ندعوكم لزيارة المكتبة والإستفادة مما تقدمه من كتب رقمية ومخطوطات ورسائل جامعية وغير ذلك
http://www.al-kawkab.net/
جاسم العايف
يعنون كتابه بالشكل الآتي “دراسة نقدية.. قصيدة النثر” لكنه في الصفحة الثالثة يضيف: “دراسة تفكيكية بنيوية” من هنا فإن العنوان الرئيس يحيل عند الدكتور سلمان كاصد إلى علاقة فاعلة بما جاء في متن الكتاب ولعل العنوان الثاني هو الأكثر دقة، فكلمة “دراسة” تبدو كأنها خارجة عن السياق العام للكتاب، فهو ليس دراسة واحدة بل دراسات متعددة عن دواوين شعرية نثرية تحديداً، صدرت في أوقات بعضها متفاوت زمنياً ومكانياً عن الآخر وأستخلص منها سلمان كاصد، بمنهجية فاعلة أن يقدم للقارئ مشهداً متنوعاً عن مديات قصائد النثر العربية الراهنة وأبعادها ضمن قراءات متعددة معتمداً في قراءاته على مهيمنات بحثية متجاورة وفاعلة.
التمهيد النظري
في مقدمة كتاب “قصيدة النثر” الصادر عن دار فضاءات في عمان يؤكد الدكتور سلمان كاصد في التمهيد النظري ابتعاده عن الرصد التاريخي لحركة الشعر العربي الحديث الذي يدخل في باب ما يصفه بـ”تاريخ الأدب” بسبب أن هذا المنهج يعنى بمراقبة الظواهر والتحولات الشعرية من الخارج وتقصّي حالات اختفاء بعض الشعراء وكفهم عن العطاء الشعري، مع ما يرافقه من اندراس موضوعاتهم وتوجهاتهم الشعرية لذلك تنحو دراسة كاصد نحو مقدمة نظرية يحدد فيها الإطار العام لتوجهه البحثي فيرى أن القصيدة الحديثة، النثرية بالذات، التي يطرحها الشعراء العرب تمتلك “أسلوباً حداثياً” يعنى بقارئ النص، بصفته منتجاً للمعنى، كما يطرح المهيمنات التي سيتناول عبرها الشعراء في قصائدهم من أمثال: البنيات الحكائية والوظائف الانفعالية والمكونات الأسلوبية وحداثة التشكل البنائي. ولأن القصيدة نتاج تصور فاعل للعالم بمستويات عدة فإنه يرصد اختلاف الرؤى والمهيمنات لدى بعض الشعراء الذين درس تجاربهم، فيؤكد الاختلاف في ما يكتبه الشاعر احمد الشهاوي وعبد العزيز جاسم وبين ما يكتبه الشاعر خالد بدر وإبراهيم الملا، بسبب من أن القصيدة هي بالأساس فعل سردي وفق المنهجيات الحديثة للرؤى والتوجهات النقدية، إذ لم يعد النقد شارحاً أو تابعاً للنص المدروس بل مجاوراً له وقد يسبقه في تأسيس خطابه الخاص مشكلاً نصاً له استقلاليته عن النص الأساس، وفق رؤية (ياكوبسن) التي تتجه إلى تجاوز البنية السطحية نحو البنية العميقة، وعلى منهج و أطروحات رولان بارت في أن السرود لا حصر لها وهي امتدادٌ متناهٍ ولا يشكل هذا أي قطيعة مع النصوص.
