حوار جريء مع فتاة معاكسة
رنين الهاتف يعلوا شيئاً فشيئا .. والشيخ ( محمد ) يغط في سباتعميق … لم يقطعه إلا ذلك الرنين المزعج … فتح ( محمد ) عينيه .. ونظر في الساعةالموضوعة على المنضدة بجواره … فإذا بها تشير إلى الثانية والربع بعد منتصف الليل !!…
لقد كان الشيخ ( محمد ) ينتظر مكالمة مهمة .. من خارج المملكة .. وحينرن الهاتف في هذا الوقت المتأخر .. ظن أنها هي المكالمة المقصودة .. فنهض على الفورعن فراشة .. ورفع سماعة الهاتف .. وبادر قائلاً : نعم !! السلام عليكم ورحمة اللهوبركاته .
فسمع على الطرف الآخر … صوتاً أنثوياً ناعما يقول :
لوسمحت !! .. هل من الممكن أن نسهر الليلة سوياً عبر سماعة الهاتف ؟!!
فردعليها باستغراب ودهشة قائلا : ماذا تقولين ؟!! … من أنتِ ؟!! ..
فردت عليهبصوت ناعم متكسر : أنا اسمي ( أشواق ) .. وأرغب في التعرف عليك .. وأن نكون أصدقاءوزملاء ( !!! ) .. فهل عندك مانع ؟!!
أدرك الشيخ ( محمد ) أن هذه فتاةتائهة حائرة .. لم يأتها النوم بالليل .. لأنها تعاني أزمة نفسية أو عاطفية .. فأرادت أن تهرب منها بالعبث بأرقام الهاتف !!
فقال لها : ولماذا لم تناميحتى الآن يا أختي ؟!!
فأطلقت ضحكة مدوية وقالت : أنام بالليل ؟!!.. وهلسمعت بعاشق ينام بالليل ؟!!.. إن الليل هو نهار العاشقين !!!
فرد عليهاببرود : أرجوك : إذا أردتِ أن نستمر في الحديث .. فابتعدي عن الضحكات المجلجلةوالأصوات المتكسرة .. فلست ممن يتعلق قلبه بهذه التفاهات !!
تلعثمت الفتاةقليلاً … ثم قالت : أنا آسفة … لم أكن أقصد !!
فقال لها ( محمد ) ساخراً : ومن سعيد الحظ ( !!! ) الذي وقعتِ في عشقه وغرامه ؟!!
فردت عليه قائلة : أنتَ بالطبع ( !!! )
فقال مستغرباً : أنا ؟!! .. وكيف تعلقتِ بي .. وأنتِلا تعرفينني ولم تريني بعد ؟!!
فقالت له : لقد سمعت عنك الكثير من بعضزميلاتي في الكلية .. وقرأت لك بعض المؤلفات .. فأعجبني أسلوبها العاطفي الرقيق .. والأذن تعشق قبل العين أحيانا ( !!! )
قال لها محمد : إذن أخبريني بصراحة …كيف تقضين الليل ؟!!
فقالت له : أنا ليلياً أكلم ثلاثة أو أربعة شباب !! … أنتقل من رقم إلى رقم … ومن شاب إلى شاب عبر الهاتف .. أعاكس هذا .. وأضحك مع هذا .. وأمني هذا … وأعد هذا .. وأكذب على هذا .. وأسمع قصائد الغزل من هذا .. وأستمعإلى أغنية من هذا .. وهكذا دواليك حتى قرب الفجر !! .. وأردت الليلة أن أتصل عليك .. لأرى هل أنت مثلهم !! أم أنك تختلف عنهم ؟!! ..
فقال لها : ومع من كنتِتتكلمين قبل أن تهاتفينني ؟!!…
سكتت قليلاً .. ثم قالت : بصراحة .. كنتأتحدث مع ( وليد ) .. إنه عشيق جديد .. وشاب وسيم أنيق !! ..
رمى لي الرقماليوم في السوق .. فاتصلت عليه وتكلمت معه قرابة نصف الساعة !!..
فقال لهاالشيخ ( محمد ) على الفور : ثم ماذا ؟!! .. هل وجدتِ لديه ما تبحثين عنه ؟!!
فقالت بنبرة جادة حزينة : بكل أسف .. لم أجد عنده ولا عند الشباب الكثيرينالذين كلمتهم عبر الهاتف أو قابلتهم وجهاً لوجه … ما أبحث عنه ؟!! .. لم أجد عندهمما يشبع جوعي النفسي .. ويروي ظمأي الداخلي !! ..
سكتت قليلاً .. ثم تابعت : إنهم جميعا شباب مراهقون شهوانيون !! .. خونة .. كذبة .. مشاعرهم مصطنعة .. وأحاسيسهم الرقيقة ملفقة .. وعباراتهم وكلماتهم مبالغ فيها .. تخرج من طرف اللسانلا من القلب .. ألفاظهم أحلى من العسل .. وقلوبهم قلوب الذئاب المفترسة .. هدف كلواحد منهم .. أن يقضي شهوته القذرة معي .. ثم يرميني كما يرمى الحذاء البالي .. كلهم تهمهم أنفسهم فقط .. ولم أجد فيهم إلى الآن – على كثرة من هاتفت من الشباب – من يهتم بي لذاتي ولشخصي !! .. كلهم يحلفون لي بأنهم يحبونني ولا يعشقون غيري .. ولا يريدون زوجة لهم سواي !! .. وأنا أعلم أنهم في داخلهم يلعنونني ويشتمونني !! .. كلهم يمطرونني عبر السماعة بأرق الكلمات وأعذب العبارات .. ثم بعد أن يقفلواالسماعة .. يسبونني ويصفونني بأقبح الأوصاف والكلمات !! ..
إن حياتي معهمحياة خداع ووهم وتزييف !! .. كل منا يخادع الآخر .. ويوهمه بأنه يحبه !!
وهنا قال لها الشيخ ( محمد ) : ولكن أخبريني : ما دمتِ لم تجدي ضالتكالمنشودة .. عند أولئك الشباب التائهين التافهين .. فهل من المعقول أن تجديها عندي؟!! .. أنا ليس عندي كلمات غرام .. ولا عبارات هيام .. ولا أشعار غزل .. ولا رسائلمعطرة !!
فقاطعته قائلة : بالعكس .. أشعر – ومثلي كثير من الفتيات – أن مانبحث عنه .. هو موجود لدى الصالحين أمثالك ؟!! .. إننا نبحث عن العطاء والوفاء .. نبحث عن الأمان .. نطلب الدفء والحنان .. نبحث عن الكلمة الصادقة التي تخرج منالقلب لتصل إلى أعماق قلوبنا .. نبحث عمن يهتم بنا ويراعي مشاعرنا .. دون أن يقصدمن وراء ذلك .. هدفاً شهوانياً خسيساً .. نبحث عمن يكون لنا أخاً رحيما .. وأباًحنونا .. وزوجاً صالحا !!
إننا باختصار نبحث عن السعادة الحقيقية في هذهالدنيا !! .. نبحث عن معنى الراحة النفسية .. نبحث عن الصفاء .. عن الوفاء .. عنالبذل والعطاء !!
فقال لها ( محمد ) والدموع تحتبس في عينيه حزناً على هذهالفتاة التائهة الحائرة : يبدو أنكِ تعانين أزمة نفسية .. وفراغاً روحياً .. وتشتكين هماً وضيقاً داخلياً مريرا .. وحيرة وتيهاً وتخبطا .. وتواجهين مأساةعائلية .. وتفككاً أسريا !!
فقالت له : أنت أول شخص .. يفهم نفسيتي ويدركما أعانيه من داخلي !!
