155.jpg
المكتبة الرقمية العمانية كوكب المعرفة
http://www.al-kawkab.net/
لا ينفصل تاريخ الثقافة في سلطنة عمان في شيء عن تاريخها عن بقية بلدان الخليج العربي، فقد بدأت كلها تقريبا نهضتها الثقافية الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين، مع استقلال تلك البلدان وعودة أبنائها المهاجرين إلى أوطانهم وقد نهلوا من ثقافات عربية وأجنبية وتعرفوا إلى فنون وآداب حديثة، فكان لا بد أن يظهر تأثير تلك الثقافات في إنتاجهم الثقافي والأدبي، فبدأت العلوم الإنسانية الحديثة والفنون الأدبية تنتشر ويتسع نطاق تعاطيها، ويعود ظهور أول رواية عمانية إلى سنة 1963 وهي رواية “ملائكة الجبل الأخضر” لعبد الله الطائي “1924 1973” الذي درس في العراق، وتنقل بين عمان والبحرين والكويت والإمارات مشاركاً في تأسيس منابر ثقافية وتربوية فيها، فكان أحد رواد النهضة الثقافية الحديثة في الخليج، وقد أتبع روايته تلك برواية “الشراع الكبير” التي نشرت سنة 1981 ثم أصدر سعود المظفر رواية “رجال وجليد” ،1988 وسيف السعدي روايتين في عام 1988 هما “خريف الزمن” و”جراح السنين” واليوم يقارب الإنتاج الروائي العماني 40 رواية . ولم يكن حظ المرأة العمانية في هذه البداية بالكبير بحكم القيود الاجتماعية التي كانت سائدة في الماضي، والتي لم تكن تعطيها فرصة كبيرة للتعلم ولا هامشا كافيا من الحرية، فأخر ذلك إنتاجها الثقافي والأدبي عن إنتاج الرجل، وأول رواية لكاتبة امرأة هي “الطواف حيث الجمر” الصادرة 1999 لبدرية الشحي، قصة كفاح امرأة للوصول إلى حبيبها الذي هاجر من عُمان إلى زنجبار، وبلغها أنه تزوج من إفريقية، وبدافع من الغيرة والتحدي للغريمة تكسر البطلة الأعراف العربية التقليدية وتسافر إلى تلك البلاد الغربية بحثا عن حبيبها، لكنها تفشل في العثور عليه، وتضطر للإقامة هناك والكفاح لإقامة حياتها الخاصة، وتحقيق ذاتها، وتريد الكاتبة من ذلك أن تقول لنا إن بحث البطلة عن الحبيب الرجل ليس سوى بحث عن سراب، واقتفاء لمفاهيم وهمية شحنت بها المرأة بفعل الموروث الثقافي لتقتنع بأن كينونتها لا تتحقق إلا بوجود الرجل في حياتها، بينما الحقيقة التي تكتشفها البطلة بعد استقرارها في زنجبار وامتلاكها وإدارتها لمزرعة كبيرة بعمالها، هي أن قوة المرأة تنبع من داخلها، من اكتشافها لقوتها الذاتية وإرادتها في الكفاح والفعل، وقد غلب على السرد الروائي في “الطواف حيث الجمر” الطابع الرومانسي . وبهذه البداية التأسيسية في السرد الروائي العماني تعلن المرأة العمانية الكاتبة عن مشغل أساسي من مشاغلها الروائية ستدور في حوله الكثير من رواياتها، وهو كفاح المرأة لتغيير موقعها الاجتماعي وامتلاك زمام المبادرة في الفعل والانتقال من مرتبة التابع إلى مرتبة الشريك والند . وهو ما سنجد له أثرا في ثاني رواية نسائية وهي “منامات” لخوجة الحارثي الصادرة سنة ،2004 وهي تستعير حال “المنامات” الصوفية كتقنية سردية لتجعل البطلة ترى أحلاماً متكررة بعضها غريب والبعض الآخر يلامس واقع الحياة عن قرب، وقد أنتج ذلك بناء روائيا ذا جدة ولغة خاصة تميل للصوفية، وهي كما تقول خوجة تحاول أن تقرأ شيئا من الواقع العماني خاصة عبر رؤية فتاة تمر بتحولات نفسية، تختبر الحب كما تختبر الكراهية وتشتبك مع الشخصيات الأخرى بعلاقات جدلية، وتفتح نافذة للتأمل في مشاعر النفس الإنسانية وتحولات المجتمع وتفاعل البشر مع هذه التحولات، ولعلها تقول شيئا عن واقع المرأة