هذه عدة مقالات تقدم رؤية جديدة للمكانة الدينية للمسجد الأقصى وقبة الصخرة، وكاتب هذه المقالات يمقت أشد المقت كل تصرف عدواني قام به الإسرائيليون ضد الفلسطينيين أو غيرهم، ولكن ذلك ليس مبررا لأن نستمر في ترديد أفكار مغلوطة عن المسجد الأقصى زاعمين أنها دين ، وهي تخالف التاريخ والقرآن والدراسة الموضوعية للروايات المنسوبة إلى النبي عليه السلام، فضلا عن أنها تضر بمستقبل الفلسطينيين، الذي لن يتأسس إلا على حل سلمي لقضيتهم.
والرؤية الجديدة بحاجة إلى عقل يتدبرها، وليست بحاجة إلى حناجر تهتف ضدها، على أنني أعلم أن الذين تشبعوا بالرؤية القديمة سيكون من الصعب عليهم أن ينظروا بإنصاف في هذه الرؤية الجديدة، لو أرادوا ذلك، وأعلم أن أكثرهم لن يريد إلا الدفاع عن الرؤية القديمة، ولكن لا جدوى من الكلام عن تجديد الخطاب الديني دون أن نقدم نماذج تهز أركان الخطاب الموروث.
وقد كان للشرق الأوسط فضل عليّ في تكوين هذه الرؤية، إذ شرعت في إنتاجها بعد قراءة مقال منشور بها في عدد 19/ 11/ 2000، تحت عنوان "عودة إلى الخلاف على مقدسات الأقصى".
(1) ماذا قال مجير الدين العليمي عن عمارة المسجد الأقصى؟
يعدُّ كتاب (الأُنْسُ الجليل بتاريخ القدس والخليل) واحدا من أهم المراجع عن الآثار الإسلامية في مدينتي القدس والخليل، وهو من تأليف القاضي مجير الدين أبي اليُمن عبد الرحمن العليمي الحنبلي المقدسي، المولود بالقدس ليلة الأحد الثالث عشر من شهر ذي القعدة سنة 860 للهجرة، المتوفى سنة 927 للهجرة. وفي هذا المقال أعرض قراءتي لكلام العليمي في الفصلين الذين خصصهما للحديث عن المسجد الأقصى.
وأول ما نلحظه في كلام العليمي أنه خصص الفصل الأول من الفصلين المقصودين- للكلام عن إنشاء المسجد الأقصى زمن عبد الملك ابن مروان وخصص الفصل الثاني منهما للكلام عن صفة المسجد الأقصى أي في عصره وكيف كان في زمن عبد الملك ابن مروان وما اعتراه من فساد وإصلاح، فجعل عنوان الأول:"ذكر بناء عبد الملك ابن مروان لقبة الصخرة الشريفة والمسجد الأقصى الشريف وما وقع في ذلك [أي تفاصيل عملية البناء]" وجعل عنوان الثاني:"ذكر صفة المسجد الأقصى وما كان عليه في زمن عبد الملك وبعده".
والأمر الثاني أنه مهّد لذكر بناء الأقصى بذكر الخلافة فقال: "لما توفيّ أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب وعهد بالخلافة إلى النفر الذين مات رسول الله وهو راض عنهم....حتى مرّ بمقتل عثمان وعليّ والحسين، واستقرار الخلافة في سنة 41 لمعاوية، ولابنه يزيد من بعده. ثم قال: لما مات معاوية ابن يزيد ابن معاوية بالشام بويع بالخلافة لمروان ابن الحكم ...وافترق الناس فرقتين فرقة تهوى بني أمية وفرقة تهوى ابن الزبير...وجرى بينهم وقائع وحروب، ثم استقر أمر الشام لمروان ودخلت مصر تحت طاعته، ثم أمر الناس بالبيعة لولده عبد الملك...فما كان بأسرع من أن انقضت مدة مروان فمات بالطاعون...سنة 65 للهجرة، وذكر مبايعة الناس لولده عبد الملك [ولا زال ابن الزبير مسيطرا على الحجاز] فلما دخلت سنة ست وستين ابتدأ ببناء قبة الصخرة الشريفة وعمارة المسجد الأقصى الشريف، وذلك لأنه منع الناس عن الحج لئلا يميلوا مع ابن الزبير، فضجوا فقصد أن يشغل الناس بعمارة هذا المسجد عن الحج فكان ابن الزبير يشنِّع على عبد الملك بذلك" ويفهم من هذا أن المسجد الذي بناه عبد الملك في القدس وسمّي بالمسجد الأقصى لم يكن له وجود من قبل، وأنه إنما بني في زمن سيطرة ابن الزبير على الحجاز إشغالا للناس به لما ضجوا من منعهم من الحج.
والأمر الثالث أنه أعلن أن عبد الملك استشار أمراء البلاد الخاضعة له في بناء ذلك المسجد، ولو كان المسجد موجودا من قبل وله فضل مسلّم به، لشرع في توسعته أو ترميمه أو إعادة بنائه دون مشورة من أحد، يقول العليمي:"وكان خبرُ البناء أنَّ عبد الملك ابن مروان حين حضر إلى بيت المقدس وأمر ببناء القبة على الصخرة الشريفة- بعث الكتب في جميع عماله وإلى سائر الأمصار أن عبد الملك قد أراد أن يبني قبةً على صخرةِ بيت المقدس تقي المسلمين من الحرّ والبرد، [ولم يقل لأن الرسول عرج منها إلى السماء]، وأن يبني المسجد، وكره أن يفعل ذلك دون رأي رعيته...فوردت الكتب عليه ..:نرى رأي أمير المؤمنين موافِقا رشيدا، إن شاء الله يتم ما نوى من بناء بيته وصخرته ومسجده، ويجري ذلك على يديه" ولنا أن نتصور أن عبد الملك فكّر في ذلك لأنه لم يكن يدري متى يفرغ من فتنة ابن الزبير، وقد طالت الفتنة من 65 إلى 73، ونحن هنا لا نبرر لعبد الملك ما فعله وإنما نتفهّم ما دفعه إليه.
والأمر الرابع: أن عبد الملك لم يقصد إلى بناء مسجد يصلي الناس فيه، وإنما قصد إلى بناء مسجد فخم يكون آية في الاتساع والفخامة بقصد جلب انتباه الناس إليه، تعويضا لهم عن حرمانهم من المسجد الحرام ومسجد الرسول، أو بتعبير العليمي إشغالاهم به، وآية ذلك أنه أمر رجاء ابن حياة ويزيد ابن سلّام أن يُفْرِغا المال في البناء إفراغا، ولما كتبا إليه بتمام العمل وبقاء مائة ألف دينار ورفضا أن يقتسماها كهدية أمرهما أن تسبك الدنانير وتفرغ على قبة الصخرة، وأنه جعل للصخرة خدما يلطِّخونها بأطيب العطور كل يوم اثنين وخميس، حيث تفتح للناس وينادي منادٍ ألا إن الصخرة قد فُتِحَتْ، فيدخل الناس للصلاة فيها، فلا يخرج أحد إلا ويعرف الجميع أنه قد أتى الصخرة من شدة الطيب الذي يفوح منه، وجعل على كل باب عشرة من الحجبة. ومما قاله العليمي في الفصل الذي خصصه لوصف المسجد: أنه جعل للمسجد خمسين بابا، وذكر أسماء بعضها، وست مئة عمود رخام، وسبعة محاريب، ومن سلاسل القناديل في المسجد وحده 230 سلسة، ومن القناديل خمسة آلاف قنديل، وكان يُسْرَجُ فيه في ليلة الجمعة ونصف رجب وشعبان ورمضان ألفا شمعة دون القناديل، وكان له ثلاث مئة خادم، ومن صهاريج الماء أربعة وعشرون صهريجا، وأصناف من عمال النظافة وصنّاع القناديل والحصير، وغير ذلك كثير، وبدأ العمل في بنائه سنة 66 وانتهى سنة 73. يقول العليمي: "وأرصد للعمارة مالا كثيرا يقال إنه خراج مصر سبع سنين". ونحن نقول: لو كان هناك مسجد في نفس الموضع وله من الفضل ما نظن اليوم أو معشار عشره لاكتفى عبد الملك بتوسعته بأقل مئونة وتفرّغ لحرب ابن الزبير، ولكنه خاضها حربا دينية قبل أن يخوضها حربا عسكرية فبنى للناس مسجدا عظيما ينسيهم المسجد الحرام ومسجد الرسول أو هكذا حسب.
والأمر الخامس: أنه في الفصل الأول استطرد بذكر تاريخ بناء الكعبة، بعد أن أخبر أن عبد الملك أمر بهدمها وإعادتها على ما كانت عليه قبل ابن الزبير فقال: وخلاصة الأمر أن سيدنا إبراهيم بنى الكعبة، ثم سمَّى بناءها في عهد قريش بالبناء الثاني، وذكر بناء ابن الزبير إياها وسمّاه البناء الثالث، وذكر بناء الحجاج إياها وسمّاه البناء الرابع، ثم قال واستمر على ما هو عليه إلى هذا التاريخ، ثم تكلم عن توسعة المسجد الحرام وقال إن أول من وسّعه عمر ابن الخطاب" ولم يستخدم لفظ التوسعة ولا لفظ إعادة البناء أو البناء الثاني أو الثالث وهو يتكلم عن بناء المسجد الأقصى زمن عبد الملك ابن مروان، وإنما قال البناء والعمارة، ولا يدل ذلك إلا على أن المسجد الذي بناه عبد الملك وسمّي بالمسجد الأقصى لم يكن له وجود من قبل.
الأمر السادس: أنه لما أراد أن يبيّن فضل مسجد القدس الأعظم، جعل لذلك فصلا عنوانه:" ذِكْرُ جماعة من أعيان التابعين والعلماء والزهاد ممن دخلوا بيت المقدس بعد الفتح العمري وعمارة عبد الملك ابن مروان" ولو كان للمسجد وجود قبل ذلك لقال إن رسول الله زاره وإن فلانا وفلانا من الصحابة صلوا فيه، ولا يلزم من هذا أن يكون العليمي ممن يردّ روايات الإسراء، لأنه يمكن أن يكون ممن يرون أنها رؤيا منامية كما أخرج البخاري في صحيحه. وانظر كيف قيّد كلامه في العنوان: بعد الفتح العمري وعمارة عبد الملك، مما يعني أنه لم يكن له وجود قبل عمارة عبد الملك.
الأمر السابع: أن المسجد كان تابعا للصخرة وقبتها، بدليل أن القبة طُليت بالذهب الخالص، وأنها كانت تلطخ بأجود أنواع الطيب كل يوم اثنين وخميس، قبل أن تفتح وينادى في الناس أن الصخرة قد فتحت، بينما المسجد مفتوح كل يوم ولم يفعل به شيء من ذلك. ونحن نرى أن تلك الصخرة كانت مقدسة في نظر اليهود، فاليهود هم الذين يقدسون الصخور، ولا زالوا إلى الآن يمدون قداسة معبد داود إلى الصخور التي يبنى منها، وقد اهتدوا -قريبا- إلى صخرة يرونها مقدسة وجعلوها حجر أساس للبناء الذي ينوون إنشاءه موضع المسجد الذي نسميه المسجد الأقصى، فهل تمت صفقة بين عبد الملك والجاليةِ اليهوديةِ وجماعةٍ نصرانيةٍ يهوديةٍ كانت ترى الصخرة جديرة بالتقديس؟ فالمسلمون لا يقدسون أحجارا ولا صخورا، وقد حجوا اثنتين وعشرين سنة والكعبة دون الحجر الأسود، حين أخذه القرامطة إلى هجر، ولم يقل أحد منهم إن الحج ناقص لغياب الحجر الأسود، وعبد الملك يقول في رسالة استشارة الأمراء ببناء القبة: "تقي المسلمين الحر والبرد" ولا يذكر أنها مقدسة أو مشرفة أو أن الرسول عرج منها إلى السماء، والعليمي يسرد طائفة من أعمال النظافة والصيانة في المسجد كانت مقصورة على أسر من اليهود والنصارى، ولا نرى في غير هذه الحالة قصر وظائف للخدمة والصيانة في معبد على غير المؤمنين به.
كانت هذه قراءة فيما كتبه القاضي الحنبلي مجير الدين العليمي في فصلين من فصول كتابه (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل)، وأنا أقصد به أن ألفت النظر إلى أن ما ورثناه من أن المسجد الأقصى الذي كان منتهى الإسراء هو مسجد القدس، وأنه مكان مقدّس بالنسبة لنا، وأنه القبلة الأولى، وأن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في غيره- كل ذلك كلام غير صحيح، والصواب هو أن المسجد وقبة الصخرة قد بنيا في ظروف فتنة، ليكون آية معمارية، ومزارا جذابا، حين منع عبد الملك ابن مروان البلاد الخاضعة له من الحج، لأن الحجاز كان تحت سلطان ابن الزبير من 65 إلى 73.
ملاحظة: الإملاء العربي القديم- كما هو في عامة اللغات السامية- يخلو من رموز للصوائت القصيرة [الحركات] والصوائت الطويلة [حروف المد]، ولذلك فإن الأكثر منطقية بعد تكور الإملاء أن نكتب ألف الوصل دائما في كلمة ابن.
(2) روايات الإسراء: دين أم ثقافة؟
كعامة مؤرخي السيرة النبوية، عجز الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، في كتابه فقه السيرة، أن يسرد قصة الإسراء معتمدا على رواية أو عدة روايات من البخاري ومسلم؛ لأن تلك الروايات تقدم نتفا متناقضة عن تلك الرحلة، ولا تقدم تصورا متكاملا ومنسجما عنها، وأكثر روايات الإسراء تتحدث عنه على أنه يشمل الرحلة السماوية التي يسميها شيوخنا بالمعراج. وقد اُتّخِذت تلك الروايات مجالا لإعطاء معلومات عن الأنبياء وكبار الأنهار في المنطقة، وعن التداوي بالحجامة، وعن تحاور الأنبياء عن علامات الساعة، وغير ذلك مما سنعرضه، بل فيها أن الله بدّل كلامه، وأنه في مكان بعيّنة، سبحانه وتعالى عما يصفون!
ففيها وصفٌ لموسى: "رَجُلًا آدَمَ طُوَذالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ" ووصف لعيسى: "رَجُلًا مَرْبُوعًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبِطَ الرَّأْسِ" وهما عند البخاري برقم 3239، وأما إبراهيم ف:"شَيْخٌ جَلِيلٌ مَهِيبٌ" أحمد برقم 2320، وأما آدم ف:"عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى" البخاري برقم 3342.
وفيها أن الأنبياء مُتَرتِّبُون في السماوات حسب درجاتهم أو مقاماتهم :"إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ ... وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّه" البخاري برقم 7517، بل إنها تُرتِّب أقوام الأنبياء على هذا النحو: "لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ جَعَلَ يَمُرُّ بِالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الْقَوْمُ، وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ، أَحَدٌ حَتَّى مَرَّ بِسَوَادٍ عَظِيمٍ، فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قِيلَ مُوسَى وَقَوْمُه،ُ وَلَكَنِ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَانْظُرْ قَالَ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ مِنْ ذَا الْجَانِبِ وَمِنْ ذَا الْجَانِبِ فَقِيلَ هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ" الترمذي برقم 2446.
وفيها أن الرسول رأى بلالا موصوفا بالمؤذن مع أن الأذان لم يُشرع بعد، ورأى ماشطة ابنة فرعون، ورأى النيل والفرات، ففيها :"قَالَ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا قَالَ هَذَا بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ " أحمد برقم 2320، وفيها: "وَجَدَ رِيحًا طَيِّبَةً فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ قَالَ هَذِهِ رِيحُ قَبْرِ الْمَاشِطَةِ وَابْنَيْهَا وَزَوْجِهَا.." ابن ماجة برقم 40 30، وفيها: "فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ فَقَالَ مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَات" البخاري برقم 7517.
وما دامت الرحلة قد أصبحت رحلة عجائب فلا بأس أن يرى الرسول شيطانا يريد أن يحرقه بشعلةٍ من نار، ويتعلم من جبريل كلماتٍ تطفئ الشعلة وتُوقِعُ الشيطان على (ملا وشه): "فَرَأَى عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يَطْلُبُهُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ كُلَّمَا الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ رَآهُ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ إِذَا قُلْتَهُنَّ طَفِئَتْ شُعْلَتُهُ وَخَرَّ لِفِيهِ..." مالك برقم 1773، وهي الرواية الوحيدة التي أخرجها مالك عن الإسراء.
ورأى الرسول في تلك الرحلة فئاتٍ معينة من العصاة، ففيها: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَجُلًا يَسْبَحُ فِي نَهَرٍ وَيُلْقَمُ الْحِجَارَةَ فَسَأَلْتُ مَا هَذَا فَقِيلَ لِي آكِلُ الرِّبَا" أحمد برقم 1959، وفيها: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قُلْتُ مَا هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ" أحمد برقم 12445، وفيها: "فَنَظَرَ فِي النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ فَقَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ" أحمد برقم 2320 وهؤلاء عصاة شعبيون يستطيع الرواة أن ينالوا منهم، وأما عتاة المجرمين والحكام الظلمة فلم ير الرسول أحدا منهم!
وإذا كانت الحِجامة على رأس المعالجات الطبية عند العرب في عصر تداول الروايات، فلا بأس أن تطلب الملائكة من الرسول أن يوصي قومه بالحجامة، ففي تلك الروايات: "لَمْ يَمُرَّ عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا أَمَرُوهُ أَنْ مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ" الترمذي برقم 2052.
وإذا كان من الثقافة الدينية أن للساعة علامات تسبقها وتدل على قربها الشديد- خلافا للمعطيات القرآنية التي قصرت علمها على الله- فقد وُجِدَت رواية تجعل الأنبياء في السماء يتناقشون في هذه المسألة: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ لَقِيَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ فَبَدَءُوا بِإِبْرَاهِيمَ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ ثُمَّ سَأَلُوا مُوسَى فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ فَرُدَّ الْحَدِيثُ إِلَى عِيسَى ابن مَرْيَمَ فَقَالَ ..." ابن ماجة برقم 4081.