فقال لها : إذن حدثيني عنك وعن أسرتك قليلا .. لتتضحالصورة عندي أكثر …
فقالت الفتاة : أنا أبلغ من العمر عشرين عاما .. وأسكنمع عائلتي المكونة من أبي وأمي .. وثلاثة أخوة وثلاث أخوات .. واخوتي وأخواتيجميعهم تزوجوا إلا أنا وأخي الذي يكبرني بعامين .. وأنا أدرس في كلية ( ….. )
فقال لها : وماذا عن أمك ؟ وماذا عن أبيك ؟فقالت : أبي رجل غنيمقتدر ماليا .. أكثر وقته مشغول عنا .. بأعماله التجارية … وهو يخرج من الصباح .. ولا أراه إلا قليلا في المساء .. وقلما يجلس معنا .. والبيت عنده مجرد أكل وشربونوم فقط …
ومنذ أن بلغت .. لم أذكر أنني جلست مع أبي لوحدنا .. أو أنهزارني في غرفتي .. مع أنني في هذه السن الخطيرة في أشد الحاجة إلى حنانه وعطفه .. آه !! كم أتمنى أن أجلس في حضنه .. وأرتمي على صدره .. ثم أبكي وأبكي وأبكي !!! لتستريح نفسي ويهدأ قلبي !!!
وهنا أجهشت الفتاة بالبكاء … ولم يملك ( محمد ) نفسه … فشاركها بدموعه الحزينة .
*****
بعد أن هدأت الفتاة .. واصلت حديثها قائلة :
لقد حاولت أن أقترب منه كثيرا .. ولكنه كان يبتعد عني .. بل إنني في ذاتمرة .. جلست بجواره واقتربت منه .. ليضمني إلى صدره .. وقلت له :
أبي محتاجةإليك يا أبي … فلا تتركني أضيع …
فعاتبني قائلا : لقد وفرت لكِ كل ماتتمناه أي فتاة في الدنيا !! .. فأنتِ لديك أحسن أكل وشرب ولباس … وأرقى وسائلالترفيه الحديثة .. فما الذي ينقصك ؟!!..
سكتُّ قليلا .. وتخيلت حينها أننيأصرخ بأعلى صوتي قائلة : أبي : أنا لا أريد منك طعاماً ولا شرابا ولا لباسا .. ولاترفاً ولا ترفيها .. إنني أريد منك حنانا .. أريد منك أمانا … أريد صدراً حنونا .. أريد قلباً رحيما .. فلا تضيعني يا أبي !!
ولما أفقت من تخيلاتي .. وجدتأبي قد قام عني .. وذهب لتناول طعام الغداء …
وهنا قال لها ( محمد ) هونيعليك .. فلعل أباكِ نشأ منذ صغره .. محروما من الحنان والعواطف الرقيقة .. وتعلمينأن فاقد الشيء لا يعطيه !! .. ولكن ماذا عن أمك ؟ أكيد أنها حنونة رحيمة ؟ فإنالأنثى بطبعها رقيقة مرهفة الحس ..
قالت الفتاة : أمي أهون من أبي قليلا .. ولكنها بكل أسف .. تظن الحياة أكلا وشربا ولبسا وزياراتفقط .. لا يعجبها شيء من تصرفاتي .. وليس لديها إلا إصدار الأوامر بقسوة .. والويلكل الويل لي .. إن خالفت شيئا من أوامرها ..و( قاموس شتائمها ) أصبح محفوظاً عندي .. لقد تخلت عن كل شيء في البيت ووضعته على كاهلي وعلى كاهل الخادمة .. وليت الأمروقف عند هذا .. بل إنها لا يكاد يرضيها شيء .. ولا هم لها إلا تصيد العيوب والأخطاء .. ودائما تعيرني بزميلاتي وبنات الجيران .. الناجحات في دراستهن .. أو الماهرات فيالطبخ وأعمال البيت .. وأغلب وقتها تقضيه في النوم .. أو زيارة الجيران وبعضالأقارب .. أو مشاهدة التلفاز … ولا أذكر منذ سنين .. أنها ضمتني مرة إلى صدرها .. أو فتحت لي قلبها …
قال لها ( محمد ) وكيف هي العلاقة بين أبيك وأمك ؟فقالت الفتاة : أحس وكأن كلا منهما لا يبالي بالآخر .. وكل منهما يعيش فيعالم مختلف .. وكأن بيتنا مجرد فندق ( !!! ) .. نجتمع فيه للأكل والشرب والنوم فقط ….
حاول محمد أن يعتذر لأمها قائلا : على كل حال .. هي أمك التي ربتك .. ولعلها هي الأخرى تعاني من مشكلة مع أبيك .. فانعكس ذلك على تعاملها معك … فالتمسيلها العذر .. ولكن هل حاولتِ أن تفتحي لها قلبك وتقفي إلى جانبها ؟ فهي بالتأكيدمثلك …. تمر بأزمة داخلية نفسية ؟ !!!
فقالت الفتاة مستغربة : أنا أفتح لهاصدري … وهل فتحت هي لي قلبها ؟ … إنها هي الأم ولست أنا .. إنها وبكل أسف .. قدجعلت بيني وبينها – بمعاملتها السيئة لي – جداراً وحاجزاً لا يمكن اختراقه !!
فقال لها ( محمد ) ولماذا تنتظرين أن تبادر هي .. إلى تحطيم ذلك الجدار ؟!! .. لماذا لا تكونين أنتِ المبادرة ؟!!… لماذا لا تحاولين الاقتراب منها أكثر ؟!!
فقالت : لقد حاولت ذلك .. واقتربت منها ذات مرة .. وارتميت في حضنها .. وأخذت أبكي وأبكي .. وهي تنظر إلي باستغراب !! .. وقلت لها :
أماه : أنا محطمةمن داخلي … إنني أنزف من أعماقي !! .. قفي معي .. ولا تتركيني وحدي … إنني أحتاجكأكثر من أي وقت مضى … !!
فنظرت إلي مندهشة !!.. ووضعت يدها على رأسي تتحسسحرارتي … ثم قالت :
ما هذا الكلام الذي تقولينه ؟! … إما أنكِ مريضة !! .. وقدأثر المرض على تفكيرك .. وإما أنكِ تتظاهرين بالمرض .. لأعفيكِ من بعض أعمال المنزل .. وهذا مستحيل جداً … ثم قامت عني ورفعت سماعة التليفون .. تحادث إحدى جاراتها .. فتركتها وعدت إلى غرفتي .. أبكي دماً في داخلي قبل أن أبكي دموعاً !!..
ثمانخرطت الفتاة في بكاء مرير !!
حاول ( محمد ) أن يغير مجرى الحديث فسألها : وما دور أخواتك وأخوتك الآخرين ؟فقالت : إنه دور سلبي للغاية !! .. فالإخوان والأخوات المتزوجات .. كل منهم مشغول بنفسه .. وإذا تحدثت معهم عن مأساتي .. سمعت منهم الجواب المعهود :
وماذا ينقصك ؟ احمدي ربك على الحياة المترفة … التي تعيشين فيها …
وأما أخي غير المتزوج … فهو مثلي حائر تائه .. أغلبوقته يقضيه خارج المنزل .. مع شلل السوء ورفقاء الفساد .. يتسكع في الأسواق وعلىالأرصفة !!
أراد الشيخ ( محمد ) أن يستكشف شيئاً من خبايا نفسية تلك الفتاة … فسألها :
إن من طلب شيئاً بحث عنه وسعى إلى تحصيله … وما دمت تطلبينالسعادة والأمان .. الذي يسد جوعك النفسي .. فهل بحثتِ عن هذه السعادة ؟؟فقالت الفتاة بنبرة جادة : لقد بحثت عن السعادة … في كل شيء .. فما وجدتها !!!
لقد كنت ألبس أفخر الملابس وأفخمها … من أرقى بيوت الأزياء العالمية .. ظناً مني أن السعادة حين تشير إلى ملابسي فلانة .. أو تمدحها وتثني عليها فلانة … أو تتابعني نظرات الإعجاب من فلانة … ولكنني سرعان ما اكتشفت الحقيقة الأليمة …. إنها سعادة زائفة وهمية .. لا تبقى إلا ساعة بل أقل … ثم يصبح ذلك الفستان الجديدالذي كنت أظن السعادة فيه … مثل سائر ملابسي القديمة .. ويعود الهم والضيق والمرارةإلى نفسي … وأشعر بالفراغ والوحدة تحاصرني من كل جانب .. ولو كان حولي مئاتالزميلات والصديقات !!