خاصة وأحلامها بطريقة لا تسقط في فخ التسطيح والمباشرة والصوت العالي للحركات النسوية . خوجة وإن كانت لا تريد من روايتها أن تكون صوتا حركيا نسائيا عاليا وتكرارا مسطحا ومباشرا لبعض تلك الآراء، إلا أنها تنسل من موضوع المرأة نهائيا، بل تعبر عن موقفها وأحلامها بطريقة خاصة وتأملية، وقد صنف بعض النقاد هذه الرواية في خانة السيرة الذاتية . وعلى عكس اتجاه بدرية الشحي في جعل بطلتها تنجح في التمرد تجعل الكاتبة غالية بنت فهر بن تيمور آل سعيد بطلتها في “صابرة وأصيلة” 2007 تذهب ضحية هذا التمرد، فهي تعيدنا إلى أجواء الماضي وحكاية تسلط الرجل والقيود المفروضة على المرأة من خلال حكاية الفتاتين الصديقتين صابرة وأصيلة اللتين يفرض عليهما ترك المدرسة مبكراً، ولزوم البيت قبل أن ترويا نهمهما للمعرفة، فتبقى أحلام المعرفة والخروج لذلك العالم السحري الذي يؤدي إليه ترافقهما، وترافق بشكل خاص صابرة التي تلجأ على الكتابة وتحاول التعويض بها لكنها تقع فريسة سذاجتها وقلة خبرتها فيوقع بها شاب أحبته، ويؤول أمرها إلى أن تحمل بولد وتهرب، وفي النهاية يقتلها أخوها، ورغم أن السرد هنا كلاسيكي جداً، إلا أن الكاتبة تضع نفسها في العمق من مسألة المرأة والتضييق عليها، وتدين السيطرة المطلقة للرجل، ويلجؤها وعيها بالحدود المتاحة لتمرد المرأة في مجتمع تقليدي إلى أن توصل بطلتها إلى تلك النهاية المأساوية، وهي في ذلك أقل راديكالية من بدرية الشحي في “الطواف حيث الجمر” التي قفزت على التقاليد والواقع لتجعل بطلتها تنجح في غربتها . وقد سبق لغالية آل سعيد وعلى مسرح آخر أن دانت الرؤية الدونية والاستغلالية للمرأة، وذلك في روايتها “أيام في الجنة” الصادرة ،2005 والتي تناولت حياة شاب عماني مهاجر إلى لندن عاطل عن العمل لا هم له سوى إشباع ملذاته يتخفى وراء مظهر الشاب الأرستقراطي الأنيق، ويستخدم بإتقان مهاراته وجاذبيته الرجولية الخادعة لإغواء النساء واستدراجهن ليقعن في حبه، ثم يستغل ذلك الحب ليجعلهن ينفقن عليه من جيوبهن . وقد تزوج بأربع نساء ما بين شرقية وأوربية وأمريكية، بعضن يعلم بالآخر لكنهن واقعات في الحب، وأخر غافلات لا يعلمن عن ذلك شيئا، وهو يلهو بذلك ويأتي متعه كما يحلو له، لا يكترث بإخلاص أي منهن له ولا يرحمها، كأنهن إماء لديه . رواية “أيام في الجنة” وإن كانت تدور في مسرح غير عربي وتضم شخصيات نسائية غير عربية، إلا أنها بمنظور معين تدين تصرف الرجل العربي ممثلا في البطل وقساوته في التعامل المرأة، ونظرته السلبية لها التي تجردها من كل القيم الإنسانية وتختزلها في قيم مادية زائلة، وتسمح له بحشدهن تحت سيطرته كأنهن جوارٍ لديه، وتوحي بثورة على منطق تعدد الزوجات . مفاهيم وعلى غرار “أيام في الجنة” تعود الكاتبة مع رواية “أشياء مبعثرة” 2008 لتروي قصة تدور في بريطانيا تحكي عن رجل عربي الأصل بريطاني بالتبني يتفوق في علمه وعمله، لكن عقدة النقص تدفعه إلى التعويض بالشراب والنساء وتجعله يضيع في ذلك العالم الأسود، ويهرب من حب سكرتيرته سليلة الأسرة الأرستقراطية البريطانية التي تسيطر عليها هي الأخرى مفاهيم المجتمع الكلاسيكي عن الرجل والخوف منه الذي يدفعها إلى التفاني في خدمته لإيقاعه في حبها، ويجرها ذلك إلى أن تنتقل من رجل إلى آخر إرضاء لغريزة دفينة في السيطرة على هذا الكائن المخيف . ورغم أن الرواية تدور خارج المجتمع العماني وفي مجتمع غربي وتخضع لمنطق وحياة هذا المجتمع، إلا أن فيها صدى