وإذا كان بعض الناس يكسل عن أداء الصلاة، فلا بأس أن تقول رواية إن الله فرض علينا خمسين صلاة ولكن الرسول نُصح من موسى أن يطلب من الله التخفيف لأن الأمة لن تطيق ذلك، وأن الله خفف بعض الشيء ولازال الرسول يراجعه حتى خففها إلى خمس فقط، ولكنها خمسون في الأجر! وكأن الله يكلِّف فوق الطاقة، ولئلا تنتقد الرواية بأن الله فيها قد بدل كلامه، فقد عالج الراوي هذه المسألة في آخر الرواية (ولكن من باب اللي على راسه بطحة): "ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ قَالَ عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ ... فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا ...فَقَالَ يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ...قَالَ إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَالَ فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ" البخاري برقم 7517. فإذا قدّرنا أقل عدد لتلك المراجعات التخفيفية التي بدّل الله فيها قوله لبلغت 5 مرات، إلى 40 إلى 30 إلى 20 إلى 10 إلى 5.
ومن غرائب هذه الرواية- وهي من روايات البخاري- أن الراوي تحرّج من ذكر انتقال الرسول من موسى إلى الله وكأن لله مكانا، فجمع بين الانتقال ونفي الانتقال :"فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ[فإنني أعلو بك]فَعَلَا بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَه يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا ..." ومن غرائبها أن الراوي جعل موسى يطلب التخفيف حتى بعد أن صارت خمسا.
وإذا كانت الروايات السابقة تخبر أن الرسول رأى موسى وتحدث معه في السماء، فهناك رواية تقول:"أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ" مسلم برقم 2375، وإذا كان موسى قد أسرى ماشيا على قدميه أو راكبا حمارا أو غيره من الدواب المألوفة في دنيا الناس في بيئته، فإننا نجد رواية يفهم منها أن البراق كان ركوبة الأنبياء من قبل محمد، فهي تقول:"أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا فَاسْتَصْعَبَ عَلَيهِ- أي قمّص- فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ :أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ قَالَ فَارْفَضَّ عَرَقًا" أي من الخجل، الترمذي برقم 3131.
وإذا كان القرآن يحدد منتهى الإسراء بالمسجد الأقصى، فإن عددا من الروايات يجعل منتهاه السماء:"أُسْرِيَ بِهِ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ" البخاري برقم 3393، وفي أخرى أن منتهاه كان سدرة المنتهى:" لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا" مسلم برقم 173 ورغم ذلك فهما منعوتتان بالصحة!. وإذا كان القرآن يحدد مبدأه بالمسجد الحرام فإن رواية عند البخاري تجعل مبدأه بيت النبي في مكة، وأن الملاك لم يدخل إليه من باب الغرفة، وإنما نزع السقف كي يصل إليه! ففيها :"فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيل...فَعَرَج بي إلى السماء" برقم 366.
وأخيرا فإن من الروايات ما يجعل الإسراء رؤيا منامية حدثت قبل أن يوحى إلى الرسول، أي أنه لم يكن يومها نبيا ولا رسولا! فعند البخاري :"لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ ،فَقَالَ أَوَّلُهُمْ... فَكَانَتْ تِلْكَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى جَاءُوا لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَالنَّبِيُّ نَائِمَةٌ عَيْنَاهُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُه ...فَتَوَلَّاهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ "البخاري برقم 3570. وهنا يرد لفظا الإسراء والمعراج وكأنها مترادفان.
والخلاصة أن روايات الإسراء فسيفساء ثقافية عن عصر تداول تلك الروايات، وليست من الدين في شيء، لأنها روايات متناقضة مع المعطيات القرآنية عن الإسراء، فضلا عن تناقضها الداخلي.
(3) الإسراء هل كان إلى فلسطين أم إلى المدينة المنورة؟
قال الله تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير" الإسراء 1، والنص يخبر أن الله أسرى برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى...فهناك مسجدان إذن الأول هو المسجد الحرام، والثاني هو المسجد الأقصى، والأقصى صيغة تفضيل بمعنى الأبعد، فالمكان الذي انتهى إليه الإسراء برسول الله عليه الصلاة والسلام، يجب أن يكون مسجدا، وليس مكانا يُتَّخذُ فيما بعد مسجدا، ولا مكانا كان فيما قبل مسجدا، وأن يكون بعيدا جدا عن المسجد الحرام، ولا يلزم أن يكون مبنيا، فقد كان المسجد الحرام –يومئذٍ- مجرد فضاء حول الكعبة.
ولكن فلسطين لم يكن بها يومئذٍ مسجدٌ، ليكون بالنسبة للمسجد الحرام مسجدا أقصى، فلم يكن فيها يومئذٍ مؤمنون بمحمد عليه السلام، يجتمعون للصلاة في موضع معين يتخذونه مسجدا، فقد كان أكثر أهلها مسيحيين وكانت بينهم أقلية يهودية، ومع احترام القرآن لمعابد اليهود والنصارى فإنه لم يطلق على أيٍّ منها اسم مسجد، وإنما سمّاها بيعًا وصلوات(الحج 40) والمسجد الموجود اليوم في مدينة القدس والمعروف باسم المسجد الأقصى، لم يُشْرع في بنائه إلا سنة 66 بعد هجرة النبي ص، أي في عصر الدولة الأموية، وليس في عصر الرسول ولا أحدٍ من خلفائه الراشدين. هذا عن المسجد.
وأما عن كلمة أسرى؟ فإذا فتحنا المصحف، وتتبعنا النصوص التي وردت فيها، فسوف نجد النصوص التالية: "قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" هود 81، ومعنى أَسرِ بأهلك بقطعٍ من الليل :امشِ بهم خُفية بعد مضيّ جزء من الليل، ونحوُه في الحجر 65 "فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ"، وقوله تعالى :"وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى" طه 77، ومعنى أَسرِ بعبادي: امشِ بهم خُفيةً من عدوكم، ونحوُه في الشعراء52 " أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ" وفي الدخان 23: "فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ"...فالإسراء إذن هو الانتقال خُفية من مكان الخطر، إلى مكانٍ آمن، ومعنى أسرى بعبده :أمره أن يسري ورعاه وهو يسري، أي ينتقل خُفية من عدوه إلى مكان يأمن فيه على نفسه وعلى دعوته، أي أن النص يخبر عن هجرة الرسول من مكة إلى المدينة، ولا يتكلم عن زيارة إلى فلسطين. وقد تمت هجرة الرسول خُفية عن أعدائه.
ولنعد مرة أخرى إلى أول سورة الإسراء...إنه يعلل الإسراء بقوله:"لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا" وقد اعتاد المفسرون ورواة الأخبار على تفسير ذلك بأنه: رؤية الأنبياء، والصلاة بهم، وقد يزيد بعضهم الصعود إلى السماوات ورؤية الجنة والجحيم. فبم نفسر نحن آيات الله في هذا الموضع؟ وأي التفسيرين أولى بالقبول؟ إننا نفسرها بنجاة الرسول من أعدائه الذين مكروا به ليقتلوه أو يسجنوه، وتأسيسه دولة بالمدينة، وانتصاره في بدر، وعقده صلح الحديبية، ثم فتح مكة وانتشار دعوته... وهذه آيات حسية موضعها دنيا الناس، وكلها مُتَرَتِّب على الإسراء بالرسول من مكة إلى المدينة، بينما الآيات التي يذكرها المفسرون ورواة الأخبار ليست من عالمنا الدنيوي، فإما أن تعرض على الرسول في صورة مُثُل، وإما أن يتحول الرسول عن طبيعته الدنيوية كي يراها على حقيقتها، وفي الحالتين فإنها لا تكون آية، لأنها لا تكون آية إلا حينما تُرى على حقيقتها ويكون الرائي على طبيعته البشرية الحقيقية. بل إن تعليل الإسراء بقوله: لنريه من آياتنا يدل على أن الإسراء شرط لرؤية تلك الآيات، أي أنه لن يرى أيا من تلك الآيات إلا إذا انتقل إلى موضع معيّن، ونحن نقول إن انتصار دعوته كان مرهونا بانتقاله إلى المدينة حيث يوجد الأنصار، ولكن رؤية الرسول لبعض أو كل من سبقه من الأنبياء، ليس مرهونا بسفره إلى القدس، لأن الإعجاز ببعثهم أو بدخول الرسول إلى عالمهم الأخروي ليس مرهونا بانتقاله إلى القدس، حتى لو فرضنا جدلا أنهم جميعا دفنوا بالقدس وأنهم جميعا اتخذوها مركزا لعبادة الله . بل إن الأولى أن يأتوا هم إليه في مكة تقديرا له ولمكة التي ستكون المركز الجديد لعبادة الله.
وإذا مضينا خطوة أخرى مع النص الكريم، وجدناه يقول فيما يشبه تعليل تلك الآيات التي رآها الرسول:"إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير" الأمر الذي يعني أن الله تعالى أسرى برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لأنه تعالى سمع وأبصر أمورا لها ارتباط بذلك الحدث، فهل يزعم أحد أن الرسول كان يدعو الله أن يريه فلسطين أو موضع هيكل داود أو عددا من الأنبياء الذين بُعِثُوا قبله، أو عالم السماء والجنة والنار؟ إنْ زعم ذلك أحد فإنه يفتري الكذب على الرسول...أما نحن فنقول: إنه تعالى هو السميع لدعاء الرسول أن يحميه من كيد قومه، وأن يوفر لدعوته موطنا آمنا في بيئته العربية، وهو البصير بكيدهم لقتله أو سجنه، ولذلك تم الإسراء (= الهجرة سرا) في نفس اليوم الذي قرروا فيه قتله أو سجنه.
ومن أخبار الهجرة النبوية: "ثم واصَل سَيرَه إلى المدينة فدخلها لاثنتي عشرة ليلةٍ خلت من ربيعٍ الأول...فالتفّ من حوله الأنصار، كلٌّ يمسك زمام راحلته يرجوه النـزول عنده، فكان يقول: دعوها فإنها مأمورة، فلم تزل راحلته تسير في فِجاج المدينة وسِكَكِها، حتى وصلت إلى مَرْبِد [مكان يُجَفَّف فيه التمر] لغلامين يتيمين من بني النجار، أمام دار أبي أيوب الأنصاري، فقال النبي عليه الصلاة والسلام :هاهنا المنـزل إن شاء الله، وكان أسعد ابن زرارة - قد اتخذه مصلَّى قبل هجرة النبي، فكان يصلي فيه بأصحابه، فأمر رسول الله أن يُبْنَى ذلك الموضع مسجدا، وابتاع أرضه بعشرة دنانير" مختصرا من كتاب فقه السيرة للبوطي، وكلمة مصلَّى الواردة في النص يمكن استبدالها بكلمة مسجد، أي أن هذا الخبر يُثبت أن منتهى هجرة الرسول التي تمت سرا كان مسجدا أو مُصلّى بالمدينة.
والخلاصة أن الإسراء لم يكن إلى فلسطين، وإنما كان إلى المدينة المنورة، وأنه بدأ من المسجد الحرام، بعد أن صلى الرسول وصاحبه فيه وودّعاه، وانتهى عند مسجد أسعد ابن زرارة أمام دار أبي أيوب الأنصاري بالمدينة المنورة، حيث بنى الرسول مسجدا عُرف بمسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وأن تفاصيل رحلة الهجرة هي نفسها تفاصيل رحلة الإسراء، لأن الإسراء هو الهجرة سرًّا.
(4) كيف سرق مسجد فلسطين اسم المسجد الأقصى؟
يقول المؤرخ الإسلامي مُجِير الدين العُليمي الذي يُعَدُّ كتابه عن القدس والخليل من أهم المصادر للتعرف على القدس الإسلامية :"لما مات معاوية ابن يزيد ابن معاوية بالشام، بويع بالخلافة لمروان ابن الحكم ولُقِّب بالمؤتَمن بالله، وافترق الناس فرقتين، فرقة تهوى بني أمية، وفرقة تهوى ابن الزبير، ووقع بينهم خلاف وجرت بينهم وقائع وحروب، ثم استقر أمر الشام لمروان ودخلت مصر تحت طاعته، ثم أَمَر الناس بالبيعة لولده عبد الملك، وبعدَه لأخيه عبد العزيز، فما كان بأسرع من أن انقضت مدة مروان، فمات بالطاعون بدمشق فجأة، وبُويع لولده عبد الملك بالخلافة، فلما دخلت سنة ست وستين، ابتَدَأ ببناء قبة الصخرة الشريفة وعمارة المسجد الأقصى الشريف، وذلك لأنه منع الناس عن الحج لئلا يميلوا مع ابن الزبير...وكان الفراغ من عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة الشريفة.
وبعث عبدُ الملك ابن مروان الحجاجَ ابن يوسف الثقفي إلى ابن الزبير، فأتى الحجاجُ الطائف فأقام بها شهرًا ثم زحف إلى مكة، فحاصر ابن الزبير في هلال ذي القعدة، سنة اثنتين وسبعين، ودام الحصار حتى غلت الأسعار وأصاب الناسَ مجاعة، وزاد الحجاج في الحصار والقتال ورمى الكعبة بالمنجنيق، وخرج ابن الزبير فقاتل قتالًا شديدًا، وتكاثرت أهل الشام ألوفًا من كل جانب، فشدخوه بالحجارة فانصرع، فأكبَّ عليه مَوْلَيان له فَقُتِلوا جميعاً، وتفرَّق أصحابه، وأمر الحجاج به فصُلب" وردت الفقرتان بجريدة الشرق الأوسط في مقال بعنوان "عودة إلى الخلاف على مقدسات الأقصى" بتاريخ 19/ 11/ 2000.
وقد فُتِحَتْ فلسطين في سنة 17 للهجرة في عهد عمر ابن الخطاب، وفي عهده بدأ أهلها يسلمون لله، فكيف يكون في فلسطين في عهد الرسول مسجد يقال له المسجد الأقصى أو غير الأقصى؟ ولم يطلق القرآن اسم مسجد على شيء من دور العبادة الخاصة بغير المؤمنين بمحمد، وإنما سماها بيعا وصلوات:"... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا..." الحج 40. وإذا فالمسجد المسمى اليوم بالمسجد الأقصى ليس هو المعنيّ في قوله :"من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى".
صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام، قد تَوجّه في صلاته بأمرٍ من الله إلى إيلياء (اسم القدس في تلك الفترة) مدة سبع عشرة شهرا، ثم توجه بأمر ربه أيضا إلى المسجد الحرام بمكة، وكانت إيلياء مركزا لعبادة الله عند اليهود ولا زالت، ولا معنى لهذا إلا أن الرسول شاركهم مدةً في قبلتهم ثم تحوّل عنها إلى قبلة أخرى. والقبلة عند أهل كل دين هي مركزُ عبادةِ الله في نظرهم، فيتوجه المؤمنون إليها في صلاتهم تعبيرا عن وَحدتهم، وتكون مقصدهم بالحج في كل عام. وتغييرُ القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام معناه أن القدس لم تعد مركزا لعبادة الله عند المؤمنين بمحمد عليه السلام، وأنها لم تعد تستحق رعاية في نظر المؤمنين به، إلا ما تستحقها أيُّ مدينة تاريخية من مدنهم، وإذا لم يُفهم الأمر على هذا النحو فلا معنى لتغيير القبلة.
ومن صفات رسولنا عليه السلام الواردة في الكتاب المقدس أنه يُغيّر مركز العبادة، ففي إنجيل يوحنا أن امرأة سامرية التقت بعيسى عند بئر خارج قريتها وكان من كلامها معه:"آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إنَّ في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه [إنها توازن بين قبلة اليهود وقبلة السامريين ف]، قال لها يسوع يا امرأة صدِّقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب..." وفي كلامه إشارة إلى أنه سوف يوجد مركز جديد لعبادة الله، وأنه سيكون أوْلى من قدس اليهود وجبل السامرة. ولتأكيد قيام محمد بتغيير مركز العبادة أمره الله أن يتوجه إلى القدس مدة من الزمن ثم أمره أن يتحوّل عنها، فبذلك يكون قد اعترف بها إشارة إلى أنه امتداد لتراث الأنبياء من قبله، ثم غيّرها إشارة إلى انتهاء النبوة في بي إسرائيل، وتناغما مع كونه رسولا إلى الناس كافّة، فتكون قبلته أقدم مكان اتخذ لعبادة الله لا المكان الأكثر حضورا في تاريخ قوم معينين، وفي هذا يقول الكتاب:"إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين" آل عمران 96.
وحينما تولى الخلافة عبد الملك ابن مروان، وكان سلطان ابن الزبير متمركزا في الحجاز، خشي أن يتحول الناس إليه إذا خرجوا للحج، لأن دخولهم مكة والمدينة لن يتم إلا بإذن ابن الزبير وتحت سلطانه، فإذا أكرم وفادتهم واستغل الوعظ الديني والنقد السياسي استغلالا حسنا، فسوف يفوز بولاء فريق منهم. ولم تكن هناك اتفاقية بين ابن الزبير والأمويين بتحييد الدين، بل إن ابن الزبير كان يستخدم الدين منطلقا لتمرده، وكانت الغلبة الدعائية مرهونة بحسن استغلال الدين، فمنع عبدُ الملك الناسَ من الحج حتى تنتهي الفتنة، وشرع في بناء مسجد كبير بالقدس التي كانت القبلة الأولى. وهنا بدأ بعض الروائيين في تأسيس مكانة دينية لهذا المسجد، فجعلوه ثالث الحرمين الشريفين، وهي صيغة ظاهرة في الإلحاق.
وقد سُمّي المسجد الجديد أول الأمر مسجد إيلياء، وَوُضِعتْ روايات تذكره بهذا الاسم، ثم سُرِق له اسم المسجد الأقصى، لأنه الأقصى عن مكة والمدينة، ثم زُُعِم أنه المراد في قوله تعالى :"... إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى" خاصة وأن مسجد الرسول لم يكن قاصيا ولا أقصى بالنسبة لأهل المدينة، ولذا لم يسموه أقصى كما سمّاه القرآن ملاحظا بعده عن المسجد الحرام، وإنما كانوا يسمونه مسجد الرسول، لأن الرسول هو الذي دفع ثمن أرضه ولأن بيوته عليه السلام أقرب البيوت إليه، بل إنها لم تكن مفصولة عنه، وبعد أن سُمّي مسجد إيلياء بالأقصى تم وضع اسمه الجديد في الروايات.
