شواطئ الخليج والمحيط الهندي بفضل فطنة وذكاء احمد بن سعيد الذي استمال إليه أبناء وطنه واتسم بالتسامح في تعامله مع الأجانب وامتد نفوذه إلى شرق إفريقيا، ويعترف رسيو Risso أن عُمان هي الدولة الوحيدة التي استفادت من انحدار تجارة بندر عباس وتدهور أوضاع الأوربيين في الخليج خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر.وعلى الرغم من تصارع القوى الأوربية في الخليج فان أحمد بن سعيد راح يتطلع إلى تحقيق المصالح العُمانية بما لا يتعارض مع التنافس الدولي. وعليه يمكن القول انه إذا كانت دولة اليعاربة قد وصفت بأنها (دولة بحرية حربية) فمن المناسب وصف دولة البوسعيد بأنها (دولة بحرية تجارية). وإذا كان احمد بن سعيد قد نجح في طرد الفرس من عُمان فأنه نجح أيضا في التغلب على المشاكل الناجمة عن الحرب الأهلية العُمانية وتحقق له الولاء من جانب العُمانيين الذين اجمعوا على مبايعته إماما تقديرا للدور الذي لعبه في تحرير عُمان. والثابت أن أوضاع عُمان عند ظهور أحمد بن سعيد تشبه إلى حد كبيرا أوضاعها عند قيام دولة اليعاربة فبينما تصدى ناصر بن مرشد لأنصار التجزئة في الوقت الذي كان يخوض فيه حربا ضارية على السواحل العُمانية ضد البرتغاليين كذلك فعل احمد ابن سعيد في بداية عهده ففي الوقت الذي اخذ يتصدى فيه لبعض القبائل التي رفعت راية العصيان كان يخوض حربا ضارية ضد المعتدين الفرس، وكلما تحقق الانتصار على الجبهة الداخلية كلما انعكس ذلك ايجابياً على الصراع العُماني الفارسي. وبمجرد أن فرغ أحمد بن سعيد من تحرير بلاده بادر على الفور باتخاذ العديد من الإجراءات التي من شأنها أن تكفل ترسيخ قواعد الدولة في عُمان. وتجمع المصادر العربية والأوربية على أن الثمانين عاماً الأولى من حكم البوسعيديين تتميز بالازدهار الشديد وهناك عوامل عديدة ساعدت العُمانيين على الانفراد بدور رائد تأتي في مقدمتها المهارة والخبرة الملاحية والتجارية حيث اكتسب العُمانيون رصيداً ضخماً من التجربة تعد محصلة للأحداث التاريخية والموقع الجغرافي والتراث العُماني، ثم الاستقرار الذي شهدته عُمان وتمتعت به الموانئ العُمانية في الوقت الذي سادت فيه الفوضى وعم الاضطراب أغلب موانئ الخليج، ثم تأتي شخصية أحمد بن سعيد الذي تميز بدرجة كبيرة من الانضباط والحسم والقدرة على اتخاذ القرارات المناسبة، إضافة إلى احترام القوى الأوربية له وثقتها في سياسته التي جذبت الأجانب وحفزتهم على إنشاء وكالات تجارية لهم في المدن العُمانية وخصوصاً مسقط التي أصبحت سنة 1790م من أهم المدن الآسيوية وفقا لتقرير أعدته شركة الهند الشرقية الإنجليزية. حاول نادر شاه بعد أن حرر بلاده من الأفغان، تدعيم مركز فارس في الخليج، مستفيدا دون شك من حالة التمزق التي كانت تعيشها القوة الأولى في منطقة الخليج ألا وهي عُمان.. كما أن المساعدات التي قدمتها الدول الأوروبية كانجلترا وهولندا لنادر شاه أسهمت دون شك في بناء أسطول فارسي قوي على أحدث طراز.ولقد واجه الأسطول الفارسي في عهد نادر شاه مشاكل عديدة منها اعتماده بالدرجة الأولى على المساعدات الأجنبية في بنائه، وكذلك افتقاره إلى وجود الخبرات المحلية المتمرسة في فنون الملاحة مما دفع بقيادة الفرس إلى الاستعانة بالبحارة العرب لقيادة هذا الأسطول، إلا أن كثير من المؤرخين يجمعون على أن نادر شاه استطاع مواجهة تلك الصعوبات نتيجة لإصراره على بناء أسطول حديث يخدم أهداف سياسته الخارجية، ولهذا فقد ارتبطت قوة الأسطول الفارسي بحياة نادر شاه إلى حد بعيد. وقد تزامن اغتيال نادر شاه في عام (1160هـ/1747م) ببروز شخصية الإمام احمد بن سعيد الذي تطلع منذ بداية حكمه إلى تدعيم دور عُمان في منطقة الخليج، ولذلك اصطدمت سياسة الإمام أحمد في المنطقة بسياسة كريم خان زند الذي خلف نادر شاه على عرش فارس، حيث حاول هذا الأخير بعد أن نجح في توطيد حكمة في الداخل، السير على منهج سلفه نادر شاه التوسعي في منطقة الخليج، ومن هذا المنطلق بعث كريم خان برسالة إلى الإمام احمد طالبا منه دفع الجزية السنوية، متعللا بما يدعيه بتبعية عُمان إلى فارس، ولكن الإمام أحمد بن سعيد رفض المطالب الفارسية بأسلوب رجال السياسة المتمرسين الذين يعرفون كيفية مخاطبة التطلعات الاستعمارية، فنجده يعلن بأسلوب ملؤه الإصرار والثقة بالنفس بأن بلاده ترفض المطالب الفارسية جملة وتفصيلا، وضمن ذلك في خطاب ذي لهجة قوية أرسله إلى كريم خان زند، جاء فيه بأن دولة عُمان لا تدفع الجزية لأحد، مشيراً إلى انه إذا ما أصر كريم خان على مطالبه فان عليه أن ينتزعها بالقوة.ولم يكتف الإمام احمد برفض الطلب الفارسي بخطاب شديد اللهجة، بل شرع في التخطيط لاستخدام القوة التي قد يلجأ إليها عدوه، وذلك عن طريق عقد التحالفات مع خصوم الفرس وخاصة الأتراك، وذلك بهدف ضرب قوة كريم خان الزندي، وقد لعب الإمام دورا فعالاًُ في إفشال الحصار الذي ضربة كريم خان الزندي على البصرة، وعلى ضوء ذلك قرر السلطان العثماني مصطفى الثالث صرف مكافأة سنوية للإمام أحمد، تدفع له من خزانة البصرة، تقديراً من السلطان لموقف الإمام الشجاع. فقد كان الصراع الدولي ولا يزال صراعاً من اجل الحصول على مناطق للنفوذ والامتيازات، ولذلك لا غرابة من احتدام صراع الدول الكبرى آنذاك (بريطانيا العظمى وفرنسا) حول عُمان ذات الموقع الاستراتيجي المتميز، من اجل ضمها إلى مناطق نفوذها. ولقد فطن الإمام احمد بن سعيد إلى هذه التطلعات الاستعمارية الأوربية، فرسم سياسة خارجية لعُمان مرتكزة بالدرجة الأولى على مبدأ الحياد، ولقد كتب لهذه السياسة كل النجاح عندما كانت العلاقات الفرنسية البريطانية تتميز بالاستقرار، ولكن هذا الحياد تعرض لبعض الهزات، خاصة عندما نشبت حرب السنوات السبع (1170 - 1177هـ / 1756 - 1763م) بين البلدين، ففي هذه الفترة بدأت سفن البلدين تطارد كل منهما الأخرى بالقرب من المياه العُمانية.