التخيل الخطابي
ينحو سلمان كاصد من خلال فحوصاته للنصوص المقروءة في الكتاب لإيجاد الفروق الواضحة بين الشعراء الذين تناولهم، فتبدو ثمة صوفية في إطار من المناجاة لدى احمد الشهاوي وقصيدته تعيش ما يسميه بنية التخيل الخطابي، بينما قصيدة ثاني السويدي محكومة بعدمية تسيطر عليها ما يطلق عليه د. سلمان ظاهرة “موت الجسد” ويقف سعد جمعة نقيضاً في رؤيته لذلك من خلال احتفائه بالجسد ذاته إلى حد تقديسه له بصفته أداة المتحرك ـ الراقص الذي يعبر عن ديناميكيته لدى الآخرين وكشف أعماقهم المطمورة بفعل التابو الاجتماعي بينما تذهب ميسون صقر إلى اقتحامات عدة في لغة القصيدة وجسدها منتقلة إلى المعنى للحفر في جسد الواقع المعطى وبذا تزيح ميسون صقر من خلال لغة الجسد ما هو مسكوت عنه في الواقع ليغدو متمثلاً في لغتها وشكل قصيدتها إذ يتم الاحتفاء بالجسد الإنساني ومعطياته ومكوناته الآدمية التي لا أرقى وارق منها مع تأكيدها على ما يباح للجسد وما لا يتوفر لسواه، من جهة ثانية فإن عادل خزام يذهب إلى الطقوس الشعائرية من خلال اللغة الانبهارية التي يفجرها بلعبه على اللغة لإنتاج معنى يوصله إلى القارئ عبر التلاعب الموسيقي في القوافي المعكوسة داخلياً أو خارجياً، وتسعى نجوم الغانم في قصيدتها، مراثيها بالذات، إلى تجاوز صورة (الخنساء/ التراثية) عبر تغيرات شكل قصيدتها وتعمد إلى الذات الجمعية النسوية التي تتهجد بالانتقال من ضمير المتكلم المفرد وخلال يقظتها الشعرية الدائمة بحرصها على إبراز “الضمير” الجمعي الذي يحاول أن يجانس طقوس الاحتفاء بالحزن من خلال مبررات الغياب والخسارات الشخصية. والنظر إلى قصائد خالد بدر يكمل المشهد إذ أن قصيدته تحمل رؤى انهيار العالم/ الخارج، ومن خلال ذلك فانه ينحو لرؤية مأساوية للتعبير عن ذلك الانهيار، عبر فظاظة الواقع وتحجّره المعبر عنها بما يُطلق عليه معرفياً بـ”شقاء الوعي” وعذاباته الفردية الخاصة. يتساءل د. سلمان كاصد عن السبب الذي يجعل الشعر العربي قديمه وحديثه معنياً بالمراثي من خلال قراءة قصيدة محمود درويش “حالة حصار” بصفتها قمة المراثي العربية وهي تعتمد الوزن والقافية وتركبهما على بحري المتدارك والمتقارب، وعند فحصها يرى أن بنيتها نثرية لم تخرج عن المتداول اللفظي في خطابها الشعري وفيما إذا تم التمعن بها فثمة بنية سردية تقترب من المنثور الشعري.
ثمة خطأ شائع يكشف عنه مصطلح ورد نصاً باللغة الفرنسية وهو (القصيدة النثرية) وقد ترجم إلى اللغة العربية بـ (قصيدة النثر) كما يؤكد هذا د. مجيد مغامس الذي ترجم عن اللغة الفرنسية منذ العام 1978 فصلاً واحداً فقط من كتاب سوزان برنار وكان عنوانه “جماليات قصيدة النثر” ونُشر ضمن سلسلة بحوث مترجمة ـ 1، التي أصدرتها حينها كلية اللغات ـ جامعة بغداد. كما أعقبه بعد أكثر من عقدين ترجمة كاملة عن اللغة الفرنسية أيضاً، لكتاب سوزان برنار المعنون “قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا” وراجعه الراحل الدكتور علي جواد الطاهر وصدر عن دار المأمون للترجمة والنشر ط1 بغداد 1993، لم يقل د. مغامس أو يذكر نهائياً في المقدمة التي وضعها لترجمته للكتاب، بفصله أو كاملاً، (قصيدة النثر) بل نبه على ذلك، إلا أن اغلب النقاد والباحثين العرب في هذا الشأن لم يسع للكشف عن هذا الفرق.
الحركات الغنائية
لعل أهم وصف أو تحديد لقصيدة النثر هو ذاك الذي وصفه بودلير قائلاً: “مَن منّا لم يحلم بمعجزة نثر شعري، موسيقي بلا وزن ولا قافية، لين ومتنافر، كي يتآلف مع الحركات الغنائية للروح، ومع تموجات الحلم وارتجافات الوعي”. وقد ظهر مصطلح قصيدة النثر في الأدب العربي في مجلة شعر سنة 1960 للدلالة على شكل شعري جديد انتهت إليه الكثير من الأشكال التجريبية الشعرية العربية السابقة زمنياً.
