إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مئات اللوحات الفسيفسائية الرومانية تحتشد داخل متحف باردو بتونس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مئات اللوحات الفسيفسائية الرومانية تحتشد داخل متحف باردو بتونس


    كطائر أسطوري يعيش موتا أزليا وحياة أبدية -
    زار المتحف - محمد الحضرمي:-- في ضحوة باردة، أخذنا الأصدقاء أعضاء نادي اليونسكو المدينة بتونس في رحلة إلى قلب التاريخ ونسغه وجذره، وهذه المفردات لائقة الوصف بمكنونات متحف باردو الأثري، والذي يقع في واحدة من ضواحي عاصمة تونس الخضراء، ضم الوفد الزائر مثقفين وإعلاميين وأدباء، مغتنمين فرصة زيارة تونس، للمشاركة في الأيام الثقافية العمانية التونسية التي استمرت اربعة أيام خلال الفترة من 25 - 28 يونيو الفائت، وكانت مفاجأتنا كبيرة وسارَّة، حيث أعدَّ لنا نادي اليونسكو وبكرم ومحبة تونسية برنامج زيارات، شملت مواقع مختلفة من المدن الأثرية الواقعة في قلب العاصمة، أو قريبا من ضواحيها الخضراء، تلك التي تلقَّت أول نسائم الربيع العربي، وتونس قطعة أثرية ضاربة بجذورها في التاريخ، وإذا كان لها في كل زاوية معلم أثري، فهي تمنح زائرها حكايات أخاذة عن الإنسان الذي عاش فيها، فاتحة ذراعيها للقادمين من الأطراف البعيدة لحوض البحر المتوسط، ومع نسائم الضحى التونسي البارد كانت رحلتنا لزيارة هذا المتحف الأثري العريق، والتعرُّف على نفائس الفسيفسائيات الرومانية، والتي يعود تاريخها إلى الفترة ما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن السادس الميلادي، والوقوف على المنحوتات الرخامية لأباطرة الرومان الكبار.
    ها نحن نلج بخطواتنا إلى داخل المتحف، لنقف على قاعة كبيرة تضم رؤوس الأباطرة، وكأنهم احتشدوا جميعا في اجتماع كبير، سيعيد صياغة خارطة الحياة القادمة، لكنهم صامتون، عيونهم تخبئ أسرارا غامضة، وشفاههم لا تبوح إلا بما هو أغمض، أخذ المعرِّف يشرح لنا تاريخ كل قطعة أثرية، وفي اللحظات التي يشير فيها بيده إلى الرؤوس الرُّخامية وجدتني أبصر ردة فعل هؤلاء الأباطرة، الذي لا نعرف عنهم سوى أرقام مطبوعة أسفل منحوتاتهم، فهذه المنحوتة للإمبراطور أغسطسيوس (27 ق.م - 14 ميلادي)، وتلك للإمبراطور تراجانوس (98 ميلادي - 117 ميلادي)، وتلك للإمبراطور هدريانوس (117 ميلادي - 138 ميلادي)، والأخرى للإمبراطور فيتاليوس، لم يحكم سوى ثمانية أشهر في عام 69م، ومنحوتة أخرى للإمبراطور غرديانوس الأول، والذي حكم فقط ثلاثة أسابيع من سنة 238 ميلادي، ومنحوتة أخرى للإمبراطور سبتيم سيفاريوس (193 م - 211م)، وغيرها من المنحوتات الكثيرة، بعضها برؤوس مقطوعة، وبعضها الآخر بنصف جسد، وبعضها بجسد كامل.
    ولهذه المنحوتات حضور رهيب في النفس، حيث يحس الزائر بعظمة هؤلاء الأباطرة، وعظمة النحاتين الذين أبدعوا في نحت تفاصيلهم وملامحهم، كل منحوتة لا تشبه الأخرى، كل منحوتة لها إبداعها وإيحاؤها الجمالي الخاص.
    ومن هذه القاعة المكتظة بالمنحوتات، إلى قاعة أخرى تبرز جمال الفسيفسائيات، هذه هي إبداعات الأوائل في تفتيت الحجر، إلى قطع صغيرة، تتشكل معا ألوانا جميلة، واشكالا غريبة، بعضها ربات وآلهات ومعبودات، وبعضها لوحات تعبيرية تعكس رفاهية الحياة عند أصحابها.