وقد ظهرت أولى بوادر الإحراج لعُمان عام (1175 هـ/ 1761م) عندما حاول الكونت ديستان الانتقام من الإنجليز بمحاولة الإضرار بتجارتهم في الخليج، حيث تجاهل الكونت ديستان القوانين العُمانية وحاول ملاحقة إحدى السفن البريطانية في داخل المياه الإقليمية العُمانية، مما اضطر الوالي خلفان بن محمد إلى إطلاق النار على الباخرة بولوني التابعة للفرنسيين وإجبارها على الابتعاد، وذلك في محاولة منه لحماية الباخرة البريطانية.وبالرغم من تكرار حالات الإحراج من العُمانيين الذين اضطروا إلى إطلاق الرصاص على السفن الفرنسية خلال عدت مناسبات، إلا أن هذا التصرف العُماني لا يعكس بأي حال من الأحوال ترجيح عُمان للكفة البريطانية بقدر ما يعكس رغبتها في الحفاظ على حيادها وسيادتها، خصوصاً وان السفن البريطانية كانت عادة ما تكون داخل المياه الإقليمية لعُمان: صحيح أن البريطانيين كانوا قد دعموا مركزهم في منطقة الخليج عقب خروج البرتغاليين والهولنديين وكسبوا أيضاً ثقة بعض القوى المحلية لكن الإمام احمد كما يبدو، وعلى الرغم من إدراكه للموقف البريطاني الخاص في المنطقة، كان مؤمناً بأهمية الصداقة مع فرنسا، حيث وردت في إحدى رسائل الإمام إلى الفرنسيين بعد هذه الحوادث المحرجة، العبارة الودية التاليةإنني صديق الفرنسيين).والجدير بالذكر أن الإمام احمد بن سعيد كان أول من بدأ التعامل التجاري مع جزيرة موريشيوس الخاضعة لفرنسا وبعض المستعمرات الفرنسية الأخرى، حيث كانت السفن تأتي محملة بالسكر وتعود وهي محملة بالسمك المملح والبن. ونتيجة لتطور العلاقات التجارية بين عُمان والمستعمرات الفرنسية في المحيط الهندي في تلك الفترة، فقد أبدى الإمام احمد بن سعيد رغبته في أن ينشئ الفرنسيون لهم وكالة خاصة في ميناء مسقط دون مقابل، وقد أكد الإمام هذه الرغبة لأحد المسؤولين الفرنسيين قائلاً إن بلادي هي بلادكم وصداقتنا باقية كما كانت بل أنها أقوى مما كانت عليه في أي وقت مضى وعندما زار هذا المسؤول مسقط حضي باستقبال حافل فيها، مما دفعه إلى حث حكومته في التقرير الذي رفعه لتعزيز علاقاتها بمسقط. ويبدو أن حكومة فرنسا لم تكن متحمسة لإقامة وكاله تجارية في مسقط وقتئذ، لكنها وتحت إصرار القنصل الفرنسي في بغداد، وكذلك حاكم موريشيوس، قررت إنشاء قنصليتين أحداهما في البصرة والأخرى في مسقط في عام 1793 أي بعد ثلاثة أعوام من الثورة الفرنسية، وقد جاء في الكتاب الذي بعث به وزير الخارجية الفرنسي إلى قنصل فرنسا في بغداد الآتي: (إن رغبة إمام عُمان في اعتماد وكيل لديه، وملاحظتكم عن الفوائد التي ستعود على رعايا صاحب الجلالة في الملاحة والتجارة، وعن تسهيل الاتصال بالهند، كل ذلك جعلنا نقرر إقامة وكالة في مسقط ).وهكذا نرى أن سياسة الحياد التي دفع بها الإمام أحمد بن سعيد والتي سمح بموجبها لسفن الدول الكبرى بزيارة موانئ عُمان والمتاجرة معها، أسهمت في تعزيز مكانة عُمان التجارية التي انعكست دون شك على الوضع الاقتصادي للبلاد. وقد تعززت مكانتها أكثر بعد أن قدمت العون الفوري إلى البصرة لإنقاذها من السيطرة الفارسية. كان موت الإمام أحمد بن سعيد خسارة كبرى بالنسبة لعُمان وأهلها وتولى الإمامة بعده ابنه سعيد بن أحمد، ولم تبين لنا المصادر التاريخية الصفة التي تولى بها سعيد الإمامة بعد أبيه، هل كان ذلك بولاية العهد له؟ أم باتفاق من العلماء؟.ونظرا لأن الإمام سعيد كان زاهداً في الحكم والإدارة فقد تولى ابنه حمد زمام الأمور واتخذ من مسقط مقرا للحكم، بينما بقي والده سعيد في الرستاق. ومع مضي الأيام تزايدت قوة ونفوذ حمد حتى أصبحت السلطة الفعلية في يده. ومن أعماله التي ذكرتها وثائق التاريخ أنه بنى برجاً على البحر عند المدخل إلى ميناء مسقط وزوده بمدافع كبيرة رغبة منه في تحصين هذه المدينة. كما بنى قلعة بيت الفلج في روي وعزز حصن بركاء بمدافع ضخمة للدفاع عن المدينة ضد أي هجوم خارجي، كما أمر بصنع باخرة في زنجبار سميت باسم الرحماني التي اشتهر أمرها في عهد الدولة البوسعيدية نظرا لضخامتها وبديع صنعها. وبعد موته آلت إلى السيد سلطان بن أحمد بن سعيد أمور الحكم التي كان يتولاها حمد، في نفس الوقت الذي كان لا يزال فيه سعيد قائما في الرستاق، ولم تلبث أمور البلاد أن خلصت للسيد سلطان بعد موت أخيه سعيد بن أحمد، وساس الناس سياسة محمودة وسار على وتيرة أبيه الإمام أحمد بن سعيد وزاد في بذل المال فكان لا يرد سائلا، ولا يدخر عن قومه شيئا يستطيع بذله لهم، فأحبه الناس ووقروه واحترموه. واجه السيد سلطان بن الإمام أحمد بن سعيد- وهو أول من تلقب بهذا اللقب من أولاد الإمام - بعض المشاكل الداخلية والحروب