في عدد اليوم من جريدة السياسة الكويتية التقى رئيس تحرير الصحيفة (احمد الجار الله بجلالة السلطان المعظم في لقاء شيق . ارجو متابعة اللقاء على موقع الجريدة
http://www.alseyassah.com/alseyassah/First_1.asp
كتب: أحمد الجارالله:
هناك تحتار ماذا ترى.. المكان مفتوح على اربع جهات العرب واربع بوابات الارض. في الشرق بحر العرب, في الغرب جزيرة العرب, في الجنوب بداية البوابات نحو المفتوح الاكثر من الارض واتجاهاتها. ومن يقرأ سلطنة عمان بهذا الموقع الجغرافي لا يستغرب الهدوء الذي يغرق هذا البلد العربي بسكينته, ولا يستغرب الصرامة الساكنة في وجه حاكم هذا البلد جلالة السلطان قابوس بن سعيد. فالامان النفسي يأتي من الجوار, والجوار كله عربي. والسكينة تأتي من النفس والنفس كلها عمانية. وحين دخلت مع جلالة السلطان في الحوار وجدتني ابتعد عن مألوف السؤال والجواب, وهو مألوف سياسي, وأدخل في حوار متصل بالوجود نفسه, وبفلسفة هذا الوجود, وفي كينونة الحاكم داخل هذه المعادلة الدقيقة التي في احيان كثيرة تقضي على المشتهى الخاص, قضاء مبرما... هنا وجدتني في حوار متبادل يخلو من السؤال ومن الجواب, ويدخل في تقديم التجربة من باب توحد الراعي بالرعية, ومن باب وحدة الحلم الذي اذا راود الحاكم يأتي في وقت مراودة المحكوم, وكأن النفوس هنا تراها منعقدة في موعد واحد, إما للمخاطبة, أو الاجتماع على الكلام الواحد.
واللافت في الأمر هنا هو انك لا تستطيع الدخول في عوالم جلالة السلطان, إلا إذا قاربته مع العوامل الإنسانية الصرفة. فهنا تأتيك الصورة من مكان واحد مكان المسؤول ومكان الآخرين المشمولين بالمسؤولية, ولايبدو بعدها أن ما هو سائد في أماكن كثيرة, حيث الحدود مرسومة بدقة بين منطقة الحكم, ومنطقة المحكومين, سائد هنا في عمان.
خيل إلي وأنا في »حصن الشموخ« حيث ألاقي جلالة السلطان وأتحاور معه, أنه حتى المسافة الفاصلة بيننا وبينه, وهي مسافة معنوية, قد تلاشت لصالح فهم المقصود من الكلام, وهو مقصود شبه روحي جعل صورة الحاكم تبدو أمامنا متركزة على الهداية والعرفانية, وربما على وحدة الوجود. ودائما كان يصدمنا صاحب الجلالة بهذه الحقيقة العليائية, إذ بين كل محطة كلام وأخرى كان يذكر بأن عوائد عمله ليست له بل لعمان وأهلها, وأنه لا يبغي شيئا لنفسه مما يعمل, ولا يتعب للعثور على أسباب الولاء اذ يراها نابعة من النفس ذاتها المختلطة دائما بالناس والحديث إليهم من موقع انه واحد منهم. وكون الوقت, وهو الحياة , مكرس كله لعمان واهلها, لا يبقى الحكم في معناه الاعلى الا رسالة, والحاكم هنا يصبح صاحب رسالة, كما هو في الوقت نفسه صاحب سلطة من اجل احكام الضبط والربط, ومتابعة الشأن العماني بشكل حثيث...
هنا نص الحوار في »حصن الشموخ« مع جلالة سلطان يتحاور مع نفسه, متوحد ببلده, وقادر في نفس الوقت ان يقدم للتجربة الانسانية حدودا في الحكم, ونوعية في الحكام, تصرف النظر الى الذات بعمق, وتبتعد عن السياسة متى استطاعت, لكنها قادرة على الاداء في كل انواع الظروف, وتحديد الاولويات, وقادرة على التكيف مع كل متغيرات الاحوال التي تضرب هذا العالم وظروفه... سألته:
جلالة السلطان... دعني ابدأ معك من السؤال عن سر هذا الولاء الذي تحظى به في عمان, من يوم ان توليتم الحكم حتى الآن, فنحن كرجال اعلام لم نسمع في يوم خبرا يتصل بأمنك الشخصي وسلامتك الفردية.
