[align=center]مادة : ل ح ن , ومشتقاتها (*)
يتطلب معنى اللحن اللغويّ أن يكون الصواب متقدما عليه . وكلاهما يمكن حصوله وتصورّه إذا تجاوز التفكير في اللغة خطوات نشأتها الأولى . بيد أن مثل هذا التفكير والتأمل في نشوء اللغة كان بعيدًا كل البعد عن عرب البادية قل الإسلام .
حقًا كان لهم ذوق مرهف , وإحساس ناضج كل النضج بجمال اللفظ المنطوق : سواء في الخطاب البسيط المألوف , أم في النثر الفنى المسجوع وغير المسجوع , أم في الكلام الموزون المنظوم . كما عرفوا أيضًا تلك العوائق الحسيّة والنفسية التى تعترض النطق , وتؤثر في المنطق , فيعيى الخطيب أو يُرتج عليه .
ولاحظوا كذلك عيوب اللسان كاللّفة , والرتة , واللجَلجَة والحُبسة , بل لاحظوا أيضًا خصائص من اللهجات واللغات الخاصة ؛ ولكنهم لم يعرفوا كنهًا للخطأ في القواعد والخروج على النحو .
وهذا اللفظ القديم : اللّحن الذي يطلقه علماء اللغة والنحو اصطلاحًا على : الخطأ في اللغة , إنما اكتسب هذا المدلول نتيجة لاتفاق عرفى على تغيير معناه الأصلى في وقت متأخر .
والمدلول الأصلى للفظ : لحن , بفتح الحاء هو : مال ؛ وتفسّر المعاجم دون ذكر الشاهد : لحن إلى , بمعنى : مال إلى . ومن هنا تدل مشتقات هذه المادة على معان تتميز بالإشارة إلى الميل والتحول عن الهيئة المألوفة . وهذا لا يعنى أن الحالة المألوفة هى الصواب , وأن الميل والتحول عنها يؤدى إلى الانحراف والخطأ ؛ كما لا يعنى أن المقصود هو التحول إلى الصواب والحق .
وعلى هذا فمعنى : لَحِنٌ على وزن : فَطِنٌ , سريع الميل والالتفات , أي حُوَّلٌ قُلَّبٌ , وهذا معناه الفطن الأَريب ؛ وهكذا يصف لبيد مثلا وليدا يمانيا مَرِنًا على الكتابة :
متعوّد لَحِنٌ يعيد بكفّه ,,, قلما على عُسُب ذَيَلْن وبان
وفعل : لحن بكسر الحاء يفسّر على ذلك بمعنى : فطن ؛ ومصدره : اللّحن بفتح الحاء , كما في بيت قعنب بن أم صاحب الذي عاش في عهد الوليد بن الملك :
] غَمَسْتُ عنهم وما ظنّى مخافتهم [ ,,, وسوف يعرفهم ذواللب واللحِن
وقد روى أيضًا أن اللّحن بسكون الحاء مصدر بفتحها , ورد بمعنى الإصابة والفطنة كذلك .
وأفعل التفضيل : ألحن , ورد فى حديث مستفيض روى في كل مجاميع السنة يحث لمؤمنين على الصدق والحق إذا تفاضلوا إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إنما أنا بشر مثلكم , وإنكم تختصمون إلىّ , فلعل بعضكم ألحنَ بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع منه , فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئًا , فإنما أقطع له قطعة من النار " .
ولما كان المعنى اللحن في هذا المثال الأخير متحققًا في أن يكون أحد الخصمين أعرف بإلباس حالته حُلّة من البلاغة المُقْنعة ـ فى بعض الروايات بدلا من : لعل بعضكم أن يكون ألحن : لعل بعضكم أن يكون أبلغ ـ فقد استعمل لفظ : اللحن , بسكون الحاء فى معنى : التعبير بصورة مخالفة للمألوف بوجه عام , ويدخل فى ذلك الغناء , بمعنى أن اللحن غالبًا هو النغمة المخالفة للمألوف في أصوات الغناء .
ويكون استعمال اللحن مجازًا أيضًا في هديل الحمام وغنائه . فقد قال شاعر بدرى من شعراء القرن الثانى : هو جهم بن خلف , فى أبيات له :
تغنّت عليه بلحن لها ,,, يهيّج للصبّ ما قد مضى
وقال فى مكان آخر :
مألوفة الألحان مطراب الضحى ,,, تبكى بشجو دائم وتَوجّع
وفى قصيدة نسبت إلى جحدر , أحد لصوص العرب ومعاصر الحجاج ,قال فى حمامتين :
تجاوبتا بلحن أعجمىّ ,,, على غصنين من غرب وبان
ومثل هذا المعنى ورد أيضًا فى البيت الذى لم يسم قائله :
باتا على غصن بان في ذرى فنن ,,, يردّدان لحونًا ذات ألوان
أما أن لفظ : لاحن , على صيغة اسم الفاعل , استعمل أيضًا بمعنى : حسن الصوت , فدل عليه المثل المعروف : " ألحن من الجرادتين " : أى أحسن صوتًا وغناء . والجرادتان كانتا قينتين لمعاوية بن بكر العليقى , سيد العمالقة في سالف الدهر .