القبلية ولكنه تغلب عليها بسياسته وقوة جيشه، وما لبث أن توجه إلى البناء الداخلي، فقام بتحصين مدينة مسقط وذلك ببناء قلعة ضخمة على أرض الرابية لتكون حصنا لهذه المدينة، كما بنى البرج المقابل لها، والبرج الشرقي الجنوبي، وذلك في ثلاثة أشهر، وبذلك تم تحصين مدينة مسقط تحصينا كاملا. ثم التفت إلى داخل هذه المدينة فبنى فيها قصرا ضخما وهو بيت العلم الذي بني على أرضه قصر العلم الحالي وجعله مقره الخاص، وبنى حصن الفليج في الواحة المعروفة بهذا الاسم وهي واحة الفليج والتي تقع على الطريق بين بركاء ومسقط، وجعل هذا الحصن مقرا للعائلة بعيدا عن العواصف والحروب والتقلبات السياسية ولذلك أسكنه بعض أهله وكان كثيرا ما يتردد عليه ويقيم فيه بعيدا عن السياسة ومشاكل الحكم. اتجهت أنظار السيد سلطان بن أحمد بعد ذلك إلى خارج عُمان حيث راح يسترد أملاكها التي ضاعت في غفلة من الزمن، ولذلك نراه يشن حملات يستعيد بها جزائـر قسم ( القشم ) وهرمز والبحرين. ويبدو أن السيد سلطان فعل ذلك اتقاء لأخطار عدة منها الخطر الفارسي والخطر الأوربي وكذلك الوهابي الذي اطل على عُمان في تلك الفترة، وفي ذلك يذكر الشيخ سالم بن حمود السيابي أن الوهابيين غزوا عُمان في تلك الأيام، وتحالفوا مع أهل البحرين ولذلك كان من الضروري أن يفرض السيد سلطان نفوذه على هذه الجزر، ففتحها وولى عليها الولاة، ولم يلبث أن بسط نفوذه على الموانئ الهامة في ساحل مكران واستولى على مينائي شهبار وجواذر مما أدى إلى توثيق الصلات بين عُمان وبلوخستان، وازدياد هجرة البلوش إلى عُمان بأعداد كبيرة. وقد أمن السيد سلطان بلاده باستيلائه أيضا على ميناء بندر عباس وذلك بفضل البحرية العُمانية القوية . فقد ذكرت المراجع أن أسطول عُمان في عهده زاد عدد سفنه عن 500 سفينة كانت حمولتها تتراوح بين 250و1000 طن عدا 100 سفينة أخرى يمتلكها أهل صور، ويبدو أن هذه السفن كانت سفنا تعمل في التجارة والقتال أيضا إذا لزم الأمر، ذلك أن المراجع أشارت إلى أن السفن الكبيرة المخصصة للقتال وحده لم تزد على ثلاث. ونظراً لقوة الأسطول العُماني وقوة الجيش الذي كان لا يقل عدد جنده عن 12 ألف مقاتل تمكن السيد سلطان بن أحمد من رد عادية الوهابيين، واسترد نفوذه في البحرين بعد أن كان أشياخها قد دبروا حيلة أخرجوا بها الوالي العُماني واستعانوا بالوهابيين وحالفوهم ودخلوا تحت طاعتهم. وإزاء الصراع الدولي الذي كان قائما في تلك الفترة بين الفرنسيين والإنجليز في مياه المحيط الهندي والخليج، رأى السيد سلطان أن يستفيد من هذا الصراع لمصلحة بلاده خاصة وأن كلا الطرفين حاول أن يوطد علاقته بعُمان ضد الطرف الأخر، وقد انتهى هذا الأمر إلى إبرام اتفاقية بين السيد سلطان وبين الإنجليز في (جمادى الأولى1213هـ/أكتوبر1798م) متخلياً عن صداقته للفرنسيين لأسباب عده، منها اعتماد عُمان على الهند التي تسيطر عليها بريطانيا في ذلك الحين في مؤونتها من الأرز - وهو الغذاء لمعظم سكان شبه جزيرة العرب - وتكرار اعتداءات القراصنة الفرنسيين على السفن العُمانية، وأخيرا قلق أمراء وحكام شبه جزيرة العرب ومنهم حكام عُمان بطبيعة الحال من ازدياد النفوذ الفرنسي بعد احتلال الفرنسيين لمصر في 1213هـ/1798م. ورغم ذلك فان هذه المعاهدة لم توضع موضع التنفيذ الكامل في كثير من شروطها لان السيد سلطان بن احمد لم يقطع في الواقع علاقته التجارية بالفرنسيين في جزيرة موريشيوس ولم يكن في وسعه أن يمنع أصحاب السفن العُمانيين من ذلك، كما أن قطع هذه العلاقات التجارية كان ضارا بمصالح رعاياه، والنتيجة الهامة التي ترتبت على هذه الاتفاقية هي قبول ممثل سياسي بريطاني في عاصمة عُمان للمرة الأولى وذلك في عام 1215هـ/ 1800م. وهكذا وازن السيد سلطان بن أحمد في سياسته الخارجية بين التطلعات البريطانية والفرنسية في منطقة الخليج، كما دعم نفوذه في هذه المنطقة حرصاً منه على أمن وسلامة الخليج، باعتباره بلده عُمان دولة بحرية تجارية. وفي نهاية هذا الجهاد الدائم وقع السيد سلطان بن احمد قتيلا في (14 شعبان 1219هـ/30 نوفمبر 1804م) على يد بعض القراصنة أثناء رحلة بحرية كان يقوم بها بين البصرة وعُمان. وخلفه في حكم عُمان ابنه الشهير الإمبراطور السيد سعيد بن سلطان.
” سيرة مِنْ الحُكْم البوسعيدي لِعُمان “2
يعتبر عصر السيد سعيد بن سلطان وهو - حفيد مؤسس أسرة البوسعيد الحاكمة في عُمان - من أزهى العصور التي مرت بعُمان خلال القرن التاسع عشر إن لم يكن أكثرها ازدهارا رغم الصعوبات الكثيرة التي واجهته في بناء الدولة، ويرى المؤرخون أن السيد سعيد بن سلطان هو بلا شك من ابرز الشخصيات في أسرة البوسعيد التي لعبت دورا في تاريخ عُمان والخليج وشرق إفريقيا، لا بل من الشخصيات الهامة جداً في تاريخ العرب الحديث والمعاصر للاعتبارات التالية:-
1- اتساع نفوذ الدولة العُمانية بشكل لم تشهده من قبل بحيث أصبحت كافة المناطق الواقعة بين بندر عباس على الساحل الشرقي للخليج العربي إلى ميناء زنجبار على الساحل الشرقي لأفريقيا منطقة نفوذ عُمان، هذا بالإضافة إلى أن العديد من الجزر الواقعة في مدخل الخليج والمحاذية للساحل الشرقي للخليج وكذلك إلى جزر بحر العرب والمحيط الهندي بما فيها أرخبيل جزر القمر كانت تحت النفوذ العُماني. .