ظننت السعادة في الرحلات والسفرات .. والتنقل من بلدلآخر .. ومن شاطئ لآخر .. ومن فندق لفندق .. فكنت أسافر مع والدي وعائلتي .. لنطوفالعالم في الإجازات .. ولكني كنت أعود من كل رحلة .. وقد ازداد همي وضيقي .. وازدادت الوحشة التي أشعر بها تجتاح كياني …..
وظننت السعادة في الغناءوالموسيقى … فكنت أشتري أغلب ألبومات الأغاني العربية والغربية التي تنزل إلىالأسواق … فور نزولها .. وأقضي الساعات الطوال في غرفتي … في سماعها والرقص علىأنغامها … طمعاً في تذوق معنى السعادة الحقيقية .. ورغبة في إشباع الجوع النفسيالذي أشعر به .. وظناً مني أن السعادة في الغناء والرقص والتمايل مع الأنغام … ولكنني اكتشفت أنها سعادة وهمية … لا تمكث إلا دقائق معدودة أثناء الأغنية … ثم بعدالانتهاء منها .. يزداد همي .. وتشتعل نار غريبة في داخلي .. وتنقبض نفسي أكثروأكثر .. فعمدت إلى كل تلك الأشرطة فأحرقتها بالنار .. عسى أن تطفئ النار التيبداخلي …
وظننت أن السعادة في مشاهدة المسلسلات والأفلام والتنقل بينالفضائيات .. فعكفت على أكثر من ثلاثين قناة .. أتنقل بينها طوال يومي .. وكنت أركزعلى المسلسلات والأفلام الكوميدية المضحكة .. ظناً مني أن السعادة هي في الضحكوالفرفشة والمرح …
وبالفعل كنت أضحك كثيراً وأنا اشاهدها … وأنتقل من قناةلأخرى … لكنني في الحقيقة … كنت وأنا أضحك بفمي .. أنزف وأتألم من أعماق قلبي … وكلما ازددت ضحكاً وفرفشة .. ازداد النزيف الروحي …
وتعمقت الجراح في داخلي … وحاصرتني الهموم والآلام النفسية ….
وسمعت من بعض الزميلات .. أن السعادةفي أن ارتبط مع شاب وسيم أنيق .. يبادلني كلمات الغرام .. ويبثني عبارات العشقوالهيام .. ويتغزل بمحاسني كل ليلة عبر الهاتف … وسلكت هذا الطريق .. وأخذت أتنقلمن شاب لآخر .. بحثاً عن السعادة والراحة النفسية … ومع ذلك لم أشعر بطعم السعادةالحقيقية .. بل بالعكس .. مع انتهاء كل مقابلة أو مكالمة هاتفية .. أشعر بالقلقوالاضطراب يسيطر على روحي … وأشعر بنار المعصية تشتعل في داخلي .. وأدخل في دوامةمن التفكير المضني والشرود الدائم … وأشعر بالخوف من المستقبل المجهول .. يملأ عليكياني .. فكأنني في حقيقة الأمر .. هربت من جحيم إلى جحيم أبشع منه وأشنع ..
سكتت الفتاة قليلا .. ثم تابعت قائلة :
ولذلك لابد أن تفهمواوتعرفوا .. نفسية ودوافع أولئك الفتيات .. اللاتي ترونهن في الأسواق .. وهن يستعرضنبملابسهن المثيرة .. ويغازلن ويعاكسن ويتضاحكن بصوت مرتفع .. ويعرضن لحومهنومحاسنهن ومفاتنهن .. للذئاب الجائعة العاوية من الشباب التافهين … إنهن في الحقيقةضحايا ولسن بمجرمات ..إنهن في الحقيقة مقتولات لا قاتلات .. إنهن ضحايا الظلمالعائلي .. إنهن حصاد القسوة والإهمال العاطفي من الوالدين .. إنهن نتائج التفككالأسري والجفاف الإيماني .. إن كل واحدة منهن … تحمل في داخلها مأساة مؤلمة دامية .. هي التي دفعتها إلى مثل هذه التصرفات الحمقاء .. وهي التي قادتها إلى أن تعرضنفسها .. على الذئاب المفترسة التي تملأ الأسواق والشوارع … وإن الغريزة الشهوانيةالجنسية .. لا يمكن أن تكون لوحدها … هي الدافع للفتاة المسلمة .. لكي تعرض لحمهاوجسدها في الأسواق .. وتبتذل وتهين نفسها بالتقاط رقم فلان .. وتبيع كرامتهابالركوب في السيارة مع فلان .. وتهدر شرفها بالخلود مع فلان ….
فبادرها ( محمد ) قائلا : ولكن يبرز هنا سؤال مهم جدا ، وهو : هل مرورها بأزمة نفسية .. ومأساة عائلية .. يبرر لها ويسوغ لها أن تعصي ربها تعالى .. وتبيع عفافها .. وتتخلىعن شرفها وطهرها .. وتعرض نفسها لشياطين الإنس .. هل هذا هو الحل المناسب لمشكلتهاومأساتها ؟؟ هل هذا سيغير من واقعها المرير المؤلم شيئا ؟؟فأجابت الفتاة : أنا أعترف بأنه لن يغير شيئا من واقعها المرير المؤلم .. بل سيزيد الأمر سوءاًومرارة .. وليس مقصودي الدفاع عن أولئك الفتيات .. إنما مقصودي : إذا رأيتموهنفارحموهن وأشفقوا عليهن .. وادعوا لهن بالهداية ووجهوهن .. فإنهن تائهات حائرات … يحسبن أن هذا هو الطريق الموصل للسعادة التي يبحثن عنها ….
سكتت الفتاةقليلا … ثم تابعت قائلة : لقد أصبحت أشك .. هل هناك سعادة حقيقية في هذه الدنيا ؟!! .. وإذا كانت موجودة بالفعل .. فأين هي ؟!!.. وما هو الطريق الموصل إليها .. فقدمللت من هذه الحياة الرتيبة الكئيبة …
فقال لها الشيخ ( محمد ) : أختاه … لقد أخطأتِ طريق السعادة .. ولقد سلكتِ سبيلا غير سبيلها … فاسمعي مني .. لتعرفيطريق السعادة الحقة !! ….
*****
إن السعادة الحقيقية أن تلجأي إلى الله تعالى .. وتتضرعي له .. وتنكسري بين يديه .. وتقومي لمناجاته في ظلام الليل .. ليطرد عنكالهموم والغموم .. ويداوي جراحك .. ويفيض على قلبك السكينة والانشراح …
أختاه : إذا أردتِ السعادة فاقرعي أبواب السماء بالليل والنهار .. بدلا منقرع أرقام الهاتف .. على أولئك الشباب التافهين الغافلين الضائعين ..
