إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الطــــريــق إلـــــــى جــــحـــلـــــوت

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الطــــريــق إلـــــــى جــــحـــلـــــوت

    الخروج مــن حــواف الجمـــــجـــمة [1]
    الطـــــــــريــق إلـــــــى جــــحـــلـــــوت




    السبت: 10/1/2009م، الثامنة والنصف مساء.

    تأففَ وفقدَ صبره وصرخ في هندي المطعم أن يسرعَ، ثم ضرب بخنصره الأيمن على الساعة وهو يشير منفعلاً إلى هندي المطعم كأنما يقول له [هاتِ العشاء فأنا في عجلة من أمري]. بعد دقيقتين خرجَ الهندي من باب المطعم وبعينيه نظرة لوم وضيق، تراجع موقفه الهجومي إثر التقاء عينيه بعيني هندي المطعم العجوز، وحينها غشاه شعورٌ حاد بالأسى فاعتذر بحُرقة وقالَ له مُحرجاً: سوريش واجد سوري صديق، أنا شوية اليوم مخ تعبان، بكرة لازم روح مكان زروري. أبدى الهنديُّ تفهمه وصرحت عيناه عن قليلٍ من الضيق وكثير من التفهم وهزَّ رأسه جانبياً كعادة الهنود وناوله ستة أكياس صغيرة، ثم مال عليه هامساً: أرباب راشد ما في مشكل، [ثم وهو يميل هامسا] أنا فيه سوي واحد صحن دال فري من شان انته. اغرورقت عينا راشد بالدموع، وأخذ الأكياس مُحرجاً وولى دون أن يقول شيئا. كان ينتفضُ بشدة وهو يضع الأكياس بحذر على كُرسي السيارة الأمامي، ورفع رأسه ويديه وعينيه لسقف السيارة وتضرع بخشوع: يا رب ساعدني وارحمني تراني ما عندي حد، يا رب ما حد يلِّي غيرك، ساعدني باكر وارزقني كما رزقت غيري. وضع الغيار بحذر في الموضع الأول وضغط على البنزين بهدوء شديد، كان يرتجفُ قليلاً ولكنه كان مطمئناً.

    &&&
    السبت: 10/1/2009، السابعة والنصف مساءً.

    " ولدنا راشد بن حميد المستبلي من سكان ولاية مطرح حلة الزبادية. وقد توفى والده وهو في السادسة من العُمر، وتوفت أمه بعد سنتين في حادثِ سيارةٍ مع عمه الوحيد وهما آخر أفراد عائلته المعروفين لدينا ولم يُعرف عنهما سوى بساطة الحال وحسن الذكر، وقد عاش وعمل في منزلنا منذ وفاةِ أمه بوظيفة [سائق ــ بوَّاب ــ عامل منزل] إلى أن ساعدناه في العمل في الحكومة فهو يعمل بوظيفة [فراش] بمكتبنا منذ 6 أعوام وما وجدنا منه إلا الإخلاص في العمل والتهذيب وجميع الموظفين بالوزارة يحبونه ويقدرونه فهو على درجة عالية من الأخلاق وما سمعتُ وشاهدتُ منه إلا كل الخير والتهذيب، وقد طلب منا كتابة هذه الرسالة له كشفاعةٍ حسنة يقدمها لمن أرادَ أن يخطبَ منه كريمةً أو اختاً عسى أن تلينَ القلوب له فهو شابٌ يستحقُ كُل الخير"

    سعادتنا نحن الشيخ: سعيد بن ساعد السعدني
    1/ إبريل/ 2002م

    قرأ الرسالة المغلفة بغلاف بلاستيكي صلب بصوت مرتجف، وبعد أن أنهى قراءتها أخرج ورقةً أخرى عليها أختام رسمية زرقاء اللون، وبدأ يقرأها بصوتٍ هادئ:

    " تشهدُ حكومة سلطنة عُمان ممثله في وزارةُ البرق والاتصالات بأن المذكور أعلاه يعمل لديها أبتداء من تاريخ 15/ مارس/ 1996م بوظيفة [مُراسل] بديوان عام الوزارة بمسقط بمكتب سعادة مستشار شؤون تخطيط الإجراءات البرقية بمكتب معالي الوزير. ويتحصل على راتب شهري مقداره [289] ريال عُمانياً دون استقطاع مستحقات التقاعد وقد أعطيت له هذه الرسالة بناء على طلبه لتقديمها إلى وزارة الإسكان دون تحمل الوزارة أي مسألية تجاة الغير."

