تاريخ الدولة البوليسية (1)
يرجع تاريخ الاستبداد (الكلياني) إلى عهد الإرهاب الذي صاحب الثورة الفرنسية، وليس إلى البلاشفة أو النازيين أو الفاشيين كما يشاع.
أغلق الثوار الفرنسيون الكنيسة وكفوا يد رجال الدين المتغطرسين وافتتحوا معابد النزوات المؤججة بالغرائز الوحشية والطبائع السوقية. هدموا سجن الباستيل، ونصبوا المقاصل في الساحات العامة. كان شعار الثورة:
أرسل رفيقك إلى المقصلة قبل أن يرسلك إليها.
يعتبر (جوزيف فوشيه) مؤسس الدولة البوليسية الحديثة. تسلم وزارة الشرطة في فرنسا (1799 ـ 1810) لفترات متقطعة. وأحكم وضع نظام استخباراتي دقيق يحصي على الناس أنفاسهم. كان معروفاً بانتهازيته المطلقة. انضم إلى كل حزب فرنسي تولى السلطة منذ الثورة الفرنسية وحتى عودة البوربون. كان اسمه يثير الرعب، وترتعد لذكره الفرائص. كان متجرداً من (الفكر) ومن (العاطفة) كما كان انتهازياً مستعداً للقيام بأي فعل يعزز مكانته الشخصية، ويحفظ مكاسبه. كانت القضايا العامة ثانوية أمام مصالحه الذاتية. والإنسان بين يديه لوح خشب يقطع ويسمر ويعاد تشكيله، ويحرق ويصبغ ويذاب بالشكل الذي يناسبه. أحاط نفسه بفريق من الوحوش البشرية كانوا أكثر ولعاً منه بهذه الممارسات.
وبعد استلام نابليون الثالث الحكم 1848.. أضيفت إلى ركائز الدولة البوليسية أساليب جديدة منها (الاستفتاء الشعبي). (وتوظيف وكلاء لاستفزاز الناس واستدارجهم).
لاحظ (برانشيد) أن من اهتمامات المستبدين الجدد تقديم أنفسهم تحت لافتات 99% لتغطية الرفض الشعبي لهم.. فحين تأكد نابليون الثالث أنه لن ينجح في انتخابات تتم على أساس دستوري.. نصحه مستشاروه بعد قيامه بانقلابه العسكري بتجاوز الدستور، وطرح نفسه على استفتاء شعبي مباشر، كانت تلك هي السابقة الأولى للمستبدين ثم أصبحت الاستفتاءات الشعبية من لوازم النظام (الكلياني).
وحين تصدى للمستبدين مؤسسات (المجتمع المدني) المنظمات النقابية والمؤسسات المدنية، والأحزاب السياسية عملوا على ضربها عن طريق (الاستفزاز والاستدراج)، وهو الأسلوب الذي قرره من قبل فوشيه ثم استخدمه نابليون الثالث بنجاح.
أسست فرق خاصة في الشرطة السرية مهمتها استفزاز المواطنين وجرهم إلى مواجهات عنيفة تمهيداً لاستئصالهم.
كانت أجهزة الأمن والجواسيس المندسون وسط القوى الشعبية يستفزون المجاميع الشعبية، ليستجروهم إلى مصادمات عنفية لا قبل لهم بها، وبالتالي لتجد الشرطة السرية والعلنية ذرائعها لضرب المعارضين، وتصفيتهم، بعد إلصاق التهم بهم.
سياسة الاستفزاز والاستدراج لخلق ذريعة لتصفية فريق من المواطنين بعد اتهامهم بالفوضى أو بالإرهاب، ستصبح بعد نابليون الثالث ركيزة أساسية من ركائز الحكم الكلياني..
وستنتقل هذه التقاليد إلى النازية والفاشية والبلشفية ومن ثم إلى مدارس الاستبداد الشمولي العربي.