صدقيني يا أختاه .. إن الناس كلهم لن يفهموك .. ولن يقدروا ظروفك .. ولنيفهموا أحاسيسك .. وحين تلجأين إليهم .. فمنهم من يشمت بك .. أو يسخر من أفكارك .. ومنهم من يحاول استغلالك لأغراضه ومآربه الشخصية الخسيسة .. ومنهم من يرغب فيمساعدتك .. ولكنه لا يملك لكِ نفعاً ولا ضرا …
أختاه : إنكِ لن تجدي دواءًلمرضك النفسي .. لعطشك وجوعك الداخلي .. إلا بالبكاء بين يدي الله تعالى .. ولنتشعري بالسكينة والطمأنينة والراحة .. إلا وأنتِ واقفة بين يديه .. تناجينه وتسكبينعبراتك الساخنة .. وتطلقين زفراتك المحترقة .. على أيام الغفلة الماضية …
قالت الفتاة .. والعبرة تخنقها : لقد فكرت في ذلك كثيرا … ولكن الخجل منالله .. والحياء من ذنوبي وتقصيري يمنعني من ذلك .. إذ كيف ألجأ إلى الله وأطلب منهالمعونة والتيسير .. وأنا مقصرة في طاعته .. مبارزة له بالذنوب والمعاصي …
فقال لها ( محمد ) : سبحان الله …يا أختاه : إن الناس إذا أغضبهم شخص وخالفأمرهم … غضبوا عليه ولم يسامحوه .. وأعرضوا عنه ولم يقفوا معه في الشدائد والنكبات … ولكن الله لا يغلق أبوابه في وجه أحد من عباده .. ولو كان من أكبر العصاة وأعتاهم .. بل متى تاب المرء وأناب … فتح له أبواب رحمته .. وتلقاه بالمغفرة والعفو .. بلحتى إذا لم يتب إليه … فإنه جل وعلا يمهله ولا يعاجله بالعقوبة … بل ويناديه ويرغبهفي التوبة والإنابة … أما علمت أن الله تعالى يقول في الحديث القدسي : «إني والجن والإنس في نبأ عظيم .. أتحبب إليهمبنعمتي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم الفقراء إلي !! من أقبل منهمإلي تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل معصيتي لا أقنطهم منرحمتي ، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم ، فإني أحب التوابين والمتطهرين ، وإن تباعدواعني فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي ، وعفوي سبق عقوبتي ، وأنا أرحم بعبادي من الوالدةبولدها»وما كاد ( محمد ) ينتهي من ذلك الحديثالقدسي … حتى انفجرت الفتاة بالبكاء .. وهي تردد : ما أحلم الله عنا … ما أرحم اللهبنا ….
بعد أن هدأت الفتاة .. واصل الشيخ ( محمد ) حديثه قائلا :
أختاه : إنني مثلك أبحث عن السعادة الحقيقية في هذه الدنيا .. ولقد وجدتهاأخيرا .. وجدتها في طاعة الله … في الحياة مع الله وفي ظل مرضاته .. وجدتها فيالتوبة والأوبة .. وجدتها في الإستغفار من الحوبة … وجدتها في دموع الأسحار .. وجدتها في مصاحبة الصالحين الأبرار … وجدتها في بكاء التائبين .. وجدتها في أنينالمذنبين .. وجدتها في استغفار العاصين .. وجدتها في تسبيح المستغفرين .. وجدتها فيالخشوع والركوع .. وجدتها في الانكسار لله والخضوع .. وجدتها في البكاء من خشيةالله والدموع .. وجدتها في الصيام والقيام .. وجدتها في امتثال شرع الملك العلام .. وجدتها في تلاوة القرآن … وجدتها في هجرالمسلسلات والألحان …
أختاه : لقد بحثت عن الحب الحقيقي الصادق .. فوجدت أن الناس إذا احبواأخذوا .. وإذا منحوا طلبوا .. وإذا أعطوا سلبوا .. ولكن الله تعالى .. إذا أحب عبدهأعطاه بغير حساب .. وإذا أطيع جازى وأثاب ..
أيتها الغالية : إن الناس لايمكن أن يمنحونا ما نبحث عنه من صدق وأمان .. وما نطلبه من رقة وحنان .. ونتعطشإليه من دفء وسلوان .. لأن كل منهم مشغول بنفسه .. مهتم بذاته .. ثم إن أكثرهممحروم من هذه المشاعر السامية والعواطف النبيلة .. ولا يعرف معناها فضلا عن أنيتذوق طعمها .. ومن كان هذا حاله .. فهو عاجز عن منحها للآخرين .. لأن فاقد الشيءلا يعطيه كما هو معروف …
أختاه : لن تجدي أحدا يمنحك ما تبحثين عنه .. إلاربك ومولاك .. فإن الناس يغلقون أبوابهم .. وبابه سبحانه مفتوح للسائلين .. وهوباسط يده بالليل والنهار .. ينادي عباده : تعالوا إلي ؟ هلموا إلى طاعتي .. لأقضيحاجتكم .. وأمنحكم الأمان والراحة والحنان .. كما قال تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوالي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون }
أختاه : إن السعادة الحقيقية .. لاتكون إلا بالحياة مع الله .. والعيش في كنفه سبحانه وتعالى .. لأن في النفس البشريةعامة .. ظمأ وعطشاً داخلياً .. لا يرويه عطف الوالدين .. ولا يسده حنان الإخوةوالأقارب .. ولا يشبعه حب الأزواج وغرامهم وعواطفهم الرقيقة .. ولا تملأه مودةالزميلات والصديقات .. فكل ما تقدم يروي بعض الظمأ .. ويسقي بعض العطش .. لأن كلإنسان مشغول بظمأ نفسه .. فهو بالتالي أعجز عن أن يحقق الري الكامل لغيره .. ولكنالري الكامل والشبع التام لا يكون إلا باللجوء إلى الله تعالى .. والعيش في ظلطاعته .. والحياة تحت أوامره .. والسير في طريق هدايته ونوره .. فحينها تشعرينبالسعادة التامة .. وتتذوقين معنى الحب الحقيقي .. وتحسين بمذاق اللذة الصافية .. الخالية من المنغصات والمكدرات .. فهلا جربتِ هذا الطريق ولو مرة واحدة .. وحينهاستشعرين بالفرق العظيم … وسترين النتيجة بنفسك …
فأجابت الفتاة … ودموعالتوبة تنهمر من عينيها : نعم .. هذا والله هو الطريق !! وهذا هو ما كنت أبحث عنه .. وكم تمنيت أنني سمعت هذا الكلام .. منذ سنين بعيدة .. ليوقظني من غفلتي .. وينتشلني من تيهي وحيرتي .. ويلهمني طريق الصواب والرشد …
فبادرها ( محمد ) قائلا .. إذن فلنبدأ الطريق .. من هذه اللحظة .. وهاهو الفجر ظهر وبزغ .. وهاهيخيوط الفجر المتألقة تتسرب إلى الكون قليلاً قليلا .. وهاهي أصوات المؤذنين تتعالىفي كل مكان .. تهتف بالقلوب الحائرة والنفوس التائهة .. أن تعود إلى ربها ومولاها .. وهاهي نسمات الفجر الدافئة الرقيقة .. تناديك أن عودي إلى ربك .. عودي إلى مولاك .. فأسرعي وابدئي صفحة جديدة من عمرك … وليكن هذا الفجر هو يوم ميلادك الجديد .. وليكن أول ما تبدئين به حياتك الجديدة .. ركعتان تقفين بهما بين يدي الله تعالى .. وتسكبين فيها العبرات .. وتطلقين فيها الزفرات والآهات .. على المعاصي والذنوبالسالفات ..
وأرجوا أن تهاتفيني بعد أسبوعين من الآن … لنرى هل وجدت طعمالسعادة الحقيقية أم لا ؟ثم أغلق ( محمد ) السماعة … وأنهى المكالمة …
بعد أسبوعين .. وفي الموعد المحدد .. اتصلت الفتاة بـ ( محمد ) .. ونبراتصوتها تطفح بالبشر والسرور .. وحروف كلماتها تكاد تقفز فرحاً وحبورا .. ثم بادرتقائلة :
وأخيراً .. وجدت طعم السعادة الحقيقية .. وأخيراً وصلت إلى شاطئالأمان الذي أبحرت بحثاً عنه .. وأخيرا شعرت بمعنى الراحة والهدوء النفسي .. وأخيراً شربت من ماء السكينة والطمأنينة القلبية الذي كنت أتعطش إليه … وأخيراًغسلت روحي بماء الدموع العذب الزلال .. فغدت نفسي محلقة في الملكوت الأعلى .. وأخيرا داويت قلبي الجريح .. ببلسم التوبة الصادقة فكان الشفاء على الفور … لقدأيقنت فعلا .. أنه لا سعادة إلا في طاعة الله وامتثال أوامره .. وما عدا ذلك فهوسراب خادع .. ووهم زائف .. سرعان ما ينكشف ويزول …
وإني أطلب منك يا شيخطلباً بسيطا … وهو أن تنشر قصتي هذه كاملة .. فكثير من الفتيات تائهات حائرات مثلي … ولعل الله أن يهديهن بها طريق الرشاد …
فقال لها الشيخ ( محمد ) عسى أنتري ذلك قريبا ............