2- المركز المرموق الذي احتله السلطان السيد سعيد بن سلطان في المجال الدولي والاحترام الذي كان يتميز به بين حكام أوروبا وآسيا وأفريقيا والولايات المتحدة في ذلك العصر، هذا بالإضافة إلى شعبيته الواسعة بين أفراد وطنه.
3- استقرار الحكم العُماني رغم المطامع والمؤامرات الأجنبية، ففي الوقت الذي كانت الصراعات العربية - العربية مستمرة على سواحل الخليج، وفي الوقت الذي شهدت فيه الجزيرة العربية حروبا دائمة بين محمد علي باشا والحركة السلفية، وما كان يتعرض له السيد سعيد بن سلطان من تصادم المطامع البريطانية والفرنسية الفارسية، فان السيد سعيد عمل على المحافظة على استقلال بلاده بتوازن دقيق مستخدماً الدبلوماسية أكثر من القوة العسكرية من اجل الوصول إلى أهدافه. فقد اقتضت الظروف التوقيع على اتفاقيات تجارية مع فرنسا والولايات المتحدة وهولندا والبرتغال. وكانت سياسات السيد سعيد المستندة على البراعة الدبلوماسية والمبادئ الواقعية قد جعلت عُمان من اكبر الدول العربية وأكثرها نفوذا على الإطلاق طيلة فترة حكمه. .
4- قوة الاقتصاد العُماني المستندة إلى التقدم وتطور التجارة العُمانية التي كانت تعتمد هي الأخرى على أسطول تجاري ضخم تسانده قوة بحرية متميزة، فبالإضافة إلى التجارة العُمانية الواسعة مع الصين وجنوب شرق آسيا والهند وسيلان وإيران، فان السيد سعيد بن سلطان قد طور وبشكل واسع اقتصاديات شرق أفريقيا لدرجة انه في النصف الثاني من فترة حكمه كان الكثير من واردات عُمان يأتي من أفريقيا. ونتيجة لجهود السيد سعيد بن سلطان في الاهتمام بالبحرية العُمانية. أصبح الأسطول العُماني الحربي والتجاري في الخليج والمحيط الهندي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر ثاني اكبر أسطول على الإطلاق ويأتي في المرتبة الثانية بعد الأسطول البريطاني. وكان لهذا الأسطول الضخم قواعد رئيسية على الساحل الشرقي للخليج في موانئ بندر عباس وجزر قشم وهرمز ولارك، بالإضافة إلى الساحل العُماني الذي كانت موانيه عامرة بسفن الأسطول، أما على الساحل الأفريقي فكان لعُمان قواعد بحرية في ممباسة ولامو وكلوة ومركه ومقديشو وزنجبار. وكان للسيد سعيد بن سلطان، الذي حكم أكثر من نصف قرن دولة واسعة في الخليج والمحيط الهندي، ينتقل بين ممتلكاتها في عُمان والساحل الأفريقي، ويقضي وقتاً طويلاً على ظهر السفن يتفقد بلدان هذه الدولة الشاسعة الأطراف، وفي السنوات الأخيرة من حكمه كان يفضل قضاء أطول مده ممكنة في زنجبار حتى يتمكن من الإشراف على الممتلكات العُمانية في ساحل أفريقيا.. وكانت له علاقات واسعة جدا مع زعماء القبائل الأفريقية وملوك المقاطعات والجزر العديدة التي لم يتمكن من السيطرة عليها مثل مدغشقر وغيرها، ولذلك كان القول المأثور: إذا قرعت طبول السلطان في زنجبار يرقص عليه ابنا البحيرات الأفريقية. ورغم القوة البحرية التي كانت تحت إمرته فقد اتصف بالحذر الشديد، فاقتصر تواجده على السواحل ولم يغامر بالتوسع في الداخل سواء كان ذلك على الساحل الشرقي للخليج أو بالنسبة للساحل الأفريقي. ولكن التجار العُمانيين توغلوا في داخل أفريقيا ووصلوا إلى ما يعرف حاليا بأواسط كينيا والبحيرات الأفريقية، وتاجروا مع الأهالي ونشروا الإسلام وكانوا أول جسر ثقافي ربط بين العرب وأفريقيا الاستوائية. وان كان السيد سعيد بن سلطان قد استطاع أن يكون هذه الدولة الواسعة، واستطاع أن يؤسس أسطولا تجاريا وحربيا قوياً تمكن من خلاله المحافظة على هذه الدولة، فانه أيضاً تمكن من إقامة علاقات دولية قوية سواء مع مصر أو مع بعض الدول الأوربية أو مع الولايات المتحدة الأمريكية. وبالنسبة لعلاقات السيد سعيد بن سلطان بمصر وحاكمها محمد علي، فقد اتصفت العلاقات بين الرجلين بالتقدير المشترك غير المندفع، ورغم أن الرجلين كانا في مواجهة مع النشاط الوهابي في الجزيرة العربية ألا أن الرسائل المتبادلة بين السيد سعيد ومحمد علي كانت قليلة، وان كانت قد عبرت عن إعجاب السيد سعيد بالبناء الحديث للدولة الذي أقامها محمد علي في مصر، كما عبرت عن وجود رغبة لدى السيد سعيد في إقامة علاقات أوثق مع باشا مصر.وأما علاقة السيد سعيد بن سلطان بالدول الأجنبية، فقد تمثلت في ترحيبه بعقد اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 1249هـ / 1833م، وفي ترحيبه بوجود قنصل أمريكي في السلطنة، كما تمثلت تلك العلاقات في عقد معاهدة بين السلطنة وبريطانيا في ربيع الأول 1255هـ/ مايو 1839م تعلقت معظم نصوصها بتنظيم التجارة والملاحة بين البلدين، وتقديم التسهيلات البحرية للسفن البريطانية في موانئ السلطنة.كما تمثلت علاقات السلطنة الخارجية كذلك في عقد معاهدة تجارية مع فرنسا عام 1260هــ / 1844م حصلت فرنسا بمقتضاها على نفس الامتيازات التجارية والقضائية التي نصت عليها معاهدة عام 1255هــ / 1839م مع بريطانيا العظمى.