إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

البومة العمياء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • البومة العمياء

    البومة العمياء




    في الحياة جروح وعذابات تتآكل الروح مثل الجُذام وتبريها شيئاً فشيئاً بعيداً من الأنظار. هذه المواجع لا ينبغي إظهارها لأحد، إذ جرت العادة أن تعدّ هذه الآلام العصية على التصديق من قبيل المصادفات والحوادث النادرة العجيبة. ولو تكلّم بها أحد أو كتبها لسعى الناس الى استقبالها بابتسامات ساخرة متشككة جرياً على العقائد الشائعة ومعتقداتهم الخاصة – لأن الناس لمّا يعثروا لها على دواء أو يملكوا إزاءها حيلة، وعلاجها الوحيد هو النسيان عن طريق تناول الشراب، والتناوم بواسطة الأفيون والمواد المخدرة – ولكن، للأسف، فإن تأثير مثل هذه العلاجات موقت، وبدلاً من التسكين تعود بعد مدة لتزيد في الألم وتذكيه.

    هل يصل أحد في يوم من الأيام الى أسرار هذه المصادفات الغيبية، هذا الانعكاس لظل الروح الذي يتجلى في حالة الإغماء عند البرزخ الذي يفصل بين النوم واليقظة؟

    سوف اشرع في وصف واحد فحسب من هذه الأحداث، التي جرت معي، وهزتني الى درجة يستحيل نسيانها معها، والتي سيظل نذيرها المشؤوم يسمم حياتي بشراسة ما دمت حياً، ومنذ الأزل والى الأبد، والى درجة تستعصي على الفهم والإدراك. – كتبت «تسمّم حياتي» ولكني أردت القول إن فجيعتها قد رافقتني دوماً وسوف تظل تفعل.

    لسوف أحاول أن أكتب ما أتذكره، ما بقي في ذاكرتي من علاقات الأحداث، لعلّي أستطيع أن أصل الى حكم شامل عليها «كلا، بل أن أصل الى شيء تقر له نفسي، أو أن أُصدّق أنا – نفسي – لأنه لا يهمني على الإطلاق أن يصدّق الآخرون أو لا يصدقوا – كل ما هنالك انني أخشى أن أموت غداً ولمّا أعرف نفسي – لأن تجارب الحياة قد أوقفتني على سر تلك الهوة السحيقة التي تفصل بيني وبين الآخرين، وأفهمتني أنه ينبغي لي الخلود الى الصمت ما كان اليه سبيل، وأن عليّ أن أحتفظ بأفكاري لنفسي ما أمكنني ذلك، وإذا كنت الآن قد عزمت على الكتابة، فليس ذلك إلا لكي أعرّف ظلي بي – ذلك الظل المنحني على الجدار، والذي يبدو وكأنه يبتلع كل ما أكتبه بشغف شديد – انه من أجله سوف أُجري تجربة: لأرى ان كان بوسعنا أن يعرف أحدنا الآخر على نحو أفضل. فمنذ قطعت كل علاقاتي بالآخرين وأنا أريد أن أعرف نفسي على نحو أفضل.

    أفكار لا طائل تحتها! – ليكن، ولكن ما يعذبني أكثر من أية حقيقة أخرى – أليس هؤلاء الناس الذين يشبهونني والذين يملكون في الظاهر احتياجاتي وميولي ورغباتي، أليسوا موجودين لخداعي؟ أليسوا سوى حفنة من شخوص لم تظهر الى الوجود إلا لخديعتي والسخرية مني؟ أليس ما أحسه وأراه وأفكر فيه وهماً جميعه، يفصله عن الحقيقة بون شاسع؟

    انني أكتب لظلي وحسب، ظلّي الساقط أمام المصباح على الجدار. ينبغي أن أعرّفه بنفسي.

    لقد كانت اول مرة – في هذه الدنيا الوضيعة الغاصة بالفكر والمسكنة – ظننت أن فيها شعاعاً من الشمس قد تألق في حياتي – ولكن، أسفاً، لم يكن هذا شعاع شمس، بل محض ومضة عابرة، نجمة طائرة، تجلّت لي في إهاب امرأة أو ملاك، وعلى ضوئها رأيت في لحظة واحدة، بل ثانية واحدة، كل تعاسات حياتي وتقصّيت عظمتها وجلالها، ثم اختفت هذه الومضة في لُجّة الظلام حيث كان ينبغي أن تختفي – كلا، لم أستطع أن أحتفظ بهذه الومضة العابرة لنفسي.