وكذلك المثل الآخر : " ألحن من قَينتى يزيد " , والمراد بهماحبابة وسلاّمة , مغنيتا يزيد بن عبد الملك اللتان قيل فيهما إنهما كانتا ألحن من رُئى فى الإسلام من قيان النساء .
ويتصل بهذا المعنى فعل : لَحَّن بالتشديد , أى رَتَّل بالنَّغم القرآن مثلا , حيث نهى المحافظون عن ذلك .
وأخيرًا صار لفظ : تلحين ( وجمعه : تلاحين ) أى طريقة الغناء , أو النغمة الرئيسية اصطلاحا من اصطلاحات الموسيقى .
ويقصد من اللحن أيضًا : النطق على أسلوب مخالف للمألوف , كما يراد به طريقة التعبير بوجه عام . وفى هذا المعنى يقول ذو الرّمة :
* فى لحنه عن لغات العُرب تعجيم *
ويقول عبيد بن أيوب , أحد لصوص العرب في القرن الثانى للهجرة , فى الغول :
أرنَّت بلحن بعد لحن ] وأوقدت ,,, حوالىّ نيرانًا تلوح وتزهر [
وفى بيت لم يسمّ قائله :
وقوم لهم لحن سوى لحن قومنا ,,, وشكل وبيت الله لسنا نشاكله
ويتصل بذلك القولُ المأثور : " هذا ليس من لحنى ولا من لحن قومى " , ومعناه تقريبًا : ليس هذا من شأنى ولا من طريقتى .
وهذا المعنى : طريقة التعبير , ورد فى كثير من الأحاديث , وإن من الصعب التحقق من قدمها وصحتها . فقد روى أن أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل ( المتوفى 63هـ ) أحد الصحابة المتأخرين , استعمل هذا التعبير : لحن اليمن . ورأى كل من الأصمعى وأبى زيد لفظ : لحن , مرادفًا للفظ : لغة ؛ وعلى ذلك فمعنى ؛ لحن , نطق بلغته الخاصة .
وبهذا فسّرت ثلاثة أقوال نسبت إلى الخليفة عمر الأكبر , وإن كان يظهر ضعف نسبتها إليه , وهى : (1) تعلموا الفرائض والسنن واللحن . (2) تعلموا اللحن فى القرآن . (3) أُبَىُّ أقرؤنا وإنا نرغب عن كثير من لحنه . على أن الغالب استعمال اللحن فى معنى الطريقة غير المألوفة في التعبير , بوجه من الوجوه ؛ فقد يقصد من ذلك أن تريد الشىء فتورّى عنه بقول آخر . وهذا المعنى يبرز بوضوح فى بيت من قصيدة قالها القتَّال الكلابى , الذى عاش فى عهد مروان بن الحكم , يلوم قومه لتخلفهم عن مساعدته :
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ,,, ووحيت وحيًا ليس بالمرتاب
وفى مثال ثان لهذا التعبير يقول مالك بن أسماء صهر الحجاج بن يوسف فى جارية تغنَّى بها :
منطق صائب وتلحن أحيا ,,, نا وخير الحديث ما كان لحنا
ولما اشتهر لفظ اللحن فى الاستعمال المتأخر بالمعنيين : الخطأ اللغوى , والغناء , وهَم الجاحظ فظن أن الشاعر أراد أنها تلحن فى الكلام أى تخطئ , وأن اللحن فى الكلام مما يستحسن من النساء .
نعم قد نبه إلى وهمه العالم المشهور بين رجال القصور : علىُّ بن يحيى المنجّم ( المتوفى 275 هـ ) , ولكنه لم يستطيع إصلاح ما كتبه في كتابه البيان والتبيين بعد أن سار فى الآفاق وانتشر أيمّا انتشار .
ونظرًا لذلك التأثير البعيد الذى كان لكتب الجاحظ فى الأجيال من بعده , لم يكن غريبًا أن يؤخذ تفسيره الخاطئ بالقبول في أوساط مختلفة ؛ كما فعل ذلك ابن قتيبة فى "عيون الأخبار " , وهو كتاب نال من الخطوة مالا يكاد يقل عن كتاب البيان والتبيين , وأسهم أيضًا فى إذاعة ذلك التفسير .
نعم لم تخرس المعارضة دونه بين حين وآخر , كما أملى ابن دريد ( المتوفى 321 هـ ) على تلاميذه تصحيحًا مدعومًا بالحجة للتفسير الذى ذكره الجاحظ ؛ وكما فعل مثل ذلك في جيل آخر بعد ابن دريد أبو بكر الصولى ( المتوفى 336 هـ ) .