    مســــعود بن ســــــاعد السعدني
    مــــــدير دائرة الشؤون الإدارية
    بمكتب ســــــعادة الشيخ مستشار
    معالي وزير البرق والاتصالات
    لشؤون تخطيط الإجراءات البرقية.
    حررت بتاريخ 25/ ديسمبر/2008م


    انتهى من قراءة ورقة بيضاء بالأبيض والأسود، ومن ثم أخرجَ ورقةً ثالثة مكتوبة باللون الأزرق بخطٍ مُنمنم، وبدأ يقرأ بصوت مرتجف، وهو يقلب عينيه بين الورقة وانطباعات الاستغراب في وجه الرجل العجوز:
    " أنا يا عمي اسمي راشد بن حميد المستبلي من مواليد 18/11/1981م وعندي سيِّارة [كورولا] موديل [92] وراتبي [297] ريال عماني بعد العلاوة السنوية الأخيرة. وما عندي أقساط حال بنك ولا ديون حال حد، وقد بغيت أتشرف وأخطب من عنكم بنتكم الكبيرة [محفوظة] حفظها الله لك ولأهلها، وأطلب منكم السموحة إني جيت وحدي لأني ما عندي حد عايش من العايلة من أجل إنه يخطب لي وعشان هذا السبب قلتُ أجي من عندكم وأجيب لكم هذه الرسايل عشان تثبت كلامي.

    الحمد لله أنا شاب طايع ربي وأصلي يوم أروم في المسجد كل الصلوات حتى الفجر، وما عندي مشاكل مع أي حد، وكما ترون يا عمي رسالة الشيخ فأنا عشت عنده كل عمري إلين حصلت وظيفة في وزارة النقل وبعدين خرجت من بيتهم وأشتغل [فرَّاش] في الوزارة من [13] سنة.

    وبعد ما خرجت من بيت الشيخ ساكن في حارة في دارسيت [الساحل] مع شباب عزابية من [الرستاق] وما عندنا مشاكل مع أي حد، الشيخ بارك الله فيه سوالي مساعدة عند وزارة الأسكان عشان أحصل قطعة أرض في مسقط والحمد لله اتصلوبي من عند وزارة الإسكان عشان أسحب أرض، وأيضا الشيخ عمل لي مساعدة عند الديوان واتصلت بهم وقالولي محولة في الشؤون العامة وإن شاء الله خير.

    عندي فلوس مقدارهن [2000] ريال عشان المهر، وأتمنى توافق يا عمي على الملكة ويوم تطلع الأرض والفلوس مال الديوان إن شاء الله تتيسر الأمور وأستأجر حال بنتكم شقة زينة تعيش فيها معززة مكرمة، وأنا ناوي تكون انته الأب مالي اللي فقدته لأني شاب يتيم وما عندي أب ولا أم ولا إخوان، والله في عون المسلمين ما داموا في عون المساكين، وعاد لي خمس سنوات يا عمي أخطب من عند كل حد وما يطيعوا يزوجوني عشان أنا إنسان فقير ولكنني متأكد إنك يا عمي ما يهمك الفلوس ولكن تبغى الرجال اللي يقدر بنتك ويخدمها بعيونه، وأنا أعاهدك أمام الله والرسول إنني أسوي كل شيء عشان تعيش معززة مكرمة"

    ارتجف صوتُه وغصَّ بالدموع، ولم يستطع إضافة المزيد، فأعاد الورقة إلى الظرف البني وخفض رأسه برج. رقمه النظر العجوز باستغرابٍ وقال بصوت هادئ: ما شاء الله عليك، جاي تخطب وجايب رسايل من الشيوخ والحكومة أما انتوه شباب تو حالكم عجيب. عموماً يا ولدي الشيخ سعيد رجالٍ معرفاني وكلامه على العين والراس وإن شاء الله إذا استوى نصيب بنخبرك.
    البنت بعدها تدرس وانته شوف بعدك إلين تحصل الأرض وتستقر أمورك وتعال مرة غيرها، إنته إنسان زين والواحد ما يبغى يفرط فيك، لا تعتبر هذي موافقة، ولا تعتبرها رفض وإذا جيت مرة غيرها إن شاء الله خير.
    أنهى حديثة باستعجال ثم مال عليه وسأله بفضول: انته تقول موعود بس بالأرض متى قالولك تحصلها؟
    جاهد أن يخرج صوته مليئا بالثقة، ولكنه خرج على غير رغبته مبحوحاً: باكر أروح أسحب.