والخلاصة أن مسجد القدس الذي يسمى المسجد الأقصى قد بُدئ في بنائه سنة ست وستين للهجرة، في زمن عبد الملك ابن مروان وكان الفراغ من عمارته سنة ثلاث وسبعين، وأن صلة المسلمين الدينية بالقدس قد انتهت بمجرد تغيير القبلة منها إلى مكة، وأنه لما منع عبد الملك ابن مروان أهل الشام ومصر والعراق من الحج بضع سنين لئلا يتحولوا إلى ابن الزبير، وشرع في بناء مسجد كبير في إيلياء، ظهرت روايات دينية تمجّد ذلك المسجد وتمجّد قبة الصخرة، وأنه سمّي في أول الأمر مسجد إيلياء، ثم سُرِق له اسم المسجد الأقصى من مسجد المدينة، ومما سهّل الأمر أن أهل المدينة لم يسموه قاصيا لا أقصى لأنها تسمية جغرافية، وأن نشاط الرواة في تلك الفترة شمل كل العالم الإسلامي إلا مكة والمدينة اللتين كانتا خاضعتين لابن الزبير وكانتا في شبه حصار إلى أن تم القضاء على ابن الزبير، فانتشرت تلك الروايات في الحجاز أيضا وتوارثناها وكأنها جزء من الدين.
(5) جهود الرواة في مدح مسجد فلسطين الذي أسسه عبد الملك ابن مروان
إن المسجد الموجود اليوم في مدينة القدس والمعروف باسم المسجد الأقصى، لم يُشْرع في بنائه إلا في سنة 66 بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، أي في عهد عبد الملك ابن مروان، وليس في عصر الرسول ولا أحدٍ من خلفائه الراشدين.
وقد وضع الرواة أحاديث كثيرة يزعمون فيها أن ذلك المسجد امتدادٌ لمسجد داود عليه السلام(هيكل داود)، وأن له فضلا بسبب انتمائه إلى ذلك النبي الكريم، وأنه أول مسجد بني بعد المسجد الحرام، وأن وأن، وهذه جولة مع تلك الروايات تبين مسالك الرواة فيها، كما تبيّن تطورها، وكيف ردّ عليها فريق آخر من الرواة.
لقد سُمّي مسجد عبد الملك أول الأمر بمسجد إيلياء، ووضعت روايات تذكره بهذا الاسم، ثم سُرِق له اسم المسجد الأقصى، وقد كان يومها بالفعل أقصى المساجد الكبيرة عن مكة والمدينة، ثم زُُعِم أنه المراد في قوله تعالى :"... إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى" خاصة وأن مسجد الرسول لم يكن قاصيا ولا أقصى بالنسبة لأهل المدينة، ولذا لم يسموه أقصى كما سمّاه القرآن مقارنة بالمسجد الحرام، وإنما كانوا يسمونه مسجد الرسول، لأن الرسول هو الذي دفع ثمن أرضه ولأن بيوته عليه السلام أقرب البيوت إليه، بل إنها لم تكن مفصولة عنه.
ففي أول الأمر ظهرت هذه الروايات: "إِنَّمَا يُسَافَرُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ وَمَسْجِدِي وَمَسْجِدِ إِيلِيَاءَ" مسلم برقم 1397، و: "لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِلَى مَسْجِدِي وَإِلَى مَسْجِدِ إِيلِيَاءَ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَشُكُّ" مسند أحمد برقم 23336، و: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ" مسند أحمد برقم 11025. وأخيرا وُجدت مثل هذه الرواية:"لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى" البخاري برقم 1189...إن هذه الروايات تقدم عزاءً لراغبي الحج في زمن فتنة ابن الزبير من أهل الشام ومصر: يمكنكم أن تزوروا مسجد إيلياء فإنه أحد المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها. إنها تتحاشى لفظ الحج وتستعمل تعبيرا يوازيه لغويا وهو القصد، المعبَّر عنه هنا ب"شدّ الرحال".
ولا نجد في الكتب التسعة رواية تعبر عن فضل الصلاة في هذا المسجد الجديد بصورة رقمية، إلا هذه الرواية:"صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِ الْقَبَائِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَمَّعُ فِيهِ بِخَمْسِ مِائَةِ صَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِي بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ" ابن ماجة برقم 1413، وهنا سمّي مسجد إيلياء بالمسجد الأقصى، والرقم الذي ذَكرتْه للتعبير عن فضيلة الصلاة فيه هو نفسه الذي ذكرتْه عن مسجد الرسول، وهو أمر يكشف أن غرض الراوي هو رفع مكانة مسجد إيلياء باسمه الجديد إلى مكانة مسجد الرسول.
وكرد فعل ظهرت روايات تجعل الصلاة في مسجد الرسول أفضل من غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام، الأمر الذي يعني نفي مكانة هذا المسجد الجديد، سواء سمِّي مسجد إيلياء أو المسجد الأقصى: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ " مسلم برقم 1394، ويكشف الراوي عن قصده أكثر حيث يقول في نفس الرواية:"فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ مَسْجِدَهُ آخِرُ الْمَسَاجِدِ"مسلم برقم 1394، أي لا يصح بناء مسجد بعده وادّعاء أن له مكانة خاصة عند الله.
ولم يكن الأمر دينا ولا توثيقا تاريخيا وإنما الحرب والرأي والمكيدة، فحينما وضع الرواة رواية عن ميمونة بنت سعد تؤسس مكانة لمسجد إيلياء: "أنها قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ أَرْضُ الْمَنْشَرِ وَالْمَحْشَرِ ائْتُوه فَصَلُّوا فِيهِ [لاحظ أنه لم يسبق ذكر للمسجد وإنما الكلام عن بيت المقدس!] فَإِنَّ صَلَاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ قَالَتْ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يُطِقْ أَنْ يَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ أَوْ يَأْتِيَهُ قَالَ فَلْيُهْدِ إِلَيْهِ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى لَهُ كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِيهِ" مسند أحمد برقم 27079- ردّ الرواة المدافعون عن مكانة مسجد الرسول برواية عن ميمونة بنت الحارث زوج النبي عليه السلام، تقول الرواية إن امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى فَقَالَتْ إِنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَخْرُجَنَّ فَلَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَرَأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ فَجَاءَتْ مَيْمُونَة زَوجُ النَّبِيِّ فَقَالتْ :.. اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ" مسلم برقم 1396. وفي هذه الراوية الدفاعية عن مسجد الرسول كما في مثيلتها السابقة يحصر الراوي الفضل في مسجدين هما مسجد الرسول ومسجد الكعبة، أي أنه ينفي عن مسجد فلسطين أي مكانة دينية، ولنا أن نفترض أن الرواية هُذِّبت مع الزمن لصالح مسجد فلسطين، وحذف منها ما يتعرض له بصورة مباشرة.
وفاز مسجد إيلياء على ألسنة الرواة بأنه ثاني مسجد بني في الأرض بعد المسجد الحرام :"قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً " مسلم برقم 520، ثم مُنِحَ فضيلةً عظيمة ببركة سليمان ابن داود :"لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ ابن دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَه، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِه، وَأَلَّا يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ" سنن ابن ماجة برقم 1408
ثم وُجدت روايات ليس لها من هدف إلا القول بأنه هو المعنيّ في قوله تعالى :"... إِلَى المَسْجِدِ الْأَقْصَى" ومنها ما رواه زِرِّ ابن حُبَيْشٍ قَالَ قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ ابن الْيَمَانِ أَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قَالَ لَا قُلْتُ بَلَى، قَالَ أَنْتَ تَقُولُ ذَاكَ يَا أَصْلَعُ بِمَ تَقُولُ ذَلِكَ؟ قُلْتُ بِالْقُرْآنِ، بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْقُرْآن، فَقَالَ حُذَيْفَةُ :مَنِ احْتَجَّ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ أَفْلَحَ ... فَقَالَ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) قَالَ :أَفَتُرَاهُ صَلَّى فِيهِ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ لَوْ صَلَّى فِيهِ لَكُتِبَتْ عَلَيْكُمُ الصَّلَاةُ فِيهِ كَمَا كُتِبَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" الترمذي برقم 3147 فهل يريد الراوي أن يكشف لنا عن تخطئة الصحابي له؟ أم يريد أن يخبرنا بأن الصحابي لم ينكر صلة مسجد إيلياء بالإسراء وأنه هو المسجد الأقصى؟ واضح أنه يريد الثاني، وأن الأول مجرد مثير قبل الخبر الخطير. ونحو ذلك عن عمر حيث جعله الراوي يستشير كعبا أين يصلي؟! وكأن الصلاة لا تصلح في كل مكان طاهر، وكأن عمر كان يقدّر علم كعب تقديرا خاصا، أو أنه يسأله ليوبخه كما تزعم الرواية، بينما الغرض الحقيقي منها هو إنطاق عمر بما يدل على ارتباط مسجد إيلياء بالإسراء حين يقول وهو في إيلياء بعد أن رفض رأي كعب ووبَّخه "...سَمِعْتُ عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ يَقُولُ لِكَعْبٍ أَيْنَ تُرَى أَنْ أُصَلِّيَ فَقَالَ إِنْ أَخَذْتَ عَنِّي صَلَّيْتَ خَلْفَ الصَّخْرَةِ فَكَانَتِ الْقُدْسُ كُلُّهَا بَيْنَ يَدَيْكَ [ فتكون كل من مكة والقدس أمامك] فَقَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْه ضَاهَيْتَ الْيَهُودِيَّةَ لَا وَلَكِنْ أُصَلِّي حَيْثُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقَدَّمَ إِلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَبَسَطَ رِدَاءَهُ فَكَنَسَ الْكُنَاسَةَ فِي رِدَائِهِ وَكَنَسَ النَّاسُ" مسند أحمد برقم 263، ومقصد الراوي بقوله فتقدم إلى القبلة فصلى، فتقدم إلى موضوع صلاة الإمام في المسجد فصلى فيه ولم يصل عند الصخرة. ومقصده من ذلك التمهيد لزعمه أن عمر يقر بأن الرسول صلى فيه.
والخلاصة أنه لما منع عبد الملك ابن مروان أهل الشام ومصر والعراق من الحج لئلا يتحولوا إلى ابن الزبير، وشرع في بناء مسجد كبير في إيلياء، زعم الروائيون أن هذا المسجد امتداد لمسجد داود عليه السلام، وأن له فضلا ومكانة دينية، وأنه هو المراد في قوله تعالى:" ...إلى المسجد الأقصى" ووضعت روايات لتأكيد ذلك، وساعد على رواجها أن الرسول توجه في صلاته أول الأمر إلى بيت المقدس، وأن المسجد الجديد كان بالفعل أقصى مسجد كبير عن مكة والمدينة في ذلك الوقت.
(6) إضافات لغوية عن الأقصى والقصيّ والإسراء والهجرة
إن صيغة الأقصى اسم تفضيل بمعنى الأبعد، ونحن نرى أن المراد بالمسجد الأقصى في قوله تعالى "سبحان الذي أسرى بعبده من الحرام إلى المسجد الأقصى" هو مسجد الرسول عليه السلام بالمدينة المنورة، فهو الأقصى بالنسبة إلى المسجد الحرام وقت الهجرة النبوية، والإسراء هو الهجرة سرا، وقد كانت هجرة الرسول سرية لا علنية، وأما المسجد القاصي أي البعيد عن المسجد الحرام ولكنه أقل بعدا عن مسجد الرسول فهو مسجد قباء، وكتب السيرة تزعم أن الرسول هو من أسس مسجد قُباء، وذلك خطأ محض، لأن المؤمنين بالرسول كانوا يصلون قبل هجرته، ولا بد أن السكان المؤمنين بالرسول في قباء كانوا يصلون قبل الهجرة النبوية، كما كان أهل المدينة يصلون قبلها، ولا بد أن يسمى الموضع الذي كانوا يصلون فيه مسجدا.
وكلمة "سرى" ليس معناها مشى في الليل، وإنما معناها انتقل خُفية، ولذلك لم يقولوا سرى النهارُ وإنما قالوا سرى الليلُ، أي مضى في خفاء، وفي الكتاب العزيز "واللّيلِ إذا يسرِ". وحينما يمتد عِرق الشجرة بعيدا عنها حيث لا يُتوقع امتدادُه تقول العرب :سرى عِرقها. وحينما يظهر أثر السُّمِّ أو الخمرِ تقول العرب سرى السُّم وسرت الخمر، أي امتد في خفاء أثرها في البدن. وحينما يموت المرء بسبب جرحه يقولون سرى الجرح إلى النفس، أي وصل أثره إليها بصورة خفية، وحينما يصل التحريم إلى ما لم يكن محرما ويصل العِتق إلى ما لم يُقْصَد عتقه تقول العرب: سرى التحريم وسرى العتق. وليس قول العرب عمن يقطع جزءا من الطريق ليلا إنه سرى أو أسرى إلا إشارة إلى أن انتقاله ذاك تم في خفاء ومن شأن الليل في تلك الأزمان أن يخفي المسافر فيه.
وأما لفظ الهجرة فإنه يدور حول البُعد، فالعرب تقول: هجرَ الفحلُ، أي ابتعد عن الأنثى وتركَ الضّراب، وهجر المريضُ: بعد عن سوائه العقليّ، وهجر زوجتَه: اعتزل عنها، وهاجر: ترك بلده ولجأ إلى غيرها، وهجّر النهار: مضى كثير منه واشتد حرّه، ويقال للحبل الذي يحجز الدابة أن تبعد عم مكانها هِجار. وللكلام الذي يتحاشاه الناس : كلام مهجور. ويقال للخصام :هَجْر. والذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حين انتقل من مكة إلى المدينة ليس مجرد هجرة، وإنما هو انتقال بصورة خَفِيّة نجا به من القتل أو السجن، وبذلك تمكن من مواصلة دعوته، واستجلاب عوامل النصر لها، حتى تمت له الغلبة على عدوه في بضع سنين.
وهناك فرق بين "هَجَرَ" و" هَاجَر" فالثانية من صيغ المفاعلة أي أن الفعل لا يقع من طرف واحد، فالأصل ألا يقال هاجر، إلا عمن قصد ملجأ يُرَحَبُ به فيه، أو يغلب على ظنه أن يجد الآمان فيه على نحو أكثر مما يجده في موطنه، كما أن هناك فرقا بين هاجر وفرّ، وقد ورد الفرار في قول موسى لفرعون:"فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ" الشعراء 21، فالفرار مجرد الإفلات من أذى الخصم، وأما الهجرة فهي الخروج من موطن فيه أذى إلى ملجأ فيه الأمان، وأما الإسراء فهو الانتقالٌ الخفيّ من موطن الخطر إلى موطن الأمن. وهذا ما يردده شيوخنا حينما يقولون إن هجرة الرسول كانت سرية.
وليس في القرآن نص واحد يطلق لفظ الهجرة على انتقال الرسول عليه السلام من مكة إلى المدينة، وليس فيه نص يمكن أن يفهم منه ذلك إلا قوله:"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ" الأحزاب 50، ومن المعلوم أن الذي رافق الرسول في انتقاله من مكة إلى المدينة هو أبو بكر، فلماذا قال القرآن :هاجرن معك؟ ...إن السبب فيما نرى هو أن هجرتهن إلى المدينة لم تكن التجاءً إلى موطن غير موطنهن، وإنما كان لمّا لشمل الأسرة، فهن قريباته من بنات العم وبنات الخال وبنات العمة والخالة، فانتقالهن إلى المدينة ليس هجرة إلى الرسول وإنما لحاقا به، فهو قريبهن الذي يجدن في جواره الرعاية. وإنا لنلمح دقة التعبير في قوله معك، ولم يقل إليك، لأن الرسول ليس من سكان المدينة الأصليين حتى تكون الهجرة إليه.
واقرأ قوله:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل، إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" التوبة من 38 إلى 40، تجد أنه لم يسمّ ذلك هجرة، واقرأ قوله :"وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" الأنفال 30، تجد أنه لم يسمّ نجاته منهم هجرة.
ومما يدل على أن ما نسميه الهجرة النبوية هو الإسراء، هذه الأبيات من شعر حسّان ابن ثابت التي يتكلم فيها عن انتقال الرسول من مكة إلى المدينة، ويمدح فيها أهل المدينة، ويذم أهل مكة، ولكن حسانا فيها لا يستخدم لفظ الهجرة وإنما يستخدم لفظ الإسراء، وهذه هي الأبيات:
لقَدْ خَـابَ قَوْمٌ غَابَ عنْهُم نبيُّهم وقدْ سُرّ مَن يَسري إليهم ويغتدِي
ترَحّـلَ عنْ قومٍ فضّلتْ عقولُـــهم وحَــلَّ على قومٍ بنـُــورٍ مجـــدَّدِ
هـداهُم بـهِ بعـدَ الضّلالةِ ربـُّهـم وأرْشَدَهم، مَنْ يتْبَعِ الحـقَّ يرْشُدِ
وهــل يستوِي ضُلَّالُ قومٍ تسفَّهوا عَـمَىً وهُـداةٌ يـَـهْتدونَ بـــمُهتدِ
لـقدْ نَـزَلتْ منهُ على أهـل يثربٍ رِكابُ هـُدىً حلّت عليهم بأسعدِ
نَبيٌّ يرى ما لا يرى الناسُ حولَهُ ويتـلو كتـابَ الله في كـل مشـهدِ
هذه إضافات بيّنا فيها سر استخدام لفظة الأقصى، ولماذا أعرض عن القصيّ، حيث انتهى إسراء الله برسوله إلى المسجد الأقصى- مسجد أسعد ابن زرارة والذي سمّي فيما بعد مسجد الرسول - وليس إلى المسجد القصيّ الذي يسمى مسجد قباء، وبيّنا فيها دوران كلمة سرى حول الانتقال الخفيّ، ودوران كلمة هَجَرَ حول البعد، الأمر الذي يعني أن التسمية الدقيقة لانتقال الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة حينما خطط أعداؤه لقتله أو سجنه، لم يكن مجرد هجرة وإنما كان إسراءً، أي انتقال خفيا حقق به النجاة لشخصه وهيأ به أسباب النجاح لدعوته. واستعرضنا آيات الكتاب العزيز فلم نجد فيها نصا يسمي ذلك الانتقال هجرة، ووجدنا قصيدة لحسان يتكلم فيها عن انتقال الرسول من مكة إلى المدينة ويسمي ذلك الانتقال إسراءً.