ولم يرفض السيد سعيد بن سلطان طيلة فترة حكمه أي عرض تقدمت به أي دولة إقليمية أو دولية لعقد المعاهدات والاتفاقيات التجارية، فكان يفضل التجارة على أي شي آخر، وعندما طلبت منه الدول الأوربية وخصوصا بريطانيا تحريم تجارة العبيد في ممتلكاته والمساهمة معها في محاربة هذه التجارة في كافة إرجاء الخليج والمحيط الهندي، فانه قبل بهذا العرض وحرم تجارة العبيد التي كانت تدر على بعض التجار أرباحا هائلة، وحارب بقوة نشاطات القراصنة من مختلف الجنسيات الأوربية الذين كانوا يمارسون تجارة العبيد. وكان لموقف السيد سعيد هذا ردود فعل ايجابية في الرأي العام العالمي يومئذ، فقد اثنت الصحف البريطانية كما أشاد مجلس العمــوم البريطاني بمجهود السيد سعيد في مجال محاربة تجارة العبيد ومراعاته لحقوق الإنسان. وبالنسبة للنشاط الاقتصادي الأمريكي، فقد اجتذبت عُمان اهتمام الأمريكيين في الثلث الأول من القرن التاسع عشر لوقوع عُمان في طريق الهند والشرق الأقصى، ولأنها كانت مركزا للعلاقات مع بقية أقطار الوطن العربي وإيران وأفريقيا، وفي شرق أفريقيا بالذات.ادخل السلطان السيد سعيد بن سلطان زراعة القرنفل في زنجبار واعتبره محصولاً تجارياً حيث انشأ عدة مزارع على الأرض الإفريقية للمتاجرة مع الأفارقة، كما قدم مساعدات ذات اثر كبير في نجاح رحلات المستكشفين الأوربيين الذين مارسوا عمليات الكشف داخل إفريقيا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.وكان تطوير القسم الإفريقي للدولة العُمانية في عهد السيد سعيد بن سلطان عامل جذب للقوى الأجنبية لكي تسعى إلى تقوية علاقاتها بالسلطنة ككل، ولتحصل على متاجر زنجبار بصفة خاصة وكانت الولايات المتحدة الأمريكية أولى القوى الأجنبية في التطلع إلى فتح أسواق زنجبار أمام التجار الأمريكان لبيع السلع الأمريكية من ناحية، ولشراء المنتجات والسلع في الشق الإفريقي من الجولة من ناحية أخرى.وقد بدأت مقدمات العلاقات التجارية بين عُمان والولايات المتحدة الأمريكية حينما زار التاجر الأمريكي (أدموند روبرتس) الذي ينتمي إلى نيوهامبشير زنجبار في عام 1243هـ / 1827م، متطلعاً إلى تحقيق كسب مادي كبير هناك، ولكنه لم يجد التسهيلات التي كان يلقاها البريطانيون الذين كانوا أصدقاء للسيد سعيد بن سلطان. ومن ثم عاد إلى الولايات المتحدة الأمريكية يحمل فكرة عقد معاهدة مع الحكومة العُمانية لكي تروج التجارة الأمريكية في ممتلكاتها. وقد وافق الرئيس الأمريكي (اندرو جاكسون) على فكرة عقد معاهدة تجارية بين الولايات المتحدة وعُمان، وعهد إلى ادموند روبرتس بإرجاء المفاوضات اللازمة والتوصل إلى المعاهدة المنشودة وكان وصول السفينة الأمريكية (بيكويك) حاملة بعثة روبرتس إلى مسقط دليلاً ليس فقط على الاهتمام الأمريكي بكل من آسيا وإفريقيا، بل أيضا لكون عُمان دولة ذات أهمية بارزة لدى الولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك تم توقيع المعاهدة التجارية بين عُمان والولايات المتحدة في جمادى الأولى (1249هـ / الحادي والعشرين من سبتمبر 1833م)، وكانت أول اتفاقية يعقدها السيد سعيد بن سلطان مع دولة كبرى. وقد صارت هذه الاتفاقية المثل الذي سارت على منواله معاهدات عُمان مع بريطانيا عام (1255هـ / 1839م) ومع فرنسا عام (1260هـ/1844م). وقد ظلت الاتفاقية الأمريكية العُمانية سارية المفعول حتى عام (1378هـ/1958م) حين بطل مفعولها واستبدلت بمعاهدة جديدة للصداقة والعلاقات الاقتصادية والحقوق القنصلية بين الطرفين وبموجب هذه الاتفاقية تمتع الأمريكيون بامتيازات اقتصادية وقضائية في ممتلكات السلطان العربية الأفريقية حيث صار التجار الأمريكيون يتاجرون في أراضي عُمان الواسعة وينزلون في موانيها ويدفعون 5% فقط رسوماً على البضائع التي كانوا يجلبونها إلى الموانئ العُمانية ويعفون من دفع أية ضرائب أخرى على الصادرات والواردات، ويعفون كذلك من رسوم الإرشاد الملاحي في موانئ عُمان، كما صار من حق القنصل الأمريكي في عُمان فض المنازعات التي تنشأ بين رعايا دولته، ونصت المعاهدة كذلك على حق قنصل عُمان في الفصل في القضايا بين رعايا دولته في الولايات المتحدة.وتمشياً مع السياسة الودية بين الإمبراطورية العُمانية والولايات المتحدة بدأت بمعاهدة الصداقة والتجارة التي عقدت بين البلدين عام (1249هـ/1833م)، فقد بعث السيد سعيد سفينته المسماة (سلطانه) في رحلة إلى ميناء نيويورك الأمريكي عام (1256هـ/1840م)، لتقوية العلاقات مع الولايات المتحدة، للمتاجرة وشراء الأسلحة التي كان في حاجة إليها أثناء صراعه ضد الوجود البرتغالي في موزنبيق وقد تولى قيادة هذه السفينة ربان بريطاني يدعى (وليام سليمان)، واختار السيد سعيد أمين سره الخاص الحاج احمد بن نعُمان ليكون ممثلا له في الولايات المتحدة، بل أول مبعوث عربي إلى الولايات المتحدة.وتتويجاً لعلاقة السيد سعيد الحميمة مع إفريقيا فقد قرر الإقامة في زنجبار بوصفها العاصمة الثانية لدولته المترامية يعد قرارا خطيرا وخصوصا أن المسافة بين العاصمتين تبلغ 2500 ميل والوصول من عُمان إلى زنجبار تحكمه حركة الرياح الموسمية.وعلى أية حال فانه كان من المستحيل أن تسيطر حكومة عُمان سيطرة فعلية على ممتلكاتها البعيدة في شرق إفريقيا إلا بإتخذها ذلك القرار. وكانت سياسة السيد سعيد الرامية إلى تدعيم نفوذه في ممتلكاته الجديدة، أهم الأسباب التي دعته إلى نقل بلاطه من بلاد العرب إلى زنجبار في سنة 1248هـ/1832م، حيث ظل مقيما بها بقية حياته.على أن السيد سعيد كان يعمل على تسيير دفة الأمور الخاصة بعُمان وهو بعيد عنها، فكان يضطر كثيرا لمغادرة زنجبار لمواجهة المشاكل الناجمة في عُمان وحلها ورغم انه أقام فترة طويلة في زنجبار، فقد ظلت زنجبار طيلة الحكم الطويل للسيد سعيد تابعة لمسقط رسمياً.