وذكر ابن الأنبارى ( المتوفى 327 هـ ) ـ الذى يتفق شرحه للفظ اللحن معَ شرح ابن الأعرابى ( المتوفى 231 هـ ) الذى يصفه بالصواب ـ أن مذهب ابن قتيبة من أن العرب تستحسن اللحن في كلام النساء غير صحيح , إذ إن العرب لم تزل تستقبح اللحن من النساء كما تستقبحه من الرجال ؛ ثم عضد ذلك بشواهد في طيب حديث الصواحب .
بيد أن ذل التفسير الخاطئ لم يكن من السهل تلاشيه ؛ فقد ذكره قدامة بن جعفر , وإن فهم من كلامه أنه يأخذ به لعدم اتضاح تفسير آخر في نظره ؛ ويؤخذ من كلامه أيضًا عدم ارتياحه إلى أن الخطأ فى كلام النساء يعد جميلاً .
وفى ختام القرن الرابع ( العاشر ) استطاع أحد حواريّى الجاحظ وهو أبو حيّان التوحيدى أن يحاول تسويغ حمل اللحن في هذا البيت على المعنى الذى ذكره الجاحظ , أى الخطأ فى الكلام , وإن لم ينف أيضًا احتمال تفسيره بالرمز والإشارة . وابتداءً من القرن الخامس درج الناس على فهم التفسير الصحيح للبيت , أى الرمز والإشارة .
ورد هذا المعنى في النثر في خبر عن غزوة الخندق . فقد أرسل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وغيرهما إلى بنى قريظة ليتبينوا ما إذا كانت قريظة تريد أن تنكث عهدها معه , وقال لهم : " فإن كان حقًا فالحنوا لي لحنًا أعرفه " , فلما رجع الرسل ذكروا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفظى : " عضل والقارة " وهما قبيلتان غدرتا بأصحاب النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبل , فعلم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك أن قريظة نكثت العهد .
واشتهر أيضًا على أنه مثال للّحن بمعنى اللغز والتورية , ما جاء فى الرسالة أرسلها أحد الأعراب فى يوم الوقيط , وهو من أيام العرب في عهد فتنة عثمان , إلى قومه يحذرهم من الغزو .
وأخيرًا يتصل بهذا ما جاء في آية 30 من سور محمد ـ عليه الصلاة السلام ـ , وهو الموضع الوحيد الذى ورد فيه لفظ اللحن فى القرآن ؛ وفى هذه الآية التى نزلت بعد غزوة بدر بقليل , يقول الله سبحانه عن المنافقين : ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم , ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ) . ولا يوجد أفصح ولا أبلغ , ولا أنصع ولا أبين فى إصابة المحزِّ من ذلك التعبير : لحن القول , فى وصف طريقة التعبير المعسولة التى لا يبدو فى ظاهر جرسها سوء , والتى يرمز بها أعداء محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى معان يفهمها إخوانهم في الرياء والنفاق .
ويتعلق بهذا السياق أيضًا فعل : لاَحنَ ( وهو مرادف لفعل : فَاطَن ) , أى أظهر له ذكاءه وفطنته , ولا سيما بتعاطى التورية والإلغاز ؛ كما فى بيت الطرمّاح , قصيدة 47 بيت 5 :
وأدّت إلىّ القول عنهن زَوْلة ,,, تلاحن أو ترنو لقول الملاحن
وعلى حين يراد من اللحن بالمعنى الأخير , أى التورية والتعمية كما في الأمثلة الأخيرة , الرمز إلى السامع بغير ما يفهم من صريح الكلام , يستعمل اللحن أيضًا , فى أحوال أخرى , بمعنى ما يقصد إليه المتكلم نفسه من معنى يقصده ولا يتبين من ظاهر اللفظ ’ كما في حالة استعمال الألفاظ المشتركة في معان غير متبادرة منها .
وقد ظن كثيرون إذا أقسموا يمينًا على شىء أنهم يرضون ضمائرهم بالقصد إلى معنى غير ما يفهمه السامع؛ فإذا حلف إنسان : ما سألت فلانا حاجة قط , قصدوا في أنفسهم من لفظ : حاجة , أمرًا معيّنًا .
وقد ذكر ابن دريد في كتابه : الملاحن , مجموعة من مثل هذه الألفاظ المحتملة لمعان مختلفة , مع ملاحظتة على ذلك أن من يضطر إلى اليمين يستطيع استخدامها لينقذ نفسه من كيد المتسلط , ويسلم مع ذلك من غضب القوى الجبار . وقد أمكنه أن يجمع من هذه الألفاظ نحو أربعمائة كلمة من كلمات الحيل فى القسم , من بين العدد الدّثْر من الألفاظ المشتركة فى العربية .