    لقد انقضت ثلاثة شهور – كلا، بل شهران وأربعة أيام منذ فقدت أثرها، ولكن ذكرى عينيها الساحرتين، أو شرارة عينيها القاتلة بقيت في حياتي على الدوام – كيف أستطيع أن أنساها وهي على هذا القدر من الارتباط بحياتي؟

    كلا، لن أذكر اسمها أبداً، لأنها بذلك القدّ الأثيري، الضامر الضبابي، وبتينك العينين الواسعتين المتألقتين الحائرتين اللتين من خلفهما تحترق حياتي وتنصهر بألم وعلى مهل، لم تعُد تنتمي الى هذه الدنيا المفترسة الوضيعة – كلا، لا ينبغي أن ألوّث اسمها بالأشياء الأرضية. لقد أخرجت نفسي تماماً بعدها من زمرة الآدميين، من زمرة الحمقى والمحظوظين، ولجأت الى الشراب والعقاقير طلباً للنسيان – مضت حياتي وتمضي، طوال أيامي كلها بين الجدران الأربعة لغرفتي – لقد مضت حياتي كلها بين جدران أربعة. كان كل ما يشغلني طوال اليوم هو الرسم على جلد حافظات الأقلام – كان كل وقتي وقفاً على الرسم على حافظات الأقلام، وعلى احتساء الشراب وتعاطي العقاقير، وكنت قد اخترت هذا الشغل لكي أخدّر نفسي، ولكي أقتل الوقت. كان بيتي – وذلك من محاسن الصدف – واقعاً خارج المدينة، في بقعة هادئة ساكنة بعيداً من الاضطراب وعراك الناس في الحياة – في ناحية منعزلة وما حوله خراب. ومن وراء الخندق فقط تظهر البيوت الطينية الحقيرة وتبدأ المدينة. لا أدري أي مجنون أو فاسد الذوق بنى هذا البيت في الزمن الغابر، حين أغمض عيني، تتجسد في ذاكرتي كل أجزائه وتفاصيله، وليس هذا فحسب، بل أحس وطأة ثقلها على كاهلي. بيت لا يحتمل وجوده إلا مرسوماً على حافظات الأقلام القديمة.

    ينبغي أن أكتب كل هذه الأمور لأرى إن كان الأمر لم يختلط علي، ينبغي علي أن أوضح كل ذلك لظلي الساقط على الجدار – نعم، فمن قبل لم يكن قد تبقى لي سوى مصدر واحد للفرح واهي الأساس. كنت أمارس الرسم على حافظات الأقلام بين جدران حجرتي الأربعة، وبهذه التسلية المضحكة أزجي الوقت... دوماً كنت أرسم شجرة سَروٍ، تحتها شيخ محدودب يشبه دراويش الهند، متلفع بعباءة، جاثم وقد لفّ رأسه بعمامة، ووضع سبابة يده اليسرى على شفته متعجباً. – وفي مواجهته فتاة بلباس أسود طويل انحنت تقدم له زهرة نيلوفر – حيث يفصل بينهما جدول صغير – هل كنت رأيت هذا المشهد من قبل، أم أوحي إلي أثناء النوم؟ لا أدري، ولكن ما أدريه هو انني كلما كنت أرسم، فلا شيء سوى هذا المشهد وهذا الموضوع، حيث ترسم يدي هذه الصورة من دون إرادة مني، وأغرب من ذلك انه كان يوجد لهذا الرسم عملاء يشترونه، حتى لقد كنت أرسل من هذه الحافظات الجلدية الى الهند بواسطة عمي، حيث كان يبيعها ويبعث إلي بثمنها.

    كان هذا المشهد يتراءى لي وهو يبتعد ويقترب، لا أذكر بالضبط – تذكرت الآن أمراً – قلت: ينبغي أن أكتب مذكراتي، ولكن هذا الحادث قد وقع بعد ذلك بفترة طويلة، وليس له علاقة بالموضوع على أثر هذا الحادث ذاته أقلعت عن الرسم تماماً – قبل شهرين، كلا، مضى شهران وأربعة أيام. كان اليوم الثالث عشر من عيد النيروز. كان كل الناس قد اندفعوا خارج المدينة. كنت مغلقاً نافذة حجرتي كي يخلو بالي للرسم وقبيل الغروب، حين كنت منهمكاً في الرسم انفتح الباب فجأة ودخل عمي – هو قال انه عمي، إذ لم أكن قد رأيته قط، حيث كان قد راح في سفر بعيد منذ ريعان الشباب.


    فصل من رواية «البومة العمياء» للكاتب صادق هدايت (1903 – 1951) . الترجمة العربية عن الفارسية صدرت بتوقيع عمر عدس عن منشورات الجمل (ألمانيا) سنة 1999.
يعمل...
X