وتجدر الإشارة إلى انه قبل عصر السيد سعيد كان معظم سكان جزيرة زنجبار من السواحلية ولكن في ظل الدولة الجديدة كثرت وفود العرب للإقامة فيها، ذلك أن السيد سعيد كان قد شجع هؤلاء العرب على الهجرة إلى بيمبا وزنجبار. ولاشك أن الدافع الاقتصادي كان أقوى الدوافع التي جعلت السيد سعيد يفضل الإقامة بصفة دائمة في جزيرة زنجبار، والواقع انه لم يكن هناك مكان آخر في إمبراطورية السيد سعيد أكثر ملائمة لتنفيذ سياسته الاقتصادية من هذه الجزيرة.ولذلك انتقل إليها ولم ينتقل إلى ممباسة أو كلوة أو غيرها من المدن الهامة في شرق أفريقيا.وعلى أية حال فقد أكد السيد سعيد منذ البداية بأن التنمية الاقتصادية تعنيه كما يعنيه استتباب نظام الحكم والأمن والاستقرار، ومن المرجح أن يكون أول من ادخل زراعة القرنفل إلى زنجبار وتطويرها حتى أصبحت في أواخر القرن التاسع عشر من أهم المنتجين على مستوى العالم.وكانت وفاة السلطان سعيد في (20 صفر 1273هـ/ 19 أكتوبر 1856م) نهاية لعهد حاكم عربي بارز، ومهما يكن من أمر، فلا يزال عهده يعتبر مرحلة ماجدة في إطار الحضارة التقليدية للمنطقة ونظامها الديناميكي القديم، إلا أن النفوذ البريطاني وعملية التحديث للمنطقة أثرا على البناء السياسي العام الذي أقامه، وبمعنى آخر لم يكن هناك بين أبناء السلطان سعيد من يتمتع بالكفاءة والتأييد السياسي الكافي الذي يؤهله لحكم السلطنة العربية الأفريقية والحفاظ على وحدتها مثلما كان الحال في عهد والدهم رغم أن السلطان سعيد كان قد عين اثنين من أنجاله نائبين عنه في كل من الجزء الأفريقي - زنجبار - والجزء الآسيوي - عُمان - أثناء الفترات الطـويلة التي يتغيب فيها عن الحكم. ومنذ عام (1249هـ/1833م) كان (ثويني) ينوب عن والده في العاصمة مسقط، بينما الابن الثاني (ماجد) ينوب منذ عام (1271هـ/1854م) عن والده في زنجبار، وقد أصبح لكل منهما نفوذ واسع في المنطقة التي كان يحكمها، ولكن ليس بالدرجة التي تمكنه من ضم الجزء الآخر إلى حيز نفوذه، كما لا يبدو أن السلطان سعيد قد رشح احد أبنائه ليخلفه في الحكم بعد وفاته.ولذلك ظل الصراع بين أبناء السلطان سعيد من السمات المميزة للتاريخ العُماني على امتداد بقية القرن التاسع عشر، علما بأنهم كانوا قادرين بالاستخدام الذكي للإمكانيات الاقتصادية والسياسية التي كانت لديهم على أن يحافظوا على دولتهم بشطريها العربي والأفريقي.ونتيجة للاضطرابات السياسية التي اجتاحت عُمان بعد وفاة السلطان سعيد، نشبت الحرب الأهلية للاستيلاء على السلطة بين ورثة السلطان المتوفى تلك الحرب التي أخذت تهدد الدولة العُمانية بشطريها الآسيوي والأفريقي بالتمزق والانهيار، وخاصة بعد أن استغلت الدول الأجنبية الطامعة ذلك الخلاف والصراع الذي نشب بين الأخوين ثويني وماجد.وقد لعبت كل من بريطانيا وفرنسا دورا متفاوتا في استغلال هذا الخلاف بين هذين الأخوين فقد تحركت قواتهما العسكرية والمسـؤولون السياسيون البريطانيون والفرنسيون على الفور لتحقيق مكاسب لمصالح بلدانهم، وقد بذلوا في ذلك جهداً كبيراً وتنقلوا بين مسقط وزنجبار بغرض الحماية والوصاية، وكانوا في حقيقة الأمر يشجعون الخلافات بين الأخوين في وقت كانوا يظهرون فيه على أنهم يبذلون سعيهم وراء التوسط لحل المشاكل.وكان الخلاف حول كسب الموقف في أشده بين بريطانيا وفرنسا، فقد حشدتا قوات وأساطيل على السواحل العُمانية والأفريقية، وأظهرتا عطفا كل على الطرف الأخر من المتنازعين، مشجعين إياهما على الاندفاع أكثر على كسب المواقف الشخصية. والثابت أن أطماع البلدين في شرق أفريقيا كان واضحا حيث حاولا مرارا إيجاد موطئ قدم لهما على الساحلين الأفريقي والعربي، واستعملا أساليب في نشر الإشاعات والأكاذيب والافتراءات التي لا تمت للحقيقة بصلة للحيلولة دون اتفاق الإخوة على وحدة الكلمة.وقد اتهموا السلطان الراحل على انه اعد مستندات أصولية لتقسيم الإمبراطورية وتوزيعها بين أبنائه حيث أكدوا أن السلطان أوصى لخالد وبالتالي لابنه ماجد بأرضي زنجبار مستقلة عن الوطن الأم عُمان. وحقيقة الأمر أن هناك أدله قاطعة تدحض أن يكون السلطان الراحل قد وقع أية وصية من ذلك النوع، وكانت الأمور تسير سيرا طبيعيا بين الإخوة، ولكن التدخلات الأجنبية خلقت عدم الثقة والريبة في كل عمل يصدر عن الأخر.ومهما كان الأمر فقد كانت انجلترا تؤيد تقسيم السلطنة وتعارض فكرة ضم ممتلكات ثويني إلى ممتلكات ماجد، ولذلك وقفت بجانب الأخير متذرعة بأن أية حرب بين الأخوين سوف تشكل خطرا على مصالحها في الطريق البحري إلى الهند. وقد حاول ثويني بالفعل إعادة توحيد السلطنة وبدأ في إعداد حملة سنة 1276هـ / 1859م لإرسالها إلى زنجبار، ألا أن السلطات البريطانية في الهند أسرعت بإرسال الكولونيل رسل وهو احد ضباط البحرية الهندي لكي يوقف تقدم الحملة، واستطاع رسل أن يصل في الوقت المناسب مما اضطر ثويني إلى التراجع إلى مسقط بعد أن أغلق الأسطول البريطاني الطريق في وجهه.