رنين الهاتف يعلوا شيئاً فشيئا .. والشيخ ( محمد ) يغط في سباتعميق … لم يقطعه إلا ذلك الرنين المزعج … فتح ( محمد ) عينيه .. ونظر في الساعةالموضوعة على المنضدة بجواره … فإذا بها تشير إلى الثانية والربع بعد منتصف الليل !!…
لقد كان الشيخ ( محمد ) ينتظر مكالمة مهمة .. من خارج المملكة .. وحينرن الهاتف في هذا الوقت المتأخر .. ظن أنها هي المكالمة المقصودة .. فنهض على الفورعن فراشة .. ورفع سماعة الهاتف .. وبادر قائلاً : نعم !! السلام عليكم ورحمة اللهوبركاته .
فسمع على الطرف الآخر … صوتاً أنثوياً ناعما يقول :
لوسمحت !! .. هل من الممكن أن نسهر الليلة سوياً عبر سماعة الهاتف ؟!!
فردعليها باستغراب ودهشة قائلا : ماذا تقولين ؟!! … من أنتِ ؟!! ..
فردت عليهبصوت ناعم متكسر : أنا اسمي ( أشواق ) .. وأرغب في التعرف عليك .. وأن نكون أصدقاءوزملاء ( !!! ) .. فهل عندك مانع ؟!!
أدرك الشيخ ( محمد ) أن هذه فتاةتائهة حائرة .. لم يأتها النوم بالليل .. لأنها تعاني أزمة نفسية أو عاطفية .. فأرادت أن تهرب منها بالعبث بأرقام الهاتف !!
فقال لها : ولماذا لم تناميحتى الآن يا أختي ؟!!
فأطلقت ضحكة مدوية وقالت : أنام بالليل ؟!!.. وهلسمعت بعاشق ينام بالليل ؟!!.. إن الليل هو نهار العاشقين !!!
فرد عليهاببرود : أرجوك : إذا أردتِ أن نستمر في الحديث .. فابتعدي عن الضحكات المجلجلةوالأصوات المتكسرة .. فلست ممن يتعلق قلبه بهذه التفاهات !!
تلعثمت الفتاةقليلاً … ثم قالت : أنا آسفة … لم أكن أقصد !!
فقال لها ( محمد ) ساخراً : ومن سعيد الحظ ( !!! ) الذي وقعتِ في عشقه وغرامه ؟!!
فردت عليه قائلة : أنتَ بالطبع ( !!! )
فقال مستغرباً : أنا ؟!! .. وكيف تعلقتِ بي .. وأنتِلا تعرفينني ولم تريني بعد ؟!!
فقالت له : لقد سمعت عنك الكثير من بعضزميلاتي في الكلية .. وقرأت لك بعض المؤلفات .. فأعجبني أسلوبها العاطفي الرقيق .. والأذن تعشق قبل العين أحيانا ( !!! )
قال لها محمد : إذن أخبريني بصراحة …كيف تقضين الليل ؟!!
فقالت له : أنا ليلياً أكلم ثلاثة أو أربعة شباب !! … أنتقل من رقم إلى رقم … ومن شاب إلى شاب عبر الهاتف .. أعاكس هذا .. وأضحك مع هذا .. وأمني هذا … وأعد هذا .. وأكذب على هذا .. وأسمع قصائد الغزل من هذا .. وأستمعإلى أغنية من هذا .. وهكذا دواليك حتى قرب الفجر !! .. وأردت الليلة أن أتصل عليك .. لأرى هل أنت مثلهم !! أم أنك تختلف عنهم ؟!! ..
فقال لها : ومع من كنتِتتكلمين قبل أن تهاتفينني ؟!!…
سكتت قليلاً .. ثم قالت : بصراحة .. كنتأتحدث مع ( وليد ) .. إنه عشيق جديد .. وشاب وسيم أنيق !! ..
رمى لي الرقماليوم في السوق .. فاتصلت عليه وتكلمت معه قرابة نصف الساعة !!..
فقال لهاالشيخ ( محمد ) على الفور : ثم ماذا ؟!! .. هل وجدتِ لديه ما تبحثين عنه ؟!!
فقالت بنبرة جادة حزينة : بكل أسف .. لم أجد عنده ولا عند الشباب الكثيرينالذين كلمتهم عبر الهاتف أو قابلتهم وجهاً لوجه … ما أبحث عنه ؟!! .. لم أجد عندهمما يشبع جوعي النفسي .. ويروي ظمأي الداخلي !! ..
سكتت قليلاً .. ثم تابعت : إنهم جميعا شباب مراهقون شهوانيون !! .. خونة .. كذبة .. مشاعرهم مصطنعة .. وأحاسيسهم الرقيقة ملفقة .. وعباراتهم وكلماتهم مبالغ فيها .. تخرج من طرف اللسانلا من القلب .. ألفاظهم أحلى من العسل .. وقلوبهم قلوب الذئاب المفترسة .. هدف كلواحد منهم .. أن يقضي شهوته القذرة معي .. ثم يرميني كما يرمى الحذاء البالي .. كلهم تهمهم أنفسهم فقط .. ولم أجد فيهم إلى الآن – على كثرة من هاتفت من الشباب – من يهتم بي لذاتي ولشخصي !! .. كلهم يحلفون لي بأنهم يحبونني ولا يعشقون غيري .. ولا يريدون زوجة لهم سواي !! .. وأنا أعلم أنهم في داخلهم يلعنونني ويشتمونني !! .. كلهم يمطرونني عبر السماعة بأرق الكلمات وأعذب العبارات .. ثم بعد أن يقفلواالسماعة .. يسبونني ويصفونني بأقبح الأوصاف والكلمات !! ..
إن حياتي معهمحياة خداع ووهم وتزييف !! .. كل منا يخادع الآخر .. ويوهمه بأنه يحبه !!
وهنا قال لها الشيخ ( محمد ) : ولكن أخبريني : ما دمتِ لم تجدي ضالتكالمنشودة .. عند أولئك الشباب التائهين التافهين .. فهل من المعقول أن تجديها عندي؟!! .. أنا ليس عندي كلمات غرام .. ولا عبارات هيام .. ولا أشعار غزل .. ولا رسائلمعطرة !!
فقاطعته قائلة : بالعكس .. أشعر – ومثلي كثير من الفتيات – أن مانبحث عنه .. هو موجود لدى الصالحين أمثالك ؟!! .. إننا نبحث عن العطاء والوفاء .. نبحث عن الأمان .. نطلب الدفء والحنان .. نبحث عن الكلمة الصادقة التي تخرج منالقلب لتصل إلى أعماق قلوبنا .. نبحث عمن يهتم بنا ويراعي مشاعرنا .. دون أن يقصدمن وراء ذلك .. هدفاً شهوانياً خسيساً .. نبحث عمن يكون لنا أخاً رحيما .. وأباًحنونا .. وزوجاً صالحا !!
إننا باختصار نبحث عن السعادة الحقيقية في هذهالدنيا !! .. نبحث عن معنى الراحة النفسية .. نبحث عن الصفاء .. عن الوفاء .. عنالبذل والعطاء !!
فقال لها ( محمد ) والدموع تحتبس في عينيه حزناً على هذهالفتاة التائهة الحائرة : يبدو أنكِ تعانين أزمة نفسية .. وفراغاً روحياً .. وتشتكين هماً وضيقاً داخلياً مريرا .. وحيرة وتيهاً وتخبطا .. وتواجهين مأساةعائلية .. وتفككاً أسريا !!
فقالت له : أنت أول شخص .. يفهم نفسيتي ويدركما أعانيه من داخلي !!