    في قديم الزمان كانت تستخدم الفسيفسائيات بمثابة سجاد ملون، يبلط بها أرضيات الغرف ومداخل القصور، واليوم يمكن رؤيتها في (متحف باردو) معلقة في الجدران، حيث تم اقتلاعها من أماكنها وتعليقها في المتحف، بالصورة التي حافظت على جزئياتها الدقيقة، ليقف الزائر أمام لوحات جميلة، وكأنها لوحات ملونة بفرشاة، ولكن حالما تقترب منها تبدأ الكتلة اللونية في التفكك، لتظهر التفاصيل الدقيقة للجزئيات الحجرية المرصعة بطريقة حافظت على مسار الرسمة، والأكثر إبداعا هو في الحجر، ترى من أين لهم هذا الحجر الملون، وكيف استطاعوا نحته وتفتيته بهذه الدقة؟. أجاب المعرف بأنه حتما لديهم آلات خاصة، آلات يدوية تفتت الحجر إلى جزئيات دقيقة، وتحافظ على لمعان سطحه، وتحافظ على ألوانه، فلا تنمحي أو تتفكك بالوطء بالأقدام، وحتما أيضا آلاف الأقدام وطأتها، حيث كانت تنحت في الأرض، وبالمقاس الذي يتناسب مع مساحة الأروقة أو الحجرات أو صالات الاستقبال.
    مئات اللوحات الفسيفسائية، يحتفظ بها متحف باردو الذي كان قصرا، شيد من قبل الحفصيين (1228م – 1574م)، وأدخلت عليه تغييرات، حتى قام بترميمه بعد ذلك حمودة باشا، فيما بين (1631م – 1635م)، واستطاع ابنه مراد الثاني إحياء حياة البذخ السابقة، حتى وصفها الرحالة تيفينو في دفاتر سفره سنة 1653م، بقوله، باردو تتألف من ثلاثة ادوار، غير بعيدة عن مدينة تونس، فيها عدد كبير من النوافير والأحواض الجميلة المحفورة في قطعة واحدة من الرخام المستورد من جنوة. وقاعة مفتوحة على الهواء الطلق، تتوسطه فسقية كبيرة وأروقة محيطة مسقفة ومعمَّدة، وبلاط أرضي من الرخام الأبيض والأسود، كما هو الشأن في جميع الغرف الأخرى المزخرفة بالذهب، واللازورد والنقيشة على الجبس.
    والوقوف عند هذه اللوحات لم يكن عابرا عند أكثر زملاء الرحلة والوفد الثقافي، إذ أكثرنا لأول مرة يرى مثلها، محتشدة في متحف واحد، إبداعات الرومان في النحت والرسم بلغت في دقة ووضوح، حد أن الزمن ذاب أمام عيننا، فبدت وكأنها زخارف ونقوش تنتمي لسنوات قريبة، لكن الإبداع يبقى متوهج الجمال، ولا يتكدر أو يضعف بتقادم السنين، لذلك رحنا نلتقط لها الصور، ونصور عند أكثرها، وفيما كان دليل المتحف يأخذنا من لوحة جدارية إلى أخرى، شعرت معه وكأني أنتقل من زمن إلى آخر، في اللحظة التي أنقِّل فيها خطواتي داخل المتحف، والذي بدى أشبه بمدينة متكاملة، تعج بأرواح الأسلاف.
    وفي قاعة أخرى شاهدنا معالم تنتمي إلى الحقبة اليهودية، وبعضها إلى الحقبة المسيحية، ثم الحقبة الإسلامية، كل حقبة لها دلالاتها وجمالياتها، وأثرها الباقي إلى الآن، ألواح من العهد القديم بقيت خطوطها عالقة في صحيفة جلدية، تعد الأعرق والأقرب إلى ذلك الزمن. بركة فسيفسائية مزخرفة، كانت تستخدم للتعميد، ولوحات قرآنية نقشت بخط النسخ، وبعضها بخط الثلث، وشواهد لقبور قديمة، قبور راحلين عاشوا في هذه الحياة، فأرخ لهم أبناؤهم، وبقيت تلك الشواهد شاهدة على فنائهم، ذكرتني بالشواهد المتناثرة في مقبرة الأئمة بنزوى، حيث كانت تضم قصائد شعرية وتواريخ لموت علماء وفقهاء، قبل أن تطال يد العبث والجهل، فكسرت أكثرها، ولم يبق منها إلا القليل، مثل هذه اللوحات موجودة في متحف باردو لأموات تونسيين.
    بقيت أجنحة أخرى لم ندخلها، هي الآن تحت الترميم، إذ إرضاء للضيف الذي يزور تونس، ويرغب في زيارة متحف باردو، لم يتم تعطيل زيارته، ولم يُمنع أحد من دخول المتحف، ما سوى القاعات التي يشملها الترميم، والباقي مفتوحة للزائرين، وكل هذه اللوحات المتاحة للزائرين، تكفي ليتعرفوا على ما يضمه المتحف العريق.