في مقدمة الاجابة اطلق السلطان قابوس ابتسامة ناطقة مغلفة بالمعاني وقال: ماذا اقول لك في هذا الجانب وبماذا اجيبك? لعل الله هو الذي يحميني. اني هنا اعمل لعمان ارضا وشعبا, بل ان كل عملي لها ولشعبها. ولعل اختلاطي الدائم بهذا الشعب وفر له قناعة بان عملي محبب إليه, ومحل رضاهم...وفي الواقع فانا لا اعمل لشيء لي بل لهم. ان متعتي هي ان ارى بلدي, وارى شعبي بالصورة التي تخيلتها من اول يوم تسلمت فيه السلطة... انني اشعر باني صاحب رسالة ولست صاحب سلطة, لذلك ترى وقتي مكرسا من اجل عمان واهلها, ولعل سر الولاء يكمن هنا في هذه الناحية, وتحديدا ناحية تماثلك باهلك, وتفرغك للعمل من اجلهم. اني دائم الاختلاط بالناس, كما تعلم, واتحدث معهم كواحد منهم. نعم... انا من اشد المؤمنين بالضبط والربط, لكني اؤمن بما يمكث في الارض, اي بما ينفع الناس. اني اتابع الشأن العماني بشكل حثيث.
جلالة السلطان, حفظك الله ورعاك... لماذا لم تحدث لك منغصات امنية تستهدف شخصك بالذات طوال الخمس والثلاثين سنة الماضية علما ان زعامات كثيرة واجهت مشكلات, ودولا كثيرة واجهت متغيرات?
الامن في عمان مستتب, وانت كاعلامي تعرف عمان. ليس عندنا, وعلى مستويات كثيرة, ما ينغص امن البلاد الوطني. واحمد الله انه سبحانه يعلم ما في الصدور وما في النفوس. ومن يدري لعل ما في صدري يحظى برضا الله, الامر الذي يجعل العناية تواكبنا في كل ما نعمل. وعلى كل حال فان عملنا كله شفاف, ومبذول كله لبلدي ولشعبي. وكما ترى فحتى انا لا احيط نفسي باي اجراءات امنية فوق العادة, وربما كانت هذه الاجراءات بالنفس, لكن نحن نقول ادفع بالتي هي احسن. لا يوجد عندنا ما يعكر صفو امن بلدنا وامننا الوطني, وحتى امننا الشخصي.
جلالة السلطان... الا يوجد ما يقلقك وانت ذاهب الى مخدعك?
ابدا. ابدا. ابدا ...وكل ما يحصل اني استمع الى بعض الاخبار قبل النوم, واقرأ بعض المواضيع, ثم اقرأ ما تيسر من كتاب الله العظيم, واخلد الى النوم. في العادة انام بعد قضاء يوم حافل بالاعمال الكثيرة, ما يقلقني منها انهيه وابت فيه في ساعات النهار, والباقي اقضيه في التفكير بتجاوز الحاضر الى ماهو افضل منه, او في اتخاذ قرار حول هذا الامر او ذاك... اذا كان هناك ما يتعلق من ملفات فاني انهيها بعد التفكير في الامر مع جهات الاختصاص. وفي هذا المجال اعترف باني اتمتع كثيرا بهذه الرحلات الداخلية التي اقوم فيها بطول البلاد وعرضها... في هذه الرحلات التقي بالناس مواجهة, واسمع الى مطالبهم, وهم يسمعون وجهات نظري... انني اشعر بالالفة هنا وهم كذلك. ان تفقد احوال الرعية شأن موجود في تاريخ الاسلام, ويعد من واجبات القائد. هناك مواطنون قد لا تسمح لهم ظروفهم بان يطرقوا ابواباً معينة فآتي انا اليهم بشكل مباشر اني مرتاح وأجد متعة نفسية بهذه الرحلات الداخلية, اجتمع فيها بأهلي واختلط بأنفس كثيرة, اسمع منها وتسمع مني, ونعطي جميعنا الثمار المطلوبة, اني اتمتع وانا ارى اهلي يستمعون الى توجيهات ولي الامر ويعملون بها, من هنا تخلق ثقافة الضبط والربط والتي هي سر تفاعل الرعية براعيها, هذا التفاعل الذي يخلق بدوره الولاء المتبادل بين الطرفين.