    هزَّ الرجل العجوز رأسه، وقال بلهجة لطيفة: ما عليه يا ولدي، انته شوف عسى تطلع لك أرض زينة، وتراه البنت بعدها تدرس. راجعنا بعد عيد الفطر الجاي. وعسى ربك يفتح أمورك. ما تزعل من كلامي ولكن ما حد يبدي المنز قبل لا يجي الطفل، انته شوف أمورك وضوَّل فلوسك، ويوم تكون جاهز تعال.

    اغروقت عيناه بالدموع، وانكفأ راشد على يد الرجل العجوز يلثمها بحرارة وهو يتنشج بصوتٍ مكتوم، هزَّ الرجل العجوز رأسه ومشى باتجاه الباب وهو يقول له: زورنا بعد عيد الفطر، وإن شاء الله خير. مسح راشد مخاطه بشكل خفي، وخرجَ دون أن يقول شيئا. أما الرجل العجوز فقد صرخ على ابنته بعد أن تأكد من ابتعاد سيارة راشد: علوه [محفوظوة] تعالي، طلع واحدي يتيم ما حيلته شيء، بيجيش رزقش يوم تخلصي دراستش، المهم تعاي فتحي لي الجزيرة أبغى أشوف موه مستوي في بلادنا غزة.
    &&&

    أمام البيت وضع راشد غيار السيارة في الموضع الأول بهدوء وحذر، وبعد أن ابتعدت السيارة عن منزل حماه المُنتظر رفعَ رأسه وعينيه إلى سقف السيارة وتضرع بهدوء: يا رب اكتب لي أكمل نص ديني، تراني مكمل النص الأول ووفقني كما وفقت غيري أتزوج وأرتاح من حياة العزوبية. أنهى دعاءه الحار وأكمل القيادة متجها إلى دارسيت. كاد أن ينسى شراء العشاء لمن يشتركُ معهم في الشقة، ولكن لوحةَ البلدية والمطاعم المنتشرة، مع الصوت الذي أصدرته أمعاءه تذكر مهمة شراء العشاء.

    بينما كان راشد يقود سيارته إلى بيته كان الهندي سوريش يقولُ لعُمانيٍّ هزيل: هذا نفر واجد زين، أنا فيه معلوم عشرة سنة يمكن كُل يوم سيم سيم عشاء دال، بس هوه قلب واجد نظيف يمكن فقير بس قلب نظيف واجد !!! .. رمقه العُماني الشاب بلا اهتمام، وعاد لإكمال عشائه دون أن يعلق.

    &&&

    احتفى الساكنون في دارسيت براشد احتفالا مهيبا إذ أخبرهم وهو ينتفض حماسة أنه حصل على ردٍّ شبه إيجابي في آخر محاولاته للزواج، فما كان من الساكنين في الشقة إلا وأن تعالت صرخاتهم مهللين ومُشجعين. وبينما الكل مجتمعٌ على العشاء، استمر رائد في إعاد سرد المشهد مرَّات ومرات وهو يدعو للشيخ سعيد الذي ساعده ومنحه رسالة تزكية، وبينما هو يتحدث انتبه أحد المتعشين إلى اسم راشد مكتوباً على ورقةٍ من الجرائد التي فُرشت أسفل الطعام، فصرخَ فيه مُنبها: اسمك في الجريدة، خرج راشد عن طوره وسحب الجريدة بحذر أسفل صحن صاحبه وبدأ يصرخ قبل أن ينخرطَ في بكاءٍ حاد:

    [اسمي في الجريدة، صرتُ مشهوراً ، صرتُ مشهوراً .. الحمد لله .الحمد لله].

    نسي راشد العشاء وتركهم يلتهمون صحنه برضى تام بينما أكمل هو فورته العاطفية ثم أخذ ورقة الجريدة إلى المطبخ وقصَّ الإعلان بعناية تامة وقد نوى أن يغلفها صباحَ الغدِ بآلة التغليف لدى مُنسقة الشيخ. قبل أن ينامَ احتضنَ محفظته بقوةَ ورفع جسده وعينيه ورأسه ويديه إلى سقف الغرفة ودعى الله بخشوع تام أن يحصل له كما حصل لابن الشيخ الذي سحب أرضاً في منطقة غالية وباعها بمليون ريال.