وتنقل خطوات قليلة لفظ : لحن من معنى التضليل والتعميعة , إلى معنى الخطأ في التعبير : لحن بفتح الحاء , أخطاء فى الكلام ؛ لحَّن بالتشديد , عدّه لاحنا , عد عليه لحنا ؛ لحّان ولحّانة ولَحُنَة , كثير اللحن .
وإلى هذا اسم الفاعل : لاحن فى قولهم : قَدَح لاحن , أي ليس بصافى الصوت عند الإفاضة , وقوس لاحنة عند الإنباض , أى عند شدٍّ وترها للرمى .
وهذا المعنى , أى الخطأ فى الكلام يبدو في العهد الإسلامى فى غير عربية البدو بصورة قوية ـ لم يعق هذا الاستعمال عن الانفراد فى التعبير إلا استعمال اللحن بمعنى الغناء أيضًا ـ بحيث تورط ابن عربى النحوى الكوفى ( 150 ـ 231 هـ ) إذ ساقه اطراد ذلك الاستعمال إلى اعتقاد أن : لحن معناه أخطاء فى الكلام , أو فطن وأصاب الصواب , وأنه على ذلك من قبيل الأضداد .
وهذا الرأى المنحرف يتفق مع مذهب ذلك الكوفى العجيب الذي يذهب مثلا إلى جواز إبدال الضاد الظاء حسب الرغبة والاختيار , والذى ينكر فضل أبى عبيدة والأصمعى في تحقيق اللغة وجمعها , والذى يعدّ شعر أبى نواس وغيره من المحدثين كالريحان يُشم ويَذْوَى فيُرمى به .
ويظهر فى باب اللحن من كتاب الأضداد لابن الأنبارى ( المتوفى 327 هـ ) ما أدى إليه هذا التفسير الذى مسخ معنى ذلك اللفظ : اللحن , فى تفسير التعبيرات المتفرقة .
ومن الأمثلة لذلك ما ذكره ابن الأعرابى فى شرح البيت المذكور آنفًا لمالك ابن أسماء :
منطق صائب وتلحن أحيا ,,, نا وخير الحديث ما كان لحنا
إذ قال : منطق قاصد للصواب وإن لم يصب , وتصيب وتفطن أحيانًا , وخير الحديث ما كان إصابة وفطنة .
وهذا التأويل المتهافت يجد شبيهه في تفسير ابن الأعربى أيضًا لبيت من شعر امرئ القيس فى معلقته .
هذا ولا يزال ينقصنا بعد كل دليل يبين متى تم نقل لفظ اللحن إلى معنى الخطأ فى الكلام . وأغلب الظن أنه استعمل لأول مرة بهذا المعنى عندما تبه العرب بعد اختلاطهم بالأعاجم إلى فرق ما بين التعبير الصحيح والتعبير الملحون . وكثير من هؤلاء لم يكونوا يستطيعون إخراج حروف الحلق والإطباق بالدقة المعروفة فى العربية من مخارجها , فاستعاضوا عنها بحروف أخف على ألسنتهم وأسهل على طباعهم . وكان من أثر هذا إلى جانب الثراء العظيم فى مادة اللغة العربية , أن نشأ التحريف واختلاط الكلمات مالا مناص عنه فى التفاهم العادى .
فإذا قال أعجمى مثلا : أهلّ , الذى معناه ظهر أو فرح , بدلا من : أحلّ , بمعنى أجاز وأذن ؛ أو : أرب , الذى معناه الحاجة أو العقل , بدلا من : عرب جمع عربى ؛ أو سار , الذى معناه ذهب , بدلا من : صار بمعنى : تحوّل ؛ أو : دلّ الذى معناه هدى , بدلا من : ضل , بمعنى غوى وحار ؛ أو : ترك , الذى معناه : ودع وأبقى بدلاً من : طرق بمعنى دق على الباب ليلاً , لم يكن من السهل على العربى أن يتابع كلامه بالفهم الصحيح ؛ وكان لابد أن يؤدى ذلك إلى إدراك العربى معنى الخطأ اللغوى , والخلط فى التعبير .
وليكن هناك من الفرص قبل الإسلام أيضًا ما يسمح باختلاط العرب بغيرهم من الأعاجم فى المناسبات المختلفة ؛ فإن الهجرة العربية الكبرى التى تمت فى القرن الأول للإسلام , وهيَّأت الفرصة العظمى لاحتكاك العرب بالأعاجم , واصطدام لغتهم باللغات الأخرى , هى التى يعوّل عليها بالنسبة لما ترتب عليها من آثار جماعية غير فردية . [/align]ـ
ـــــــــــــــــــــــ
(*) المصدر : العربية دراسات في اللغة واللهجات والأساليب, من عمل يُوهان فك , نقله إلى العربية وحققه د. عبد الحليم النجَّار .