جلالة السلطان... في هذا الجو المرتبط بالعلاقة المتبادلة اسألك هل يفترض في اي بلد, وفي اي زمان ومكان, ان يكون القائد محبوباً او مخيفاً او محترماً?
يا أخ احمد.. عندما يجعل القائد من نفسه شخصية يخافها الناس وتهاب الحوار معها, فإن هذا القائد سيرى نفسه محاطاً بالمنافقين واصحاب المصالح, الذين يزينون له سوء عمله, أو يدفعون به الى هواه ورغباته التي قد لا تكون سوية.. انه لن يكون محاطاً بالمصلحين والناصحين.. ان هذا النوع من القيادات لا يتطلع الى محاكاته اي قائد سوي وحكيم. نعم يجب ان يكون هناك ضبط وربط لكن ليس الى الدرجة التي يصبح فيها الحاكم شخصية مخيفة, ومحيطه يتحول الى مرتع للمنافقين. الولاء والاحترام هما الصفة التي يجب ان يتحلى بها القائد السوي وصاحب السلطة. وفي البداية سبق لي وقلت لك اني لست سلطة الا لزوم الضبط والربط, وفي عملي اشعر باني صاحب رسالة اؤديها بكل صدق ونقاء لأرض عمان وشعبها الوفي.
جلالة السلطان.. نرى في هذه الاجواء ان الشأن العماني يأخذ معظم وقتك, ولا يتبقى لك منه ما يكفي للاهتمام بالشؤون الاقليمية والعربية والعالمية.
الشأن العماني هو هاجسي بلا شك ومعايشتي اليومية وهو فكري وعملي وكل شيء حولي وحوالي ما عدا ذلك هناك تطورات تحدث في المجال الاقليمي والعربي والدولي نتأثر بها ونؤثر عليها, وتأخذ منا بعض الوقت للتعرف على كيفيات التعامل معها ومع هواجسها, وهذا امر طبيعي لكننا نؤمن بالقول المأثور »رحم الله من عرف حده فوقف عنده« هناك من يتحدثون عن شؤون لا تخصهم, نحن لا نستخدم هذا الاسلوب في الشأن العماني, فلدينا الكثير الذي يستوعب وقتنا وعملنا, فعمان الامس ليست عمان اليوم, واحلامنا لأجل عمان كثيرة وكبيرة, وشعبنا حملنا مسؤولية نحملها بأمانة وجد. انني لا ارتاح لمن يتنطح بشأن ليس شأنه, لا هو متأثر منه أو مؤثر فيه. نسمعه يصرخ: لن نسمح. لن نوافق ولن ولن ولن, ولكن في واد لا يعنيه ولا يمتلكه, أي يصرخ في واد غير واديه.
جلالة السلطان... اراك مقلاً في الاحاديث الاعلامية, بل ان جلالتكم يتحاشاها ويبتعد عنها?
ابتسم جلالة السلطان ثانية الابتسامة المثقلة بالمعاني وقال: اني اكره المبالغة, وحتى تعليماتي لاجهزة الاعلام تتضمن توجيهات بعدم اللجوء الى المبالغة, وان يتم الحديث عن المنجزات وفق ما هو عليه حجمها, لا اكثر ولا أقل, اي ان يتم الحديث ببساطة. ثم انا من الذين يحبون ان تتحدث الاشياء عن نفسها وان يراها الناس كما هي من دون بهارات. اما ان نردد »سنعمل« و»سنفعل« فهذا امر ليس من شيمنا, وانا لا احب الادعاء, والحكومة هنا تعمل ضمن هذا المنظور.