لقضية العلاقة بين الرجل والمرأة، وسيطرة المفاهيم التقليدية على كل منهما، فكلا البطلين لم يستطع أن يتحدى واقعه ويواجه حبه بشجاعة ومسؤولية، وتوحي غرابة منطق الرواية في مجتمع غربي متحرر، لم يعد فيه لمثل تلك القيود الاجتماعية وجود أو اعتبار بكون الكاتبة أرادت أن تهجّر رؤيتها لواقع مجتمعها إلى مجتمع آخر وتطبقها عليه، وهو قناع إيحائي استخدمته آل سعيد في هذه الرواية، وفي “أيام في الجنة” لتطرح من خلاله قضايا المجتمع والمرأة في مجتمعها، ولإدانة ما هو سلبي، وذلك اتقاء لأسهم كثيرة قد تصوب نحوها، ورغم أن القناع قد يؤدي دوره الذي أرادته له الكاتبة، إلا أنه أضعف البنية الروائية لديها في كلا الروايتين، وأفقدها الإقناع في كثير من الأحيان . تعود بنا رواية “حفلة الموت” للكاتبة فاطمة الشيدي الصادرة 2008 إلى الراديكالية التحررية التي بدأتها بدرية الشحي، لكن الفرق هو أن رواية الشيدي حادة في تمردها وموجعة في هجائها، فالبطلة الشابة “أمل” تلاحقها لعنة الأساطير الاجتماعية التي تعتبرها “مغيّبة” متلبسة بشيطان يسكنها ويسيطر عليها، فلا يحق لها أن تحب أو تتزوج رجلا، لذلك، حين تلتقي الشاب البحريني النبيل الذي تعرفت إليه أثناء دراستها للفنون الجميلة في جامعة البحرين وأحبته، تخفي عنه سرها وتسافر إلى لندن بحجة إكمال دراستها فيلحق بها وحين تبوح له بسرها تمرض وتدخل في غيبوبة مدة ستة أشهر ثم تنجو بأعجوبة لا يقوى الأطباء على تفسيرها، وتعود إلى الحياة وقد زال ثقل الشيطان الذي يتلبسها وتحررت من سيطرته . طوال الرواية وعن طريق مونولوجي متدفق لا تتوقف البطلة عن كيل اللعنات والسباب لمجتمعها ورجاله ونسائه الخاضعات للمذلة، ولأبيها الذي تكرهه كرهاً شديداً، فقد كان سببا في كل شقائها حين اغتصب أمها الأمَة التي اشتراها من زنجبار، ثم اضطر أن يلحقها هي بأبنائه، فعاشت هي وأمها الدونية والقهر، صفات بذيئة من السب والسخط على ذلك المجتمع لا تتوقف إلا بتوقف الرواية، ونبرة تدميرية طافحة لو ملكت صاحبتها القدرة لسحقت المجتمع بكامله . منظور الرواية تحرري تدميري لا يرى في المجتمع التقليدي أية قيمة إيجابية ويعتبر تدميره وإلغاءه هما السبيل إلى التحرر والثورة، وهما طريق المرأة إلى تحقيق ذاتها، وقد نجحت الكاتبة إلى حد كبير في إقامة توليفة بين الأسطوري والواقعي، والاستفادة من أسلوب التداعي في التنقل بين الأحداث والمشاهد . يمكن بناء على ما تقدم القول إن الرواية النسائية العمانية، على حداثة نشأتها ومحدودية عددها، قد ولدت وهي مشغولة بقضية المرأة، بل يمكن اعتبار تلك القضية كانت أحد أسباب ظهور هذه الرواية، وقد ترددت في الرواية في هذه القضية بين خيار التحرر التام وإلغاء المجتمع والوصول بالثورة إلى أقصى مدى لها كما عند بدرية الشحي، وفاطمة الشيدي، وبين القبول الاضطراري بمنطق المجتمع عن طريق تقديم نهاية مأساوية لكل محاولات التمرد “خوجة الحارثي وغالية آل سعيد”، وهو تردد يعكس بعمق حيرة المرأة العمانية المعاصرة، بل المرأة العربية عموما في التحرر التام الذي يلغي المجتمع ويثور على كل قيمه، أو الإذعان لقوانينه وأعرافه، وهي حيرة مزمنة باعتبار أن المجتمع العربي ورغم مرور عقود وعقود على انخراطه في دورة النهضة والتحديث لم يستطع أن يحسم الكثير من قضاياه الأساسية المتعلقة بالهوية والمرأة والوطنية والأمة والحداثة .
محمد ولد محمد سالم
كوكب المعرفة
http://www.al-kawkab.net/
kwkb_index_02.gif