    هنا ينيخ التاريخ رحله، وعلى أهمية هذه اللوحات إلا إنني لم أر في المتحف وسائل حديثة من شأنها أن تحافظ على هذه الثروة، والتي يمكن أن تضيع لأي سبب من الأسباب، إلا إنْ كنت لم أشعر بوجودها، حيث بساطة البناء وتقليديته، صرفت عنا التفكير في أمور كهذه، وشغلنا بقراءة تلك اللوحات وتأملها جماليا، فلم ننظر إلى الأسقف، لنرى إن كانت تخبئ كاميرات مراقبة، أو غيرها من الأدوات الأمنية، ربما لأننا لسنا بحاجة إلى البحث عنها.
    كما لم أجد أية وسائل حديثة يمكن ان تقوم مقام المعرَّف أو دليل المتحف والذي أشفقت عليه، لأنه أخذنا في شرح تفصيلي طويل امتد لساعتين، وبالطبع نحن لسنا أول فوج يزور المتحف في هذه الضحوة التونسية الباردة، ولن نكون آخر فوج الذي يزوره هذا اليوم، لقد اشفقت عليه، وباركت مثابرته وإخلاصه في الشرح، وكأنه يقرأ فصولا من كتاب تاريخي.
    آلهات متعددة، كانت يوما ما معبودات، الناس في قديم الزمان اخترعوا فكرتها وآمنوا بها، وبلغ بهم الأمر أنهم عبدوها، فصارت رمزا من رموز الحياة، فهذا إله للحب، وآخر للجمال، وآخر للمطر، وأخر للخمر، آلهات متعددة رسمها خيال الفنان، فصدقها الناس ردحا كبيرا من الزمن، لكنها اليوم مجرد تحف ولوحات فنية، تفتح للمتأمل صفحات شيقة من رواية أدبية، بطلها إله من وهم.
    هذه الآلهة، كان لها عباد، فأصبح لها عشاق، كانت رمزا له سطوته وهيبته، وأصبحت رمزا له حضور جمالي، كانت فكرة خيالية، فأصبحت واقعا، وبمرور الزمن ضاعت الفكرة وأصبحت رسما في قلب الحجر، له حضوره الجمالي.
    مرت ساعتان ونحن نجول داخل المتحف، نقلب صفحات من التاريخ المرئي، ونشم رائحة الأمس البعيد في كل عمل فني، حتى شعرنا بالإعياء والإنهاك، وفي داخلي حمدت الله أن أقساما من المتحف مغلقة تحت الترميم، وسريعا تجمعنا أمام بوابة كبيرة، تقود إلى نزل الضيوف الذين كانوا يحلون على قصر الحاكم.
    من هذا الحاكم الذي نزور قصره؟
    في لوحة تعريفية قرأت تعريفا بالقصر ومالكيه، وفيها: أنه في القرن الثامن عشر الميلادي، أراد الحسين بن علي مؤسس الدولة الحسينية في تونس، الاحتماء من تهديد الدايات التركية بتونس، فقرر إحاطة المكان بأسوار، تتخللها حصون وأبراج، وبنى جامعا ومدرسة وحماما وأسواقا، فاصبح القصر بمثابة مدينة محصنة.
    ثم جاء خلفه علي باشا ليشدد من تأمين القصر، فحفر خندقا على طول الأسوار، وبنى برجا وهو بناية جميلة تقوم اليوم مقام البرلمان التونسي.
    فأصبحت باردو مقرا (لبايات تونس)، وفي سنة 1830م أضاف حسين باي الثاني قصرا مماثلا في هندسته لقصر القصبة، ثم جاء أحمد باي ليشيد قصر المحمدية، الذي أراده نسخة مصغرة من قصر فرساي بباريس، وبنى دار السكة، والمدرسة، وأضاف داخل البرج قاعة العرش، ذات النمط الإيطالي، وكان محمد باي هو آخر من أدخل تغييرات على القصر الذي ظل على شكله الحالي إلى اليوم.
    هناك إذن مساحات أخرى داخل هذا المتحف القصر لم نزرها بعد، لأنها واقعة تحت الترميم، وفيما كنا نجر أقدامنا باتجاه المخرج، ميممين في الاتجاه الذي دخلنا منه، اصطففنا جميعا امام بوابة نزل الضيوف، ورحنا نلتقط الصور الجماعية، كتذكار لساعتين جميلتين وثريتين، ولجنا خلالها داخل أنفاق الزمن، وغصنا بأرواحنا إلى قلب الحضارة الرومانية، وسلمنا على أهم أباطرتها، ثم ها نحن نترك المتحف، ونعود أدراجنا إلى مقر إقامتنا، وفي النفس نفحات من ذكرى تفوح منها رائحة عطرة، لزمن لم نعشه، إنما تخيلناه بعقولنا، وأودعناه قلوبنا، ثم تركناه داخل متحف باردو الأثري، يطير بين ردهاته وأروقته، كطائر أسطوري يعيش موتا أزليا وحياة أبدية.

    ملحق شرفات
    جريدة عمان
يعمل...
X