جلالة السلطان... وانت تتحدث عن البساطة كنت قد دخلت الكثير من المنشآت العمانية, وزرت مدينة مسقط والقرى المجاورة لها, فلم أر الا البساطة فعلاً وجمالاً لافتا.
سر الجمال يكمن دائماً في البساطة. ان كل ما في هذا البلد بسيط حتى ألوان المدينة ومبانيها الخارجية محكومة بألوان مختارة ومحددة اعتقد انها سبعة ألوان انيقة فقط. نريد دائما ان يكون هناك دمج بين الموروث والعصرنة واعتقد ان السياسة العمانية قد نجحت في تحقيق هذا الدمج.. ان لنا خصوصية نعتز بها.
جلالة السلطان.. وانت تتحدث عن الموروث والعصرنة كانت لهجتك توحي بأنك قاتلت معركة كبيرة حتى تحقق الدمج بينهما ومن اجل بناء نهضة عمان الحديثة.. والسؤال الان هل حان الوقت لتحقيق انفتاح اجتماعي أكثر وأوسع في البلد?
نعم.. ان هذه النقطة كنت اتداولها مع نفسي واعايشها كثيرا ورأيت اني ارفض ان تطغى العصرنة على الموروث فموروثنا جميل ولايحتاج الا الى بعض التطوير وإلحاقه بالعصرنة بشكل متوازن لايطغى فيه هذا على ذاك. لقد وصلت عمان في نظري الى مراحل متقدمة في هذا المضمار, واعتقد انه اصبح علينا ان نزيد من جرعة الانفتاح خصوصا ان البنية التحتية اكتملت والمدينة جميلة وعلينا ان نزيدها جمالا, فهي مهيأة وفيها الامن والامان اللذان يتطلبهما الانفتاح اضافة الى اننا جملنا التراث وقاربناه مع العصرنة.
جلالة السلطان.. ماذا تقصد بعبارة زيادة جرعة العصرنة وزيادة الانفتاح بشكل اعلى ? هل تعني زيادة الانفتاح السياحي وزيادة استقطاب الاستثمارات الدولية?
في ما يتعلق بالاستثمار فلدينا الان استثمارات مجزية من اليابان واميركا وكوريا الجنوبية والمانيا ودول خليجية عدة. في السابق عندما كنا نتحدث عن مشاريع استثمارية ب¯ 100 مليون دولار اميركي كنا ننبهر من ضخامة الرقم, واليوم نتحدث عن مشاريع بالبلايين ولا ننبهر, وهذه المشاريع كثيرة وموجودة على مستويات عدة ومعلنة واعتقد ان امامنا استثمارات كبيرة مقبلة سواء كانت خليجية ام اجنبية. ما يتعلق بالسياحة نعم.. فقد بدأت اشعر انه يجب ان نبدأ بزيادة الجرعة الانفتاحية على ان تتم المحافظة على التراث العماني والثقافة العمانية. لقد مارسنا الانفتاح بالتدرج وماضون فيه على المستوى السياحي ولا ننسى ان ما يأتي سهلا يذهب سهلا ولا اريد ان يأتي الانفتاح سهلا حتى لا يذهب سهلا.
لقد وضعت عمان على الخارطة السياحية وستتعزز مكانتها وستنجح مثلما تقدمت حركة الاستثمارات.. جغرافية البلد جميلة, وشعبها طيب ومضياف.
صاحب الجلالة, بماذا كنت تحلم في بداية حكمك وانت تتسلم هذا الارث.. جغرافية شاسعة وشعب كان يعيش على مسافات متفاوتة من المعاصرة?