وسوف سيجد الذين لديهم عقول يفقهون بها، في هذا الكلام مادة لحوار علميّ ونقاش محترم، وأما السفهاء من الناس الذين يغضبون ولا يفكرون، ويشتمون ولا يناقشون، فسوف يجدون فيه فرصة لإظهار المزيد من سفاهتهم وسلاطة ألسنتهم.
(7) ما مصدر المخيال الجمعي عن الإسراء والمعراج؟
قلنا إن إسراء الرسول هو انتقاله من موطن الخطر إلى موطن الأمن، وإن موطن الخطر بالنسبة للرسول هو مكة حيث دبّر أهلها أن يقتلوه أو يسجنوه، وإن موطن الأمن هو المدينة حيث بايعه أهلها على حمايته من عدوه، بعد أن آمنوا بدعوته، وكان المخيال الجمعي المتحكم في الذين ردوا علينا، وفي الذين لم يقبلوا تصورنا عن الإسراء، ليس حجةً عقلية مسلما بها، ولا نصا قرآنيا صريح الدلالة، ولا خبرا عن الرسول تتوافر له شروط القُبول، وإنما كانت أخبارا أشبه بخرافات العجائز في العصور القديمة، بل هو عيّنة منها، بتعديل طفيف وهو أنها من خرافات الشيوخ، لا أعني هنا شيوخ الدين، وإنما أعني كبار السن، وهذا هو المعنى الأصلي للكلمة.
في مقال سابق قلنا إن ما سمعناه من شيوخ الدين مرارا من أن الرسول حدّث قريشا أنه أسري به الليلة الفائتة إلى بيت المقدس، وأنهم قالوا له كيف تذهب إليها وتعود في ليلة واحدة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل في شهر، ونعود منها في شهر- قلنا إن هذا الخبر لا وجود له في شيء من الكتب التسعة التي هي البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجة وأحمد ومالك والدارمي، وكذلك العبارة المشهورة المنسوبة إلى أبي بكر في هذا الموقف: إن كان قال ذلك فقد صدق، فلا وجود لها هي الأخرى في شيء من تلك الكتب التسعة. ونريد في هذا المقال أن نستقصي مكونات مخيالنا الجمعي عن تلك الرحلة لنحدد مصدره ودرجة الوثوق به.
لو فتحنا كتاب السيرة النبوية لابن هشام لوجدنا مكوّنات مخيالنا الجمعي عن الإسراء، وها نحن ننقل ما قاله ابن هشام عن تلك الرحلة وننقل ما يكشف من كلامه هو عن درجة اطمئنانه لما قاله؟ وننقل درجة ثبوت تلك الأخبار كما بيّنها محققا الكتاب، الدكتور همّام سعيد، ومحمد ابن عبد الله أبو صُعيليك؟
قال ابن اسحاق: كان عبد الله ابن مسعود فيما بلغني عنه يقول:أُتيَ رسول الله بالبراق، التي هي دابّة كانت تُحمَل عليها الأنبياء قبله، تضعُ حافرَها في منتهى طرفها، فحُمِل عليها، ثم خرج به صاحبه، يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد إبراهيمَ الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جُمعوا له، فصلّى بهم، ثم أُتيَ بثلاثة آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء..." فأنت ترى أن ابن إسحاق لم يجزم بصحة الخبر وإنما قال فيما بلغني عنه، وعلى ذلك استند المحقق في قوله : رواه ابن إسحاق بلاغا (أي بلا سند) والبلاغ منقطع. ورواه ابن عرفة وابن عساكر و...وبه يكون الحديث ضعيفا"
وقال ابن إسحاق : وحُدّثت عن الحسن أنه قال: قال رسول الله : بينما أنا نائم في الحِجر إذ جاءني جبريل فهمزني بقدمه، فجلست فلم أرَ شيئا، فعُدت إلى مَضْجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه...فجاءني الثالثة...فأخذ بعضُدي فقت معه، فخرج بي إلى باب المسجد، فإذا دابّة أبيض بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يَحفِزُ بهما رجليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه.." وأنت ترى ابن إسحاق لا يجزم بالخبر بدلالة قوله :وحُدّثت، وقال محقق الكتاب عنه: رواه ابن إسحاق معلقا فيكون الحديث ضعيفا.
وقال ابن إسحاق: قال الحسن في حديثه [أي السابق]: "ثم انصرف رسول الله إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبرَ، فقال أكثر الناس: هذا والله الأمرُ البيّن، والله إن العيرَ لتُطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة، أفيذهبُ ذلك محمدٌ في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة! قال فارتدّ كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم...فقال لهم أبو بكر: ...والله لئن كان قاله لقد صدق...فيومئذٍ سماه الصديق" ونذكر القارئ وأنفسنا أنه جزء من حديث الحسن السابق الذي بدأه ابن إسحاق ب:"حُدّثت عن الحسن أنه قال" والذي قال عنه المحقق إنه حديث ضعيف.
وقال ابن إسحاق: وحدّثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخُدريّ أنه قال: سمعت رسول الله يقول: لمّا فرغتُ مما كان في بيت المقدس، أُتيَ بالمعراج، ولم أرَ شيئا قطُّ أحسن منه، وهو الذي يَمُدُّ إليه ميّتُكم عينيه إذا حُضِر[أي حضرته الملائكة عند الموت] ، فأصعدني صاحبي فيه، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء...عليه ملك من الملائكة... فلما دخل بي قال: من هذا يا جبريل؟ قال هذا محمد. قال :أوقد بُعِث؟ قال نعم.." وقال المحقق: صرح ابن إسحاق بالسماع وسنده منقطع. ورواه ...فيكون الحديث ضعيفا من هذا الطريق...." [سنعود بعد قليل لما قاله موضع النقط]
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم عمّن حدّثه عن رسول الله أنه قال:"..فلم يلقني ملَك إلا ضاحكا...حتى لقيني ملَك ...إلا أنه لم يضحك...فقال لي جبريل: أما لو ضحك إلى أحد كان قبلك، أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك، ولكنه لا يضحك، هذا مالك خازن النار..." وسها المحققان عن التعليق عليه، أو ربما تركا التعليق عليه، لوضوح ضعفه، فابن إسحاق لم يذكر له سندا، وإنما نسبه إلى بعض أهل العلم عمن حدّثه [دون أن يسميه أو يصفه] عن رسول الله، ولا يكون خبر سنده على هذا النحو إلا ضعيفا، لأنه خبر عن مجهولي الاسم والصفة المؤثرة.
قال ابن إسحاق: وقال [يعني أبو سعيد في حديثه] : "ثم رأيت رجالا لهم بُطون لم أر مثلها قطّ، ...بسبيل [أي طريق] آل فرعون، يمرُّون عليهم...حين يعرضون على النار، يطئونهم، لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك..قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا" ولنُعِد قول المحقق: "صرح ابن إسحاق بالسماع وسنده منقطع. ورواه ...فيكون الحديث ضعيفا من هذا الطريق..."
وقال ابن إسحاق: ومن حديث عبد الله ابن مسعود عن النبي فيما بلغني: ...فأقبلت راجعا، فلما مررت راجعا بموسى ابن عمران...سألني: كم فُرض عليك من الصلاة فقلت : خمسين صلاةً كلّ يومٍ فقال إن الصلاة ثقيلة، وإن أمتك ضعيفة، فارجع إلى ربك، فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك...حتى انتهيت إلى أن وضع عني ذلك، إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة..." وهنا سنستعير قول المحقق قبل صفحات عن مثله قبل صفحات قليلة: رواه ابن إسحاق بلاغا (أي بلا سند) والبلاغ منقطع...وبه يكون الحديث ضعيفا" ولكنه هنا لم يقل ذلك وإنما قال: رواه البخاري في كتاب التوحيد عن أنس ابن مالك عن مالك ابن صعصعة، ورواه مسلم عن أبي ذرّ..."
فإذا علمنا أن علماء الحديث لم يضعوا قواعد التميز بين الخبر الصحيح والضعيف دفعة واحدة بعد موت الرواة وانقطاع التحديث، وإنما اكتشفوها شيئا فشيئا وهم في نفس بيئة الرواة زمانا ومكانا، ومعنى ذلك أنه كان سهلا على الرواة أن يغيّروا في سند الرواية التي وصفت بأنها غير صحيحة، لانقطاع السند أو احتوائه على راوٍ ضعيف أو مجهول أو كذاب، إلى سند آخر يصفه النقاد بأنه جيّد وقويّ وصحيح. ورحم الله يحيى ابن سعيدٍ القطان الذي روى عنه مسلم في مقدمة صحيحه أنه قال: "لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث" وذلك لأنهم ظنوا أنهم ينقذون الناس بتلك الروايات التي يضعونها أو يحرّفون في متنها أو سندها، لئلا يبقى الدين ناقصا. قال أحمد أمين في فجر الإسلام عن مدرسة الحديث: "كانت هذه المدرسة كما أسلفنا سببا غير مباشر لوضع الحديث، فقد رأى قوم لا يتحرَّوْن الصدق أن هناك مسائل لا تعد، لم يرد فيها نص، ورأوا أعلام مدرستهم لا تٌقْدم على الرأي تحل به المشاكل، فوضعوا الأحاديث الكثيرة يغطون هذا الموقف" ويقول الشيخ محمد محمد أبو زهو في كتابه الحديث والمحدثون عن قوم من هؤلاء إنهم اشتغلوا بالحديث: "وسمعوا من الثقات، وعرفوا الأسانيد الصحيحة، ثم وضعوا عليها الأحاديث التي تتفق وعقيدتهم وأضلوا بها كثيرا"
(8) القِبلة الأولى والوثيقة العمرية
كان الفلسطينيون ولا زالوا عاجزين عن طرد قوات الاحتلال عن أرضهم ومساجدهم وكنائسهم، وكان ولم يزل كثير منهم ينظر للصراع مع الإسرائيليين على أنه صراع ديني، ولم يستطع الرئيس عرفات أن يوقِّع على اتفاقية سلام في آخر عهد الرئيس كلنتون، لأسباب على رأسها، أنها لم تتضمن السيادة الكاملة للفلسطينيين على المسجد الأقصى، وإنما جعلت لهم السيادة عليه، وجعلت لإسرائيل الحق في الحفر أسفل منه بحثا عن آثار دينية يهودية. وهناك أكثر من تنظيم فلسطيني يعلن أنه مستعد لتقديم المزيد من الشهداء دفاعا عن المسجد الأقصى، ومن التنظيمات التي تتبنى العمل العسكري في مقاومة الاحتلال منظمة تسمى (سرايا الأقصى).
صحيح أن القبلة الأولى للنبي عليه السلام كانت إلى إيلياء (القدس)، ولكن ذلك كان اشتراكا مع اليهود في قبلتهم التي كانوا- ولا زالوا- عليها، وإن من صفات نبينا عليه السلام، المذكورة في الأناجيل أنه يغير القبلة، أي مركز العبادة، ولذا توجّه عليه السلام مدة إلى إيلياء، ثم أمره الله أن يتوجه إلى المسجد الحرام، ولا معنى لذلك إلا أننا قد أمرنا أن نترك لهم قبلتهم، وأن نتميّز بقبلة أخرى، خاصة أن رسولنا الكريم توجه إلى قبلتهم هو والمؤمنون معه، وهي غير خاضعة لسلطانه السياسي أو الديني...أي أنه منذ أن أصبحت القبلة هي المسجد الحرام فإنه لم تعد لمدينة القدس بكل ما فيها أية مكانة دينية خاصة عند أتباع محمد عليه السلام. إلا تلك القيمة التاريخية العامة.
وإني أتصور لو كانت فلسطين من النهر إلى البحر تحت سلطان حاكم صالح من أتباع محمد عليه السلام، وحضر إليه نفر من اليهود وقالوا له: لقد توجه نبيكم إلى قبلتنا فترة يسيرة من الزمن( نحو 17 شهرا) ثم تحوّل عنها بأمر الله، ثم بنيتم مسجدا في مركز عبادتنا، وحرمتموننا منه، فهل يأمركم دينكم أن تسيطروا على المواضع المقدسة عند الغير إذا انتصرتم عليهم وأن تبحثوا عن علل لتقديسها عندكم، كي لا تسمحوا لهم بزيارة مركز عبادتهم الذي يقدسوه؟ ...صحيح أنكم لم تطردوا أحدا منها، لأن أجدانا كانوا مطرودين وكان معبدنا الأعظم -في مركز عبادتنا- مهدوما منذ قرون عند الفتح الإسلامي لفلسطين، ولكنكم بنيتم قبة الصخرة وهذا المسجد الذي تسمونه المسجد الأقصى، وتزعمون أن رسولكم جاء إليه ليلا مع أحد الملائكة راكبا دابة سماوية... ولكن هذا فهم خاطئ منكم لكلام ربكم، فالإسراء في كلام ربكم هو الهجرة خُفيةً من موطن الخطر إلى موطن الأمن، ومن قبل رسولكم أسرى لوط بأهله، وأسرى موسى بأجدادنا، ولو فرضنا جدلا أن رسولكم جاء بالفعل إلى مركز عبادتنا وصلى فيه بالأنبياء، فإنه هو نفسه بأمر من ربه قد تحوّل عنه، فلماذا لا تَدَعون لنا مركز عبادتنا وتكتفون بمركز عبادتكم؟
أتصور لو حدث ذلك لكان من العدل الذي أمر به القرآن، وأمر به الرسول الكريم، أن يقول الحاكم الصالح المؤمن بالله وكتابه ورسوله: سنقوم بنقل المسجد الأقصى إلى مكان آخر، ونترك لكم موضعه تنقبون فيه عما ترون أنه آثار مقدسة عندكم، وتبنون فيه ما شئتم من دور للعبادة ...إننا نحترم أهل الأديان وعلى رأسهم أهل الكتاب وأنتم أصلهم الأصيل.
فإذا كان الواقع السياسي بخلاف ذلك، وقال الإسرائيليون للفلسطينيين: هيا نعقد معكم معاهدة سلام، تتخلون بموجبها عن أجزاء من أرضكم وعن جزء من القدس وعما تحت مسجدها الأعظم، فهل يكون من الدين أو العقل أو الحكمة أن يرفض الفلسطينيون ذلك؟ ولماذا لا يطلبون من إسرائيل أن تتحمل تكاليف نقل المسجد الأقصى إلى موضع آخر، وليكن في أوسط مكان بدولتهم بدلا من أن يكون في منطقة حدودية؟ ولماذا لا يقايضون بموضعه أرضا أو شروطا أفضل للصلح؟
قد يقول الفلسطينيون: إنها أرض فتحها المسلمون، وإن عمر بن الخطاب قد جعلها وقفا إسلاميا، وإنها ليست ملكا لنا وحدنا، أو يقولون إنها ملك لسكانها الأصليين من مسلمين ومسيحيين ويهود، فنقول لهم: "إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين" الأعراف 128، وإن الله لم يقل إنها لكم أو لغيركم إلى أبد الآبدين. ألم تروا أنها كانت لغير المسلمين ثم صارت لهم؟ ألم تروا كيف تُولَد الدول وتتسع وتضيق ثم تموت؟ إنها سنة من سنن الحياة فلا تغالبوها، ولكن سايروها واعملوا ما يتغير به حالكم إلى الأفضل...إن الله لن يرسل ملائكة تطرد اليهود، وإن إخوانكم العرب لا يجدون ديمقراطية تظلهم، ولا عِلما يتفوقون به، ولا اقتصادا قويا يؤثرون به، ولا سلاحا متقدما يدافعون به عنكم أو عن أنفسهم، والله يقول في كتابه الكريم: "لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا" البقرة 233، وإن رسولكم أوشك أن يصالح أعداءه على أن يكون لهم جزء معلوم من ثمر المدينة، فلماذا لا تصالحوا الإسرائيليين على أن يعوِّضوكم ويساهم العالم في تعويضكم عما لحق بكم من ضررٍ قد استمر أجيالا بسبب إصراركم على رفض الصلح، وعدم الاعتراف بميزان القوى؟ إن بنود الصلح الذي أبرمه عمر، قد أصبحت في ذمة التاريخ كأي صلح تاريخي، تفرضها ظروف معينة وتنهيها ظروف أخرى، وباحتلال اليهود لمعظم فلسطين حلّت الوثيقة الصهيونية أو على الأقل قرار التقسيم أو قرار424 محل الوثيقة العمرية.
لقد كان بنو إسرائيل يقدسون السبت، وعابوا على عيسى ابن مريم أنه سمح لتلاميذه- وهم جياع في يوم سبت- أن يقطفوا سنابل ويأكلوها، وعابوا عليه أنه دعا بالشفاء لمريض في يوم سبت، فكان من رده عليهم: "السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لِأَجلِ الإِنْسَان، لَا الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ السَّبْت" متى 2: 27، وكذلك أنزل الله القرآن رحمة للعامين، أي أن القرآن للإنسان، أي لمصلحته وخيره، وليس الإنسان للقرآن، والمسجد القدس الأقصى للإنسان وليس الإنسان له، حتى تموتوا من أجله لغير هدف إلا أن الموت من أجله، فلا يجوز أن نتخذ من الدين مستندا لأن يستمر الصراع في أرض النبوات، وليصل شرره إلى كل أرجاء العالم.
والخلاصة أنه لا يصح أن يتخذ الفلسطينيون من التصور الموروث عن المسجد الأقصى مستندا لرفض الصلح ما لم تكن القدس عاصمة لدولتهم، وما تحت المسجد خاضعا لسلطانهم، فذلك التصور غير صحيح، وتحويل القبلة إلى المسجد الحرام معناه أن القدس لم تعد مكانا مقدسا عند المسلمين، والوثيقة التي يقبل العالم مشروعيتها اليوم ليس ما يقال له الوثيقة العمرية، وإنما هو قرار424، فالواجب على الفلسطينيين أن يعلموا ما ينفعهم وفق توازنات القوى في الوقت الراهن، ليكونوا غدا أكثر قوة، لا أن يغالبوا سنن الكون فيكونوا غدا أكثر ضعفا.
مـــــــــــــــــــــع تحياتــــــــــــــــي / أبــــــــــــــــو سعـــــــــــــــــيد
والرؤية الجديدة بحاجة إلى عقل يتدبرها، وليست بحاجة إلى حناجر تهتف ضدها، على أنني أعلم أن الذين تشبعوا بالرؤية القديمة سيكون من الصعب عليهم أن ينظروا بإنصاف في هذه الرؤية الجديدة، لو أرادوا ذلك، وأعلم أن أكثرهم لن يريد إلا الدفاع عن الرؤية القديمة، ولكن لا جدوى من الكلام عن تجديد الخطاب الديني دون أن نقدم نماذج تهز أركان الخطاب الموروث.