يتطلب معنى اللحن اللغويّ أن يكون الصواب متقدما عليه . وكلاهما يمكن حصوله وتصورّه إذا تجاوز التفكير في اللغة خطوات نشأتها الأولى . بيد أن مثل هذا التفكير والتأمل في نشوء اللغة كان بعيدًا كل البعد عن عرب البادية قل الإسلام .
حقًا كان لهم ذوق مرهف , وإحساس ناضج كل النضج بجمال اللفظ المنطوق : سواء في الخطاب البسيط المألوف , أم في النثر الفنى المسجوع وغير المسجوع , أم في الكلام الموزون المنظوم . كما عرفوا أيضًا تلك العوائق الحسيّة والنفسية التى تعترض النطق , وتؤثر في المنطق , فيعيى الخطيب أو يُرتج عليه .
ولاحظوا كذلك عيوب اللسان كاللّفة , والرتة , واللجَلجَة والحُبسة , بل لاحظوا أيضًا خصائص من اللهجات واللغات الخاصة ؛ ولكنهم لم يعرفوا كنهًا للخطأ في القواعد والخروج على النحو .
وهذا اللفظ القديم : اللّحن الذي يطلقه علماء اللغة والنحو اصطلاحًا على : الخطأ في اللغة , إنما اكتسب هذا المدلول نتيجة لاتفاق عرفى على تغيير معناه الأصلى في وقت متأخر .
والمدلول الأصلى للفظ : لحن , بفتح الحاء هو : مال ؛ وتفسّر المعاجم دون ذكر الشاهد : لحن إلى , بمعنى : مال إلى . ومن هنا تدل مشتقات هذه المادة على معان تتميز بالإشارة إلى الميل والتحول عن الهيئة المألوفة . وهذا لا يعنى أن الحالة المألوفة هى الصواب , وأن الميل والتحول عنها يؤدى إلى الانحراف والخطأ ؛ كما لا يعنى أن المقصود هو التحول إلى الصواب والحق .
وعلى هذا فمعنى : لَحِنٌ على وزن : فَطِنٌ , سريع الميل والالتفات , أي حُوَّلٌ قُلَّبٌ , وهذا معناه الفطن الأَريب ؛ وهكذا يصف لبيد مثلا وليدا يمانيا مَرِنًا على الكتابة :
متعوّد لَحِنٌ يعيد بكفّه ,,, قلما على عُسُب ذَيَلْن وبان
وفعل : لحن بكسر الحاء يفسّر على ذلك بمعنى : فطن ؛ ومصدره : اللّحن بفتح الحاء , كما في بيت قعنب بن أم صاحب الذي عاش في عهد الوليد بن الملك :
] غَمَسْتُ عنهم وما ظنّى مخافتهم [ ,,, وسوف يعرفهم ذواللب واللحِن
وقد روى أيضًا أن اللّحن بسكون الحاء مصدر بفتحها , ورد بمعنى الإصابة والفطنة كذلك .
وأفعل التفضيل : ألحن , ورد فى حديث مستفيض روى في كل مجاميع السنة يحث لمؤمنين على الصدق والحق إذا تفاضلوا إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إنما أنا بشر مثلكم , وإنكم تختصمون إلىّ , فلعل بعضكم ألحنَ بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع منه , فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئًا , فإنما أقطع له قطعة من النار " .
ولما كان المعنى اللحن في هذا المثال الأخير متحققًا في أن يكون أحد الخصمين أعرف بإلباس حالته حُلّة من البلاغة المُقْنعة ـ فى بعض الروايات بدلا من : لعل بعضكم أن يكون ألحن : لعل بعضكم أن يكون أبلغ ـ فقد استعمل لفظ : اللحن , بسكون الحاء فى معنى : التعبير بصورة مخالفة للمألوف بوجه عام , ويدخل فى ذلك الغناء , بمعنى أن اللحن غالبًا هو النغمة المخالفة للمألوف في أصوات الغناء .
ويكون استعمال اللحن مجازًا أيضًا في هديل الحمام وغنائه . فقد قال شاعر بدرى من شعراء القرن الثانى : هو جهم بن خلف , فى أبيات له :
تغنّت عليه بلحن لها ,,, يهيّج للصبّ ما قد مضى
وقال فى مكان آخر :
مألوفة الألحان مطراب الضحى ,,, تبكى بشجو دائم وتَوجّع
وفى قصيدة نسبت إلى جحدر , أحد لصوص العرب ومعاصر الحجاج ,قال فى حمامتين :
تجاوبتا بلحن أعجمىّ ,,, على غصنين من غرب وبان
ومثل هذا المعنى ورد أيضًا فى البيت الذى لم يسم قائله :
باتا على غصن بان في ذرى فنن ,,, يردّدان لحونًا ذات ألوان
أما أن لفظ : لاحن , على صيغة اسم الفاعل , استعمل أيضًا بمعنى : حسن الصوت , فدل عليه المثل المعروف : " ألحن من الجرادتين " : أى أحسن صوتًا وغناء . والجرادتان كانتا قينتين لمعاوية بن بكر العليقى , سيد العمالقة في سالف الدهر .