في ذلك الوقت كانت تشغلنا عملية الدمج بين الموروث والعصرنة, وكيف احبك خيوط الشمس في نسيج تلك المرحلة المظلمة, واذكر اننا بدأنا بتعليم المرأة وبناء المدارس ودخلنا برفق على المجتمع وقلنا من يرد ان يعلم ابنته فأهلا وسهلا به ومن يرد التمسك بالتقليد فهو حر. قضية تطوير مجتمعنا هي التي كانت تشغلنا وكذلك دفع هذا المجتمع الى رحاب النور, يومها لم يكن الوضع الاقتصادي مريحا لتحقيق هذه الاهداف لكننا اعتمدنا على الله وعلى الامكانات الموجودة ولم تكن واضحة للعين, كان امامنا ثروات قليلة وكنا نتحدث عن الزراعة والثروة السمكية. المهم اننا اجتزنا هذه المرحلة الآن والمجتمع العماني اصبح غير الامس. لقد طور العمانيون موروثهم وتعاملوا مع العصرنة وفق الجرعات المقررة لهم من قبل القيادة واني ارى مجتمعا نفخر به ويحترمه كل من يزوره.
صاحب الجلالة.. لو سألتك ماذا تحلم للاعوام الخمسة عشر المقبلة وماذا تريد ان تصنع لعمان?
لو سألتني هذا السؤال قبل خمسة عشر عاما لكنت اجبتك باني اتحسس من الناحية الاقتصادية, وتوفير الأموال للصرف منها على الاحلام. الآن الوضع مختلف من جهة المداخيل.. البنية التحتية شبه كاملة, الدمج بين الموروث والعصرنة شبه مكتمل , وانا مرتاح له. المهم انه علينا الآن ان نعمل لأن امامنا الكثير حالياً عن نفسي وبمتابعة مني اركز على تدريب الناس واعدادهم لدخول سوق العمل, ولا أريد ان يتأفف احد من اي مهنة , الا تلك التي تخدش الحياء والاخلاق .. وحتى الخيم السلطانية فاننا ندرب الرجال والنساء على العمل فيها واعدادها وترتيبها , وكل سنة ندرب اعدادا مهمة على هذه الصنعة باشرافنا... الكثير من مواطن التدريب, ومنها هذه هي رديف لإعداد المواطن اعدادا مهنيا نعطيه فيه السنارة لتعلم صيد السمك, بدل ان نعطيه سمكا يعيش منه ليوم واحد.. اننا هنا نعطيه مهنة يعيش منها ابدا وطول العمر.
في السابق كنا اذا استعرضنا الارقام والعمالة والمهن ووجدنا ان القطاع الخاص قد استوعب منها عشرة آلاف شخص نقول انه رقم مهم وكبير ومفرح.
اليوم القطاع الخاص يستوعب ما يزيد عن مئة الف شخص من المدربين على مهن متعددة. وعندما يستوعب القطاع هذا العدد فانه لا يستوعبه مجاملة للقرارات الحكومية, بل لأن الناس مدربون على مهنهم, وعليهم ان يعطوها حقها. لا أريد ان يتأفف احد من المهن, الموجودة في سوق العمل.. هذا النوع من التأفف لا احبه ولا اريده نعم ان موضوع التأفف هذا نجده في مجتمعات خليجية كثيرة, لكن عندنا لا نريد للشركات والمصانع ان توظف احدا لاتأخذ حقها منه, ولا يعطي مردودا لها.. انا اتابع هذه التفاصيل لانها مربحة لنا ولاقتصادنا.
جلالة السلطان.. في متابعاتي الاقتصادية لمسار الموازنة العمانية نلاحظ عجزاً .. هل هذا العجز مستمر وما هي اوضاع المداخيل المتوفرة من الثروات الوطنية?
عند وضع الموازنة العامة يوضع سعر للنفط اقل من السعر السوقي, ولذا تجد ان هناك عجزا في الموازنة. الى جانب آخر فان هذه الموازنة توضع في العادة لتغطية انجاز مشاريع في سنة قادمة, وعلى كل حال فان ما يستنفد من الموازنة ليس دائما كلها, اذ يرحل مالم يستنفد منها الى السنة القادمة.