فقال لها : إذن حدثيني عنك وعن أسرتك قليلا .. لتتضحالصورة عندي أكثر …
فقالت الفتاة : أنا أبلغ من العمر عشرين عاما .. وأسكنمع عائلتي المكونة من أبي وأمي .. وثلاثة أخوة وثلاث أخوات .. واخوتي وأخواتيجميعهم تزوجوا إلا أنا وأخي الذي يكبرني بعامين .. وأنا أدرس في كلية ( ….. )
فقال لها : وماذا عن أمك ؟ وماذا عن أبيك ؟فقالت : أبي رجل غنيمقتدر ماليا .. أكثر وقته مشغول عنا .. بأعماله التجارية … وهو يخرج من الصباح .. ولا أراه إلا قليلا في المساء .. وقلما يجلس معنا .. والبيت عنده مجرد أكل وشربونوم فقط …
ومنذ أن بلغت .. لم أذكر أنني جلست مع أبي لوحدنا .. أو أنهزارني في غرفتي .. مع أنني في هذه السن الخطيرة في أشد الحاجة إلى حنانه وعطفه .. آه !! كم أتمنى أن أجلس في حضنه .. وأرتمي على صدره .. ثم أبكي وأبكي وأبكي !!! لتستريح نفسي ويهدأ قلبي !!!
وهنا أجهشت الفتاة بالبكاء … ولم يملك ( محمد ) نفسه … فشاركها بدموعه الحزينة .
*****
بعد أن هدأت الفتاة .. واصلت حديثها قائلة :
لقد حاولت أن أقترب منه كثيرا .. ولكنه كان يبتعد عني .. بل إنني في ذاتمرة .. جلست بجواره واقتربت منه .. ليضمني إلى صدره .. وقلت له :
أبي محتاجةإليك يا أبي … فلا تتركني أضيع …
فعاتبني قائلا : لقد وفرت لكِ كل ماتتمناه أي فتاة في الدنيا !! .. فأنتِ لديك أحسن أكل وشرب ولباس … وأرقى وسائلالترفيه الحديثة .. فما الذي ينقصك ؟!!..
سكتُّ قليلا .. وتخيلت حينها أننيأصرخ بأعلى صوتي قائلة : أبي : أنا لا أريد منك طعاماً ولا شرابا ولا لباسا .. ولاترفاً ولا ترفيها .. إنني أريد منك حنانا .. أريد منك أمانا … أريد صدراً حنونا .. أريد قلباً رحيما .. فلا تضيعني يا أبي !!
ولما أفقت من تخيلاتي .. وجدتأبي قد قام عني .. وذهب لتناول طعام الغداء …
وهنا قال لها ( محمد ) هونيعليك .. فلعل أباكِ نشأ منذ صغره .. محروما من الحنان والعواطف الرقيقة .. وتعلمينأن فاقد الشيء لا يعطيه !! .. ولكن ماذا عن أمك ؟ أكيد أنها حنونة رحيمة ؟ فإنالأنثى بطبعها رقيقة مرهفة الحس ..
قالت الفتاة : أمي أهون من أبي قليلا .. ولكنها بكل أسف .. تظن الحياة أكلا وشربا ولبسا وزياراتفقط .. لا يعجبها شيء من تصرفاتي .. وليس لديها إلا إصدار الأوامر بقسوة .. والويلكل الويل لي .. إن خالفت شيئا من أوامرها ..و( قاموس شتائمها ) أصبح محفوظاً عندي .. لقد تخلت عن كل شيء في البيت ووضعته على كاهلي وعلى كاهل الخادمة .. وليت الأمروقف عند هذا .. بل إنها لا يكاد يرضيها شيء .. ولا هم لها إلا تصيد العيوب والأخطاء .. ودائما تعيرني بزميلاتي وبنات الجيران .. الناجحات في دراستهن .. أو الماهرات فيالطبخ وأعمال البيت .. وأغلب وقتها تقضيه في النوم .. أو زيارة الجيران وبعضالأقارب .. أو مشاهدة التلفاز … ولا أذكر منذ سنين .. أنها ضمتني مرة إلى صدرها .. أو فتحت لي قلبها …
قال لها ( محمد ) وكيف هي العلاقة بين أبيك وأمك ؟فقالت الفتاة : أحس وكأن كلا منهما لا يبالي بالآخر .. وكل منهما يعيش فيعالم مختلف .. وكأن بيتنا مجرد فندق ( !!! ) .. نجتمع فيه للأكل والشرب والنوم فقط ….
حاول محمد أن يعتذر لأمها قائلا : على كل حال .. هي أمك التي ربتك .. ولعلها هي الأخرى تعاني من مشكلة مع أبيك .. فانعكس ذلك على تعاملها معك … فالتمسيلها العذر .. ولكن هل حاولتِ أن تفتحي لها قلبك وتقفي إلى جانبها ؟ فهي بالتأكيدمثلك …. تمر بأزمة داخلية نفسية ؟ !!!
فقالت الفتاة مستغربة : أنا أفتح لهاصدري … وهل فتحت هي لي قلبها ؟ … إنها هي الأم ولست أنا .. إنها وبكل أسف .. قدجعلت بيني وبينها – بمعاملتها السيئة لي – جداراً وحاجزاً لا يمكن اختراقه !!
فقال لها ( محمد ) ولماذا تنتظرين أن تبادر هي .. إلى تحطيم ذلك الجدار ؟!! .. لماذا لا تكونين أنتِ المبادرة ؟!!… لماذا لا تحاولين الاقتراب منها أكثر ؟!!
فقالت : لقد حاولت ذلك .. واقتربت منها ذات مرة .. وارتميت في حضنها .. وأخذت أبكي وأبكي .. وهي تنظر إلي باستغراب !! .. وقلت لها :
أماه : أنا محطمةمن داخلي … إنني أنزف من أعماقي !! .. قفي معي .. ولا تتركيني وحدي … إنني أحتاجكأكثر من أي وقت مضى … !!
فنظرت إلي مندهشة !!.. ووضعت يدها على رأسي تتحسسحرارتي … ثم قالت :
ما هذا الكلام الذي تقولينه ؟! … إما أنكِ مريضة !! .. وقدأثر المرض على تفكيرك .. وإما أنكِ تتظاهرين بالمرض .. لأعفيكِ من بعض أعمال المنزل .. وهذا مستحيل جداً … ثم قامت عني ورفعت سماعة التليفون .. تحادث إحدى جاراتها .. فتركتها وعدت إلى غرفتي .. أبكي دماً في داخلي قبل أن أبكي دموعاً !!..
ثمانخرطت الفتاة في بكاء مرير !!
حاول ( محمد ) أن يغير مجرى الحديث فسألها : وما دور أخواتك وأخوتك الآخرين ؟فقالت : إنه دور سلبي للغاية !! .. فالإخوان والأخوات المتزوجات .. كل منهم مشغول بنفسه .. وإذا تحدثت معهم عن مأساتي .. سمعت منهم الجواب المعهود :
وماذا ينقصك ؟ احمدي ربك على الحياة المترفة … التي تعيشين فيها …
وأما أخي غير المتزوج … فهو مثلي حائر تائه .. أغلبوقته يقضيه خارج المنزل .. مع شلل السوء ورفقاء الفساد .. يتسكع في الأسواق وعلىالأرصفة !!
أراد الشيخ ( محمد ) أن يستكشف شيئاً من خبايا نفسية تلك الفتاة … فسألها :
إن من طلب شيئاً بحث عنه وسعى إلى تحصيله … وما دمت تطلبينالسعادة والأمان .. الذي يسد جوعك النفسي .. فهل بحثتِ عن هذه السعادة ؟؟فقالت الفتاة بنبرة جادة : لقد بحثت عن السعادة … في كل شيء .. فما وجدتها !!!
لقد كنت ألبس أفخر الملابس وأفخمها … من أرقى بيوت الأزياء العالمية .. ظناً مني أن السعادة حين تشير إلى ملابسي فلانة .. أو تمدحها وتثني عليها فلانة … أو تتابعني نظرات الإعجاب من فلانة … ولكنني سرعان ما اكتشفت الحقيقة الأليمة …. إنها سعادة زائفة وهمية .. لا تبقى إلا ساعة بل أقل … ثم يصبح ذلك الفستان الجديدالذي كنت أظن السعادة فيه … مثل سائر ملابسي القديمة .. ويعود الهم والضيق والمرارةإلى نفسي … وأشعر بالفراغ والوحدة تحاصرني من كل جانب .. ولو كان حولي مئاتالزميلات والصديقات !!