    [ يا رب يا كريم، ما باغي مليون ريال، عشرة آلاف يسدن، وفقني يا رب عشان أتزوج وأرتاح من حياة العزوبية تراني واجد تعبان، يا رب .. أرجوك خلي الأرض تطلع لي في القرم]


    &&&

    الأحد: 11/1/1009م

    على غير عادته خرجَ راشد من الشقة فجراً دونَ أن يصلي في المسجد، وقبل أن تدق الساعة السادسة كان قد أودع بصمة وسطاه في جهاز الحضور والإنصراف وانزوى في مطبخ مكتب المستشار ليعد الشاي والقهوة في دلتين منفصلتين، الأولى مزعفرةً لمدراء العموم والدوائر، والثانية عادية لباقي الموظفين، وكذلك إبريق الشاي المنفصل إلى حاويتين الأولى صغيرة بها شاي بالحليب منزوع الدهن للمستشار، والثانية بالحليب العادي لباقي الموظفين.

    قرابة السابعة والنصف أنهى عَمله، وبدأ بتوزيع الشاي والقهوة لموظفي مكتب المستشار التسعة، وبعد الثامنة والنصف جلس إلى مكتب منسقة المستشار مُنتظراً حضوره. وبين دقيقة وأخرى كان يعيد السؤال مرةً أخرى: متى سعادة الشيخ يوصل؟

    رمقته المنسقة بنظرةٍ منزعجة، وأجابته: سعادة الشيخ بعده ما واصل، روح المطبخ ولما يوصل أنا بنفسي أتصل بك. مالك اليوم لحوح ما هيه عادتك [راشد]. أنت أكثر واحد يعرف إنه سعادته ما يوصل قبل الساعة عشرة لما معاليه يكون ما مداوم !!!!

    اغرورقت عيناه بالدموع، وخفض رأسه بخجل وشرحَ لها بهدوء أنه لا يستطيع الخروج إلى وزارة الإسكان ما لم يحصل على إذن من الشيخ، وأنه في حياته الوظيفية كاملة لم يتسيب أو يغيب دون عذر مقبول ولا يريد الشيخ أن يغضب عليه.

    ابتسمت المنسقة بتفهم، وقالت له بلطف: ما عليك، انته روح وأنا بنفسي بخبر الشيخ، روح على ضمانتي أنا متأكده إنه الشيخ ما يعارض وتراه ما حد يحصل أرض مرتين. الهم انته روح ورجع قبل الساعة 12 تعرف الشيخ يبغى يشرب الشاي الأحمر في هذا الوقت.

    ابتسمَ بامتنان، وكاد أن ينكفئ على يديها ليقبلها لولا أن انتبه في اللحظة الأخيرة إلى عدم ملائمة ذلك. ذهب راكضا إلى حيث أوقفَ سيارته ولسانه يلهج بالدعاء والحوقة والبسملة، وبينما هو يضع الناقل الآلي في الموضع الأول بحذر بالغ رفع عينيه ورأسه ويديه إلى سقف السيارة ودعى الله خاشعاً أن يحقق له أحلامه وأن يسحبَ أرضاً جيدة في بوشر أو المعبيلة، وأن يوفق [سعاد السعدنية] منسقة الشيخ الطيبة وأن يرزقها الزوج الصالح.

    &&&

    لم ينتبه راشد كم مضى من الوقت بعد خروجه من الوزارة، إذ غشاه شعورٌ بالخدر والفرحة الغامرة حتى كاد أن يصدمَ شاحنةً تنقلُ الإسمنت بالقرب من جسر الخوير حيث تقع وزارة الإسكان بمواجهة الشارع العام بمسقط.

    أوقف سيارته بجانب الوزارة وتأكد من وجود الاوراق اللازمة لديه، [نسخة من شهادة الميلاد ــ نسخة من جواز السفر ـ نسخة من بطاقة العمل ـ نسخة من شهادة العمل ــ نسخة من عقد الإيجار]. وضع جميع الأوراق في ملفه البُنيِّ ومشى بهدوء باتجاه الموظف الأمني بالبوابة الجانبية للوزارة.

    سأله بلطف شديد عن موقع سحب الأراضي. أشار له بلا مبالاة إلى البوابة رقم [2]، وعندما انكفأ راشد على يديه ليقبلها شاكراً نهره الموظف وقال له بوضوح: روح هناك، أنا ما بيدي أسويلك شيء.