ولم يقف الأمر عند حد تقديم المعونة البريطانية للسيد ماجد، بل حاولت بريطانيا أن تحل النزاع بين مسقط وزنجبار بطريقة يقبلها الطرفان، أو يرغمان على قبولها إذا استدعى الأمر ذلك. فتدخلت في ذلك النزاع الناشب بين مسقط وزنجبار بما يحقق في النهاية الهدوء والسلام بينهما، لان غير ذلك قد يؤثر على المصالح البريطانية في الطريق الموصل إلى إمبراطوريتها في الهند، ونتيجة لذلك أرسلت الحكومة البريطانية بعثة إلى كل من مسقط وزنجبار في عام (1277هـ/ 1860م) بهدف التحقيق في أسباب النزاع القائم بين البلدين، وقد رأس هذه البعثة الكولونيل كوجلان المقيم السياسي في عدن. وكان من نتيجة الأعمال والدراسات التي قامت بها البعثة، إنها ذكرت أن الطريقة التي يتولى بها سلاطين أسرة البوسعيد الحكم، إنما تقوم على أساس الانتخاب، وانه عقب وفاة السيد سعيد بن سلطان فان أهل زنجبار انتخبوا ابنه السيد ماجد حاكما عليهم، وعلى ذلك فليس هناك مبرر لمطالب السيد ثويني في السيطرة على ممتلكات أخيه، وينبغي إذن أن يبقى كل منهما سلطانا في مكانه.وهكذا قدمت البعثة تقريرها إلى اللورد كاننج الحاكم العام للهند، والذي استند عليه في وضع التحكيم المشهور عام (1278هـ/1861م). وطبقا لهذا التحكيم فقد تم إقرار السيد ماجد في منصبه كحاكم على زنجبار والممتلكات الأفريقية الأخرى خلفا للسيد سعيد، كما نص التحكيم على أن يدفع حاكم زنجبار (40,000 ريال) سنوياً لحاكم مسقط، هذا بالإضافة إلى دفع المتأخرات المستحقة عليه من العامين الأخيرين.كما نص التحكيم أيضا على انه لا ينبغي لحكام مسقط أو لقبائل عُمان التدخل في شؤون زنجبار، كما أوضح كاننج بأن هذا المبلغ الذي يدفعه حاكم زنجبار إلى حاكم مسقط لا يعني أية تبعية من جانب زنجبار لمسقط، وإنما قصد به تحقيق المساواة بين ميراثي الأخوين، لان أراضي زنجبار أكثر غنى من أراضي مسقط.وهكذا ونتيجة التحكيم أصبحت العلاقة بين زنجبار ومسقط علاقة مالية فقط، أي انه كان على زنجبار أن تدفع تلك الإعانة السنوية لمسقط، وبخلاف ذلك أضحت العلاقات واهية بين قسمي السلطنة السابقة.ويلاحظ أن الطابع الأفريقي اخذ يغلب على سلطنة زنجبار في عهد السيد ماجد نتيجة لانقطاع الصلة بالوطن ألام، وقد ساعدت سياسة ماجد على تحقيق هذه النتيجة، فقد اتخذ بعض الإجراءات التي أدت إلى إضعاف الصلات بين زنجبار ومسقط ففي عام (1281هـ/1864م) منعت سفن مسقط من الملاحة في مياه زنجبار إلا إذا أبرزت أوراقا تثبت أنها تتجر في سلع شرعية، كما كتب إلى مشايخ الخليج بأن لا يرسلوا سفنهم بعد ذلك إلى زنجبار، كما حرم السيد ماجد على سكان زنجبار تأجير المساكن للتجار العرب الآتين من شبه الجزيرة العربية، وأخيراً أوقف السيد ماجد الهدايا التقليدية التي كان يقدمها السلاطين لقبائل عُمان، مما يدل على انصرافه نهائيا عن فكرة توحيد السلطنة التي أقامها والده السيد سعيد بن سلطان. ولقد كانت عملية تقسيم الإمبراطورية العُمانية هي التي أثارت المشكلات، لان عدم دفع زنجبار الإعانة السنوية لمسقط جعل الأخيرة غير قادرة على دفع قيمة إيجار بندر عباس إلى فارس، مما حدا بفارس إلى محاولة استعادة هذا الميناء ثم محاولة القيام بنشاط بحري واسع في الخليج.. وكان من نتائج ذلك تزايد وتكريس النفوذ البريطاني في المنطقة. الجدير بالذكر أن السيد تركي والسيد برغش أصبحا على علاقة ودية طيبة منذ الوقت الذي تعهدت فيه الحكومة البريطانية بضمان دفع معونة زنجبار، وقد أدت هذه العلاقة الودية إلى أن اقترح السيد تركي فعلا في سنة (1297هـ/1880م) أن يتنازل عن حكم عُمان للسيد برغش. وقد انزعجت حكومة الهند لهذه الأنباء أيما انزعاج وأرسلت إلى روس المقيم البريطاني في الخليج لتحري هذا الأمر، ورد عليها أنه قد تم فعلا اتصالات ومفاوضات بين السيد تركي والسيد برغش، وأن هذا الموضوع أصبح سائدا بين الناس، فأصدرت حكومة الهند تعليماتها لوكيلها السياسي بأنها ستتدخل في حالة وقوع محاولة لإعادة الوحدة بين عُمان وزنجبار. وهذا يوضح لنا مدى تخوف بريطانيا من اتحاد الدولة العُمانية مرة أخرى، ويبدو أن بريطانيا ضغطت على السيد تركي حتى لا يتنازل عن حكم عُمان، لأنها كانت تعلم أنه من الممكن أن يتخلى فعلا عن الحكم، لأن له سابقة في ذلك عندما ترك الأمر لأخيه عبد العزيز. وبذلك قضى على آخر أمل في أمكان إقامة تلك السلطنة الأفريقية العربية مرة أخرى. استمر الشقيقان بعد أن فشلت فكرة الاتحاد على علاقة طيبة وكانا يتبادلان الهدايا، فقد أهدى السيد برغش شقيقه في سنة (1302 هـ/1884م) 22 ألف روبية كمعونة في مواجهة الحركات الداخلية في عُمان في العام السابق، وفي سنة (1304 هـ/1886م) أهداه السفينة البخارية (سلطاني) واليخت (دار السلام)، وفي منتصف عام (1305 هـ/ مارس سنة 1888م) قام برغش بزيارة عُمان وقضى أسبوعا في ينابيع بوشر الحارة أملا في أن يتخلص من مرض أصابه وعامله تركي بمودة واحترام كبيرين، وتلقى منهم بعد ذلك هدية قدرها خمسون ألف روبية، ومات الشقيقان بعد ثلاثة أشهر من لقائهما الأخير. وقد شهدت الفترة الأخيرة