ظننت السعادة في الرحلات والسفرات .. والتنقل من بلدلآخر .. ومن شاطئ لآخر .. ومن فندق لفندق .. فكنت أسافر مع والدي وعائلتي .. لنطوفالعالم في الإجازات .. ولكني كنت أعود من كل رحلة .. وقد ازداد همي وضيقي .. وازدادت الوحشة التي أشعر بها تجتاح كياني …..
وظننت السعادة في الغناءوالموسيقى … فكنت أشتري أغلب ألبومات الأغاني العربية والغربية التي تنزل إلىالأسواق … فور نزولها .. وأقضي الساعات الطوال في غرفتي … في سماعها والرقص علىأنغامها … طمعاً في تذوق معنى السعادة الحقيقية .. ورغبة في إشباع الجوع النفسيالذي أشعر به .. وظناً مني أن السعادة في الغناء والرقص والتمايل مع الأنغام … ولكنني اكتشفت أنها سعادة وهمية … لا تمكث إلا دقائق معدودة أثناء الأغنية … ثم بعدالانتهاء منها .. يزداد همي .. وتشتعل نار غريبة في داخلي .. وتنقبض نفسي أكثروأكثر .. فعمدت إلى كل تلك الأشرطة فأحرقتها بالنار .. عسى أن تطفئ النار التيبداخلي …
وظننت أن السعادة في مشاهدة المسلسلات والأفلام والتنقل بينالفضائيات .. فعكفت على أكثر من ثلاثين قناة .. أتنقل بينها طوال يومي .. وكنت أركزعلى المسلسلات والأفلام الكوميدية المضحكة .. ظناً مني أن السعادة هي في الضحكوالفرفشة والمرح …
وبالفعل كنت أضحك كثيراً وأنا اشاهدها … وأنتقل من قناةلأخرى … لكنني في الحقيقة … كنت وأنا أضحك بفمي .. أنزف وأتألم من أعماق قلبي … وكلما ازددت ضحكاً وفرفشة .. ازداد النزيف الروحي …
وتعمقت الجراح في داخلي … وحاصرتني الهموم والآلام النفسية ….
وسمعت من بعض الزميلات .. أن السعادةفي أن ارتبط مع شاب وسيم أنيق .. يبادلني كلمات الغرام .. ويبثني عبارات العشقوالهيام .. ويتغزل بمحاسني كل ليلة عبر الهاتف … وسلكت هذا الطريق .. وأخذت أتنقلمن شاب لآخر .. بحثاً عن السعادة والراحة النفسية … ومع ذلك لم أشعر بطعم السعادةالحقيقية .. بل بالعكس .. مع انتهاء كل مقابلة أو مكالمة هاتفية .. أشعر بالقلقوالاضطراب يسيطر على روحي … وأشعر بنار المعصية تشتعل في داخلي .. وأدخل في دوامةمن التفكير المضني والشرود الدائم … وأشعر بالخوف من المستقبل المجهول .. يملأ عليكياني .. فكأنني في حقيقة الأمر .. هربت من جحيم إلى جحيم أبشع منه وأشنع ..
سكتت الفتاة قليلا .. ثم تابعت قائلة :
ولذلك لابد أن تفهمواوتعرفوا .. نفسية ودوافع أولئك الفتيات .. اللاتي ترونهن في الأسواق .. وهن يستعرضنبملابسهن المثيرة .. ويغازلن ويعاكسن ويتضاحكن بصوت مرتفع .. ويعرضن لحومهنومحاسنهن ومفاتنهن .. للذئاب الجائعة العاوية من الشباب التافهين … إنهن في الحقيقةضحايا ولسن بمجرمات ..إنهن في الحقيقة مقتولات لا قاتلات .. إنهن ضحايا الظلمالعائلي .. إنهن حصاد القسوة والإهمال العاطفي من الوالدين .. إنهن نتائج التفككالأسري والجفاف الإيماني .. إن كل واحدة منهن … تحمل في داخلها مأساة مؤلمة دامية .. هي التي دفعتها إلى مثل هذه التصرفات الحمقاء .. وهي التي قادتها إلى أن تعرضنفسها .. على الذئاب المفترسة التي تملأ الأسواق والشوارع … وإن الغريزة الشهوانيةالجنسية .. لا يمكن أن تكون لوحدها … هي الدافع للفتاة المسلمة .. لكي تعرض لحمهاوجسدها في الأسواق .. وتبتذل وتهين نفسها بالتقاط رقم فلان .. وتبيع كرامتهابالركوب في السيارة مع فلان .. وتهدر شرفها بالخلود مع فلان ….
فبادرها ( محمد ) قائلا : ولكن يبرز هنا سؤال مهم جدا ، وهو : هل مرورها بأزمة نفسية .. ومأساة عائلية .. يبرر لها ويسوغ لها أن تعصي ربها تعالى .. وتبيع عفافها .. وتتخلىعن شرفها وطهرها .. وتعرض نفسها لشياطين الإنس .. هل هذا هو الحل المناسب لمشكلتهاومأساتها ؟؟ هل هذا سيغير من واقعها المرير المؤلم شيئا ؟؟فأجابت الفتاة : أنا أعترف بأنه لن يغير شيئا من واقعها المرير المؤلم .. بل سيزيد الأمر سوءاًومرارة .. وليس مقصودي الدفاع عن أولئك الفتيات .. إنما مقصودي : إذا رأيتموهنفارحموهن وأشفقوا عليهن .. وادعوا لهن بالهداية ووجهوهن .. فإنهن تائهات حائرات … يحسبن أن هذا هو الطريق الموصل للسعادة التي يبحثن عنها ….
سكتت الفتاةقليلا … ثم تابعت قائلة : لقد أصبحت أشك .. هل هناك سعادة حقيقية في هذه الدنيا ؟!! .. وإذا كانت موجودة بالفعل .. فأين هي ؟!!.. وما هو الطريق الموصل إليها .. فقدمللت من هذه الحياة الرتيبة الكئيبة …
فقال لها الشيخ ( محمد ) : أختاه … لقد أخطأتِ طريق السعادة .. ولقد سلكتِ سبيلا غير سبيلها … فاسمعي مني .. لتعرفيطريق السعادة الحقة !! ….
*****
إن السعادة الحقيقية أن تلجأي إلى الله تعالى .. وتتضرعي له .. وتنكسري بين يديه .. وتقومي لمناجاته في ظلام الليل .. ليطرد عنكالهموم والغموم .. ويداوي جراحك .. ويفيض على قلبك السكينة والانشراح …
أختاه : إذا أردتِ السعادة فاقرعي أبواب السماء بالليل والنهار .. بدلا منقرع أرقام الهاتف .. على أولئك الشباب التافهين الغافلين الضائعين ..