    بعد بحث بسيط دلف إلى القاعةِ التي تُسحب فيها قُرعة الأراضي، بعد سؤالين أو ثلاثة لموظفين يرتبان الطاولات أخذ كرسياً في القاعة الخالية وبدأ يردد سورة الفاتحة بصوت خفيض. رفع رأسه ويديه وعينيه إلى سقف القاعة ودعى الله: [يا رب .. غيرت رأيي، أبغى الأرض مكان قريب من روي حيت تسكن محفوظة عشان ما يتعبوا أهلها لما يجيوا يزوروها]

    &&&

    الثامنة والنصف صباحاً:

    امتلأت القاعة تماماً بالرجال والنساء. ازداد راشد انزواء على نفسه وشدد من قبضته على ملفه البنِّي، وأصاخ السمعُ إلى أصواتِ المتناقشين من الرجال والنساء. ووبعد نصف ساعة دخلت لجنةٌ من الرجال وامرأة واحدة وشرحوا للحاضرين اشتراطات السحب وكيفيته. أنصت بعناية إلى النقاشات التي تدور محاولا فهم ما يدور.

    قاطع إنصاته موظف عُماني يوزع أوراقاً زرقاء اللون. أمسك الورقة بعناية وبدأ يقرأها بصعوبة: أقرا أنا ..... بأنني لم أحصل على أرضٍ سابقاً وأن الوزارة يحق لها إلغاء طلبي في حال عدم دعي رسوم الأرض خلال ثلاثة أشهر ما لم يكن هنالك عذر مقبول لدى الوزارة.

    ملأ راشد خانات الاستمارة بعنايةٍ تامة، مستنداً على خريطة لسلطنة عُمان موضوعة بالقرب من الجدار. سلَّمها للموظف المختص ثم سأله بخجل شديد: متى ينادوا الأسماء، ومن أعطيه الأوراق؟

    أجابه الموظف ببرود: اجلس وإحنا بننادي اسمك من الملف، وما تحتاج أوراق بس بطاقتك الشخصية لا أكثر.

    تأكد من وجود بطاقته الشخصية، وعاد إلى كرُسيه في المقدمة. سمع الموظف يناديه: لو تسمح يا الطيب، النساء في الأمام. رجع راشد محرجاً. ترك الصفوف الخمسة الأولى تمتلئ بالنساء المنتظرات سحب قُرعة الأرض. وبينما ينتظر اسمه كان ينتصتُ باهتمام إلى الحوارات التي تدور.

    &&&

    " سمعت إنه كل الأراضي اليوم بتوزع في العامرات بس أرضين في المعبيلة ووحدة ف يالقرم "
    " هذاك عامر أبوه مستشار بدرجة وزير. أكيد اليوم يوزعوا في مكان زين ولا موه جاب أولاد الوزراء هنا؟"
    " ما لهم ينادوا أسماء الحريم قبل، ياخي ورانا شغل وتعب"
    " يقول كل الموجودين اليوم جايين استثناء، عسى يكون هذا في صالحنا"
    " ترانا جوعانين .. خلصونا باغيين نروح أعمالنا"
    " يقولوا الوزارة بتأجل الطلبات الجديدة إلين يخلص كأس الخليج، عشان الموظفين يركزوا في عملهم"
    " كل الأراضي في العامرات، أحسن من يومكم تتعارفوا تراه شكلنا بنكون جيران"
    " هذيلا الحريم، ما صدقني يعطوهن أرض ناقص بعد مدة يروحن يخطبن الرجال!!!"

    &&&

    الحادية عشر والنصف صباحاً.

    ارتفع صوتُ الموظفة منادياً: راشد بن حميد بن راشد المستبلي. قفز من كرسيه وذهب راكضاً إلى الموظفة، وأعطاها الملف البني بتهذيب تام.
    أعادت له الموظف الملف وقالت باستعجال: جيب ريال مال الاستمارة.

    أخرج عشر ورقات من فئة المائة بيسة وناولها إياهن بلطف.

    سألته: عندك ريال صبّ؟ أجابها وهو يخفض رأسه: هاعة؟

    هزت رأسها ثم وقعت على اسمه، وأشارت إليه أن يذهب إلى الرجل الواقف بجانبِ الصندوق.