وقد كان للشرق الأوسط فضل عليّ في تكوين هذه الرؤية، إذ شرعت في إنتاجها بعد قراءة مقال منشور بها في عدد 19/ 11/ 2000، تحت عنوان "عودة إلى الخلاف على مقدسات الأقصى".
(1) ماذا قال مجير الدين العليمي عن عمارة المسجد الأقصى؟
يعدُّ كتاب (الأُنْسُ الجليل بتاريخ القدس والخليل) واحدا من أهم المراجع عن الآثار الإسلامية في مدينتي القدس والخليل، وهو من تأليف القاضي مجير الدين أبي اليُمن عبد الرحمن العليمي الحنبلي المقدسي، المولود بالقدس ليلة الأحد الثالث عشر من شهر ذي القعدة سنة 860 للهجرة، المتوفى سنة 927 للهجرة. وفي هذا المقال أعرض قراءتي لكلام العليمي في الفصلين الذين خصصهما للحديث عن المسجد الأقصى.
وأول ما نلحظه في كلام العليمي أنه خصص الفصل الأول من الفصلين المقصودين- للكلام عن إنشاء المسجد الأقصى زمن عبد الملك ابن مروان وخصص الفصل الثاني منهما للكلام عن صفة المسجد الأقصى أي في عصره وكيف كان في زمن عبد الملك ابن مروان وما اعتراه من فساد وإصلاح، فجعل عنوان الأول:"ذكر بناء عبد الملك ابن مروان لقبة الصخرة الشريفة والمسجد الأقصى الشريف وما وقع في ذلك [أي تفاصيل عملية البناء]" وجعل عنوان الثاني:"ذكر صفة المسجد الأقصى وما كان عليه في زمن عبد الملك وبعده".
والأمر الثاني أنه مهّد لذكر بناء الأقصى بذكر الخلافة فقال: "لما توفيّ أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب وعهد بالخلافة إلى النفر الذين مات رسول الله وهو راض عنهم....حتى مرّ بمقتل عثمان وعليّ والحسين، واستقرار الخلافة في سنة 41 لمعاوية، ولابنه يزيد من بعده. ثم قال: لما مات معاوية ابن يزيد ابن معاوية بالشام بويع بالخلافة لمروان ابن الحكم ...وافترق الناس فرقتين فرقة تهوى بني أمية وفرقة تهوى ابن الزبير...وجرى بينهم وقائع وحروب، ثم استقر أمر الشام لمروان ودخلت مصر تحت طاعته، ثم أمر الناس بالبيعة لولده عبد الملك...فما كان بأسرع من أن انقضت مدة مروان فمات بالطاعون...سنة 65 للهجرة، وذكر مبايعة الناس لولده عبد الملك [ولا زال ابن الزبير مسيطرا على الحجاز] فلما دخلت سنة ست وستين ابتدأ ببناء قبة الصخرة الشريفة وعمارة المسجد الأقصى الشريف، وذلك لأنه منع الناس عن الحج لئلا يميلوا مع ابن الزبير، فضجوا فقصد أن يشغل الناس بعمارة هذا المسجد عن الحج فكان ابن الزبير يشنِّع على عبد الملك بذلك" ويفهم من هذا أن المسجد الذي بناه عبد الملك في القدس وسمّي بالمسجد الأقصى لم يكن له وجود من قبل، وأنه إنما بني في زمن سيطرة ابن الزبير على الحجاز إشغالا للناس به لما ضجوا من منعهم من الحج.
والأمر الثالث أنه أعلن أن عبد الملك استشار أمراء البلاد الخاضعة له في بناء ذلك المسجد، ولو كان المسجد موجودا من قبل وله فضل مسلّم به، لشرع في توسعته أو ترميمه أو إعادة بنائه دون مشورة من أحد، يقول العليمي:"وكان خبرُ البناء أنَّ عبد الملك ابن مروان حين حضر إلى بيت المقدس وأمر ببناء القبة على الصخرة الشريفة- بعث الكتب في جميع عماله وإلى سائر الأمصار أن عبد الملك قد أراد أن يبني قبةً على صخرةِ بيت المقدس تقي المسلمين من الحرّ والبرد، [ولم يقل لأن الرسول عرج منها إلى السماء]، وأن يبني المسجد، وكره أن يفعل ذلك دون رأي رعيته...فوردت الكتب عليه ..:نرى رأي أمير المؤمنين موافِقا رشيدا، إن شاء الله يتم ما نوى من بناء بيته وصخرته ومسجده، ويجري ذلك على يديه" ولنا أن نتصور أن عبد الملك فكّر في ذلك لأنه لم يكن يدري متى يفرغ من فتنة ابن الزبير، وقد طالت الفتنة من 65 إلى 73، ونحن هنا لا نبرر لعبد الملك ما فعله وإنما نتفهّم ما دفعه إليه.
والأمر الرابع: أن عبد الملك لم يقصد إلى بناء مسجد يصلي الناس فيه، وإنما قصد إلى بناء مسجد فخم يكون آية في الاتساع والفخامة بقصد جلب انتباه الناس إليه، تعويضا لهم عن حرمانهم من المسجد الحرام ومسجد الرسول، أو بتعبير العليمي إشغالاهم به، وآية ذلك أنه أمر رجاء ابن حياة ويزيد ابن سلّام أن يُفْرِغا المال في البناء إفراغا، ولما كتبا إليه بتمام العمل وبقاء مائة ألف دينار ورفضا أن يقتسماها كهدية أمرهما أن تسبك الدنانير وتفرغ على قبة الصخرة، وأنه جعل للصخرة خدما يلطِّخونها بأطيب العطور كل يوم اثنين وخميس، حيث تفتح للناس وينادي منادٍ ألا إن الصخرة قد فُتِحَتْ، فيدخل الناس للصلاة فيها، فلا يخرج أحد إلا ويعرف الجميع أنه قد أتى الصخرة من شدة الطيب الذي يفوح منه، وجعل على كل باب عشرة من الحجبة. ومما قاله العليمي في الفصل الذي خصصه لوصف المسجد: أنه جعل للمسجد خمسين بابا، وذكر أسماء بعضها، وست مئة عمود رخام، وسبعة محاريب، ومن سلاسل القناديل في المسجد وحده 230 سلسة، ومن القناديل خمسة آلاف قنديل، وكان يُسْرَجُ فيه في ليلة الجمعة ونصف رجب وشعبان ورمضان ألفا شمعة دون القناديل، وكان له ثلاث مئة خادم، ومن صهاريج الماء أربعة وعشرون صهريجا، وأصناف من عمال النظافة وصنّاع القناديل والحصير، وغير ذلك كثير، وبدأ العمل في بنائه سنة 66 وانتهى سنة 73. يقول العليمي: "وأرصد للعمارة مالا كثيرا يقال إنه خراج مصر سبع سنين". ونحن نقول: لو كان هناك مسجد في نفس الموضع وله من الفضل ما نظن اليوم أو معشار عشره لاكتفى عبد الملك بتوسعته بأقل مئونة وتفرّغ لحرب ابن الزبير، ولكنه خاضها حربا دينية قبل أن يخوضها حربا عسكرية فبنى للناس مسجدا عظيما ينسيهم المسجد الحرام ومسجد الرسول أو هكذا حسب.
والأمر الخامس: أنه في الفصل الأول استطرد بذكر تاريخ بناء الكعبة، بعد أن أخبر أن عبد الملك أمر بهدمها وإعادتها على ما كانت عليه قبل ابن الزبير فقال: وخلاصة الأمر أن سيدنا إبراهيم بنى الكعبة، ثم سمَّى بناءها في عهد قريش بالبناء الثاني، وذكر بناء ابن الزبير إياها وسمّاه البناء الثالث، وذكر بناء الحجاج إياها وسمّاه البناء الرابع، ثم قال واستمر على ما هو عليه إلى هذا التاريخ، ثم تكلم عن توسعة المسجد الحرام وقال إن أول من وسّعه عمر ابن الخطاب" ولم يستخدم لفظ التوسعة ولا لفظ إعادة البناء أو البناء الثاني أو الثالث وهو يتكلم عن بناء المسجد الأقصى زمن عبد الملك ابن مروان، وإنما قال البناء والعمارة، ولا يدل ذلك إلا على أن المسجد الذي بناه عبد الملك وسمّي بالمسجد الأقصى لم يكن له وجود من قبل.
الأمر السادس: أنه لما أراد أن يبيّن فضل مسجد القدس الأعظم، جعل لذلك فصلا عنوانه:" ذِكْرُ جماعة من أعيان التابعين والعلماء والزهاد ممن دخلوا بيت المقدس بعد الفتح العمري وعمارة عبد الملك ابن مروان" ولو كان للمسجد وجود قبل ذلك لقال إن رسول الله زاره وإن فلانا وفلانا من الصحابة صلوا فيه، ولا يلزم من هذا أن يكون العليمي ممن يردّ روايات الإسراء، لأنه يمكن أن يكون ممن يرون أنها رؤيا منامية كما أخرج البخاري في صحيحه. وانظر كيف قيّد كلامه في العنوان: بعد الفتح العمري وعمارة عبد الملك، مما يعني أنه لم يكن له وجود قبل عمارة عبد الملك.
الأمر السابع: أن المسجد كان تابعا للصخرة وقبتها، بدليل أن القبة طُليت بالذهب الخالص، وأنها كانت تلطخ بأجود أنواع الطيب كل يوم اثنين وخميس، قبل أن تفتح وينادى في الناس أن الصخرة قد فتحت، بينما المسجد مفتوح كل يوم ولم يفعل به شيء من ذلك. ونحن نرى أن تلك الصخرة كانت مقدسة في نظر اليهود، فاليهود هم الذين يقدسون الصخور، ولا زالوا إلى الآن يمدون قداسة معبد داود إلى الصخور التي يبنى منها، وقد اهتدوا -قريبا- إلى صخرة يرونها مقدسة وجعلوها حجر أساس للبناء الذي ينوون إنشاءه موضع المسجد الذي نسميه المسجد الأقصى، فهل تمت صفقة بين عبد الملك والجاليةِ اليهوديةِ وجماعةٍ نصرانيةٍ يهوديةٍ كانت ترى الصخرة جديرة بالتقديس؟ فالمسلمون لا يقدسون أحجارا ولا صخورا، وقد حجوا اثنتين وعشرين سنة والكعبة دون الحجر الأسود، حين أخذه القرامطة إلى هجر، ولم يقل أحد منهم إن الحج ناقص لغياب الحجر الأسود، وعبد الملك يقول في رسالة استشارة الأمراء ببناء القبة: "تقي المسلمين الحر والبرد" ولا يذكر أنها مقدسة أو مشرفة أو أن الرسول عرج منها إلى السماء، والعليمي يسرد طائفة من أعمال النظافة والصيانة في المسجد كانت مقصورة على أسر من اليهود والنصارى، ولا نرى في غير هذه الحالة قصر وظائف للخدمة والصيانة في معبد على غير المؤمنين به.
كانت هذه قراءة فيما كتبه القاضي الحنبلي مجير الدين العليمي في فصلين من فصول كتابه (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل)، وأنا أقصد به أن ألفت النظر إلى أن ما ورثناه من أن المسجد الأقصى الذي كان منتهى الإسراء هو مسجد القدس، وأنه مكان مقدّس بالنسبة لنا، وأنه القبلة الأولى، وأن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في غيره- كل ذلك كلام غير صحيح، والصواب هو أن المسجد وقبة الصخرة قد بنيا في ظروف فتنة، ليكون آية معمارية، ومزارا جذابا، حين منع عبد الملك ابن مروان البلاد الخاضعة له من الحج، لأن الحجاز كان تحت سلطان ابن الزبير من 65 إلى 73.
ملاحظة: الإملاء العربي القديم- كما هو في عامة اللغات السامية- يخلو من رموز للصوائت القصيرة [الحركات] والصوائت الطويلة [حروف المد]، ولذلك فإن الأكثر منطقية بعد تكور الإملاء أن نكتب ألف الوصل دائما في كلمة ابن.
(2) روايات الإسراء: دين أم ثقافة؟
كعامة مؤرخي السيرة النبوية، عجز الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، في كتابه فقه السيرة، أن يسرد قصة الإسراء معتمدا على رواية أو عدة روايات من البخاري ومسلم؛ لأن تلك الروايات تقدم نتفا متناقضة عن تلك الرحلة، ولا تقدم تصورا متكاملا ومنسجما عنها، وأكثر روايات الإسراء تتحدث عنه على أنه يشمل الرحلة السماوية التي يسميها شيوخنا بالمعراج. وقد اُتّخِذت تلك الروايات مجالا لإعطاء معلومات عن الأنبياء وكبار الأنهار في المنطقة، وعن التداوي بالحجامة، وعن تحاور الأنبياء عن علامات الساعة، وغير ذلك مما سنعرضه، بل فيها أن الله بدّل كلامه، وأنه في مكان بعيّنة، سبحانه وتعالى عما يصفون!
ففيها وصفٌ لموسى: "رَجُلًا آدَمَ طُوَذالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ" ووصف لعيسى: "رَجُلًا مَرْبُوعًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ سَبِطَ الرَّأْسِ" وهما عند البخاري برقم 3239، وأما إبراهيم ف:"شَيْخٌ جَلِيلٌ مَهِيبٌ" أحمد برقم 2320، وأما آدم ف:"عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى" البخاري برقم 3342.
وفيها أن الأنبياء مُتَرتِّبُون في السماوات حسب درجاتهم أو مقاماتهم :"إِدْرِيسَ فِي الثَّانِيَةِ وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ ... وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّه" البخاري برقم 7517، بل إنها تُرتِّب أقوام الأنبياء على هذا النحو: "لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ جَعَلَ يَمُرُّ بِالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الْقَوْمُ، وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ، أَحَدٌ حَتَّى مَرَّ بِسَوَادٍ عَظِيمٍ، فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قِيلَ مُوسَى وَقَوْمُه،ُ وَلَكَنِ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَانْظُرْ قَالَ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ مِنْ ذَا الْجَانِبِ وَمِنْ ذَا الْجَانِبِ فَقِيلَ هَؤُلَاءِ أُمَّتُكَ" الترمذي برقم 2446.
وفيها أن الرسول رأى بلالا موصوفا بالمؤذن مع أن الأذان لم يُشرع بعد، ورأى ماشطة ابنة فرعون، ورأى النيل والفرات، ففيها :"قَالَ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذَا قَالَ هَذَا بِلَالٌ الْمُؤَذِّنُ " أحمد برقم 2320، وفيها: "وَجَدَ رِيحًا طَيِّبَةً فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ قَالَ هَذِهِ رِيحُ قَبْرِ الْمَاشِطَةِ وَابْنَيْهَا وَزَوْجِهَا.." ابن ماجة برقم 40 30، وفيها: "فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ يَطَّرِدَانِ فَقَالَ مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَات" البخاري برقم 7517.
وما دامت الرحلة قد أصبحت رحلة عجائب فلا بأس أن يرى الرسول شيطانا يريد أن يحرقه بشعلةٍ من نار، ويتعلم من جبريل كلماتٍ تطفئ الشعلة وتُوقِعُ الشيطان على (ملا وشه): "فَرَأَى عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ يَطْلُبُهُ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ كُلَّمَا الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ رَآهُ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ إِذَا قُلْتَهُنَّ طَفِئَتْ شُعْلَتُهُ وَخَرَّ لِفِيهِ..." مالك برقم 1773، وهي الرواية الوحيدة التي أخرجها مالك عن الإسراء.
ورأى الرسول في تلك الرحلة فئاتٍ معينة من العصاة، ففيها: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رَجُلًا يَسْبَحُ فِي نَهَرٍ وَيُلْقَمُ الْحِجَارَةَ فَسَأَلْتُ مَا هَذَا فَقِيلَ لِي آكِلُ الرِّبَا" أحمد برقم 1959، وفيها: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ قُلْتُ مَا هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ أُمَّتِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ" أحمد برقم 12445، وفيها: "فَنَظَرَ فِي النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ فَقَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ" أحمد برقم 2320 وهؤلاء عصاة شعبيون يستطيع الرواة أن ينالوا منهم، وأما عتاة المجرمين والحكام الظلمة فلم ير الرسول أحدا منهم!
وإذا كانت الحِجامة على رأس المعالجات الطبية عند العرب في عصر تداول الروايات، فلا بأس أن تطلب الملائكة من الرسول أن يوصي قومه بالحجامة، ففي تلك الروايات: "لَمْ يَمُرَّ عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا أَمَرُوهُ أَنْ مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ" الترمذي برقم 2052.
وإذا كان من الثقافة الدينية أن للساعة علامات تسبقها وتدل على قربها الشديد- خلافا للمعطيات القرآنية التي قصرت علمها على الله- فقد وُجِدَت رواية تجعل الأنبياء في السماء يتناقشون في هذه المسألة: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ لَقِيَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فَتَذَاكَرُوا السَّاعَةَ فَبَدَءُوا بِإِبْرَاهِيمَ فَسَأَلُوهُ عَنْهَا فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ ثُمَّ سَأَلُوا مُوسَى فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهَا عِلْمٌ فَرُدَّ الْحَدِيثُ إِلَى عِيسَى ابن مَرْيَمَ فَقَالَ ..." ابن ماجة برقم 4081.
وإذا كان بعض الناس يكسل عن أداء الصلاة، فلا بأس أن تقول رواية إن الله فرض علينا خمسين صلاة ولكن الرسول نُصح من موسى أن يطلب من الله التخفيف لأن الأمة لن تطيق ذلك، وأن الله خفف بعض الشيء ولازال الرسول يراجعه حتى خففها إلى خمس فقط، ولكنها خمسون في الأجر! وكأن الله يكلِّف فوق الطاقة، ولئلا تنتقد الرواية بأن الله فيها قد بدل كلامه، فقد عالج الراوي هذه المسألة في آخر الرواية (ولكن من باب اللي على راسه بطحة): "ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ قَالَ عَهِدَ إِلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ ... فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ هَذَا فَضَعُفُوا ...فَقَالَ يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ...قَالَ إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ قَالَ فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ" البخاري برقم 7517. فإذا قدّرنا أقل عدد لتلك المراجعات التخفيفية التي بدّل الله فيها قوله لبلغت 5 مرات، إلى 40 إلى 30 إلى 20 إلى 10 إلى 5.