وكذلك المثل الآخر : " ألحن من قَينتى يزيد " , والمراد بهماحبابة وسلاّمة , مغنيتا يزيد بن عبد الملك اللتان قيل فيهما إنهما كانتا ألحن من رُئى فى الإسلام من قيان النساء .
ويتصل بهذا المعنى فعل : لَحَّن بالتشديد , أى رَتَّل بالنَّغم القرآن مثلا , حيث نهى المحافظون عن ذلك .
وأخيرًا صار لفظ : تلحين ( وجمعه : تلاحين ) أى طريقة الغناء , أو النغمة الرئيسية اصطلاحا من اصطلاحات الموسيقى .
ويقصد من اللحن أيضًا : النطق على أسلوب مخالف للمألوف , كما يراد به طريقة التعبير بوجه عام . وفى هذا المعنى يقول ذو الرّمة :
* فى لحنه عن لغات العُرب تعجيم *
ويقول عبيد بن أيوب , أحد لصوص العرب في القرن الثانى للهجرة , فى الغول :
أرنَّت بلحن بعد لحن ] وأوقدت ,,, حوالىّ نيرانًا تلوح وتزهر [
وفى بيت لم يسمّ قائله :
وقوم لهم لحن سوى لحن قومنا ,,, وشكل وبيت الله لسنا نشاكله
ويتصل بذلك القولُ المأثور : " هذا ليس من لحنى ولا من لحن قومى " , ومعناه تقريبًا : ليس هذا من شأنى ولا من طريقتى .
وهذا المعنى : طريقة التعبير , ورد فى كثير من الأحاديث , وإن من الصعب التحقق من قدمها وصحتها . فقد روى أن أبا ميسرة عمرو بن شرحبيل ( المتوفى 63هـ ) أحد الصحابة المتأخرين , استعمل هذا التعبير : لحن اليمن . ورأى كل من الأصمعى وأبى زيد لفظ : لحن , مرادفًا للفظ : لغة ؛ وعلى ذلك فمعنى ؛ لحن , نطق بلغته الخاصة .
وبهذا فسّرت ثلاثة أقوال نسبت إلى الخليفة عمر الأكبر , وإن كان يظهر ضعف نسبتها إليه , وهى : (1) تعلموا الفرائض والسنن واللحن . (2) تعلموا اللحن فى القرآن . (3) أُبَىُّ أقرؤنا وإنا نرغب عن كثير من لحنه . على أن الغالب استعمال اللحن فى معنى الطريقة غير المألوفة في التعبير , بوجه من الوجوه ؛ فقد يقصد من ذلك أن تريد الشىء فتورّى عنه بقول آخر . وهذا المعنى يبرز بوضوح فى بيت من قصيدة قالها القتَّال الكلابى , الذى عاش فى عهد مروان بن الحكم , يلوم قومه لتخلفهم عن مساعدته :
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ,,, ووحيت وحيًا ليس بالمرتاب
وفى مثال ثان لهذا التعبير يقول مالك بن أسماء صهر الحجاج بن يوسف فى جارية تغنَّى بها :
منطق صائب وتلحن أحيا ,,, نا وخير الحديث ما كان لحنا
ولما اشتهر لفظ اللحن فى الاستعمال المتأخر بالمعنيين : الخطأ اللغوى , والغناء , وهَم الجاحظ فظن أن الشاعر أراد أنها تلحن فى الكلام أى تخطئ , وأن اللحن فى الكلام مما يستحسن من النساء .
نعم قد نبه إلى وهمه العالم المشهور بين رجال القصور : علىُّ بن يحيى المنجّم ( المتوفى 275 هـ ) , ولكنه لم يستطيع إصلاح ما كتبه في كتابه البيان والتبيين بعد أن سار فى الآفاق وانتشر أيمّا انتشار .
ونظرًا لذلك التأثير البعيد الذى كان لكتب الجاحظ فى الأجيال من بعده , لم يكن غريبًا أن يؤخذ تفسيره الخاطئ بالقبول في أوساط مختلفة ؛ كما فعل ذلك ابن قتيبة فى "عيون الأخبار " , وهو كتاب نال من الخطوة مالا يكاد يقل عن كتاب البيان والتبيين , وأسهم أيضًا فى إذاعة ذلك التفسير .
نعم لم تخرس المعارضة دونه بين حين وآخر , كما أملى ابن دريد ( المتوفى 321 هـ ) على تلاميذه تصحيحًا مدعومًا بالحجة للتفسير الذى ذكره الجاحظ ؛ وكما فعل مثل ذلك في جيل آخر بعد ابن دريد أبو بكر الصولى ( المتوفى 336 هـ ) .