    &&&

    تأمل الصندوق كأنه يراه للمرة الأولى، كان يشبه ذلك الذي تُسحب فيه جوائز المسابقات ولكنه هذه المرة امتلأ بأوراق ثُنيت إلى الداخل ويخترقها دبّوس معدني من المنتصف.

    قال له الرجل: أنت راشد بن حميد؟
    أجابه بسرعة: هيوا .. هذا أنا؟
    قال له الرجل: اسحب ورقة، وروح عند الرجال وبينادوا اسمك.

    رفع عينيه إلى سقف القاعة ودعى الله أن يوفقه في الاختيار. سحب ورقةً على جانب الصندوق وتأكد أن يقرأ سورة الإخلاص قبل أن يسلمها للموظف الجالس على الطاولة جانب صندوق القرعة.

    &&&

    غزته رجفةٌ شديدة، وكاد أن يقع وهو يعود إلى كُرسيه. سأله الذي بجانبه: هين طاحت لك الأرض؟ التفتَ راشد إليه باستغراب وسأله: كيف أعرف، ما فتحت الورقة. قال له الذي بجانبه: أها .. ما عليه بينادولك اسمك بعدين.

    انشغل بالدعاء وقراءة القرآن، ورفع رأسه وعينيه إلى سقف القاعة وقال بصوت خفيض: يا رب، لو طاحت لي أرض زينة، أوعدك ما أشوف على بنت مرّة ثانية بنظرة اشتهاء، سامحني يا رب. يا رب تكون الأرض في المعبيلة أو القرم حيت تكون أهم شيء تغطي قيمة المهر، أرجوك يا رب باغي اتزوج.

    &&&
    الواحدة ظهرا:

    ارتفع صوت موظف عجوز يجلس إلى الطاولة الواقع بجانب صندوق سحب الأراضي: راشد بن حميد بن راشد المستبلي.

    قفز راشد من كرسيه وركض صوب الموظف العجوز. طلب منه بطاقته الشخصية فأعطاه إياها بصورة آلية. سأله الموظف العجوز بصرامة: موه فيك تنتفض؟؟

    حاول أن يردَ عليه بصورةٍ طبيعية ولكن خرج صوته مبحوحاً: ما شيء، بس مريض شوية. ردَّ عليه الموظف العجوز بابتسامة: الله يشفيك، روح جلس وبنناديك بعدين.

    &&&

    الواحدة والنصف ظهراً:

    ارتفع صوت أجش لموظف ممتلئ الجسم: راشد بن حميد بن راشد المستبلي.
    قفز راشد وذهب راكضاً إليه. أخرج الموظف الممتلئ ورقةً زرقاء وقال له: وقع هُنا.
    سألها راشد: موه هذي؟
    أجابه باستعجال: هذا تعهد بإنهاء إجراءات الأرض قبل ثلاثة أشهر. تعال بعد شهر ادفع الرسوم واستلم ملكيتك.
    سأله بهلع: رسوم مال موه؟
    أجابه بنفاذ صبر: رسوم الأرض المتر بريال، خلص بسرعة وقع واجدين ينتظروا.

    وقع على الورقة، وأُعطي إياها في يده. مادت به الأرض وكاد أن يخر ساجداً على الأرض لولا حرجه من الحاضرين الذين حدَّقوا ردة فعله الفرحة فيه بتمعن وتساؤل. عاد وجلس إلى كُرسيه متأهباً ينتظرُ أن يُنادى اسمه.
    سأل الذي بجواره: هين طاحت لك الأرض.
    أجابه: بعدني ما أعرف.
    رفع الجالس جانبه صوته وقال بضيق: أشوفك مستلم الوصل وأمورك مخلصة وبعدك رجعت تجلس، قول ترانا ما نحسدك.
    انتبه إلى الوصل في يده، وقرأ بوضوح موقع الأرض [العامرات ــ جحلوت]. دون أن يعبأ بالجالس إلى جواره خرج وقفلَ راكضاً إلى سيارته وهو يختنق بالدموع.
    بعد أن استوى على كرسي السيارة رفع عينيه إلى سقفها وطفق ويدعو الله بخضوع وهو: [مشكور يا رب .. مشكور يا الله.. أشكرك يا رب أشكرك والحمد لله على نعمتك . أوعدك يا رب أطيعك وما أعصيك بس وفقني يا رب، وفقني].
    وقبل أن يضع المفتاح في مكانه، ثنى الورقة مرتين بعناية ووضعها في الملف البني وهو يفكر أن يصورها عشرين نسخةً بآلة النسخ الموجودة لدى منسقة الشيخ، وبينما يضع الناقل في الموضع الأول بعناية وحذر كانت قطرات من الدموع والمخاط تنسكب على دشداشته دون أن يعبأ أو يلقي بالاً.