ومن غرائب هذه الرواية- وهي من روايات البخاري- أن الراوي تحرّج من ذكر انتقال الرسول من موسى إلى الله وكأن لله مكانا، فجمع بين الانتقال ونفي الانتقال :"فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ[فإنني أعلو بك]فَعَلَا بِهِ إِلَى الْجَبَّارِ فَقَالَ وَهُوَ مَكَانَه يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا ..." ومن غرائبها أن الراوي جعل موسى يطلب التخفيف حتى بعد أن صارت خمسا.
وإذا كانت الروايات السابقة تخبر أن الرسول رأى موسى وتحدث معه في السماء، فهناك رواية تقول:"أَتَيْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ" مسلم برقم 2375، وإذا كان موسى قد أسرى ماشيا على قدميه أو راكبا حمارا أو غيره من الدواب المألوفة في دنيا الناس في بيئته، فإننا نجد رواية يفهم منها أن البراق كان ركوبة الأنبياء من قبل محمد، فهي تقول:"أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا فَاسْتَصْعَبَ عَلَيهِ- أي قمّص- فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ :أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذَا؟ فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ قَالَ فَارْفَضَّ عَرَقًا" أي من الخجل، الترمذي برقم 3131.
وإذا كان القرآن يحدد منتهى الإسراء بالمسجد الأقصى، فإن عددا من الروايات يجعل منتهاه السماء:"أُسْرِيَ بِهِ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ" البخاري برقم 3393، وفي أخرى أن منتهاه كان سدرة المنتهى:" لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا" مسلم برقم 173 ورغم ذلك فهما منعوتتان بالصحة!. وإذا كان القرآن يحدد مبدأه بالمسجد الحرام فإن رواية عند البخاري تجعل مبدأه بيت النبي في مكة، وأن الملاك لم يدخل إليه من باب الغرفة، وإنما نزع السقف كي يصل إليه! ففيها :"فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيل...فَعَرَج بي إلى السماء" برقم 366.
وأخيرا فإن من الروايات ما يجعل الإسراء رؤيا منامية حدثت قبل أن يوحى إلى الرسول، أي أنه لم يكن يومها نبيا ولا رسولا! فعند البخاري :"لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ ،فَقَالَ أَوَّلُهُمْ... فَكَانَتْ تِلْكَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى جَاءُوا لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَالنَّبِيُّ نَائِمَةٌ عَيْنَاهُ، وَلَا يَنَامُ قَلْبُه ...فَتَوَلَّاهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ "البخاري برقم 3570. وهنا يرد لفظا الإسراء والمعراج وكأنها مترادفان.
والخلاصة أن روايات الإسراء فسيفساء ثقافية عن عصر تداول تلك الروايات، وليست من الدين في شيء، لأنها روايات متناقضة مع المعطيات القرآنية عن الإسراء، فضلا عن تناقضها الداخلي.
(3) الإسراء هل كان إلى فلسطين أم إلى المدينة المنورة؟
قال الله تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير" الإسراء 1، والنص يخبر أن الله أسرى برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى...فهناك مسجدان إذن الأول هو المسجد الحرام، والثاني هو المسجد الأقصى، والأقصى صيغة تفضيل بمعنى الأبعد، فالمكان الذي انتهى إليه الإسراء برسول الله عليه الصلاة والسلام، يجب أن يكون مسجدا، وليس مكانا يُتَّخذُ فيما بعد مسجدا، ولا مكانا كان فيما قبل مسجدا، وأن يكون بعيدا جدا عن المسجد الحرام، ولا يلزم أن يكون مبنيا، فقد كان المسجد الحرام –يومئذٍ- مجرد فضاء حول الكعبة.
ولكن فلسطين لم يكن بها يومئذٍ مسجدٌ، ليكون بالنسبة للمسجد الحرام مسجدا أقصى، فلم يكن فيها يومئذٍ مؤمنون بمحمد عليه السلام، يجتمعون للصلاة في موضع معين يتخذونه مسجدا، فقد كان أكثر أهلها مسيحيين وكانت بينهم أقلية يهودية، ومع احترام القرآن لمعابد اليهود والنصارى فإنه لم يطلق على أيٍّ منها اسم مسجد، وإنما سمّاها بيعًا وصلوات(الحج 40) والمسجد الموجود اليوم في مدينة القدس والمعروف باسم المسجد الأقصى، لم يُشْرع في بنائه إلا سنة 66 بعد هجرة النبي ص، أي في عصر الدولة الأموية، وليس في عصر الرسول ولا أحدٍ من خلفائه الراشدين. هذا عن المسجد.
وأما عن كلمة أسرى؟ فإذا فتحنا المصحف، وتتبعنا النصوص التي وردت فيها، فسوف نجد النصوص التالية: "قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" هود 81، ومعنى أَسرِ بأهلك بقطعٍ من الليل :امشِ بهم خُفية بعد مضيّ جزء من الليل، ونحوُه في الحجر 65 "فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ"، وقوله تعالى :"وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى" طه 77، ومعنى أَسرِ بعبادي: امشِ بهم خُفيةً من عدوكم، ونحوُه في الشعراء52 " أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ" وفي الدخان 23: "فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ"...فالإسراء إذن هو الانتقال خُفية من مكان الخطر، إلى مكانٍ آمن، ومعنى أسرى بعبده :أمره أن يسري ورعاه وهو يسري، أي ينتقل خُفية من عدوه إلى مكان يأمن فيه على نفسه وعلى دعوته، أي أن النص يخبر عن هجرة الرسول من مكة إلى المدينة، ولا يتكلم عن زيارة إلى فلسطين. وقد تمت هجرة الرسول خُفية عن أعدائه.
ولنعد مرة أخرى إلى أول سورة الإسراء...إنه يعلل الإسراء بقوله:"لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا" وقد اعتاد المفسرون ورواة الأخبار على تفسير ذلك بأنه: رؤية الأنبياء، والصلاة بهم، وقد يزيد بعضهم الصعود إلى السماوات ورؤية الجنة والجحيم. فبم نفسر نحن آيات الله في هذا الموضع؟ وأي التفسيرين أولى بالقبول؟ إننا نفسرها بنجاة الرسول من أعدائه الذين مكروا به ليقتلوه أو يسجنوه، وتأسيسه دولة بالمدينة، وانتصاره في بدر، وعقده صلح الحديبية، ثم فتح مكة وانتشار دعوته... وهذه آيات حسية موضعها دنيا الناس، وكلها مُتَرَتِّب على الإسراء بالرسول من مكة إلى المدينة، بينما الآيات التي يذكرها المفسرون ورواة الأخبار ليست من عالمنا الدنيوي، فإما أن تعرض على الرسول في صورة مُثُل، وإما أن يتحول الرسول عن طبيعته الدنيوية كي يراها على حقيقتها، وفي الحالتين فإنها لا تكون آية، لأنها لا تكون آية إلا حينما تُرى على حقيقتها ويكون الرائي على طبيعته البشرية الحقيقية. بل إن تعليل الإسراء بقوله: لنريه من آياتنا يدل على أن الإسراء شرط لرؤية تلك الآيات، أي أنه لن يرى أيا من تلك الآيات إلا إذا انتقل إلى موضع معيّن، ونحن نقول إن انتصار دعوته كان مرهونا بانتقاله إلى المدينة حيث يوجد الأنصار، ولكن رؤية الرسول لبعض أو كل من سبقه من الأنبياء، ليس مرهونا بسفره إلى القدس، لأن الإعجاز ببعثهم أو بدخول الرسول إلى عالمهم الأخروي ليس مرهونا بانتقاله إلى القدس، حتى لو فرضنا جدلا أنهم جميعا دفنوا بالقدس وأنهم جميعا اتخذوها مركزا لعبادة الله . بل إن الأولى أن يأتوا هم إليه في مكة تقديرا له ولمكة التي ستكون المركز الجديد لعبادة الله.
وإذا مضينا خطوة أخرى مع النص الكريم، وجدناه يقول فيما يشبه تعليل تلك الآيات التي رآها الرسول:"إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير" الأمر الذي يعني أن الله تعالى أسرى برسوله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لأنه تعالى سمع وأبصر أمورا لها ارتباط بذلك الحدث، فهل يزعم أحد أن الرسول كان يدعو الله أن يريه فلسطين أو موضع هيكل داود أو عددا من الأنبياء الذين بُعِثُوا قبله، أو عالم السماء والجنة والنار؟ إنْ زعم ذلك أحد فإنه يفتري الكذب على الرسول...أما نحن فنقول: إنه تعالى هو السميع لدعاء الرسول أن يحميه من كيد قومه، وأن يوفر لدعوته موطنا آمنا في بيئته العربية، وهو البصير بكيدهم لقتله أو سجنه، ولذلك تم الإسراء (= الهجرة سرا) في نفس اليوم الذي قرروا فيه قتله أو سجنه.
ومن أخبار الهجرة النبوية: "ثم واصَل سَيرَه إلى المدينة فدخلها لاثنتي عشرة ليلةٍ خلت من ربيعٍ الأول...فالتفّ من حوله الأنصار، كلٌّ يمسك زمام راحلته يرجوه النـزول عنده، فكان يقول: دعوها فإنها مأمورة، فلم تزل راحلته تسير في فِجاج المدينة وسِكَكِها، حتى وصلت إلى مَرْبِد [مكان يُجَفَّف فيه التمر] لغلامين يتيمين من بني النجار، أمام دار أبي أيوب الأنصاري، فقال النبي عليه الصلاة والسلام :هاهنا المنـزل إن شاء الله، وكان أسعد ابن زرارة - قد اتخذه مصلَّى قبل هجرة النبي، فكان يصلي فيه بأصحابه، فأمر رسول الله أن يُبْنَى ذلك الموضع مسجدا، وابتاع أرضه بعشرة دنانير" مختصرا من كتاب فقه السيرة للبوطي، وكلمة مصلَّى الواردة في النص يمكن استبدالها بكلمة مسجد، أي أن هذا الخبر يُثبت أن منتهى هجرة الرسول التي تمت سرا كان مسجدا أو مُصلّى بالمدينة.
والخلاصة أن الإسراء لم يكن إلى فلسطين، وإنما كان إلى المدينة المنورة، وأنه بدأ من المسجد الحرام، بعد أن صلى الرسول وصاحبه فيه وودّعاه، وانتهى عند مسجد أسعد ابن زرارة أمام دار أبي أيوب الأنصاري بالمدينة المنورة، حيث بنى الرسول مسجدا عُرف بمسجد النبي عليه الصلاة والسلام، وأن تفاصيل رحلة الهجرة هي نفسها تفاصيل رحلة الإسراء، لأن الإسراء هو الهجرة سرًّا.
(4) كيف سرق مسجد فلسطين اسم المسجد الأقصى؟
يقول المؤرخ الإسلامي مُجِير الدين العُليمي الذي يُعَدُّ كتابه عن القدس والخليل من أهم المصادر للتعرف على القدس الإسلامية :"لما مات معاوية ابن يزيد ابن معاوية بالشام، بويع بالخلافة لمروان ابن الحكم ولُقِّب بالمؤتَمن بالله، وافترق الناس فرقتين، فرقة تهوى بني أمية، وفرقة تهوى ابن الزبير، ووقع بينهم خلاف وجرت بينهم وقائع وحروب، ثم استقر أمر الشام لمروان ودخلت مصر تحت طاعته، ثم أَمَر الناس بالبيعة لولده عبد الملك، وبعدَه لأخيه عبد العزيز، فما كان بأسرع من أن انقضت مدة مروان، فمات بالطاعون بدمشق فجأة، وبُويع لولده عبد الملك بالخلافة، فلما دخلت سنة ست وستين، ابتَدَأ ببناء قبة الصخرة الشريفة وعمارة المسجد الأقصى الشريف، وذلك لأنه منع الناس عن الحج لئلا يميلوا مع ابن الزبير...وكان الفراغ من عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة الشريفة.
وبعث عبدُ الملك ابن مروان الحجاجَ ابن يوسف الثقفي إلى ابن الزبير، فأتى الحجاجُ الطائف فأقام بها شهرًا ثم زحف إلى مكة، فحاصر ابن الزبير في هلال ذي القعدة، سنة اثنتين وسبعين، ودام الحصار حتى غلت الأسعار وأصاب الناسَ مجاعة، وزاد الحجاج في الحصار والقتال ورمى الكعبة بالمنجنيق، وخرج ابن الزبير فقاتل قتالًا شديدًا، وتكاثرت أهل الشام ألوفًا من كل جانب، فشدخوه بالحجارة فانصرع، فأكبَّ عليه مَوْلَيان له فَقُتِلوا جميعاً، وتفرَّق أصحابه، وأمر الحجاج به فصُلب" وردت الفقرتان بجريدة الشرق الأوسط في مقال بعنوان "عودة إلى الخلاف على مقدسات الأقصى" بتاريخ 19/ 11/ 2000.
وقد فُتِحَتْ فلسطين في سنة 17 للهجرة في عهد عمر ابن الخطاب، وفي عهده بدأ أهلها يسلمون لله، فكيف يكون في فلسطين في عهد الرسول مسجد يقال له المسجد الأقصى أو غير الأقصى؟ ولم يطلق القرآن اسم مسجد على شيء من دور العبادة الخاصة بغير المؤمنين بمحمد، وإنما سماها بيعا وصلوات:"... وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا..." الحج 40. وإذا فالمسجد المسمى اليوم بالمسجد الأقصى ليس هو المعنيّ في قوله :"من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى".
صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام، قد تَوجّه في صلاته بأمرٍ من الله إلى إيلياء (اسم القدس في تلك الفترة) مدة سبع عشرة شهرا، ثم توجه بأمر ربه أيضا إلى المسجد الحرام بمكة، وكانت إيلياء مركزا لعبادة الله عند اليهود ولا زالت، ولا معنى لهذا إلا أن الرسول شاركهم مدةً في قبلتهم ثم تحوّل عنها إلى قبلة أخرى. والقبلة عند أهل كل دين هي مركزُ عبادةِ الله في نظرهم، فيتوجه المؤمنون إليها في صلاتهم تعبيرا عن وَحدتهم، وتكون مقصدهم بالحج في كل عام. وتغييرُ القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام معناه أن القدس لم تعد مركزا لعبادة الله عند المؤمنين بمحمد عليه السلام، وأنها لم تعد تستحق رعاية في نظر المؤمنين به، إلا ما تستحقها أيُّ مدينة تاريخية من مدنهم، وإذا لم يُفهم الأمر على هذا النحو فلا معنى لتغيير القبلة.
ومن صفات رسولنا عليه السلام الواردة في الكتاب المقدس أنه يُغيّر مركز العبادة، ففي إنجيل يوحنا أن امرأة سامرية التقت بعيسى عند بئر خارج قريتها وكان من كلامها معه:"آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إنَّ في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه [إنها توازن بين قبلة اليهود وقبلة السامريين ف]، قال لها يسوع يا امرأة صدِّقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب..." وفي كلامه إشارة إلى أنه سوف يوجد مركز جديد لعبادة الله، وأنه سيكون أوْلى من قدس اليهود وجبل السامرة. ولتأكيد قيام محمد بتغيير مركز العبادة أمره الله أن يتوجه إلى القدس مدة من الزمن ثم أمره أن يتحوّل عنها، فبذلك يكون قد اعترف بها إشارة إلى أنه امتداد لتراث الأنبياء من قبله، ثم غيّرها إشارة إلى انتهاء النبوة في بي إسرائيل، وتناغما مع كونه رسولا إلى الناس كافّة، فتكون قبلته أقدم مكان اتخذ لعبادة الله لا المكان الأكثر حضورا في تاريخ قوم معينين، وفي هذا يقول الكتاب:"إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين" آل عمران 96.
وحينما تولى الخلافة عبد الملك ابن مروان، وكان سلطان ابن الزبير متمركزا في الحجاز، خشي أن يتحول الناس إليه إذا خرجوا للحج، لأن دخولهم مكة والمدينة لن يتم إلا بإذن ابن الزبير وتحت سلطانه، فإذا أكرم وفادتهم واستغل الوعظ الديني والنقد السياسي استغلالا حسنا، فسوف يفوز بولاء فريق منهم. ولم تكن هناك اتفاقية بين ابن الزبير والأمويين بتحييد الدين، بل إن ابن الزبير كان يستخدم الدين منطلقا لتمرده، وكانت الغلبة الدعائية مرهونة بحسن استغلال الدين، فمنع عبدُ الملك الناسَ من الحج حتى تنتهي الفتنة، وشرع في بناء مسجد كبير بالقدس التي كانت القبلة الأولى. وهنا بدأ بعض الروائيين في تأسيس مكانة دينية لهذا المسجد، فجعلوه ثالث الحرمين الشريفين، وهي صيغة ظاهرة في الإلحاق.
وقد سُمّي المسجد الجديد أول الأمر مسجد إيلياء، وَوُضِعتْ روايات تذكره بهذا الاسم، ثم سُرِق له اسم المسجد الأقصى، لأنه الأقصى عن مكة والمدينة، ثم زُُعِم أنه المراد في قوله تعالى :"... إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى" خاصة وأن مسجد الرسول لم يكن قاصيا ولا أقصى بالنسبة لأهل المدينة، ولذا لم يسموه أقصى كما سمّاه القرآن ملاحظا بعده عن المسجد الحرام، وإنما كانوا يسمونه مسجد الرسول، لأن الرسول هو الذي دفع ثمن أرضه ولأن بيوته عليه السلام أقرب البيوت إليه، بل إنها لم تكن مفصولة عنه، وبعد أن سُمّي مسجد إيلياء بالأقصى تم وضع اسمه الجديد في الروايات.