من حكم السيد تركي هدوءا حتى وفاته عام (1306 هـ/1888م) بعد أن ترك وراءه مملكة تتميز بقدر من التنظيم والاستقرار وقد هيأ لابنه وولي عهده السيد فيصل أن يتولى مقاليد الحكم في جو سلمي. وقد تولى السلطان السيد فيصل بن تركي حكم عُمان في فترة شهد فيها العالم العربي موجة من ازدياد النفوذ الاستعماري الأوربي وبخاصة البريطاني والفرنسي، حيث احتلت بريطانيا وفرنسا العديد من أجزاء الوطن العربي أو أصبح تحت نفوذهما والقليل من الدول أفلتت من هذا الغزو الاستعماري ومن بينها عُمان حيث تمكن السيد فيصل بن تركي من أن يدير دفة الحكم وسط هذه الأجواء، كما أولى اهتمامه للوضع الداخلي بهدف تقوية الجبهة الداخلية.. ومن أجل ذلك كون جيشا قويا جعل قيادته لأخيه فهد الذي قام بأكثر من حملة لتوطيد الأمن في ربوع عُمان. وقد اتسمت سياسة السلطان السيد فيصل بن تركي بالتوازن في علاقة عُمان بكل من بريطانيا وفرنسا.. في عام (1312هـ/1984 م) وافق عل إنشاء قنصلية فرنسية في مسقط كما أعطى للفرنسيين امتيازا بإنشاء مستودع للفحم في منطقة الجصة في عام (1316هـ/1898م)، وعندما علمت بريطانيا بذلك أرسلت المقــيم السياسي في الخليج كولونيل (ميــد) إلى مسقط مبعوثا من نائب الملك في الهند ثم تبـعه الأدميــرال (دو غلاس)، وبعد مقابلتهما للسيد فيصل انتهى النقاش إلى أن لعُمان الحق في الارتباط بعلاقات خارجية مع أية دولة من الدول، وأن عُمان على استعداد لعقد معاهدات تجارية وود وصداقة مع بريطانيا، واستمر حكم السيد فيصل حتى وافته المنية في (شهر ذي القعدة 1331هـ/أكتوبر عام 1913م) ليخلفه ابنه الأكبر تيمور. تولى السلطان السيد تيمور دفة الحكم في ظروف صعبة على المستويين الداخلي والخارجي حيث شهدت عُمان صراعات داخلية كما أن شبح الحرب العالمية الأولى (1332-1337هـ/1914-1918م) اخذ يلوح في الأفق والأزمة الاقتصادية العالمية تكاد تخنق معظم الدول. وقد حاول السلطان السيد تيمور أن يتجنب كل ما يمكن تجنبه من هذه المصاعب والأزمات، فحاول أن يخلق نوعاً من الاستقرار السياسي الذي يترتب عليه تحسين الوضع الاقتصادي، ولهذا بادر بعقد اتفاقية السيب في (عام 1339هـ/1920م) حافظاً على استقرار عُمان. وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى أخذت التجارة العُمانية تنتعش من جديد، ألا أنها تعرضت لأزمة بسبب الكساد الاقتصادي الذي ساد العالم بعد الحرب العالمية الأولى، كما قام السيد تيمور بإصلاح الوضع الاقتصادي بأن استقدم ثلاثة من الخبراء المصريين لتطوير نظام الجمارك في مسقط، كما شكل أول مجلس للوزراء في تاريخ عُمان برئاسة السيد نادر بن فيصل، ولم يلبث أن عين ولده السيد سعيد رئيسا لمجلس الوزراء وذلك منذ عام (1348هـ/1929م). ومن الأحداث في عهد السيد تيمور توقيع أول اتفاق بين عُمان وشركة داركي لتنقيب عن النفط في السلطنة في (عام 1344هـ/1925م)، إلا أنه لم يتم اكتشاف أي من آبار البترول في عهده الذي امتد حتى (عام 1351هـ/1932م) حيث تنازل في ذلك العام عن الحكم لولده السيد سعيد، وذلك لأسباب صحية ألمت به. ومع تولي السلطان السيد سعيد بن تيمور الحكم كان العالم يعاني معاناة شديدة من وطأة الأزمة الاقتصادية التي تجتاحه، لذلك اختط لنفسه سياسة مالية اتسمت بعدم تحميل البلاد بما لا تطيق من الديون، لان الديون هي مكمن الداء حيث تخلق وضعاً يسمح بالتدخل في شؤون البلاد من قبل الدول الدائنة، لذلك قرر بأن ينفق في حدود دولته، والتزم بتسديد ما على الدولة من ديون. كما اتخذ خطوات لتدعيم علاقاته الخارجية، فقام بجولة في عام (1356 هـ/1937م) زار فيها اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، واجتمع مع رئيسها روزفلت (1352- 1365 هـ/1933- 1945م) الذي استقبله وتبادل معه الهدايا، فكان أول حاكم عربي يزور الولايات المتحدة الأمريكية، ومنها سافر إلى بريطانيا حيث استقبله ملكها جورج الخامس، ثم انتقل إلى فرنسا فايطاليا وأخيراً الهند الذي عاد منها إلى مسقط. وفي (عام 1363هـ/1944م) قام برحلة إلى مصر واستقبله ملكها فاروق، ثم زار القدس عاصمة فلسطين.
تميز عهد السلطان السيد سعيد بن تيمور بالأحداث الآتية:
أولا: حل الخلافات التي كانت قائمة مع المملكة العربية السعودية حول واحة البريمي.
ثانياً: منح شركة تنمية نفط عُمان امتياز التنقيب عن النفط في السلطنة. وفعلا تم اكتشاف النفط وبدأ تصديره منذ (جمادى الأولى عام 1388هـ / أغسطس عام 1968م). وقد وفر الحدث الأول الهدوء بالنسبة للجبهة الداخلية كما وفر الحدث الثاني الدعم المالي لنهضة شاملة لم تلبث أن بدأت في عهد ولده جلالة السلطان قابوس، فيما يعرف بعصر النهضة العُمانية الحديثة.
ثالثاً:قيام التمرد الأول الذي نشأ عنه حرب الجبل الأخضر وإحكام السيطرة عليه. رابعاً: حرب ظفار التي استمرت حتى عهد جلالة السلطان قابوس حيث تمكن من إخمادها وانتصار القائد الشاب وشعبه العريق في ملحمة وطنية تتوجت بإعلان يوم 11ديسمبر 1975م عيداً للنصر ويوماً للقوات المسلحة.