    &&&

    غابَ في تأملاته، وكاد أن يصطدم بشاحنة أسياخ حديد البناء بالقرب من دوارِ الوطية لولا أن انحرف بصعوبةٍ بالغة عن مؤخرتها الحديدية. قطع الشارعَ متجها إلى موقع الوزارة بروي دونَ أن يفكرَ بشيء. دار في ذهنه أن يتصلَ بصاحب له ولكنه تذكر أنه نسي هاتفه النقال في الشاحن بعد أن خرجَ متعجلاً فجراً. كان يفكر أن يذهب من فوره إلى أبِ محفوظة لينقل له البشارة، ولكنه تراجع عن قراره بسرعة، دار في خلده ألا يذهب للعمل وأن يكتفي بالعودة للشقة، ولكن ما أن لمح إشارة إرشادية على جانب الطريق تقول: [العامرات، حجلوت: اذهب يمينا]. بعد أن رأى هذه اللوحة انحرف بسيارته يميناً وهو يفكرُ في شيء مُختلف.
    قطعَ الطريق مُسرعاً وهو يتجاوز الشاحنات والسيارات بتهور غير معتاد. وضع الناقل في الوضع الرابع وضغط على البنزين بغل. بعد 20 دقيقة وجدَ لوحةً إرشادية أخرى [جحلوت اذهب يمينا]. كاد أن يصطدم بقبيلة من الحَمير تتوسط الشارع لولا أن انتبه في اللحظة الأخيرة. خفقَ قلبه بتسارع، وتتابعت أنفاسه وهو ينزل من سيارته ويصفق بابها بغير اهتمام. تصاعد دُخانٌ كثيفٌ من مقدمة سيارته، ولكنه لم يلقِ بالاً.

    اسودَّ العالم المُحيطُ أمامه إلا من قطعةٍ مربعة تبعد خمسمائة متر عن موقع سيارته بجانب الشارع. مشى ذاهلاً إليها وهو يتنشج ويختنق بدموعه، قطع المسافة في ربعِ ساعة، وعندما توقف عن المشي شعرَ بحُرقةٍ في عينيه وما يشبه الطعنة في ذراعه اليسرى. ركع غير عابئ بالتراب الذي لون دشداشته بلونٍ بُني. أمسك قبضتين من التراب وطفق يمسح وجهه ويديه. صلّى ركعتي شكر لله، وبعد أن سلَّمَ رفع يديه للسماء، وقبل أن يقولَ شيئا سقط مغشيا عليه.

    &&&

    " تم إيداع الجثة في مشرحة مستشفى الشرطة بتاريخ 12/1/2009م استلمت من مركز شرطة العامرات، الجثة تعود لذكر عُماني الجنسية يبلغ من العمر 28 عاماً تم التأكد من اسمة وقبيلتة وعمرة عن طريق جهاز الأرقام المدنيه. سبب الموت كما تشير الأعراض هوه أزمه قلبيه حاده. تحفظ الجثة في المشرحه لمدة لثلاثة شهور وفي حال عدم وجود مطالبات بها تدفن في أرض مقبرة [القرم] للموتى المجهولين.

    المـــقدم طبيب: عبـــــد الرحيم بن عـــــبد الرحــــــمن القودي
    اختصاصي اول طب شرعي بمستشفى شرطة عمان السلطانيه"


    معاوية الرواحي
    2009م
    ملاحظة: إن أي تشابه بين النص والحياة الواقعية هو من باب الصدفة لا أكثر.
    المُهَذوَنة ..

    http://www.almuhathwin.com

  • #2
    واقعي/واقع /فاقع جدا...

    أحيانا من المفيد أن تجد لك (بلان بي) لترتيب حياتك، وياحبذا لو كانت (موتا رمنسيا تحت الشمس)

    يقول محمود درويش:
    " أقول الحياة التي لا تعرف إلا
    بضد الموت ... ليست حياة"

    إذن فقد كان صديقنا ميت منذ بداية الحكاية/ تماما كما نحن!