يرى د. كاصد أن “قصيدة النثر تجربة قابلة للجدل” وتأسيساً على هذا أرى انه لا يمكن أن نطلق تسمية عامة اسمها “قصيدة النثر العربية” وذلك لفروقات كثيرة ثقافية ـ اجتماعية تعتمد وتهيمن بفاعلية في كل بلد عربي من خلال التعامل مع “ قصيدة النثر”، فثمة رؤى متغايرة وأشكال متعددة تختلف الواحدة عن الأخرى في البلدان العربية، ولذا فثمة “قصائد نثر عربية” وليس “قصيدة نثر عربية” وذلك لاختلاف معطيات ومنجزات التحضر الواقعي ـ الاجتماعي في كل بلد عربي، حيث التمايز قائم بين البلدان العربية وشعوبها ومكوناتها الثقافية ومرجعياتها المتعددة ، فلا يمكن الركون قطعاً للحصر في هذا الجانب. كما يلاحظ أن بعض النتاجات الشعرية لقصيدة النثر قد نحت منحىً شكلانياً محضاً، وان قسماً منها قد أجهد نفسه على ألا يقول شيئاً من خلال التوجه نحو الغموض وتجاهل أو عدم إدراك أهميّة التوصيل في إنتاج المعنى، أو الاهتمام به وبما هو مناسب له.
الصانع الأمهر
إن التوصيل غير نابع فقط من رغبة الشاعر في طرح الرؤى والأفكار، بل من طبيعة الموضوع ذاته، انه ليس مهارة أو لعباً بالكلمات دون معنى، وكذلك ليس هو إكسسوارا للزينة أو لعرض الأفكار من خلال الصور الشعرية، والتوصيل ليس نزهة شخصية للشاعر تتسكع فيها قصيدته بلا اتجاه ولا هدف أو معنى.
التوصيل بات منطلقاً ونابعاً من براعة الشاعر وقدرته الفنية الشخصية وثقافته الغنية المتجددة في تشكيل موضوع قصيدته قبل أي شيء آخر، وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا لشاعر ذي مقدرة وبراعة فنية واسعة الرؤى والتصورات وتكمن بمهارة خلف “الصانع الأمهر” المتمكن من أدواته، والكامن خلف موضوعه وليس بداخله، وغالبا ما تفاجئنا بعض القصائد بمجرّد مهارات شعرية فارغة من أيّ معنى ذي دلالة عميقة، فكأن الشاعر معني بإظهار مقدرته الشخصية، على النظم فقط، وغير معني بالقصيدة ذاتها التي يجب أن تستوعب موضوعها فنياً من خلال إجادة فن التوصيل.
الثقافات الكونية
درس سلمان كاصد ما طرحه احمد الشهاوي في “كتاب الموت”، وثاني السويدي في “الأشياء تمر”، وسعد جمعة في “الراقص”، و”الوريث” لعادل خزام، و”تفاصيل” لإبراهيم الهاشمي، وكذلك “حافة الغرف” لأحمد راشد ثاني، و”سماوات” الهنوف محمد، و”لا لزوم لي” لعبد العزيز جاسم، وإبراهيم الملا في “صحراء السلال”، و”منازل الجلنار” لنجوم الغانم، و”وردة الكهولة” لحبيب الصايغ، وخالد بدر في “ليل”، من خلال اجتراحه لـ”مفهوم المؤثر النصي”، مؤكدا أن القصيدة هي التي تفرض منهجها النقدي الذي يكشف أغوارها لذا كان تعدد المفاهيم والرؤى النقدية لديه فاعلا وعملياً للوصول إلى معطيات النصوص المدروسة والحفر في عوالمها التي تستفيد من التحولات الحداثية.
إن الأجيال القادمة هي مَنْ سترسم أفق مستقبلها وتؤسس معطيات حداثتها، وتحدد ملامحها ومدياتها الثقافية وقدراتها التعبيرية والأجناسية، وفي الوضع الذي نحن عليه لا يمكن أن نفرض ونرسم شكل الخارطة الشعرية القادمة، خاصة في ظل ثقافة العولمة التي تطرق أبوابنا ولن نفلح في ردّها عن فضاءاتنا بأقفال وأسيجة مهما بلغت حصانتها، وستتلاقح ثقافاتنا المتعددة أو المنفردة، مع الثقافات الكونية، بأشكال عدةٍ، وهذا لا يشكل نقصاً أو دونية في توجهاتنا الثقافية ومعطياتها، بل سيجعلنا في قلب التحولات التي تهز وتؤثر في وعلى العالم، وأن نعتبر بدورات التاريخ المريرة القاسية علينا وعلى توجهاتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية، فكم من الأفكار والرؤى باتت مهملة ونائية أمام مجرى الحياة وتغير تشكيلاتها وتدفقاتها.
الاتحاد
كوكب المعرفة
http://www.al-kawkab.net/