والخلاصة أن مسجد القدس الذي يسمى المسجد الأقصى قد بُدئ في بنائه سنة ست وستين للهجرة، في زمن عبد الملك ابن مروان وكان الفراغ من عمارته سنة ثلاث وسبعين، وأن صلة المسلمين الدينية بالقدس قد انتهت بمجرد تغيير القبلة منها إلى مكة، وأنه لما منع عبد الملك ابن مروان أهل الشام ومصر والعراق من الحج بضع سنين لئلا يتحولوا إلى ابن الزبير، وشرع في بناء مسجد كبير في إيلياء، ظهرت روايات دينية تمجّد ذلك المسجد وتمجّد قبة الصخرة، وأنه سمّي في أول الأمر مسجد إيلياء، ثم سُرِق له اسم المسجد الأقصى من مسجد المدينة، ومما سهّل الأمر أن أهل المدينة لم يسموه قاصيا لا أقصى لأنها تسمية جغرافية، وأن نشاط الرواة في تلك الفترة شمل كل العالم الإسلامي إلا مكة والمدينة اللتين كانتا خاضعتين لابن الزبير وكانتا في شبه حصار إلى أن تم القضاء على ابن الزبير، فانتشرت تلك الروايات في الحجاز أيضا وتوارثناها وكأنها جزء من الدين.
(5) جهود الرواة في مدح مسجد فلسطين الذي أسسه عبد الملك ابن مروان
إن المسجد الموجود اليوم في مدينة القدس والمعروف باسم المسجد الأقصى، لم يُشْرع في بنائه إلا في سنة 66 بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، أي في عهد عبد الملك ابن مروان، وليس في عصر الرسول ولا أحدٍ من خلفائه الراشدين.
وقد وضع الرواة أحاديث كثيرة يزعمون فيها أن ذلك المسجد امتدادٌ لمسجد داود عليه السلام(هيكل داود)، وأن له فضلا بسبب انتمائه إلى ذلك النبي الكريم، وأنه أول مسجد بني بعد المسجد الحرام، وأن وأن، وهذه جولة مع تلك الروايات تبين مسالك الرواة فيها، كما تبيّن تطورها، وكيف ردّ عليها فريق آخر من الرواة.
لقد سُمّي مسجد عبد الملك أول الأمر بمسجد إيلياء، ووضعت روايات تذكره بهذا الاسم، ثم سُرِق له اسم المسجد الأقصى، وقد كان يومها بالفعل أقصى المساجد الكبيرة عن مكة والمدينة، ثم زُُعِم أنه المراد في قوله تعالى :"... إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى" خاصة وأن مسجد الرسول لم يكن قاصيا ولا أقصى بالنسبة لأهل المدينة، ولذا لم يسموه أقصى كما سمّاه القرآن مقارنة بالمسجد الحرام، وإنما كانوا يسمونه مسجد الرسول، لأن الرسول هو الذي دفع ثمن أرضه ولأن بيوته عليه السلام أقرب البيوت إليه، بل إنها لم تكن مفصولة عنه.
ففي أول الأمر ظهرت هذه الروايات: "إِنَّمَا يُسَافَرُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ وَمَسْجِدِي وَمَسْجِدِ إِيلِيَاءَ" مسلم برقم 1397، و: "لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِلَى مَسْجِدِي وَإِلَى مَسْجِدِ إِيلِيَاءَ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَشُكُّ" مسند أحمد برقم 23336، و: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ" مسند أحمد برقم 11025. وأخيرا وُجدت مثل هذه الرواية:"لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى" البخاري برقم 1189...إن هذه الروايات تقدم عزاءً لراغبي الحج في زمن فتنة ابن الزبير من أهل الشام ومصر: يمكنكم أن تزوروا مسجد إيلياء فإنه أحد المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها. إنها تتحاشى لفظ الحج وتستعمل تعبيرا يوازيه لغويا وهو القصد، المعبَّر عنه هنا ب"شدّ الرحال".
ولا نجد في الكتب التسعة رواية تعبر عن فضل الصلاة في هذا المسجد الجديد بصورة رقمية، إلا هذه الرواية:"صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ بِصَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِ الْقَبَائِلِ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَمَّعُ فِيهِ بِخَمْسِ مِائَةِ صَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاتُهُ فِي مَسْجِدِي بِخَمْسِينَ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ" ابن ماجة برقم 1413، وهنا سمّي مسجد إيلياء بالمسجد الأقصى، والرقم الذي ذَكرتْه للتعبير عن فضيلة الصلاة فيه هو نفسه الذي ذكرتْه عن مسجد الرسول، وهو أمر يكشف أن غرض الراوي هو رفع مكانة مسجد إيلياء باسمه الجديد إلى مكانة مسجد الرسول.
وكرد فعل ظهرت روايات تجعل الصلاة في مسجد الرسول أفضل من غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام، الأمر الذي يعني نفي مكانة هذا المسجد الجديد، سواء سمِّي مسجد إيلياء أو المسجد الأقصى: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ " مسلم برقم 1394، ويكشف الراوي عن قصده أكثر حيث يقول في نفس الرواية:"فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ مَسْجِدَهُ آخِرُ الْمَسَاجِدِ"مسلم برقم 1394، أي لا يصح بناء مسجد بعده وادّعاء أن له مكانة خاصة عند الله.
ولم يكن الأمر دينا ولا توثيقا تاريخيا وإنما الحرب والرأي والمكيدة، فحينما وضع الرواة رواية عن ميمونة بنت سعد تؤسس مكانة لمسجد إيلياء: "أنها قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ أَرْضُ الْمَنْشَرِ وَالْمَحْشَرِ ائْتُوه فَصَلُّوا فِيهِ [لاحظ أنه لم يسبق ذكر للمسجد وإنما الكلام عن بيت المقدس!] فَإِنَّ صَلَاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ قَالَتْ أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يُطِقْ أَنْ يَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ أَوْ يَأْتِيَهُ قَالَ فَلْيُهْدِ إِلَيْهِ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى لَهُ كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِيهِ" مسند أحمد برقم 27079- ردّ الرواة المدافعون عن مكانة مسجد الرسول برواية عن ميمونة بنت الحارث زوج النبي عليه السلام، تقول الرواية إن امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى فَقَالَتْ إِنْ شَفَانِي اللَّهُ لَأَخْرُجَنَّ فَلَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَبَرَأَتْ ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ فَجَاءَتْ مَيْمُونَة زَوجُ النَّبِيِّ فَقَالتْ :.. اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ" مسلم برقم 1396. وفي هذه الراوية الدفاعية عن مسجد الرسول كما في مثيلتها السابقة يحصر الراوي الفضل في مسجدين هما مسجد الرسول ومسجد الكعبة، أي أنه ينفي عن مسجد فلسطين أي مكانة دينية، ولنا أن نفترض أن الرواية هُذِّبت مع الزمن لصالح مسجد فلسطين، وحذف منها ما يتعرض له بصورة مباشرة.
وفاز مسجد إيلياء على ألسنة الرواة بأنه ثاني مسجد بني في الأرض بعد المسجد الحرام :"قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ قَالَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْتُ كَمْ بَيْنَهُمَا قَالَ أَرْبَعُونَ سَنَةً " مسلم برقم 520، ثم مُنِحَ فضيلةً عظيمة ببركة سليمان ابن داود :"لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ ابن دَاوُدَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ ثَلَاثًا: حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَه، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِه، وَأَلَّا يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ" سنن ابن ماجة برقم 1408
ثم وُجدت روايات ليس لها من هدف إلا القول بأنه هو المعنيّ في قوله تعالى :"... إِلَى المَسْجِدِ الْأَقْصَى" ومنها ما رواه زِرِّ ابن حُبَيْشٍ قَالَ قُلْتُ لِحُذَيْفَةَ ابن الْيَمَانِ أَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ قَالَ لَا قُلْتُ بَلَى، قَالَ أَنْتَ تَقُولُ ذَاكَ يَا أَصْلَعُ بِمَ تَقُولُ ذَلِكَ؟ قُلْتُ بِالْقُرْآنِ، بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْقُرْآن، فَقَالَ حُذَيْفَةُ :مَنِ احْتَجَّ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ أَفْلَحَ ... فَقَالَ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) قَالَ :أَفَتُرَاهُ صَلَّى فِيهِ؟ قُلْتُ لَا، قَالَ لَوْ صَلَّى فِيهِ لَكُتِبَتْ عَلَيْكُمُ الصَّلَاةُ فِيهِ كَمَا كُتِبَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" الترمذي برقم 3147 فهل يريد الراوي أن يكشف لنا عن تخطئة الصحابي له؟ أم يريد أن يخبرنا بأن الصحابي لم ينكر صلة مسجد إيلياء بالإسراء وأنه هو المسجد الأقصى؟ واضح أنه يريد الثاني، وأن الأول مجرد مثير قبل الخبر الخطير. ونحو ذلك عن عمر حيث جعله الراوي يستشير كعبا أين يصلي؟! وكأن الصلاة لا تصلح في كل مكان طاهر، وكأن عمر كان يقدّر علم كعب تقديرا خاصا، أو أنه يسأله ليوبخه كما تزعم الرواية، بينما الغرض الحقيقي منها هو إنطاق عمر بما يدل على ارتباط مسجد إيلياء بالإسراء حين يقول وهو في إيلياء بعد أن رفض رأي كعب ووبَّخه "...سَمِعْتُ عُمَرَ ابن الْخَطَّابِ يَقُولُ لِكَعْبٍ أَيْنَ تُرَى أَنْ أُصَلِّيَ فَقَالَ إِنْ أَخَذْتَ عَنِّي صَلَّيْتَ خَلْفَ الصَّخْرَةِ فَكَانَتِ الْقُدْسُ كُلُّهَا بَيْنَ يَدَيْكَ [ فتكون كل من مكة والقدس أمامك] فَقَالَ عُمَرُ رَضِي اللَّه عَنْه ضَاهَيْتَ الْيَهُودِيَّةَ لَا وَلَكِنْ أُصَلِّي حَيْثُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقَدَّمَ إِلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَبَسَطَ رِدَاءَهُ فَكَنَسَ الْكُنَاسَةَ فِي رِدَائِهِ وَكَنَسَ النَّاسُ" مسند أحمد برقم 263، ومقصد الراوي بقوله فتقدم إلى القبلة فصلى، فتقدم إلى موضوع صلاة الإمام في المسجد فصلى فيه ولم يصل عند الصخرة. ومقصده من ذلك التمهيد لزعمه أن عمر يقر بأن الرسول صلى فيه.
والخلاصة أنه لما منع عبد الملك ابن مروان أهل الشام ومصر والعراق من الحج لئلا يتحولوا إلى ابن الزبير، وشرع في بناء مسجد كبير في إيلياء، زعم الروائيون أن هذا المسجد امتداد لمسجد داود عليه السلام، وأن له فضلا ومكانة دينية، وأنه هو المراد في قوله تعالى:" ...إلى المسجد الأقصى" ووضعت روايات لتأكيد ذلك، وساعد على رواجها أن الرسول توجه في صلاته أول الأمر إلى بيت المقدس، وأن المسجد الجديد كان بالفعل أقصى مسجد كبير عن مكة والمدينة في ذلك الوقت.
(6) إضافات لغوية عن الأقصى والقصيّ والإسراء والهجرة
إن صيغة الأقصى اسم تفضيل بمعنى الأبعد، ونحن نرى أن المراد بالمسجد الأقصى في قوله تعالى "سبحان الذي أسرى بعبده من الحرام إلى المسجد الأقصى" هو مسجد الرسول عليه السلام بالمدينة المنورة، فهو الأقصى بالنسبة إلى المسجد الحرام وقت الهجرة النبوية، والإسراء هو الهجرة سرا، وقد كانت هجرة الرسول سرية لا علنية، وأما المسجد القاصي أي البعيد عن المسجد الحرام ولكنه أقل بعدا عن مسجد الرسول فهو مسجد قباء، وكتب السيرة تزعم أن الرسول هو من أسس مسجد قُباء، وذلك خطأ محض، لأن المؤمنين بالرسول كانوا يصلون قبل هجرته، ولا بد أن السكان المؤمنين بالرسول في قباء كانوا يصلون قبل الهجرة النبوية، كما كان أهل المدينة يصلون قبلها، ولا بد أن يسمى الموضع الذي كانوا يصلون فيه مسجدا.
وكلمة "سرى" ليس معناها مشى في الليل، وإنما معناها انتقل خُفية، ولذلك لم يقولوا سرى النهارُ وإنما قالوا سرى الليلُ، أي مضى في خفاء، وفي الكتاب العزيز "واللّيلِ إذا يسرِ". وحينما يمتد عِرق الشجرة بعيدا عنها حيث لا يُتوقع امتدادُه تقول العرب :سرى عِرقها. وحينما يظهر أثر السُّمِّ أو الخمرِ تقول العرب سرى السُّم وسرت الخمر، أي امتد في خفاء أثرها في البدن. وحينما يموت المرء بسبب جرحه يقولون سرى الجرح إلى النفس، أي وصل أثره إليها بصورة خفية، وحينما يصل التحريم إلى ما لم يكن محرما ويصل العِتق إلى ما لم يُقْصَد عتقه تقول العرب: سرى التحريم وسرى العتق. وليس قول العرب عمن يقطع جزءا من الطريق ليلا إنه سرى أو أسرى إلا إشارة إلى أن انتقاله ذاك تم في خفاء ومن شأن الليل في تلك الأزمان أن يخفي المسافر فيه.
وأما لفظ الهجرة فإنه يدور حول البُعد، فالعرب تقول: هجرَ الفحلُ، أي ابتعد عن الأنثى وتركَ الضّراب، وهجر المريضُ: بعد عن سوائه العقليّ، وهجر زوجتَه: اعتزل عنها، وهاجر: ترك بلده ولجأ إلى غيرها، وهجّر النهار: مضى كثير منه واشتد حرّه، ويقال للحبل الذي يحجز الدابة أن تبعد عم مكانها هِجار. وللكلام الذي يتحاشاه الناس : كلام مهجور. ويقال للخصام :هَجْر. والذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حين انتقل من مكة إلى المدينة ليس مجرد هجرة، وإنما هو انتقال بصورة خَفِيّة نجا به من القتل أو السجن، وبذلك تمكن من مواصلة دعوته، واستجلاب عوامل النصر لها، حتى تمت له الغلبة على عدوه في بضع سنين.
وهناك فرق بين "هَجَرَ" و" هَاجَر" فالثانية من صيغ المفاعلة أي أن الفعل لا يقع من طرف واحد، فالأصل ألا يقال هاجر، إلا عمن قصد ملجأ يُرَحَبُ به فيه، أو يغلب على ظنه أن يجد الآمان فيه على نحو أكثر مما يجده في موطنه، كما أن هناك فرقا بين هاجر وفرّ، وقد ورد الفرار في قول موسى لفرعون:"فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ" الشعراء 21، فالفرار مجرد الإفلات من أذى الخصم، وأما الهجرة فهي الخروج من موطن فيه أذى إلى ملجأ فيه الأمان، وأما الإسراء فهو الانتقالٌ الخفيّ من موطن الخطر إلى موطن الأمن. وهذا ما يردده شيوخنا حينما يقولون إن هجرة الرسول كانت سرية.
وليس في القرآن نص واحد يطلق لفظ الهجرة على انتقال الرسول عليه السلام من مكة إلى المدينة، وليس فيه نص يمكن أن يفهم منه ذلك إلا قوله:"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ" الأحزاب 50، ومن المعلوم أن الذي رافق الرسول في انتقاله من مكة إلى المدينة هو أبو بكر، فلماذا قال القرآن :هاجرن معك؟ ...إن السبب فيما نرى هو أن هجرتهن إلى المدينة لم تكن التجاءً إلى موطن غير موطنهن، وإنما كان لمّا لشمل الأسرة، فهن قريباته من بنات العم وبنات الخال وبنات العمة والخالة، فانتقالهن إلى المدينة ليس هجرة إلى الرسول وإنما لحاقا به، فهو قريبهن الذي يجدن في جواره الرعاية. وإنا لنلمح دقة التعبير في قوله معك، ولم يقل إليك، لأن الرسول ليس من سكان المدينة الأصليين حتى تكون الهجرة إليه.
واقرأ قوله:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل، إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" التوبة من 38 إلى 40، تجد أنه لم يسمّ ذلك هجرة، واقرأ قوله :"وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" الأنفال 30، تجد أنه لم يسمّ نجاته منهم هجرة.
ومما يدل على أن ما نسميه الهجرة النبوية هو الإسراء، هذه الأبيات من شعر حسّان ابن ثابت التي يتكلم فيها عن انتقال الرسول من مكة إلى المدينة، ويمدح فيها أهل المدينة، ويذم أهل مكة، ولكن حسانا فيها لا يستخدم لفظ الهجرة وإنما يستخدم لفظ الإسراء، وهذه هي الأبيات:
لقَدْ خَـابَ قَوْمٌ غَابَ عنْهُم نبيُّهم وقدْ سُرّ مَن يَسري إليهم ويغتدِي
ترَحّـلَ عنْ قومٍ فضّلتْ عقولُـــهم وحَــلَّ على قومٍ بنـُــورٍ مجـــدَّدِ
هـداهُم بـهِ بعـدَ الضّلالةِ ربـُّهـم وأرْشَدَهم، مَنْ يتْبَعِ الحـقَّ يرْشُدِ
وهــل يستوِي ضُلَّالُ قومٍ تسفَّهوا عَـمَىً وهُـداةٌ يـَـهْتدونَ بـــمُهتدِ
لـقدْ نَـزَلتْ منهُ على أهـل يثربٍ رِكابُ هـُدىً حلّت عليهم بأسعدِ
نَبيٌّ يرى ما لا يرى الناسُ حولَهُ ويتـلو كتـابَ الله في كـل مشـهدِ
هذه إضافات بيّنا فيها سر استخدام لفظة الأقصى، ولماذا أعرض عن القصيّ، حيث انتهى إسراء الله برسوله إلى المسجد الأقصى- مسجد أسعد ابن زرارة والذي سمّي فيما بعد مسجد الرسول - وليس إلى المسجد القصيّ الذي يسمى مسجد قباء، وبيّنا فيها دوران كلمة سرى حول الانتقال الخفيّ، ودوران كلمة هَجَرَ حول البعد، الأمر الذي يعني أن التسمية الدقيقة لانتقال الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة حينما خطط أعداؤه لقتله أو سجنه، لم يكن مجرد هجرة وإنما كان إسراءً، أي انتقال خفيا حقق به النجاة لشخصه وهيأ به أسباب النجاح لدعوته. واستعرضنا آيات الكتاب العزيز فلم نجد فيها نصا يسمي ذلك الانتقال هجرة، ووجدنا قصيدة لحسان يتكلم فيها عن انتقال الرسول من مكة إلى المدينة ويسمي ذلك الانتقال إسراءً.