    شكرا معاوية..(بمد الألف)

    تعليق


    • #3
      القصة جميلة جدا ،،،،سحبتني الى أعماقها حتى أخر نفس للبطل والذي لم اكن اعلم انه مات فبل ان أبدأ أنا بالتنفس معه
      أحزنني موته بعد الفرح الوحيد الذي زاره فجأة وكانت ضريبة زيارته أكبر مما توقع

      ""حرام على قلبي السرور فانني اعد الذي ماتت به بعدها سما """
      يبدو ان بطلك يامعاوية مات بداء جدة المتنبي !!!!!!!!!1
      تمنيت لو انه لم يموت
      الحبكة ممتازة والترابط القصصي متسلسل بشكل متناغم
      قال البحرللسمكة :لماذا أخطأت الطريق؟
      -إنها تياراتك سيدي.
      قال البحر للسمكة :لماذا التهمت ماليس لك؟
      -إنها مجاعتك سيدي.
      قال البحر للسمكة:لماذا جبنت أحيانا عن قول الصدق؟
      -إنها أسماك قرشك سيدي.
      قال البحر للسمكة:ولماذا هاجرت من كهف إلى آخر؟
      -كنت أفتش عن الشمس سيدي.
      قال البحر للسمكة :يالك من مخلوق غريب غامض!
      -أنا ابنتك سيدي.

      تعليق


      • #4
        المقيدة الحرة، والسعيدية نوف .. لكما جزيل المودة والشكر ..

        هذا النص اكتسب قيمة أكبر .. وهذه حكاية قادمة سأقولها ذات يوم ..
        المُهَذوَنة ..

        http://www.almuhathwin.com

        تعليق


        • #5
          قرأت النص في شرفات أن لم تخني الذاكرة .
          غوص في الأعماق ودقة في اختيار الكلمات
          اسقاط تناقضات الواقع في قالب أدبي رائع وبأسلوب مدهش !!

          معاوية هو معاوية ... ولا أملك أكثر لأقول .

          كل الود
          أعطيتك الكثير .. لأنك تسكن روحي ، وتسافر معها .. فماذا أعطيتني !!؟
          فقط هو الشقـاء
          ..
          الــروح .. سفر آخر !!

          تعليق


          • #6

            معاوية كم أنت رائع في سرد قصتك الواقعية.

            يا حبذا لو تعمقت أكثر في بلاغة اللغة. فكم يكون للغة من تأثير على القارئ.

            أتمنى لك التوفيق، وفي إنتظار المزيد من الإبداع.

            لك كل الود والتقدير،،،
            ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك


            زورونا في سلسلة ( إقرأ معي )

            الكتاب الأول

            تعليق


            • #7
              العنا .. الجبل العماني العالي .. لكم الشكر يا أصدقاء ...
              المُهَذوَنة ..

              http://www.almuhathwin.com

              تعليق


              • #8
                العزيز مُعاوية،،
                سردك للنص ينقلنا إلى عالم المستبلي وإلى آماله وطموحاته وحسن نيته..

                لن أعلق هنا لأن روعة النص لا تترك مساحة للتعليق..

                يومك سعيد،،

                تعليق


                • #9
                  أرخميدس السابع عشر [واحد زيادة من معي] ..

                  شكرا..
                  المُهَذوَنة ..

                  http://www.almuhathwin.com

                  تعليق


                  • #10
                    معاوية

                    سرد ممتع يلامس تفاصيل الواقع المر..............

                    تحياتي
                    *******************
                    العنا وش هو العنا
                    غير أنت وجروحك وأنا
                    *************

                    تعليق


                    • #11
                      ارخميدس السابع عشر

                      تعليق


                      • #12
                        قصة رووعة ولو إنها قلعتلي عيوني بس تستاهل
                        يسلموووووووووو
                        ¨°o.O (http://graphics.hotmail.com/i.p.emrose.gifقد يختفي الأمل...لكن لا يموت) O.o°¨


                        تعليق


                        • #13
                          مسكين هالولد

                          لحق بأهله الي توفوا

                          وانتهى اسم عائلتهم
                          يٱ صاحبي : نص ٱلمدٱيـح ( سوٱلِيف )
                          وَٱلطيب شيٍ .. مٱ يجِي بـ " ٱلوراثه "



                          لو تشخل ألف بـ مشخل ٱلكَم وٱلكِيف
                          طلعت لك بـ [
                          ﺈثنين ] .. وَلاّ [ ثلاثه ]

                          تعليق

                          يعمل...
                          X