وذكر ابن الأنبارى ( المتوفى 327 هـ ) ـ الذى يتفق شرحه للفظ اللحن معَ شرح ابن الأعرابى ( المتوفى 231 هـ ) الذى يصفه بالصواب ـ أن مذهب ابن قتيبة من أن العرب تستحسن اللحن في كلام النساء غير صحيح , إذ إن العرب لم تزل تستقبح اللحن من النساء كما تستقبحه من الرجال ؛ ثم عضد ذلك بشواهد في طيب حديث الصواحب .
بيد أن ذل التفسير الخاطئ لم يكن من السهل تلاشيه ؛ فقد ذكره قدامة بن جعفر , وإن فهم من كلامه أنه يأخذ به لعدم اتضاح تفسير آخر في نظره ؛ ويؤخذ من كلامه أيضًا عدم ارتياحه إلى أن الخطأ فى كلام النساء يعد جميلاً .
وفى ختام القرن الرابع ( العاشر ) استطاع أحد حواريّى الجاحظ وهو أبو حيّان التوحيدى أن يحاول تسويغ حمل اللحن في هذا البيت على المعنى الذى ذكره الجاحظ , أى الخطأ فى الكلام , وإن لم ينف أيضًا احتمال تفسيره بالرمز والإشارة . وابتداءً من القرن الخامس درج الناس على فهم التفسير الصحيح للبيت , أى الرمز والإشارة .
ورد هذا المعنى في النثر في خبر عن غزوة الخندق . فقد أرسل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وغيرهما إلى بنى قريظة ليتبينوا ما إذا كانت قريظة تريد أن تنكث عهدها معه , وقال لهم : " فإن كان حقًا فالحنوا لي لحنًا أعرفه " , فلما رجع الرسل ذكروا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفظى : " عضل والقارة " وهما قبيلتان غدرتا بأصحاب النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبل , فعلم النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك أن قريظة نكثت العهد .
واشتهر أيضًا على أنه مثال للّحن بمعنى اللغز والتورية , ما جاء فى الرسالة أرسلها أحد الأعراب فى يوم الوقيط , وهو من أيام العرب في عهد فتنة عثمان , إلى قومه يحذرهم من الغزو .
وأخيرًا يتصل بهذا ما جاء في آية 30 من سور محمد ـ عليه الصلاة السلام ـ , وهو الموضع الوحيد الذى ورد فيه لفظ اللحن فى القرآن ؛ وفى هذه الآية التى نزلت بعد غزوة بدر بقليل , يقول الله سبحانه عن المنافقين : ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم , ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ) . ولا يوجد أفصح ولا أبلغ , ولا أنصع ولا أبين فى إصابة المحزِّ من ذلك التعبير : لحن القول , فى وصف طريقة التعبير المعسولة التى لا يبدو فى ظاهر جرسها سوء , والتى يرمز بها أعداء محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى معان يفهمها إخوانهم في الرياء والنفاق .
ويتعلق بهذا السياق أيضًا فعل : لاَحنَ ( وهو مرادف لفعل : فَاطَن ) , أى أظهر له ذكاءه وفطنته , ولا سيما بتعاطى التورية والإلغاز ؛ كما فى بيت الطرمّاح , قصيدة 47 بيت 5 :
وأدّت إلىّ القول عنهن زَوْلة ,,, تلاحن أو ترنو لقول الملاحن
وعلى حين يراد من اللحن بالمعنى الأخير , أى التورية والتعمية كما في الأمثلة الأخيرة , الرمز إلى السامع بغير ما يفهم من صريح الكلام , يستعمل اللحن أيضًا , فى أحوال أخرى , بمعنى ما يقصد إليه المتكلم نفسه من معنى يقصده ولا يتبين من ظاهر اللفظ ’ كما في حالة استعمال الألفاظ المشتركة في معان غير متبادرة منها .
وقد ظن كثيرون إذا أقسموا يمينًا على شىء أنهم يرضون ضمائرهم بالقصد إلى معنى غير ما يفهمه السامع؛ فإذا حلف إنسان : ما سألت فلانا حاجة قط , قصدوا في أنفسهم من لفظ : حاجة , أمرًا معيّنًا .
وقد ذكر ابن دريد في كتابه : الملاحن , مجموعة من مثل هذه الألفاظ المحتملة لمعان مختلفة , مع ملاحظتة على ذلك أن من يضطر إلى اليمين يستطيع استخدامها لينقذ نفسه من كيد المتسلط , ويسلم مع ذلك من غضب القوى الجبار . وقد أمكنه أن يجمع من هذه الألفاظ نحو أربعمائة كلمة من كلمات الحيل فى القسم , من بين العدد الدّثْر من الألفاظ المشتركة فى العربية .