اما فيما يتعلق بمداخيل النفط وفق الاسعار السوقية فان فارق السعر بين ما وضعناه في الموازنة. وما هو عليه في السوق, وهو أعلى بالطبع, فيذهب الى صندوق الاحتياطي ليستثمره بشكل جيد وتحفظي ومربح وليس فيه مخاطرة . لقد تحدث معنا كثيرون حول استثمار اموال صندوق الاحتياط بشكل اوسع , لكننا لم نرغب باي مخاطرة لاموال الصندوق وفضلنا ان تكون الاستثمارات مدروسة وليس فيها مخاطر. وتسألني عن الموارد في المستقبل فأقول لك ان هناك نفوطا عمانية ثقيلة, باحتياطيات كبيرة كانت باسعارها القديمة السابقة غير مجدية اقتصاديا لجهة الانتاج , لكن الان وبالاسعار السائدة للنفط, التي لا اظن انها ستتراجع بحكم مرئيات النمو في العالم.. اسعار انتاج هذه النفوط الثقيلة اصبحت مجدية ومربحة, اضافة الى ان النفوط الثقيلة اصبحت مطلوبة من الاسواق الدولية ثم لدينا الغاز الذي نصدره باتفاقات مريحة وطويلة , كما لدينا ثروات اخرى كالجبس والكروم والاسمنت , والثروة الزراعية والسمكية , الى جانب الانفتاح الذي قررنا الدخول فيه بجرعات اعلى على جبهتي الاستثمار والسياحة. اعتقد اننا نسير بشكل مستقيم وموثوق.
جلالة السلطان.. ونحن نتحدث عن الثروة الغذائية, هل تصدر عمان منها شيئا للخارج, وهل عمان مكتفية ذاتيا ولا تستورد غذاءها من الخارج?
لا يوجد بلد في العالم نستطيع ان نقول عنه أنه مكتف ذاتيا, ان لجهة الغذاء او الاحتياجات الاخرى. تبادل السلع والمعرفة موجودة منذ الازل في نطاق الحركة البشرية, والله تعالى يقول في محكم كتابه »فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه« وهذه هي العولمة التي وردت في كتابنا العزيز قبل ان ترد في كتب العالم الموضوعة.. لا توجد دولة لديها اكتفاء سواء على مستوى الغذاء او على مستوى توفر حاجات انتاج الغذاء كالطاقة. تبادل السلع شأن انساني, نحن نرسل للاخرين السمك والنفط وهم يرسلون لنا التفاح والموز, والمهم هنا ان تكون لدينا القدرة على التصدير والاستيراد وتبادل السلع بشكل عادل مع مصالحنا ومصالح الاخرين.
جلالة السلطان.. في كل هذه وتلك من القضايا وفي كل الصور المشرقة التي رسمتها لشعبك ولوطنك, هل تعتقد ان هذا الشعب قريب من طموحك ومتفاعل معك?
اعتقد ذلك نعم.. الاكثرية لديها نفس الرؤية وحتى بعض اصحاب العواطف غير الواضحة لي, من اجيال كثيرة. فهؤلاء عندما اجلس معهم وأناقشهم اجد لديهم نفس المطامح ونفس الرغبات ونفس الصورة التي يرونها لبلدهم ولشعبهم, وهذا التلاقي يدفعني الى العمل اكثر وان اجيء على نفسي اكثر. نعم.. انا أعيش في بوتقة واحدة, والخيم السلطانية تضعني في معاني تفقد الراعي لرعيته والاستعلام عن مطالبها, وفي هذه الطموحات تجد ان كل شيء يصب في مصلحة الرعية ولا هدف لي منها, بل كلها للناس الذين اعطوني ثقتهم لامارس عليهم دور من يعطي الرسالة قبل ان يمارس السلطة فيهم.
جلالة السلطان.. عجبي كبير وانا ارى المجتمع العماني يماثل المجتمعات الخليجية الاخرى في تعدد النسيج القبلي, لكن جلالتكم خلقتم موازنة بين هذه القبائل, بينما الخليجيون الآخرون مازالوا يعانون الارهاق من التعامل مع الخصوصيات القبلية, وتراهم الان بصدد العمل لاكتشاف المعادلة الطبيعية لهذا التعامل. في عمان أجد ان مسألة القبائل محلولة.. ما سر معادلتكم هذه?