وسوف سيجد الذين لديهم عقول يفقهون بها، في هذا الكلام مادة لحوار علميّ ونقاش محترم، وأما السفهاء من الناس الذين يغضبون ولا يفكرون، ويشتمون ولا يناقشون، فسوف يجدون فيه فرصة لإظهار المزيد من سفاهتهم وسلاطة ألسنتهم.
(7) ما مصدر المخيال الجمعي عن الإسراء والمعراج؟
قلنا إن إسراء الرسول هو انتقاله من موطن الخطر إلى موطن الأمن، وإن موطن الخطر بالنسبة للرسول هو مكة حيث دبّر أهلها أن يقتلوه أو يسجنوه، وإن موطن الأمن هو المدينة حيث بايعه أهلها على حمايته من عدوه، بعد أن آمنوا بدعوته، وكان المخيال الجمعي المتحكم في الذين ردوا علينا، وفي الذين لم يقبلوا تصورنا عن الإسراء، ليس حجةً عقلية مسلما بها، ولا نصا قرآنيا صريح الدلالة، ولا خبرا عن الرسول تتوافر له شروط القُبول، وإنما كانت أخبارا أشبه بخرافات العجائز في العصور القديمة، بل هو عيّنة منها، بتعديل طفيف وهو أنها من خرافات الشيوخ، لا أعني هنا شيوخ الدين، وإنما أعني كبار السن، وهذا هو المعنى الأصلي للكلمة.
في مقال سابق قلنا إن ما سمعناه من شيوخ الدين مرارا من أن الرسول حدّث قريشا أنه أسري به الليلة الفائتة إلى بيت المقدس، وأنهم قالوا له كيف تذهب إليها وتعود في ليلة واحدة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل في شهر، ونعود منها في شهر- قلنا إن هذا الخبر لا وجود له في شيء من الكتب التسعة التي هي البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجة وأحمد ومالك والدارمي، وكذلك العبارة المشهورة المنسوبة إلى أبي بكر في هذا الموقف: إن كان قال ذلك فقد صدق، فلا وجود لها هي الأخرى في شيء من تلك الكتب التسعة. ونريد في هذا المقال أن نستقصي مكونات مخيالنا الجمعي عن تلك الرحلة لنحدد مصدره ودرجة الوثوق به.
لو فتحنا كتاب السيرة النبوية لابن هشام لوجدنا مكوّنات مخيالنا الجمعي عن الإسراء، وها نحن ننقل ما قاله ابن هشام عن تلك الرحلة وننقل ما يكشف من كلامه هو عن درجة اطمئنانه لما قاله؟ وننقل درجة ثبوت تلك الأخبار كما بيّنها محققا الكتاب، الدكتور همّام سعيد، ومحمد ابن عبد الله أبو صُعيليك؟
قال ابن اسحاق: كان عبد الله ابن مسعود فيما بلغني عنه يقول:أُتيَ رسول الله بالبراق، التي هي دابّة كانت تُحمَل عليها الأنبياء قبله، تضعُ حافرَها في منتهى طرفها، فحُمِل عليها، ثم خرج به صاحبه، يرى الآيات فيما بين السماء والأرض، حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد إبراهيمَ الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جُمعوا له، فصلّى بهم، ثم أُتيَ بثلاثة آنية، إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء..." فأنت ترى أن ابن إسحاق لم يجزم بصحة الخبر وإنما قال فيما بلغني عنه، وعلى ذلك استند المحقق في قوله : رواه ابن إسحاق بلاغا (أي بلا سند) والبلاغ منقطع. ورواه ابن عرفة وابن عساكر و...وبه يكون الحديث ضعيفا"
وقال ابن إسحاق : وحُدّثت عن الحسن أنه قال: قال رسول الله : بينما أنا نائم في الحِجر إذ جاءني جبريل فهمزني بقدمه، فجلست فلم أرَ شيئا، فعُدت إلى مَضْجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه...فجاءني الثالثة...فأخذ بعضُدي فقت معه، فخرج بي إلى باب المسجد، فإذا دابّة أبيض بين البغل والحمار، في فخذيه جناحان يَحفِزُ بهما رجليه، يضع يده في منتهى طرفه، فحملني عليه.." وأنت ترى ابن إسحاق لا يجزم بالخبر بدلالة قوله :وحُدّثت، وقال محقق الكتاب عنه: رواه ابن إسحاق معلقا فيكون الحديث ضعيفا.
وقال ابن إسحاق: قال الحسن في حديثه [أي السابق]: "ثم انصرف رسول الله إلى مكة، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبرَ، فقال أكثر الناس: هذا والله الأمرُ البيّن، والله إن العيرَ لتُطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة، أفيذهبُ ذلك محمدٌ في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة! قال فارتدّ كثير ممن كان أسلم، وذهب الناس إلى أبي بكر، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك، يزعم...فقال لهم أبو بكر: ...والله لئن كان قاله لقد صدق...فيومئذٍ سماه الصديق" ونذكر القارئ وأنفسنا أنه جزء من حديث الحسن السابق الذي بدأه ابن إسحاق ب:"حُدّثت عن الحسن أنه قال" والذي قال عنه المحقق إنه حديث ضعيف.
وقال ابن إسحاق: وحدّثني من لا أتهم عن أبي سعيد الخُدريّ أنه قال: سمعت رسول الله يقول: لمّا فرغتُ مما كان في بيت المقدس، أُتيَ بالمعراج، ولم أرَ شيئا قطُّ أحسن منه، وهو الذي يَمُدُّ إليه ميّتُكم عينيه إذا حُضِر[أي حضرته الملائكة عند الموت] ، فأصعدني صاحبي فيه، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء...عليه ملك من الملائكة... فلما دخل بي قال: من هذا يا جبريل؟ قال هذا محمد. قال :أوقد بُعِث؟ قال نعم.." وقال المحقق: صرح ابن إسحاق بالسماع وسنده منقطع. ورواه ...فيكون الحديث ضعيفا من هذا الطريق...." [سنعود بعد قليل لما قاله موضع النقط]
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم عمّن حدّثه عن رسول الله أنه قال:"..فلم يلقني ملَك إلا ضاحكا...حتى لقيني ملَك ...إلا أنه لم يضحك...فقال لي جبريل: أما لو ضحك إلى أحد كان قبلك، أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك، ولكنه لا يضحك، هذا مالك خازن النار..." وسها المحققان عن التعليق عليه، أو ربما تركا التعليق عليه، لوضوح ضعفه، فابن إسحاق لم يذكر له سندا، وإنما نسبه إلى بعض أهل العلم عمن حدّثه [دون أن يسميه أو يصفه] عن رسول الله، ولا يكون خبر سنده على هذا النحو إلا ضعيفا، لأنه خبر عن مجهولي الاسم والصفة المؤثرة.
قال ابن إسحاق: وقال [يعني أبو سعيد في حديثه] : "ثم رأيت رجالا لهم بُطون لم أر مثلها قطّ، ...بسبيل [أي طريق] آل فرعون، يمرُّون عليهم...حين يعرضون على النار، يطئونهم، لا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك..قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا" ولنُعِد قول المحقق: "صرح ابن إسحاق بالسماع وسنده منقطع. ورواه ...فيكون الحديث ضعيفا من هذا الطريق..."
وقال ابن إسحاق: ومن حديث عبد الله ابن مسعود عن النبي فيما بلغني: ...فأقبلت راجعا، فلما مررت راجعا بموسى ابن عمران...سألني: كم فُرض عليك من الصلاة فقلت : خمسين صلاةً كلّ يومٍ فقال إن الصلاة ثقيلة، وإن أمتك ضعيفة، فارجع إلى ربك، فاسأله أن يخفف عنك وعن أمتك...حتى انتهيت إلى أن وضع عني ذلك، إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة..." وهنا سنستعير قول المحقق قبل صفحات عن مثله قبل صفحات قليلة: رواه ابن إسحاق بلاغا (أي بلا سند) والبلاغ منقطع...وبه يكون الحديث ضعيفا" ولكنه هنا لم يقل ذلك وإنما قال: رواه البخاري في كتاب التوحيد عن أنس ابن مالك عن مالك ابن صعصعة، ورواه مسلم عن أبي ذرّ..."
فإذا علمنا أن علماء الحديث لم يضعوا قواعد التميز بين الخبر الصحيح والضعيف دفعة واحدة بعد موت الرواة وانقطاع التحديث، وإنما اكتشفوها شيئا فشيئا وهم في نفس بيئة الرواة زمانا ومكانا، ومعنى ذلك أنه كان سهلا على الرواة أن يغيّروا في سند الرواية التي وصفت بأنها غير صحيحة، لانقطاع السند أو احتوائه على راوٍ ضعيف أو مجهول أو كذاب، إلى سند آخر يصفه النقاد بأنه جيّد وقويّ وصحيح. ورحم الله يحيى ابن سعيدٍ القطان الذي روى عنه مسلم في مقدمة صحيحه أنه قال: "لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث" وذلك لأنهم ظنوا أنهم ينقذون الناس بتلك الروايات التي يضعونها أو يحرّفون في متنها أو سندها، لئلا يبقى الدين ناقصا. قال أحمد أمين في فجر الإسلام عن مدرسة الحديث: "كانت هذه المدرسة كما أسلفنا سببا غير مباشر لوضع الحديث، فقد رأى قوم لا يتحرَّوْن الصدق أن هناك مسائل لا تعد، لم يرد فيها نص، ورأوا أعلام مدرستهم لا تٌقْدم على الرأي تحل به المشاكل، فوضعوا الأحاديث الكثيرة يغطون هذا الموقف" ويقول الشيخ محمد محمد أبو زهو في كتابه الحديث والمحدثون عن قوم من هؤلاء إنهم اشتغلوا بالحديث: "وسمعوا من الثقات، وعرفوا الأسانيد الصحيحة، ثم وضعوا عليها الأحاديث التي تتفق وعقيدتهم وأضلوا بها كثيرا"
(8) القِبلة الأولى والوثيقة العمرية
كان الفلسطينيون ولا زالوا عاجزين عن طرد قوات الاحتلال عن أرضهم ومساجدهم وكنائسهم، وكان ولم يزل كثير منهم ينظر للصراع مع الإسرائيليين على أنه صراع ديني، ولم يستطع الرئيس عرفات أن يوقِّع على اتفاقية سلام في آخر عهد الرئيس كلنتون، لأسباب على رأسها، أنها لم تتضمن السيادة الكاملة للفلسطينيين على المسجد الأقصى، وإنما جعلت لهم السيادة عليه، وجعلت لإسرائيل الحق في الحفر أسفل منه بحثا عن آثار دينية يهودية. وهناك أكثر من تنظيم فلسطيني يعلن أنه مستعد لتقديم المزيد من الشهداء دفاعا عن المسجد الأقصى، ومن التنظيمات التي تتبنى العمل العسكري في مقاومة الاحتلال منظمة تسمى (سرايا الأقصى).
صحيح أن القبلة الأولى للنبي عليه السلام كانت إلى إيلياء (القدس)، ولكن ذلك كان اشتراكا مع اليهود في قبلتهم التي كانوا- ولا زالوا- عليها، وإن من صفات نبينا عليه السلام، المذكورة في الأناجيل أنه يغير القبلة، أي مركز العبادة، ولذا توجّه عليه السلام مدة إلى إيلياء، ثم أمره الله أن يتوجه إلى المسجد الحرام، ولا معنى لذلك إلا أننا قد أمرنا أن نترك لهم قبلتهم، وأن نتميّز بقبلة أخرى، خاصة أن رسولنا الكريم توجه إلى قبلتهم هو والمؤمنون معه، وهي غير خاضعة لسلطانه السياسي أو الديني...أي أنه منذ أن أصبحت القبلة هي المسجد الحرام فإنه لم تعد لمدينة القدس بكل ما فيها أية مكانة دينية خاصة عند أتباع محمد عليه السلام. إلا تلك القيمة التاريخية العامة.
وإني أتصور لو كانت فلسطين من النهر إلى البحر تحت سلطان حاكم صالح من أتباع محمد عليه السلام، وحضر إليه نفر من اليهود وقالوا له: لقد توجه نبيكم إلى قبلتنا فترة يسيرة من الزمن( نحو 17 شهرا) ثم تحوّل عنها بأمر الله، ثم بنيتم مسجدا في مركز عبادتنا، وحرمتموننا منه، فهل يأمركم دينكم أن تسيطروا على المواضع المقدسة عند الغير إذا انتصرتم عليهم وأن تبحثوا عن علل لتقديسها عندكم، كي لا تسمحوا لهم بزيارة مركز عبادتهم الذي يقدسوه؟ ...صحيح أنكم لم تطردوا أحدا منها، لأن أجدانا كانوا مطرودين وكان معبدنا الأعظم -في مركز عبادتنا- مهدوما منذ قرون عند الفتح الإسلامي لفلسطين، ولكنكم بنيتم قبة الصخرة وهذا المسجد الذي تسمونه المسجد الأقصى، وتزعمون أن رسولكم جاء إليه ليلا مع أحد الملائكة راكبا دابة سماوية... ولكن هذا فهم خاطئ منكم لكلام ربكم، فالإسراء في كلام ربكم هو الهجرة خُفيةً من موطن الخطر إلى موطن الأمن، ومن قبل رسولكم أسرى لوط بأهله، وأسرى موسى بأجدادنا، ولو فرضنا جدلا أن رسولكم جاء بالفعل إلى مركز عبادتنا وصلى فيه بالأنبياء، فإنه هو نفسه بأمر من ربه قد تحوّل عنه، فلماذا لا تَدَعون لنا مركز عبادتنا وتكتفون بمركز عبادتكم؟
أتصور لو حدث ذلك لكان من العدل الذي أمر به القرآن، وأمر به الرسول الكريم، أن يقول الحاكم الصالح المؤمن بالله وكتابه ورسوله: سنقوم بنقل المسجد الأقصى إلى مكان آخر، ونترك لكم موضعه تنقبون فيه عما ترون أنه آثار مقدسة عندكم، وتبنون فيه ما شئتم من دور للعبادة ...إننا نحترم أهل الأديان وعلى رأسهم أهل الكتاب وأنتم أصلهم الأصيل.
فإذا كان الواقع السياسي بخلاف ذلك، وقال الإسرائيليون للفلسطينيين: هيا نعقد معكم معاهدة سلام، تتخلون بموجبها عن أجزاء من أرضكم وعن جزء من القدس وعما تحت مسجدها الأعظم، فهل يكون من الدين أو العقل أو الحكمة أن يرفض الفلسطينيون ذلك؟ ولماذا لا يطلبون من إسرائيل أن تتحمل تكاليف نقل المسجد الأقصى إلى موضع آخر، وليكن في أوسط مكان بدولتهم بدلا من أن يكون في منطقة حدودية؟ ولماذا لا يقايضون بموضعه أرضا أو شروطا أفضل للصلح؟
قد يقول الفلسطينيون: إنها أرض فتحها المسلمون، وإن عمر بن الخطاب قد جعلها وقفا إسلاميا، وإنها ليست ملكا لنا وحدنا، أو يقولون إنها ملك لسكانها الأصليين من مسلمين ومسيحيين ويهود، فنقول لهم: "إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين" الأعراف 128، وإن الله لم يقل إنها لكم أو لغيركم إلى أبد الآبدين. ألم تروا أنها كانت لغير المسلمين ثم صارت لهم؟ ألم تروا كيف تُولَد الدول وتتسع وتضيق ثم تموت؟ إنها سنة من سنن الحياة فلا تغالبوها، ولكن سايروها واعملوا ما يتغير به حالكم إلى الأفضل...إن الله لن يرسل ملائكة تطرد اليهود، وإن إخوانكم العرب لا يجدون ديمقراطية تظلهم، ولا عِلما يتفوقون به، ولا اقتصادا قويا يؤثرون به، ولا سلاحا متقدما يدافعون به عنكم أو عن أنفسهم، والله يقول في كتابه الكريم: "لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا" البقرة 233، وإن رسولكم أوشك أن يصالح أعداءه على أن يكون لهم جزء معلوم من ثمر المدينة، فلماذا لا تصالحوا الإسرائيليين على أن يعوِّضوكم ويساهم العالم في تعويضكم عما لحق بكم من ضررٍ قد استمر أجيالا بسبب إصراركم على رفض الصلح، وعدم الاعتراف بميزان القوى؟ إن بنود الصلح الذي أبرمه عمر، قد أصبحت في ذمة التاريخ كأي صلح تاريخي، تفرضها ظروف معينة وتنهيها ظروف أخرى، وباحتلال اليهود لمعظم فلسطين حلّت الوثيقة الصهيونية أو على الأقل قرار التقسيم أو قرار424 محل الوثيقة العمرية.
لقد كان بنو إسرائيل يقدسون السبت، وعابوا على عيسى ابن مريم أنه سمح لتلاميذه- وهم جياع في يوم سبت- أن يقطفوا سنابل ويأكلوها، وعابوا عليه أنه دعا بالشفاء لمريض في يوم سبت، فكان من رده عليهم: "السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لِأَجلِ الإِنْسَان، لَا الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ السَّبْت" متى 2: 27، وكذلك أنزل الله القرآن رحمة للعامين، أي أن القرآن للإنسان، أي لمصلحته وخيره، وليس الإنسان للقرآن، والمسجد القدس الأقصى للإنسان وليس الإنسان له، حتى تموتوا من أجله لغير هدف إلا أن الموت من أجله، فلا يجوز أن نتخذ من الدين مستندا لأن يستمر الصراع في أرض النبوات، وليصل شرره إلى كل أرجاء العالم.
والخلاصة أنه لا يصح أن يتخذ الفلسطينيون من التصور الموروث عن المسجد الأقصى مستندا لرفض الصلح ما لم تكن القدس عاصمة لدولتهم، وما تحت المسجد خاضعا لسلطانهم، فذلك التصور غير صحيح، وتحويل القبلة إلى المسجد الحرام معناه أن القدس لم تعد مكانا مقدسا عند المسلمين، والوثيقة التي يقبل العالم مشروعيتها اليوم ليس ما يقال له الوثيقة العمرية، وإنما هو قرار424، فالواجب على الفلسطينيين أن يعلموا ما ينفعهم وفق توازنات القوى في الوقت الراهن، ليكونوا غدا أكثر قوة، لا أن يغالبوا سنن الكون فيكونوا غدا أكثر ضعفا.
مـــــــــــــــــــــع تحياتــــــــــــــــي / أبــــــــــــــــو سعـــــــــــــــــيد