صدقيني يا أختاه .. إن الناس كلهم لن يفهموك .. ولن يقدروا ظروفك .. ولنيفهموا أحاسيسك .. وحين تلجأين إليهم .. فمنهم من يشمت بك .. أو يسخر من أفكارك .. ومنهم من يحاول استغلالك لأغراضه ومآربه الشخصية الخسيسة .. ومنهم من يرغب فيمساعدتك .. ولكنه لا يملك لكِ نفعاً ولا ضرا …
أختاه : إنكِ لن تجدي دواءًلمرضك النفسي .. لعطشك وجوعك الداخلي .. إلا بالبكاء بين يدي الله تعالى .. ولنتشعري بالسكينة والطمأنينة والراحة .. إلا وأنتِ واقفة بين يديه .. تناجينه وتسكبينعبراتك الساخنة .. وتطلقين زفراتك المحترقة .. على أيام الغفلة الماضية …
قالت الفتاة .. والعبرة تخنقها : لقد فكرت في ذلك كثيرا … ولكن الخجل منالله .. والحياء من ذنوبي وتقصيري يمنعني من ذلك .. إذ كيف ألجأ إلى الله وأطلب منهالمعونة والتيسير .. وأنا مقصرة في طاعته .. مبارزة له بالذنوب والمعاصي …
فقال لها ( محمد ) : سبحان الله …يا أختاه : إن الناس إذا أغضبهم شخص وخالفأمرهم … غضبوا عليه ولم يسامحوه .. وأعرضوا عنه ولم يقفوا معه في الشدائد والنكبات … ولكن الله لا يغلق أبوابه في وجه أحد من عباده .. ولو كان من أكبر العصاة وأعتاهم .. بل متى تاب المرء وأناب … فتح له أبواب رحمته .. وتلقاه بالمغفرة والعفو .. بلحتى إذا لم يتب إليه … فإنه جل وعلا يمهله ولا يعاجله بالعقوبة … بل ويناديه ويرغبهفي التوبة والإنابة … أما علمت أن الله تعالى يقول في الحديث القدسي : «إني والجن والإنس في نبأ عظيم .. أتحبب إليهمبنعمتي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم الفقراء إلي !! من أقبل منهمإلي تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل معصيتي لا أقنطهم منرحمتي ، إن تابوا إلي فأنا حبيبهم ، فإني أحب التوابين والمتطهرين ، وإن تباعدواعني فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب ، رحمتي سبقت غضبي، وحلمي سبق مؤاخذتي ، وعفوي سبق عقوبتي ، وأنا أرحم بعبادي من الوالدةبولدها»وما كاد ( محمد ) ينتهي من ذلك الحديثالقدسي … حتى انفجرت الفتاة بالبكاء .. وهي تردد : ما أحلم الله عنا … ما أرحم اللهبنا ….
بعد أن هدأت الفتاة .. واصل الشيخ ( محمد ) حديثه قائلا :
أختاه : إنني مثلك أبحث عن السعادة الحقيقية في هذه الدنيا .. ولقد وجدتهاأخيرا .. وجدتها في طاعة الله … في الحياة مع الله وفي ظل مرضاته .. وجدتها فيالتوبة والأوبة .. وجدتها في الإستغفار من الحوبة … وجدتها في دموع الأسحار .. وجدتها في مصاحبة الصالحين الأبرار … وجدتها في بكاء التائبين .. وجدتها في أنينالمذنبين .. وجدتها في استغفار العاصين .. وجدتها في تسبيح المستغفرين .. وجدتها فيالخشوع والركوع .. وجدتها في الانكسار لله والخضوع .. وجدتها في البكاء من خشيةالله والدموع .. وجدتها في الصيام والقيام .. وجدتها في امتثال شرع الملك العلام .. وجدتها في تلاوة القرآن … وجدتها في هجرالمسلسلات والألحان …
أختاه : لقد بحثت عن الحب الحقيقي الصادق .. فوجدت أن الناس إذا احبواأخذوا .. وإذا منحوا طلبوا .. وإذا أعطوا سلبوا .. ولكن الله تعالى .. إذا أحب عبدهأعطاه بغير حساب .. وإذا أطيع جازى وأثاب ..
أيتها الغالية : إن الناس لايمكن أن يمنحونا ما نبحث عنه من صدق وأمان .. وما نطلبه من رقة وحنان .. ونتعطشإليه من دفء وسلوان .. لأن كل منهم مشغول بنفسه .. مهتم بذاته .. ثم إن أكثرهممحروم من هذه المشاعر السامية والعواطف النبيلة .. ولا يعرف معناها فضلا عن أنيتذوق طعمها .. ومن كان هذا حاله .. فهو عاجز عن منحها للآخرين .. لأن فاقد الشيءلا يعطيه كما هو معروف …
أختاه : لن تجدي أحدا يمنحك ما تبحثين عنه .. إلاربك ومولاك .. فإن الناس يغلقون أبوابهم .. وبابه سبحانه مفتوح للسائلين .. وهوباسط يده بالليل والنهار .. ينادي عباده : تعالوا إلي ؟ هلموا إلى طاعتي .. لأقضيحاجتكم .. وأمنحكم الأمان والراحة والحنان .. كما قال تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوالي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون }
أختاه : إن السعادة الحقيقية .. لاتكون إلا بالحياة مع الله .. والعيش في كنفه سبحانه وتعالى .. لأن في النفس البشريةعامة .. ظمأ وعطشاً داخلياً .. لا يرويه عطف الوالدين .. ولا يسده حنان الإخوةوالأقارب .. ولا يشبعه حب الأزواج وغرامهم وعواطفهم الرقيقة .. ولا تملأه مودةالزميلات والصديقات .. فكل ما تقدم يروي بعض الظمأ .. ويسقي بعض العطش .. لأن كلإنسان مشغول بظمأ نفسه .. فهو بالتالي أعجز عن أن يحقق الري الكامل لغيره .. ولكنالري الكامل والشبع التام لا يكون إلا باللجوء إلى الله تعالى .. والعيش في ظلطاعته .. والحياة تحت أوامره .. والسير في طريق هدايته ونوره .. فحينها تشعرينبالسعادة التامة .. وتتذوقين معنى الحب الحقيقي .. وتحسين بمذاق اللذة الصافية .. الخالية من المنغصات والمكدرات .. فهلا جربتِ هذا الطريق ولو مرة واحدة .. وحينهاستشعرين بالفرق العظيم … وسترين النتيجة بنفسك …
فأجابت الفتاة … ودموعالتوبة تنهمر من عينيها : نعم .. هذا والله هو الطريق !! وهذا هو ما كنت أبحث عنه .. وكم تمنيت أنني سمعت هذا الكلام .. منذ سنين بعيدة .. ليوقظني من غفلتي .. وينتشلني من تيهي وحيرتي .. ويلهمني طريق الصواب والرشد …
فبادرها ( محمد ) قائلا .. إذن فلنبدأ الطريق .. من هذه اللحظة .. وهاهو الفجر ظهر وبزغ .. وهاهيخيوط الفجر المتألقة تتسرب إلى الكون قليلاً قليلا .. وهاهي أصوات المؤذنين تتعالىفي كل مكان .. تهتف بالقلوب الحائرة والنفوس التائهة .. أن تعود إلى ربها ومولاها .. وهاهي نسمات الفجر الدافئة الرقيقة .. تناديك أن عودي إلى ربك .. عودي إلى مولاك .. فأسرعي وابدئي صفحة جديدة من عمرك … وليكن هذا الفجر هو يوم ميلادك الجديد .. وليكن أول ما تبدئين به حياتك الجديدة .. ركعتان تقفين بهما بين يدي الله تعالى .. وتسكبين فيها العبرات .. وتطلقين فيها الزفرات والآهات .. على المعاصي والذنوبالسالفات ..
وأرجوا أن تهاتفيني بعد أسبوعين من الآن … لنرى هل وجدت طعمالسعادة الحقيقية أم لا ؟ثم أغلق ( محمد ) السماعة … وأنهى المكالمة …
بعد أسبوعين .. وفي الموعد المحدد .. اتصلت الفتاة بـ ( محمد ) .. ونبراتصوتها تطفح بالبشر والسرور .. وحروف كلماتها تكاد تقفز فرحاً وحبورا .. ثم بادرتقائلة :
وأخيراً .. وجدت طعم السعادة الحقيقية .. وأخيراً وصلت إلى شاطئالأمان الذي أبحرت بحثاً عنه .. وأخيرا شعرت بمعنى الراحة والهدوء النفسي .. وأخيراً شربت من ماء السكينة والطمأنينة القلبية الذي كنت أتعطش إليه … وأخيراًغسلت روحي بماء الدموع العذب الزلال .. فغدت نفسي محلقة في الملكوت الأعلى .. وأخيرا داويت قلبي الجريح .. ببلسم التوبة الصادقة فكان الشفاء على الفور … لقدأيقنت فعلا .. أنه لا سعادة إلا في طاعة الله وامتثال أوامره .. وما عدا ذلك فهوسراب خادع .. ووهم زائف .. سرعان ما ينكشف ويزول …
وإني أطلب منك يا شيخطلباً بسيطا … وهو أن تنشر قصتي هذه كاملة .. فكثير من الفتيات تائهات حائرات مثلي … ولعل الله أن يهديهن بها طريق الرشاد …
فقال لها الشيخ ( محمد ) عسى أنتري ذلك قريبا ............
تعليق