ابتسم السلطان الابتسامة المفعمة بالمعاني والاشارات وقال: تاريخ الاسرة الحاكمة في عمان يسجل لها أنها انتخبت سلطانا ذا ميول حيادية. ومن يومها اتسم الحكم بأنه للكل وحول الكل. هذه هي المعادلة التي اعمل بها. في رحلاتي الداخلية أسمع من الصغير والكبير, وليست لدينا اي تعقيدات في هذا الامر. نحافظ على وجاهة الكل الاجتماعية, ونتعامل مع الجميع بتكريم وتقدير, ونستمع الى مطالبهم ويستمعون هم الى مرئياتنا, ولا توجد بيننا اي منغصات .. هذا هو سر المعادلة: حفظ كرامة كل شخص كما يجب, اعطاء كل ذي حق حقه لجهة التقدير. نحن نحافظ على كرامة الجميع, وعلى وجاهاتهم الاجتماعية, والتي هي جزء من خصوصيتنا.
جلالة السلطان.. في الثامن عشر من شهر نوفمبر سنة 1994 ألقيت خطاباً يعيش العالم الاˆن ابعاده, ويعاني الاˆن من ثقل معانيه, هل فيك شيء لله يا صاحب الجلالة?
ابتسم جلالته هذه المرة ابتسامة حزينة وقال: تقصد ذاك الخطاب الذي حذرت فيه شعبنا من الارهاب, ومن استخدام نصوص الدين في غير معانيها, اذا كان الامر كذلك فدعني اضف لك ما استجد منذ سنة ,1994 العالم يعاني الاˆن, وبوضع مكشوف من الارهاب, ونحمد الله ان تلك النباتات الكريهة والسامة رفضتها التربة العمانية الطيبة, والتي لا تنبت الا طيباً, ونحمد الله ان شعبنا تجاوب مع ما جاء في ذلك الخطاب, وربما كان صاحب رؤية مستقبلية, فوقاه ووقانا معه من تلك النباتات السامة والكريهة.
عمان كما قلت لك مقدماً ليس فيها منغصات امنية, شعبها يؤمن بالضبط والربط ويؤمن بدينه, دين اليسر لا دين العسر. بعض دول المنطقة تعرضت لهذا المرض, وبمشيئة الله ستنتصر عليه بدين اليسر والمجادلة بالحسنى, الارهاب في انحسار طالما عرفنا كيف نحاربه وفهمنا طرق محاربته, ومتى نحاربه.
جلالة السلطان.. فقد مجلس التعاون الخليجي أربعة من قادته المهمين الذين عايشوا مرحلة تأسيسه: الملك فهد رحمه الله, الشيخ جابر رحمه الله, الشيخ عيسى رحمه الله, الشيخ زايد رحمه الله.. هل سيؤثر رحيل هؤلاء القادة على مسيرة المجلس?
مجلس التعاون تجذر في المنطقة وفي نظري فإن لديه خير خلف لخير سلف, الى جانب ان المجلس أصبح له نمط وجود, ومرئيات, واتفاقات, وكل ما هنالك على كل بلد عضو ان يحافظ على خصوصياته تحت جناحه, وعلى سيادته, حتى يحقق ربطا مشتركا لمصالح المنطقة. هذا التجمع معول عليه الكثير كالتكامل الاقتصادي والصناعي, واعتقد أنه مستمر في اداء هذا الدور. ومع تجذر ثقافة التعاون سيزداد المجلس اهمية. ولا يمكن الا يكتمل هذا العقد, في الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن العولمة مع كل اصقاع الدنيا. هذه دول ست متجانسة ومتاˆلفة, ولديها ثروات مجزية , ولا اعتقد انها ستتباعد عن بعضها في وقت تجتاح فيه العولمة كل العالم.
جلالة السلطان.. كلما التقيت بأميرنا الشيخ صباح اجد أنه يكن لجلالتكم كل المودة والتقدير?
أشعر والله أنني كلما اقتربت من هذا الرجل الودود يزداد تقديري الزائد له ولشخصيته المحببة.. وفقه الله في منصبه لخدمة شعبه ووطنه.. إنه رجل مريح يفرض الاحترام.. انه محل تقدير واعزاز من قبلي شخصيا.. ادعو له الله بالتوفيق والصحة والعافية.
تعليق