وتنقل خطوات قليلة لفظ : لحن من معنى التضليل والتعميعة , إلى معنى الخطأ في التعبير : لحن بفتح الحاء , أخطاء فى الكلام ؛ لحَّن بالتشديد , عدّه لاحنا , عد عليه لحنا ؛ لحّان ولحّانة ولَحُنَة , كثير اللحن .
وإلى هذا اسم الفاعل : لاحن فى قولهم : قَدَح لاحن , أي ليس بصافى الصوت عند الإفاضة , وقوس لاحنة عند الإنباض , أى عند شدٍّ وترها للرمى .
وهذا المعنى , أى الخطأ فى الكلام يبدو في العهد الإسلامى فى غير عربية البدو بصورة قوية ـ لم يعق هذا الاستعمال عن الانفراد فى التعبير إلا استعمال اللحن بمعنى الغناء أيضًا ـ بحيث تورط ابن عربى النحوى الكوفى ( 150 ـ 231 هـ ) إذ ساقه اطراد ذلك الاستعمال إلى اعتقاد أن : لحن معناه أخطاء فى الكلام , أو فطن وأصاب الصواب , وأنه على ذلك من قبيل الأضداد .
وهذا الرأى المنحرف يتفق مع مذهب ذلك الكوفى العجيب الذي يذهب مثلا إلى جواز إبدال الضاد الظاء حسب الرغبة والاختيار , والذى ينكر فضل أبى عبيدة والأصمعى في تحقيق اللغة وجمعها , والذى يعدّ شعر أبى نواس وغيره من المحدثين كالريحان يُشم ويَذْوَى فيُرمى به .
ويظهر فى باب اللحن من كتاب الأضداد لابن الأنبارى ( المتوفى 327 هـ ) ما أدى إليه هذا التفسير الذى مسخ معنى ذلك اللفظ : اللحن , فى تفسير التعبيرات المتفرقة .
ومن الأمثلة لذلك ما ذكره ابن الأعرابى فى شرح البيت المذكور آنفًا لمالك ابن أسماء :
منطق صائب وتلحن أحيا ,,, نا وخير الحديث ما كان لحنا
إذ قال : منطق قاصد للصواب وإن لم يصب , وتصيب وتفطن أحيانًا , وخير الحديث ما كان إصابة وفطنة .
وهذا التأويل المتهافت يجد شبيهه في تفسير ابن الأعربى أيضًا لبيت من شعر امرئ القيس فى معلقته .
هذا ولا يزال ينقصنا بعد كل دليل يبين متى تم نقل لفظ اللحن إلى معنى الخطأ فى الكلام . وأغلب الظن أنه استعمل لأول مرة بهذا المعنى عندما تبه العرب بعد اختلاطهم بالأعاجم إلى فرق ما بين التعبير الصحيح والتعبير الملحون . وكثير من هؤلاء لم يكونوا يستطيعون إخراج حروف الحلق والإطباق بالدقة المعروفة فى العربية من مخارجها , فاستعاضوا عنها بحروف أخف على ألسنتهم وأسهل على طباعهم . وكان من أثر هذا إلى جانب الثراء العظيم فى مادة اللغة العربية , أن نشأ التحريف واختلاط الكلمات مالا مناص عنه فى التفاهم العادى .
فإذا قال أعجمى مثلا : أهلّ , الذى معناه ظهر أو فرح , بدلا من : أحلّ , بمعنى أجاز وأذن ؛ أو : أرب , الذى معناه الحاجة أو العقل , بدلا من : عرب جمع عربى ؛ أو سار , الذى معناه ذهب , بدلا من : صار بمعنى : تحوّل ؛ أو : دلّ الذى معناه هدى , بدلا من : ضل , بمعنى غوى وحار ؛ أو : ترك , الذى معناه : ودع وأبقى بدلاً من : طرق بمعنى دق على الباب ليلاً , لم يكن من السهل على العربى أن يتابع كلامه بالفهم الصحيح ؛ وكان لابد أن يؤدى ذلك إلى إدراك العربى معنى الخطأ اللغوى , والخلط فى التعبير .
وليكن هناك من الفرص قبل الإسلام أيضًا ما يسمح باختلاط العرب بغيرهم من الأعاجم فى المناسبات المختلفة ؛ فإن الهجرة العربية الكبرى التى تمت فى القرن الأول للإسلام , وهيَّأت الفرصة العظمى لاحتكاك العرب بالأعاجم , واصطدام لغتهم باللغات الأخرى , هى التى يعوّل عليها بالنسبة لما ترتب عليها من آثار جماعية غير فردية . [/align]ـ
ـــــــــــــــــــــــ
(*) المصدر : العربية دراسات في اللغة واللهجات والأساليب, من عمل يُوهان فك , نقله إلى العربية وحققه د. عبد الحليم النجَّار .